قبل أيام نقلت وسائل الإعلام الغربية خبراً صغيراً بالكاد سجّل اهتماماً على رادار الغالبية العظمى من القراء والمتابعين. مفاد الخبر أن الحكومة التركية وقّعت عقداً مع الحلف الأطلسي (الناتو)، وبموافقة الحكومة الأفغانية، تتولى أنقرة بموجبه مسؤولية إدارة مطار كابول الدولي في أفغانستان. وكشف ناطق حكومي رسمي أن قيمة الصفقة 130 مليون دولار ستُدفع من موازنة الحلف. وقد كانت مسألة أمن المطار من الأمور الملحة التي تتطلب حلولاً سريعة مع بدء القوات الأطلسية انسحابها من أفغانستان، تنفيذاً لقرار الإدارة الأميركية بالمغادرة بحلول الحادي عشر من أيلول المقبل. وللعلم نقول إن "الإدارة" التركية للمطار تشمل أيضاً حمايته، أي الإبقاء على وجود عسكري تركي دائم!!
هذا الخبر "عادي" للغاية إذا ما نظرنا إليه من منطلق عضوية تركيا في الناتو. لكننا نقترح توسيع منظور الرؤية لتشمل سياسات أنقرة الأخرى التي قد تبدو للوهلة الأولى غير مترابطة. إلا أن التمعن الدقيق يُظهر لنا أنها جزء لا يتجزأ من سياق استراتيجي ذي أبعاد إقليمية ودولية. ولا شك في أن هذه السياسات ستترك تداعيات خطيرة على أوضاعنا القومية والعربية.
في أيار الماضي، وبينما كان التوتر العسكري على أشده بين روسيا وأوكرانيا، إستقبل الرئيس التركي طيب رجب أردوغان في أنقرة نظيره الأوكراني فلوديمير زيلينسكي. وبعد المباحثات "الودية"، أطلق أردوغان سلسلة تصريحات أقل ما يُقال فيها أنها معادية لموسكو: دعم كييف في خلافها مع الروس، تأييد طلب أوكرانيا الانضمام إلى الناتو، عقد صفقات تسليح مع أوكرانيا، ورفض القبول بضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا. وسبق لأردوغان أن أدان "سلخ" القرم عن الأراضي الأوكرانية. ونذكر هنا أيضاً أن شبه الجزيرة هي موطن ما لا يقل عن 300 ألف من التتار المسلمين الذين يشعرون بروابط "خاصة" مع تركيا المسلمة. كما أن أنقرة نفسها لا تنسى حرب القرم (1853 ـ 1856) عندما ألحق التحالف الفرنسي ـ البريطاني ـ العثماني هزيمة منكرة بالجيش الروسي القيصري.
الحدث الثالث المهم، والمرتبط بالصورة العامة التي نحاول تظهيرها، وقع في خريف العام الماضي (2020) عندما اندلعت مواجهات عسكرية عنيفة بين أرمينيا وأذربيجان في نزاعهما التاريخي الدموي حول إقليم ناغورنوـ قراباخ. يومها أقدمت تركيا على التدخل المباشر إلى جانب أذربيجان، وزودتها بأحدث الأسلحة الموجودة في ترسانتها الأطلسية. فكان لهذا العامل التركي الدور المحوري في إلحاق الهزيمة بالقوات الأرمينية. وبغض النظر عن العلاقات الخاصة بين أنقرة وباكو، فقد كان واضحاً أن استثمار النزعة الدينية يتحكم إلى حد بعيد بقرارات أردوغان.
هذه الحلقات الثلاث، ومعها التدخل التركي المباشر في الشام والعراق وقبرص وغزة وقطر وليبيا... تؤكد لنا أن أنقرة تسير وفق خطة منظمة، أثبتت حتى الآن نجاعتها بسبب عدم وجود خطة منظمة مضادة. وسنحاول في الفقرات التالية تحديد: أهداف الخطة، وطبيعتها، والآليات المستخدمة لتحقيقها. لكن قبل ذلك علينا أن نتفهم الخلفية الإيديولوجية المعبّرة عن مواقف أردوغان وسياسة "حزب العدالة والتنمية" ذي التوجه الإسلامي. ولذلك سأعرض سريعاً لجانب أساسي في نشوء مفهوم الخلافة في الإسلام.
وردت في الأحاديث النبوية نصوص عدة تؤكد على أن الخلافة في الإسلام يجب ان تكون في قبيلة قريش، وأن يكون الخلفاء منها: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان"، "إن هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلا أكبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين"، "لا يزال الإسلام عزيزاً بخلفاء كلهم من قريش". وأوضح الماوردي في كتابه "الأحكام السلطانية" أن من شروط الإمام الأعظم "أن يكون من قريش لورود النص فيه، وانعقاد الإجماع عليه".
والعثمانيون الأتراك الذين تحكموا بالعالم الإسلامي لمدة أربعة قرون باسم نظام الخلافة، ليسوا من قريش. لكن فقهاء السلاطين كانوا على أهبة الاستعداد لإصدار الفتاوى التي تسبغ عليهم "الشرعية الدينية" للتحكم بمصائر الشعوب الخاضعة لسلطنتهم المترامية الأطراف في ذروة قوتها. وأردوغان نفسه لم يحاول أن يخفي إعجابه بالتاريخ العثماني، إلى حد انه يُشكك بكل الاتفاقات الدولية التي أنشأت دولة تركيا الحديثة بعد هزيمة الحرب العالمية الأولى. وفي هذه المرّة أيضاً، يستند إلى الإسلام السياسي كما تمثله جماعة "الإخوان المسلمين".
أهداف الخطة الأردوغانية تتضمن استعادة النفوذ التركي (العثماني) في المناطق التي تستطيع أنقرة الوصول إليها، أو تلك التي تعتبرها جزءاً من مداها الحيوي جغرافياً وعرقياً ولغوياً واقتصادياً. والخطة ذات طبيعة عدوانية لا تقيم وزناً للاعتبارات القانونية، وتحميها عضوية حلف الناتو المهتم بالسيطرة على شرقي البحر الأبيض المتوسط. أما الآليات المستخدمة، فيأتي في طليعتها "الإسلام السياسي" (جماعة "الإخوان المسلمين"). وعند هذه النقطة بالذات يحدث تقاطع المصالح بين تطلعات أردوغان لخلافة إسلامية تستوحي النموذج العثماني، وبين مخططات الناتو الاستراتيجية تجاه الصين وروسيا.
منذ عشرينات القرن الماضي، والغرب الاستعماري يتلاقى مع جماعات الإسلام السياسي في التوجهات العامة. ومع أنه وقع في بعض الأحيان تباين في سياسات معينة، فإن ذلك لم يُفسد العلاقة الوثيقة ذات البعد الاستراتيجي. والذي نراه اليوم أن الغرب الأميركي الأوروبي يخطط على أساس أن "الحرب الباردة" الجديدة ستكون مع الصين وروسيا وحلفائهما. ومن الأسلحة المؤثرة في هذه الحرب العامل الإسلامي الذي يُثير حساسية خاصة داخل الديموغرافيا الصينية والروسية. ولن يكون هناك أفضل من دولة أطلسية أسلامية تستطيع استقطاب أبرز جماعات الإسلام السياسي في العالم، وتوظفها لخدمة أهداف الناتو ومصالحه.
وفي ضوء هذه المخططات، ومن دون أن نتجاهل المصالح التركية الخاصة، علينا أن نقرأ ممارسات تركيا على المستويين الإقليمي والعالمي. إن فقهاء السلاطين الذين أسبغوا على العثمانيين الشرعية الدينية، حلّ مكانهم اليوم جماعات الإسلام السياسي التي سلمت أردوغان مفاتيح الدنيا والآخرة: الدنيا لحلف الناتو، والآخرة للشعوب المغلوبة على أمرها.