آلمني عميقاً، بالرغم من نشوة الإستذكار العابرة، أن يَعمد الصديق المحامي عصام أسعد إلى طَرْقَ ذاكرتي ببيتٍ مُعَتّق للشاعر العراقي معروف الرصافي، جاء فيه: "لا يَخْدعًنْكَ هتاف القوم بالوطنِ/ فالقوم في السر غير القوم في العلنِ"... فالحقيقة تؤلم، ولذا يعاديها تُجّار الأوطان.
لقد نشأنا، في بعض نشأتنا التربوية، على مقطوعة رشيد نخلة التي أصبحتْ نشيداً وطنياً للبنان: "كلّنا للوطنْ/للعُلى للعَلَمْ"، لكننا اختبرنا كم أن المنذورين للوطن وعَلَمِه قلائل. كما نشأنا في مرحلة ما بعد المدرسة على اعتبار السياسة فنَّ الممكن، أو فنَّ تحقيق الأغراض القومية وصناعة الخير العام، لكنّ الخير الخاص المنتشر على حساب الخير العام هو الذي صدم مثالياتنا بعد احتكاكها بالواقع. صحيح أننا ندرك استحالة عزْل المسار اللبناني عن المشهد الإقليمي والنزاعات الدولية، أي عن براكين المنطقة والعالم بدءاً من صراعات عمالقة الإقتصاد على النفط والغاز والعملات الصعبة بل على ريادة القارات والعالم، إلى معادلات الإقليم العويصة من إيران إلى اليمن، ومن أفغانستان إلى ليبيا، ومن العراق وسورية إلى فلسطين ولبنان. لكننا لم ندرك بعد كيف يستطيع لبنان أن يتحمّل أوضاعه الكارثية الضاغطة حتى نضوج التسوية، كما لم ندرك بعد كيف يُطَبَّق عِلْمُ السياسة في هذا المخلوق العجائبي اللبناني، المصطبغ مساره بقساوة المأساة وأهوال الفجيعة.
لم يكن فرنسيس بيكون مخطئاً حين قال "إن مجتمعاً من الخراف يخلق دائماً مجتمعاً من الذئاب". وهذه المقولة تتضاعف صحتها حين ترضَى الخراف بالمعاملة الذئبية وحين تتفرج على وحش الفساد ووحش الإختلاس ووحش الإستتباع قبل أن تستسلم لوحش الإستنزاف الذي لا يشبع. بل تكون وداعة الخراف، عبْر اعتماد البلادة والتبعية والإستلاب، شريكة ساديّة في صُنع الجريمة.
نعم. ما زالت شرائح غير قليلة مِن الشعب مختلطة المفاهيم ضبابية الرؤية فلا تنحاز إلى نهج إنقاذي بمقدار ما تنحاز إلى فلانٍ ضد فلان، وتُكَذّب الوثائق دفاعاً عن الشيطان... ما زال بيننا مَن يذود عن الإقطاع والقَبَلية والمذهبية. وما زال بين أطياف شعبنا مَنْ يُسَوغ تهريب المواد الحيوية الأولية المدعومة، بل مَنْ يبرر سياسة الإفلاس وصعود الدولار وانهيار العملة الوطنية وشقاء الناس ودمار النفسيات وانهيار الثقة بالحاضر والمستقبل. ما زال في الفضاء اللبناني من يَطير فرحاً بطربوش الطائفة بوصفه المُرشح الدائم لمهمة "الإنقاذ". لكن البلد الذي نزَع عن نفسه مواصفات الدولة قد شبع انحداراً إلى وادٍ بلا قعر، بل إلى بحر لا ساحل له من المطامع والمظالم والغرق الإرادي. ورغم ذلك نرى المكابرة سيدة الموقف، والحقيقة العارية مجبولةً برماد الباطل.
منذ الصفقة المصرفية الشهيرة بعد الطائف حول القيمة المصطنعة لِلّيرة اللبنانية إلى فقدانها المأساوي الصارخ لجدواها ومعنى وجودها، ومن الضياع الإجرامي لحقوق الموُدِعين والفقدان القصدي للدواء إلى الإهانة اليومية المعيبة لكرامات المواطنين، ومِنَ التوظيف العشوائي في الإدارة الإستحلابية الطويلة للمؤسسات الرسمية إلى الضمور المحزن للقطاع الخاص وانحسار الطبقة الوسطى بوصفها حجر الزاوية في البنى الإقتصادية، ومِنْ الإنفجار الكارثي لمرفأ بيروت إلى التشاطر البغيض في تقاذف المسؤوليات بل إلى الأداء الفاشل في المسرحية الدرامية لتشكيل الحكومة، نُعاين صغائرَ محلية في المراهقة السياسية وانسداداً مفتعَلاً في آفاق الحلول وإخفاقاً كلياً في ابتكار المخارج. لكنّ كل ذلك لم يمنع مرتكبي الجريمة الوطنية المرَوِّعة من التشبث بسلة من مواقع القرار هي ملْكٌ لعامة الناس، فإذا بها تتحول إلى منظومة أخطبوطية متمكنة من الإجهاز النهائي على بلدٍ أحبّ كثيرون مِن شعبه قبل حكامه نموذجَ الفوضى القاتلة التي طاب لهم في مسلسل الخرافات اللعينة أن يُسَموها حرية وديمقراطية. فالويل للراعي إذا قاد الرعية إلى ذاته وليس إلى الحق، والويل للرعية إذا انقادَتْ إلى الوثن مقدِّمةً إياه على الوطن.