كلمتي تناول تحديداً الجانب القضائي والحقوقي لعملية اعتقال الزعيم انطون سعاده واغتياله في المحكمة العسكرية في بيروت عام 1949 بالاضافة الى ما يتصل بالوقائع المادية المتصلة بعملية الاغتيال.
لم تكن ملاحقة أنطون سعاده واعتقاله ومحاكمته حدثاً عارضاً في مجرى المحاكمات القضائية في لبنان بل إن هذا الحدث ترك تداعيات مأساوية طالت القضاء اللبناني تؤكد خضوعه للسلطة السياسية وعدم استقلاله كسلطة مستقلة.
عقب حادثة الجميزة حيث تقع مكاتب جريدة الجيل الجديد الناطقة باسم الحزب السوري القومي الاجتماعي وقيام الكتائب بالتعدي على مكاتب الجريدة وحرقها. قامت القوى الأمنية اللبنانية بملاحقة القوميين الاجتماعيين واعتقالهم ومداهمة منازلهم وزجهم في السجون ولا سيما القادة منهم.
وخلافاً لأبسط القواعد والمعايير القانونية يتبدى أن الدولة اللبنانية بأجهزتها الأمنية المناط بها حفظ الأمن وضبطه تقوم بملاحقة المعتدى عليه وزجه في السجن دون توجيه أية تهمة إليه ودون أن تنسب اليه اي نشاط جرمي من شأنه أن يقود الى الملاحقة والتوقيف. في الوقت الذي يترك المجرم الجاني في حادثة الجميزة حراً دون أية ملاحقة أو مساءلة. إنها عدالة الذئب الذي اتهم الخروف بتعكير صفو المياه عليه.
أزاء هذا المشهد التعسفي من قبل الحكومة اللبنانية عمد سعاده وهو المعتدى عليه الى رأب هذه الصدع الحاصل بين الحزب والحكومة عن طريق وسطاء فكان رد الحكومة بالرفض عندئذ قرر سعاده المواجهة دفاعاً عن النفس هو حق مشروع لكل معتدى عليه في علم القانون.
ومؤدى المواجهة باعلان الثورة على الحكومة اللبنانية المارقة التي بفسادها داست قضايا الشعب وأنهكته.
عقب تفاقم المداهمات والملاحقات تضاربت الروايات حول الدوافع التي حملت سعاده الى مغادرة لبنان الى الشام التي كانت خاضعة لحكم عسكري عقب انقلال قام به الجيش بقيادة حسني الزعيم.
بوصول سعاده الى الشام طلب حسني الزعيم من صديقه الدكتور صبري القباني وهو قومي اجتماعي أن يؤمن له لقاءاً مع سعاده فكان له ذلك. في اللقاء هاجم حسني الزعيم الحكومة اللبنانية وعرض عليه مد الحزب بالسلاح والعتاد وإذا أمكن بالرجال وتعبيراً عن صدق موقفه أهداه مسدسه الشخصي.
لم يف حسني الزعيم بوعوده وهو رجل غير متوازن في تفكيره ومتقلب في مواقفه وكان سعاده حذراً منه نتيجة التقارير التي رفعها الضباط القوميون عن حسني الزعيم الى القيادة الحزبية.
التسليم
وسط تفاقم ملاحقات القوميين سلم حسني الزعيم انطون سعاده الى مدير عام الامن العام اللبناني فريد شهاب في القصر الجمهوري في الشام واقتيد سعاده مباشرة الى المحكمة العسكرية ليحاكم أمامها بثلاث تهم – التزوير- العمالة لاسرائيل- اعلان الثورة والتمرد على الحكومة وسقوط قتلى وكانت التعليمات ان يقتل سعاده في الطريق الى بيروت بداعي الهرب ولكن ذلك لم يحصل.
في المبادىء الاولية لأية جريمة تساق ضد متهم أن تبدأ بادعاء الحق العام أمام قاضي التحقيق العسكري الذي يتولى الاستماع الى المتهم والى شهود الحق العام وبالتالي شهود الحق الشخصي كل ذلك بعد الاطلاع على تقارير الأدلة الجنائية ويعطي المتهم لزاماً الحق بتوكيل محام يتولى الدفاع عنه.
وعلى ضوء هذه التحقيقات والأدلة المتوفرة يصدر قاضي التحقيق العسكري قراره الظني ويحيل الملف مع المتهم الى المحكمة ليحاكم امامها ويعطى الظنين أو المتهم الحق بالطعن بقرار قاضي التحقيق أمام الهيئة الاتهامية.
هذه الإجراءات والحقوق العائدة للمتهم الواجب توافرها في أية دعوى جزائية جنائية لم تحصل في ما سمي دعوى الحق العام بوجه انطون سعاده . بل باشرت المحكمة العسكرية بتوجيه التهم الى سعاده بطريقة عشوائية كالتزوير التي سقطت في مجرى الاستجواب وكذلك تهمة العمالة لاسرائيل. ترى لو كان سعاده عميلاً لاسرائيل هل حوكم وأعدم سؤال برسم أهل المعرفة والسياسة والفهم في لبنان. رغم ان لبنان يشكو تخمة وفيض من العملاء والجواسيس معششون في الادارات ومراكز القرار وفي كل مرافق الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية في لبنان.
أما في ما يتعلق بتهمة اعلان الثورة على الحكومة اللبنانية المارقة فإن سعاده كان في موقف الدفاع عن النفس ولم تترك له الحكومة خياراً آخر غير المواجهة بعدما فشلت كافة الوساطات للحل الرضائي بين الحزب والحكومة.
ومآل الدفاع عن النفس عمل مبرر في نظر القانون لأن سعاده بما تكتنز به نفسه من آباء وكبر وعز لا يقبل بأن يعتدى عليه وعلى حزبه الذي مثل قضية حياته ووجوده لا يقبل أن يسكت على هذا التحدي الظالم فكان من الطبيعي أن يقف ويواجه دفاعاً عن نفسه وعن حزبه وإن رافق هذه المواجهة أعمال عنيفة.
والدفاع عن النفس في نظر القانون هو من أسباب التبرير للفعل الجرمي المنسوب للمتهم ويؤدي حكماً الى تخفيف حجم العقوبة لا الحكم بأقصاها وأقساها كما فعلت المحكمة العسكرية.
أضف الى ما تقدم ان سعاده هو قائد حركة حزبية نهضوية وواضع أسسها الفكرية وهو بكل مواقفه وتوجهاته وعلاقاته وكتاباته هو رجل فكر وعقيدة وإن ما نسب اليه من أفعال لا يخرج عن كونه توسل الثورة لانهاض المجتمع واصلاحه.
فالجريمة المنسوبة اليه تجد حيزها الموضوعي والمادي في هذا الإطار كجريمة فكر ورأي بمعنى أنها جريمة سياسية بامتياز. وهذ الجريمة لا تصنف من ضمن الجرائم الشائنة كالقتل والسرقة والتزوير والرشوة وغيرها. بل هي من الجرائم التي ينظر اليها القانون باحترام لأن منطلقها فكري وهدفها اصلاحي. ولهذا ينظر الى الجريمة السياسية بأنها تطال حقوقاً سياسية لا فردية وتستهدف مصالح عليا لا مصالح فردية دنيئة.
لم تبث المحكمة التي اغتالت سعاده في الدوافع والحوافز التي حملت سعاده على مواجهة الحكومة اللبنانية باعلان الثورة عليها علماً أن كل قضية جنائية تبطن في ثناياها دوافع حملت المتهم على ارتكاب جريمته باعتبار أن هذه الدوافع تعرف بالقانون الجزائي بالنية الجرمية والقصد الجرمي وعلى المحكمة في معرض نظرها بالقضية أن تعمد إلى التقصي عن هذه الدوافع وبلورتها والظروف الذاتية التي أحاطت بالمتهم لارتكاب جريمته بما يقود إلى توافر قناعة المحكمة في الوقائع المساقة أمامها وثبوتها وبالتالي ضمان سلامة بناء حكمها. لكن المحكمة لم تبحث في الأسباب والدوافع التي حملت سعاده إلى اعلان الثورة بمواجهة الحكومة اللبنانية كما لم تبحث كيف أن أجهزة الدولة لاحقت المعتدى عليهم بدون وجه حق وخلافاً للقانون وتركت المعتدين أحراراً.
وإذا كان استمرار الاعتداء على حزب سعاده في الجميزة شاملاً كل مناطق لبنان حيث يتواجد قوميون اجتماعيون فإن دوافع سعاده بمواجهة الحكومة لم تكن إلا من باب الدفاع عن النفس متسلحاً بأسباب التبرير القانونية بما يقود حكماً إلى منحه الأسباب التخفيفية عند اصدار الحكم بحقه.
هذا في القانون أما في السياسة المتصلة باعتقال سعاده واغتياله نورد ما يلي:
في كتابه أوراق من دفتر الوطن يورد سامي جمعة كبير رجال الاستخبارات الشامية في عهد حسني الزعيم ما يلي:
"يعتقد الكثيرون حتى الآن أن استقبال حسني الزعيم لانطون سعاده في سوريا ودعمه له كان لمواجهة لبنان بشخص رياض الصلح أو رداً على الموقف العدائي الذي وقفه الصلح ضد حسني الزعيم وانقلابه، أو محاولة من حسني للضغط على الصلح لتغيير موقفه من قضية النقيب أكرم طبارة المعتقل آنذاك في لبنان بسبب قيامه بقتل كامل الحسين. كل ذلك غير حقيقي ولا يمت للواقع بصلة إذ أنه كان بإمكان الفرنسيين الذين شاركوا أميركا في انجاح انقلاب حسني الزعيم أن يوعزوا لأصدقائهم من موارنة لبنان للضغط على بشارة الخوري ورياض الصلح لتغيير موقفهم من حسني الزعيم وانقلابه. والواقع أن الأميركيين وضعوا سيناريو مأساة الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه انطون سعاده ولم يطلعوا حسني الزعيم إلا على ذلك الجزء اليسير من السيناريو ليرضي طموحه وعنجيته. وقد كان هذا السيناريو مؤلفاً من ثلاثة أجزاء هي:
1- استقبال سعاده ة وايوائه في سوريا.
2 - دفع سعاده الى اشعال الثورة في لبنان شرط أن تكون هذه الثورة محكومة بالفشل والاخفاق.
3- تسليم سعاده للسلطات اللبنانية".
(سامي جمعة أوراق من دفتر الوطن صفحة /75/)
نلفت هنا الى أن حسني الزعيم كان قد استقبل في بلودان ضابطين من المخابرات الإسرائيليه برئاسة موشيه شاريت لذات الغرض المتوافق مع خطة الميجر ميل المسؤول الأمني في السفارة الأميركية في دمشق.
كامل الحسين الوارد ذكره أعلاه هو جاسوس اسرائيل الأول في لبنان وتربطه علاقات وطيدة برياض الصلح ترتب على قتله اعتقال قاتله أكرم طبارة وتوتر العلاقات بين لبنان والشام جراء قتل الجاسوس الاسرائيلي.
لم يكن بامكان اسرائيل أن تستمر وتبني دولتها لو بم يتوفر لها مثل هذه النماذج من العملاء والجواسيس المنفذين لارادتها وهكذا نفذ القضاء اللبناني عن قصد وبكل غباء وخلافاً للقانون ارادة اسرائيل بإعدام سعاده شعلة الضياء في الأمة.
نلخص من كل ما تقدم إلى توافر الحقائق القانونية التالية:
1- إن مهاجمة الأجهزة الأمنية لحزب سعاده لم يكن له أي سبب قانوني أو مادي يبرره. لا بل كان يقتضي حكماً حماية هذا الحزب من المعتدين عليه.
2- إن عدم سماع الدولة لمناشدة سعاده لحل الاشكالات الدائرة بينها وبين الحزب السوري القومي الاجتماعي قاد سعاده الى خيار المواجهة دفاعاً عن حزبه وهو موقف يشرعه القانون وفي أسوأ الاحتمالات يمنحه السبب المخفف للعقوبة عند اصدار الحكم.
3- إن المحكمة عند ممارستها لدورها القضائي لم تبحث في الدوافع والأسباب التي حملت سعاده إلى اعلان الثورة على الحكومة المارقة. كما أن المحكمة لم تبحث في الدوافع والأسباب التي حفزت محامي بالاستئناف (نبيل العلم) (بالتخطيط لاغتيال رئيس منتخب للجمهورية) والتي حفزت مهندس (حبيب الشرتوني) لتنفيذ المخطط. هذه الحوافز التي شكلت العنصر الجوهري والأساسي في عملية اغتيال بشير الجميل والتي لم تركن إليها المحكمة بل اعتبرتها جريمة قتل بالرغم من انعدام أي اتصال أو أي علاقة بين العلم والشرتوني من جهة والجميل من جهة أخرى فكان الحكم خدمة قضائية للسلطة السياسية.
4- لم تحترم المحكمة العسكرية الأصول الاجرائية لمحاكمة سعاده. فليس في المحاكمة تحقيقات أولية ولا تقارير الأدلة الجنائية ولا احترام للمهل كما لا احترام لحقوق المتهم بالطعن بالقرار الظني الصادر عن قاضي التحقيق.
5- لم تحترم المحكمة العسكرية الأصول الاجرائية الواجب توافرها بأنها لم تستمع إلى شهود الحق الشخصي ولا إلى شهود الحق العام ولا قرار ظني أو اتهامي باعتبار أنه لم يكن هناك شهود على الجريمة المنسوبة إلى سعاده.
6- لم يعط سعاده حق الدفاع عن النفس كما أنها رفضت اعطاء مهلة للمحامي بدرس الملف تمهيداً لمناقشة قرار الاتهام والدفاع عن سعاده.
7- بكل حكم جزائي يعطى المحكوم عليه حق الطعن بالحكم أمام محكمة أخرى عليا بمعنى أن المحكمة لم تعط سعاده حق الطعن بالحكم الصادر بحقه عن طريق تمييزه أمام محكمة التمييز العسكرية وهذا مخالفة قضائية جسيمة تستوجب محاكمة القضاء الذين أصدروا الحكم وأعطوه الصيغة التنفيذية واستناداً لكل هذه المخالفات الجوهرية يضحى الحكم الصادر بحق سعاده حكماً باطلاً وغير قابل للتنفيذ خلافاً لما فرضته المحكمة العسكرية من اجراءات بهذا الخصوص وبصورة تعسفية واستبدادية وخلافاً للقانون.
8- وهكذا تحول القضاة المحكمة إلى شركاء في اغتيال سعاده مع أركان السلطة الحاكمة في لبنان ولم يكونوا اطلاقاً قضاة حكم ينشدون عدالة.
9- في المشهد الأخير لهذه المسرحية نخلص إلى القول أن سعاده لم يحاكم بالمعنى التقني لمفهوم المحاكمة القانونية ووفقاً للنصوص الاجرائية التي ترعى مجرى المحاكمات. في الحقيقة هناك عملية اغتيال أرادها حكام لبنان والشام وأسبغ عليها قضاة لبنان زوراً طابع المحاكمة.
10- من غير المنطقي وبالاسناد إلى ما تقدم القول باعادة محاكمة سعاده ذلك أن سعاده لم يحاكم كي تعاد محاكمته. إن المحاكمة الوحيدة التي يمكن اجراؤها في هذا المجال هي محاكمة التاريخ لشلة من الخونة والعملاء الصغار الذين حاولوا اطفاء شعلة الأمة باغتيال جسد سعاده.
11- منعت الحكومة تلبية رغبة سعاده الأخيرة واحترامها ككل رغبة يطلبها محكوم بالإعدام بمشاهدة زوجته وبناته القاصرات الثلاث وهذا حق من حقوقه وهذا مما يثبت مدى وحجم الحقد والحقارة التي يرسف فيها أصحاب القرار في هذه القضية.
12- في تنفيذ حكم الإعدام واجه سعاده الموت تماماً كما واجه سقراط السم وكما واجه يسوع الصليب وكما واجه الحسين الظلم وحيداً إلا من إيمانه بعقيدته والتزامه بقضية أمته التي كانت فعلاً وحقيقة تساوي كل وجوده وربما أكثر.