سبعون عاماً مرّت على إعدام أنطون سعادة ولا زلنا نتحدّث عنه. نحن لا نتحدّث عن ميشال عفلق وصلاح البيطار، بالرغم من أن الحزب الذي تأسّس على أيديهما حكمَ في بلديْن عربيّيْن وانتشرَ في كل الأقطار العربيّة. لا نتحدّث عن خالد بكداش أو أي من زعماء الحركة الشيوعيّة لأنها انهارت بمجرّد أن انهارَ راعيها. أنطون سعادة ترك إرثاً لم يتركه هؤلاء: هو تركَ عقيدة متماسكة ـــ اختلفتَ معها أم اتفقت ـ وتركَ مؤسّسات حزبيّة ما زالت تعمل، وترك أيضاً مثالاً في البطولة عزَّ نظيره. والعقيدة ما زالت ثابتة في مفاصلها الأساسيّة وإن تشرّبت بعناصر تجديد ماركسيّة يساريّة وقوميّة عربيّة لم يؤثّر تشرّبُها على تميّز العقيدة عن غيرها من العقائد.
لكن النظر إلى أنطون سعادة وعقيدته ليس سهلاً لما اعترى الصورة من تشويه مقصود من قبل أعداء الفكرة القوميّة السورية: لقد حاربَ هذا الحزب وعقيدته القوميّون العرب ـ على أنواعهم ــ والشيوعيّون والانعزاليّون اللبنانيّون والليبراليّون العرب في مضارب أمراء النفط والغاز. فالحزب ليس انعزاليّاً وليس قوميّاً عربيّاً. لكن شروحات الزعيم لمبادئ الحزب تركت من المرونة ما سمح لها بالتطوّر، مثل النزعة العروبيّة التي تصعد أحياناً (في سنوات الحرب الأهليّة) وتنخفض أحياناً (مثل السنوات الأخيرة وتصاعد نغمة المشرقيّة، التي ينطق بها بعض انعزاليّي لبنان). فسعادة في «المحاضرات العشر»، قال إنه لا مانع من أن تكون «الأمة السوريّة إحدى أمم العالم العربي». لكن أعداء سعادة صوّروه على أنه «فيورر» عربي فيما لا تترك معرفة تاريخ سعادة في حزبه إلا قناعة أنه كان أكثر ديموقراطيّة من قادة الأحزاب الشيوعيّة والليبراليّة والقوميّة. كان سعادة يتناقش طويلاً مع طلاّب في المدارس والجامعات ويتراسل مع أعضاء تساورهم شكوك في عقيدة وقيادة الحزب. تقارن ذلك بجورج حاوي أو بكداش أو محسن إبراهيم في أحزابهم، أو حافظ الأسد أو صدّام في قيادة حزبيْ البعث. (لم يعرف الحزب الشيوعي اللبناني الديموقراطيّة والقيادة الجماعيّة إلا بعد مغادرة حاوي وشلّته القيادة). تقارن ذلك أيضاً بقادة أحزاب طاردوا منشقّين وقتلوهم (حزب البعث برعَ في ذلك).
لعلّ من أهم ما يلفتُ في مراجعة كتابات سعادة هو مفهوم «السيادة» الوطنيّة (أو القوميّة)، وقد وردت في «المحاضرات العشر» (حيث رأى أن سيادة الشعب نفسه ووطنه هو المبدأ الأساس) وفي «نشوء الأمم»، كما ورد المفهوم في كتابته عن دوافع إنشاء الحزب (في رسالته إلى محامي الحزب في عام ١٩٣٥). السيادة هي معنى قانوني دستوري محدّد وغير شاعري ومبهم مثل مفهوم الحريّة الذي زرعه الغرب للتضليل بيننا، واجترّه مثقّفو العرب لأنه لا يحمل تهديداً للسلطات الأجنبيّة والمحليّة القائمة. ألم تغزُ أميركا بلادنا باسم «الحريّة»؟ ومفهوم السيادة القومي هو الذي ميّز تركيز سعادة وحزبه على القضيّة الفلسطينيّة أكثر من أي من الأحزاب المعاصرة في حينه. تنبيهات سعادة للخطر الصهيوني (بالرغم من التعبيرات المعادية لليهوديّة والتي تخلّى الحزب عنها فيما بعد) كانت صائبة وثاقبة. تقارن ذلك بمهادنة الأحزاب الشيوعيّة مع الصهيونيّة، لأنّ أمراً أتاهم من موسكو بقبول قرار التقسيم المشؤوم في عام ١٩٤٧، وهذه الخطيئة لا تزال تقبّح العقيدة الشيوعيّة إلى يومنا.
الثوريّة شاملة في فكر أنطون سعادة. والذي يأتي من خلفيّة شيوعيّة مثلي لا يستطيع في مراجعة كتابات سعادة وتاريخ الحزب، إلا أن يلحظ النفس والمضمون الثوري في فكر سعادة. فهذا رجل يدعو إلى ثورة شاملة في الدولة والمجتمع (كتاب «نشوء الأمم» مُهدى من الزعيم إلى رجال ونساء الأمة السوريّة). والثورة عند سعادة ليست كما القوميّة عند عفلق (أي «محبّة»، مع أن حب البعثيّين تحوّل إلى أشنع صراع دموي بين رفاق الحزب الواحد): هي ثورة مسلّحة لا هوادة فيها. الحركة الشيوعيّة العربيّة لم تكن ثوريّة أبداً وكانت دوماً تدور تحت سقف شعارات إصلاحيّة ليبراليّة، ولم يرغب الشيوعيّون من خلالها إلا بالوصول إلى المُرتجى ـ أي البرلمان. ولولا المقاومة الفلسطينيّة في لبنان لما تسلّح شيوعيّو لبنان الذين كانوا مِن أوّل نابذي العنف بعد انتهاء الحرب، وقاد جورج حاوي ومحسن إبراهيم حركة اعتذاريّة عن دور الحركة الوطنيّة في الحرب ـ وهذه سابقة. وثوريّة الحزب تمثّلت بالثورات المسلّحة التي أعلنها وقادها الزعيم، والتي أدّت إلى إعدامه (لم يكن الإعدام عفويّاً، لو ربطنا بين «حادث الجميزة» ودور رياض الصلح، وإخفاء جثّة الزعيم — راجع كتاب أنطوان بطرس، «قصة محاكمة أنطون سعادة وإعدامه»). والانقلاب الفاشل في ١٩٦١ كان يفترض فيه أن يشكل ثورة ومشروع إقامة أوّل نظام لبناني غير طائفي هو ثورة بحد ذاتها، بالرغم من الارتباطات الرجعيّة اليمينيّة للحزب من ١٩٥٨ حتى الانقلاب.
كتب سعادة بلغة متينة جمعت بين معرفته بعدد من اللغات وأدوات التحليل الاجتماعي. ونحت سعادة عدداً من المصطلحات (مثل «النرفانيّة» عن الـ «نيرفانا» الهنديّة) لكن الأهم أنه كتب لغة علم الاجتماع الغربي الحديث بلغة عربيّة سليمة وبليغة لكن سلسة. وهذا التحدّي لا يزال صعباً على الأكاديميّين العرب. لكن هنا المشكلة في استعانة سعادة بعلم الاجتماع الغربي: ١) أنه وازاه في اليقينيّة بالعلوم الطبيعيّة، و٢) استعانة سعادة بعلم الاجتماع الغربي، وخصوصاً علم الأنثروبولوجيا، أوقعه في عنصريّة واستشراق هذا العلم، مع ملاحظته لبعض النواحي العنصريّة فيه (مثلما لاحظ «التحامل على السلالات» في أميركا (ص. ٢٦، من «نشوء الأمم»). وسعادة لم يكن كما رسمه كاريكاتور كارهيه: أنه نقل العقيدة النازيّة. من قال ذلك لم يقرأه (نفى ذلك في «المحاضرات العشر»). هو رفض تحديد السلالات على أساس لون البشرة وسخر من ذلك، لكنه اعتمد على الأنثروبولوجيا الغربيّة في الركون إلى فصل السلالات بناء على حجم الجمجمة مع أنه دحض الفكرة العنصريّة الغربيّة عن «نقاوة» السلالة ووصفها بـ «الفاسدة بالمرة» (ص 33 ـ «نشوء الأمم»). لكن سعادة تحدّث عن سلالات «راقية» وأخرى «منحطة». لكن تطوّر العقيدة يسمح بإهمال هذه العناصر من الفكر المؤسس، ودراسة العقيدة القوميّة السوريّة مزدهرة لكن في اللغة الإنكليزيّة فقط للأسف (كتب سليم مجاعص وعادل بشارة). إن هذه العقيدة والالتزام الحزبي أنتجا أجيالاً من القوميّين وحميا من الارتداد والتساقط والخيانة: ينعزل القومي السوري، لكنه لا يخون (ألهذا جنّد وديع حدّاد من بينهم ولم يجنّد من أحزاب لبنانيّة أخرى؟). تقارن ذلك بعشرات القادة والمثقّفين الشيوعيّين الذين انهاروا بمجرّد سقوط الاتحاد السوفياتي. وهذا مرتبط بفشل أو عجز الشيوعية العربيّة عن إنتاج أدب سياسي محلّي على غرار إنتاج سعادة بالرغم من سقطاته وعيوبه. وتماسك العقيدة رسّخ المبدئيّة في الحزب، حتى عند الذين غادروا الحزب. لا ترى في هذا الحزب نماذج مثل كريم مروّة، وهو ينتقل من ستالينيّة سوفياتيّة متحجّرة إلى رأسماليّة ليبراليّة، ومن مديح المقاومة إلى هجائها في ص
نجح الحزب في اعتناق وبث علمانيّة جذبت إليه جمهوراً متنوّع الطوائف. لم يتنوّع حزب لبناني في الطوائف (والجنسيّات) كما تنوّع هذا الحزب.
وفيما أحجمت الأحزاب الشيوعيّة العربيّة عن نقد الدين (باستثناء تجربة حسين رحّال في بدايات تاريخ للحزب الشيوعي العراقي) وحتى عن الترويج للعلمانيّة (قصّر الشيوعيّون العرب كثيراً في هذا، خصوصاً في لبنان وفلسطين، حيث تحوّلت ساحة مُرحبة بالعلمانيّة في الستينيّات والسبعينيات إلى ساحة تحتضن تيّارات دينيّة متزمّتة في الثمانينيّات وما بعد). خاف الشيوعيّون العرب من تهمة الإلحاد، فتجاهلوا الموضوع بالكامل ولم تكن الماديّة جزءاً من الخطاب الشيوعي العربي. سعادة في «نشوء الأمم» لم يتساهل في «نقد التعليل الديني ونقضه»، وفي السخرية منه. وضع سعادة التفسير العلمي مقابل التفسير الديني الغيبي عن النشوء. والصرامة العلمانيّة للحزب تجلّت في مبادئ الحزب التي شرحها الزعيم في «المحاضرات العشر»، حيث اعتبر أن العلمانيّة تتضمن فصل الدين عن الدولة و«منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء». بهذا الاختصار، وصف الزعيم دولة مدنيّة لم يجرؤ الشيوعيّون على المطالبة بها (كان جورج حاوي يقبّل صلبان رجال الدين عندما يلتقيهم).
البطولة عند سعادة هي للفرد وللجماعة القوميّة. لقد ترك سعادة مثالاً غير عادي في المشرق العربي نتيجة مواجهته الشجاعة للإعدام، وفي تحدّيه للسلطات اللبنانيّة العميلة. وقفة سعادة في المحكمة الباطلة كانت وقفة العزّ التي اختزل الحياة فيها. لكن هذه الوقفة أصبحت الأمثولة التي ينشأ عليها القوميّون والقوميّات. هي عنصر من عناصر إرث سعادة الكبير.
من ملف : 70 عاماً على استشهاده.....
70 عاماً على استشهاده: أنطون سـعادة الآن وهنا
فكرٌ من وجهة نظر المستعمَرين
قصّة بلاد تقاتل غزاتها
استشرف ثورة الشرق وسقوط أميركا
أسعد أبو خليل، جريدة الأخبار، السبت 13 تموز 2019