يَؤمّ الناس، في الأعمّ الأغلب، محاريب الصلاة طلباً للبقاء على قيد الحياة والإستغراق في الجنة الموعودة. أما حَمَلةُ القضية القومية المعنية بالأمّة ونهضتها فيؤمُّون محراب الكرامة ولو أدى إلى الإستشهاد.
كان سعاده، وما زال بقدوة عطائه الفكري والجهادي، مثالاً أعلى لذلك النهج الفريد الذي اخْتطّه بالفكر والحركة قبل أن يمهره بدم الشهادة، هو الذي كانت علاقته بالنهضة كعلاقة الصفحة بالحِبر، والعَين بالرؤية، والعقل بالمعرفة. والأهم أن تَماهيهِ بها مطابق لتماهي القول بالفعل.
لقد استرعى انتباهي، وأنا بعدُ فتى، نصُّ الإهداء الذي كتبه زعيم الحزب السوري القومي الإجتماعي على الصفحة الأولى من الكتاب المُهدَى لأحد مناضلي الرعيل الأول: "إلى الرفيق المجاهد جبران جريج". وهذا يعني أن الجهاد ليس مقصوراً على الساحة الدينية لأن ثمة أنساقاً عديدة من أعمال الجهاد في ساحات أخرى تصبّ في مصلحة المجموع ولا تنحصر في ديانة أو طائفة أو فئة من الشعب محددة.
وكم شدّدَ سعاده على الإرادة والعزيمة، على الوحدة الروحية وعلى القيم المناقبية والعقلية الأخلاقية الجديدة، انطلاقاً من مبدأ العطاء الكامن في مبادئ الحركة السورية القومية الإجتماعية، الأساسية والإصلاحية!! وتعنينا هنا الإشارة إلى رسالة لسعاده وجّهها إلى رفيقه الياس فاخوري عام 1941 وفيها تنبيه إرشاديّ جازم: "لا تنسَ أننا في الحزب السوري القومي نُشَكّل وحدة نفسية نظامية قبل كل شيء آخَر" (النشرة الرسمية- عدد9 /1960). فالإنتماء هو انصهار بنْيانٍ نهضوي في إنسان جديد، لا مجرد انتساب ببطاقة حزبية كما هي الحال في معظم النوادي والجمعيات والنقابات.
غير أنّ المستغرب هو التبسيط المعتمد أحياناً لأحداث تموز 1949، عبْر مرويات مسطّحة لِما يُظَن أنه جرى قبل الثورة الأولى وخلالها، ثم انتهى بجريمة إعدام سعاده وكوكبة من مسؤولي الحزب الأبرار الذين جرى انتقاء أسمائهم وفقاً للقرعة الطائفية الحقيرة.
لا شك أن آلاماً كبيرة وخسارة لا تُعوَّض قد تمثّلَتْ في استشهاد العبقري الفذ أنطون سعاده، في بهاء شبابه، على أيدي مأجورين أثبتت الوثائقُ والمذكرات العديدة عمالةَ بعضهم للعدو "الإسرائيلي" وانسياقَ آخَرين في مجرى مؤامرة خارجية كبرى وظّفَتْ أدوات محلية في أدوار خسيسة. على أنّ خطة الإطباق على سعاده والحزب كانت خبيثة إلى درجة لا يجوز تحجيمها إلى أفراد يظلون صغاراً مهما أُعطيَ لهم من الأدوار التنفيذية. لكنّ المطلوب أن نعيَ على الدوام بأن مشروع الحزب النهضوي بقيادة سعاده شكّل خطراً مُحدِقاً بالبِنىَ المريضة التي أرساها المستعمِر وكرّستها المرجعيات الإقطاعية المذهبية المستعدة حتى اليوم أن تُشعل البلاد والعباد حتى الترَمُّد حفاظاً على أنانياتها المريضة، من دون أن نُغفِل مراكز النفوذ الدولية ومطابخها السوداء التي خَطّطتْ لإجهاض المشروع القومي الإجتماعي، التوحيدي والتغييري في آنٍ واحد. فالمشروع الوحدوي الإستنهاضي على قاعدة المواطَنَة المتينة والولاء القومي العابر للولاءات العصبوية هو نقيض مشاريع التجزئة والتفتيت والنزاعات التي لا تنتهي.
كانت تعاليم الحزب الرائدة وجِدية سعاده هي عناصر التحريض التي دفعت المتضررين إلى إعلان "النفير" السلبي المعاكس دفاعاً عن العَسَس والمصالح الصغرى الدنيئة... لقد أوضح سعاده، باستشراف عزّ نظيره، خطر المشروع الصهيوني السرطاني وعمل بكل مسؤولية على الإعداد لخطة المواجهة، كما بَيَّنَ موضعية لبنان في المعادلة الإستراتيجية الأكبر، انطلاقاً من حصول الإقتناعات بأهمية المصالح القومية العليا وضرورة الإستجابة للوعي القومي الذي يتخطى الأفق الكياني الضيق، من أجل أن تنفتح أمام اللبنانيين والسوريين جميعاً آفاقُ التطلعات الجيو- سياسية الكبرى توحيداً للجهود والطاقات والمصالح والحياة الواحدة. ولم يكتفِ سعاده بِكَوْن مبادئ الحزب تُقدّم حداً عقلانياً للإنسياق وراء النعرات الطائفية الذميمة المتلبّسة لبوس الدِّين، ولا بتحديد الإتجاه العِلميّ والغاية الواضحة للمشروع الجديد، بل جاء بخريطة إنقاذية شاملة وبمفاهيم حضارية جديدة. فالإتحاد لا يكون بالأرقام بل بإيجاد عوامل الإتحاد، والتقدُّم المادي هو نتيجة تقدم روحي، والرقص على سبيل المثال هو نزهة نفسية، والموسيقى هي لغة النفس الإنسانية بكل ما فيها من عواطف وأفكار، والحب الراقي يتسامى على النزوات والقدود فإذا قَرّبَ فماً من فمٍ سكب نفْساً في نفْس. أما الأدب الحقيقي فهو أدب الحياة لا أدب الكتب، كما أن التجديد في الفكر والأدب الصراعِيَّيْن هو نتيجة لا سبب لأن السبب هو حصول النظرة الإبداعية الأصيلة إلى الحياة والكون والفن... هكذا استلزمَتِ الفلسفة النهضوية الجديدة التخلي عن الكثير من الأعراف اللاقومية والمفاهيم البالية، وفي المقابل استولدت تلك الفلسفة مفاهيمَ جديدة لكل مناحي حياتنا بل لكل شيء حتى للإستقلال. يقول سعاده: "إن الإستقلال الحقيقي ليس مجرد التحرر من جيوش الإحتلال للوقوع في قفصه الإقتصادي. إنه تحرُّر الإرادة الشعبية والمصلحة القومية من كل نفوذ للأجنبي، منظورٍ أو غير منظور.. هو تَحَرُّر من سيف الإستعمار ومن بريق ذهبه. الإستقلال هو سيادة الشعب الحرة على الأرض والمال والمصير".
نحن لا نرتاب لحظة واحدة في أنّ الثامن من تموز قد شهد عملية اغتيال مبرمجة بكل تفاصيلها، ولم يكن الإعتداء الكتائبي-الصُّلحي الآثم على مطبعة الحزب في الجميزة لإحراقها إلا تفصيلاً جزئياً لمؤامرة الإتهام الجاهز والخيانة الفظيعة والمحاكمة الصُّوَرية وجريمة الإعدام. وهي مؤامرة جاءت جريمة اغتيال العقيد عدنان المالكي في دمشق عام 1955 أشبه باغتيالٍ ثانٍ لسعاده، وللحزب الذي لوحقَ واضطُهِدَ وقُمِع واعتُقِل الآلاف من مسؤوليه وأعضائه الذين لم تكن الأمينة جولييت المير سعاده، رغم صلابتها، سوى عيّنة قاسية من مآسيه وسجونه الموجعة، في حين قضت المؤامرة الجهنمية بأن يبقى المتورط الرئيسي في الجريمة النكراء في منأى من الملاحقة القانونية ومن تأنيب الضمير.
وبعد اثنين وسبعين عاماً على جريمة اغتيال الينبوع المتفجّر حياةً وحكمة، جفّت من حوله الجداولُ الضحلة والمستنقعاتُ الآسنة التي شارك أصحابها في الإغتيال الغادر، في حين واصَلَ الينبوع مسار التدفق فكراً وعطاءً واستشرافاً وهدايات. وإذا كان مِن تَعَثّر في مسيرة التدفق فلأنّ الخِصب مخاض والإنحناء استثناء. قال الشاعر الكبير علي أحمد سعيد إسبر (أدونيس):
" لا أنحني/ إلا لأحضن موطني/ أنا صدرُ أمٍّ مُرضعٍ تحنو/ وجبهةُ مؤمنِ".