السيد سليمان البختي ألقى هذه الكلمة بالنيابة عن الأديبة خالدة سعيد.
كيف أتكلّمُ على شهيدةِ المعنى، جولييت المير سعاده، وأنا ما بَرِحْت أبكي حزناً وغضباً كلّما ذَكرتُ وقائعَ تلك الحياةِ وتلك المُفارقات؟ وكيف أختصرُ السيدةَ المنوّرةَ في كلمات!
بل كيف نفصلُ من سكنَ الرمزَ عن معانيه؟ ومن تبتّلَ للمعنى، كيف نفصلُه عن اليوتوبيا؟ كيف نفصلُ الآلامَ عن شاربِ كأسِها؟ وأين نَعثرُ على الواقعِ وشروطِه في هذا كلِّه؟ وبأيِّ ميزانٍ توزَنُ القيمُ العليا؟
سلّمُ القيمِ والمعاييرِ كان عندَها ميزانَ الربحِ والخسارة.
أنقذَتْ بحكمةِ رؤيتِها أشخاصاً ضائعين؛ أنقذت أُسَراً وبيوتاً على شفيرِ الخراب. واسَتْ عائلاتٍ أنْهَكها الحزنُ والفقدان. شكّلَت محورَ الضوء لحِزبٍ خارجٍ من كارثة.
حولَها ومنها ومعها، اسْتمدّ عديدٌ من القوميين الشجاعةَ والأمل، بعد فاجعةِ الحزبِ بسعاده والرفاق، وواصلوا الطريق.
من الجزيرةِ الفُراتية أو من الأردن وفلسطينَ كانوا يجيئون؛ من الباديةِ، من لبنانَ أو من حماة وحلب كانوا يجيئون. وكلٌّ يرجع من لقائها بما يغذّي حلمَه ويعزّز صمودَه الروحيّ. كانت الملجأَ بل حضنَ اللجوءِ المعنويّ والأمومةَ الجمعية.
حتى في السجن، في مرحلةِ سجنِ القلعة الرهيب، حين وجدت نفسها وحيدةً وسط بيئة غريبة، انحنَت على الضعف البشري، واسَتِ الغريباتِ اليائسات المحكومات بسجن طويل، ونوّرتِ الخاطئات وحمَت بحكمتِها ولطفِها المظلومات.
لكننا لا نختصرُ مَن نحكي عنه بل نختصرُ مشاعرَنا وإكبارَنا وتأثُّرَنا بذلك المثالِ الإنساني المُدهش.
كانت دليلاً إلى طريقِ الضوء، هي التي رسمَت حياتَها في ضوءِ معنى نبيل. ولعلّ هذا ما أعانَها على الصمودِ بعد استشهادِ زوجِها الذي نظرتْ إليه كزعيمِها
رسمَتْ حياتَها في مسارِ قضيّة؛ رسَمَتْها كهِبَةٍ ونُذرٍ لا تملكُ من أمرِه غيرَ كمالِ الوفاءِ به.
نحن الذين نفكرُ سياسيّاً أو تاريخياً، قد لا نفهمُ ذلك الفناءَ في المحبوبِ الزعيمِ والزعيمِ المحبوب. لكنّنا لا نقدرُ ألاّ ننحني أمامَ تلك الحالةِ الحلوليةِ بين الذاتيّ الصميميّ والجَمْعيِّ القوميّ كما تمثّلَتْ لدى جولييت المير سعاده.
كان لشخصيتِها وقعُ السحر. يُصابُ الإنسانُ بالدّهشةِ أمامَ تلك الرِّقَّةِ والشفافية، لكن مع صفاءِ الفكرِ والوضوحِ في الغاياتِ، والتّصميم في المواقف. ويمتلىءُ الإنسانُ بمشاعرِ الخَشيةِ والرعايةِ متسائلاً عن مصيرِ هذا الكائن المبدئيِّ الطوباويّ في عالمِ التنافسِ والتناحر بل الإلغاء المتبادَل.
أقدر أن أقول، إنّ كلّ ما قامت به كان رمزيّاً طوباويّاً. بل إنها دخلت الرمز وفيه أقامت.
أذكرها في حرب تشرين 1956 على مصرَ، وهي الحربُ التي سارعت سورية للإنخراطِ فيها. كنّا في سجن المزّة العسكريّ وخطرُ الغاراتِ ماثل. وكانوا قد تركوا أبوابَنا مُقفلةً رغم احتمالِ الغارات. لكنها كانت تفكّرُ في الخطر على سورية أكثرَ مما تفكرُ في الخطر علينا، وكنّا في تلك المرحلة السجينتين الوحيدتين.
كانت تحرصُ في كلّ كلمةٍ وحركةٍ على المعيارِ والغاية. عبَرَتِ الحياةَ مثلَ شِهابٍ مسيرتُه وضوؤه احتراق. شهابٌ يتبعُ خطّ المعنى.
ما من هيبةٍ كانت فوقَ هيبتِها، لأنها مثّلت الطوبى العقائدية والإلتزامَ المصَفّى والتجرّدَ والولاء، والإتّكاءَ على القيَمِ والأفكارِ وحدها.
لكنها كانت، مع بنيّاتها، بلا أيِّ ضمانٍ على الإطلاق، لا مادّيّاً ولا سياسيّاً: بلا أيّ مصدرٍ للرزقِ مضمون، وبلا استقرارٍ مكفول. لا سيّما أنّ الإطارَ المعنويّ والدعامةَ الوحيدة، أي الحزب، كان دائماً على شفيرِ الخطر.
هكذا كانت حياتُها خارجَ شروطِ الواقعِ وقوانينِه. تعيشُ في دمشق، أي في بلدٍ تنتمي إليه عاطفيّاً عقائديّاً، وليس عمليّاً إجرائيّاً أو في السجِلاّت. ما جعل حضورَها فيه مهدّداً ورهنَ رضى السلطات. فعليّاً، أقامَتْ في وطنٍ مُرتَجى. ولم تأبَهْ للضمانات. فضّلَت ذلك على المغادرةِ إلى أمانِ مَهجرٍ كريم.
جولييت سعاده أحبّتِ اللغةَ العربيةَ التي لم تكنْ لغةَ طفولتِها ولا صباها الأوّل. تعلّمَتْها وتعلّقت بها. واصَلَت كلامَها لبناتِها بالفصحى لتواصِلَ التمسكَ بالمثالِ الذي اختطّه رفيقُها. ثم كان اختيارُها للبقاءِ في الوطن سيراً في طريقِ مؤسسِ الحزب، أي طريقِ الخطر.
كانت تعرفُ أن الحزبَ حركةٌ ذاتُ طموح شاسع وإمكانياتٍ عالية في المبادىءِ والأخلاقِ والأرواحِ، وأحياناً في الثقافة (فمعيارُ التمييزِ والتكريمِ بلقب الأمانةِ، في الحزب، يعتمد معيارَ الأخلاقِ والوفاءِ والالتزام، في الدرجة الأولى) وأنّ إمكانياتِ الحزبِ المادّيّةِ كانت معدومةً فضلاً عن ضعفِ المؤهّلاتِ في السياسةِ والاستراتيجيا والوسائل وحريةِ الحركةِ على الأرض، ودليلُها الصارخ حركة 1949 وتداخلاتُها، ثم ما تلا ذلك حتى كارثة 1955 و 1956. ولا أزال أذكر، في عام 1956، ذهولَها واستنكارَها لمحاولةِ الإنقلاب ولمبدأ الإنقلاب، لأنّ النّهج الإنقلابيّ ، في رأيها يتناقض مع أفكار الحزب و" مناقبيّته ".
الحزبُ السوري القومي الاجتماعي حركةٌ انطلقت لمواجهةِ " أعرق" المطامعِ وأشدّها، وأفظعِ أشكالِ الإستهانةِ بالتاريخ والأرضِ وحقوقِ الشعوب. حركةٌ انطلقَتْ لمواجهة أكبرِ مؤامرةٍ لتمزيقِ سورية الطبيعيّة ـ التاريخيّة والتصرّفِ بأرضِها، بخفّةٍ وخرْقٍ لكلِّ حقٍ، ودونَ أيِّ تفويضٍ أو صلاحيةٍ من أيِّ جهةٍ أو أي شرعٍ في الدنيا غيرِ شريعةِ الغاب حيثُ القويُّ يتصرّفُ بحقّ من هو أضعف.
كان القرنُ العشرون قد بدأ مع مسلسل الكوارث على سوريّة:
الحرب الطائفيّة، المجاعة، والحربُ الكبرى والنزيفُ السكّانيّ في هجراتٍ واسعة، وإعدامُ الأحرار على أيدي العثمانيين، ومجازرُ وتهجير واقتلاع جذور على أيدي الأتراك في الشمالِ السوري وخاصّةً في كيليكيا حيث السلالاتُ التاريخيةُ من سريان وكلدان وآشوريين، ومعهم الأرمن بالتأكيد. [ ويبدو أنّها ستراتيجيا تعاود الظهور دوريّاً ].
في الوقتِ نفسِه كان قد أُطلِق وعدُ بالفور العجيبُ الغريب: حيث ممثّلُ الأمبراطوريةِ الاستعمارية، اللورد العنصري اللاسامي كارِهُ اليهودِ والذي لم يكن بعدُ يملكُ أيَّة صلاحيةٍ حتى من نوعِ الانتداب، يتبرّعُ للغرباءِ لا بأرضِ أو إقامةٍ ومواطَنة في فلسطين، بل بدولة. يَعِدُ بزرعِ وطن مُصطَنعٍ يخلِّص أوروبا العنصريةَ المُغلقَةَ من ضيقِها بمواطنيها اليهود الذين تقاذفتهم الهجراتُ القسرية والمصادَرات، مع أنّهم مشاركون أساسيّون في بناء أوروبا الحديثة وفي نهضتها. أراد اللورد العنصريّ، بوعده، أن يغسلَ الجرائمَ الأوروبيةَ التاريخيةَ في حقِّ اليهود. وتلا ذلك تقاسمُ الأرضِ السوريةِ بين القطبين الفرنسي والإنكليزي المنتصريَن في الحربِ الكونيّةِ الأولى. إنها الحربُ التي مزّقتِ الخارطةَ العربية ولا سيما الخارطة السورية. ثمّ كانت سياسةُ الهدايا العجيبة يقدمُها من لا يملك أيَّ حق. فرنسا انسحبت من كيليكيا لصالحِ الأتراك، ثم عادت في عام 1939 فقدّمت (فرنسا أيضاً ) لواءَ الإسكندرون السوري رشوةً لتركيا لكي تقفَ على الحياد في الحربِ العالمية الثانية. وبعد عقودٍ من الثورات الفلسطينية أقيمَتْ دولةُ إسرائيل عام 1948. ولم يتوقفِ النزيفُ البشريّ واغتصابُ الأرضِ حتى اليوم.
تمزيقُ سورية والمذابحُ في شمالها وشرقها كان المشهدَ المأسويَّ الأعنف على مسرحِ التحوّلاتِ الكونيّة التي أعقبتِ الحربَ الكبرى. وكان مؤسسُ الحزبِ السوري القومي الاجتماعي شاهداً على ذلك كلِّه بجسده وطفولته الغريبة ووعيِه الذي تفتح على الكارثة.
فقد عبر في طفولتِه الحرب الكونية الأولى وحيداً بعد رحيل أبيه ثم وفاة أمه وجدّه، محتضناً أخوتَه الثلاثة مواجهاً ظروفاً عاصفة ومأسوية لم تكن المجاعة وضحاياها إلا بعضاً منها. تأمّل طويلاً في أحوال سورية وكوارثِها. أراد، منذ بلغ الشباب أن يواجهَ قوى الطغيان الإستعماري ويعيدَ لسورية الممزقةِ وحدتَها بجسده وأجسادِ رفاقه. وكم أُسيء فهمه ! وكم أساءت العباراتُ الحزبيةُ الضيقة المتشنّجة المنمّطةُ إلى أصحابها وإلى الحزب. وكم أساء الفهمُ الحرفيُّ الضيّق. لم يكنْ هدفُ سعاده عزلَ سورية عن أفقِها العربي، بل كان تخصيصاً لها لكونِها الجريحةَ التي اختُصّت بالمذابحِ والنهبِ والتمزيق. فهي البيئة المميَّزة الفريدة في العالم العربيّ، حيث تتعايش بسلام عشرات الجماعات الثقافيّة الدينيّة والعرقيّة منذ آلاف السنين، وتشكّل متناغمةً متآلفةً مع العروبة والإسلام تنوّعاً وغنى إنسانيّاً هائلاً لا مثيل له. وكم من الجدلِ العقيم فاقدِ الرؤيةِ دار حول العروبةِ والقومية السورية.
إنّ رجلاً يرفضُ الكلامَ، حتى مع طفلاته، بغير الفُصحى، اللغةِ التي توحّد العرب، لغةِ القرآن، اللغة التي تختزن القيَمَ والتراث، حتى وصفه أعداؤه بأنه محمد أنطون سعاده، هذا الرجل الذي تآخى في حزبه الأفراد، من مختلف الأديان والأعراق والثقافات في الأرض السورية، لا يمكن أن يكون ضدّ العروبةِ غيرِ العنصرية، أو يكونَ رجلَ تفريق، بل هو رجلُ وحدةٍ وتفاعلٍ وتكامل.
المشكلاتُ جاءت مع نزول الفكرةِ إلى الميدان وخوضِ صراعات الميدان. ومع تأسيسِ الحزب ثم صراعاتِ الرجال والمصالح. هذه الأفكارُ السامية التي تريدُ مقاومةَ التاريخِ المعاصر وقوى الطغيانِ الكونيّ كانت تتطلبُ نساءً ورجالاً فوق الواقع، وصبراً طهريّاً فوق السياسةِ الوصولية وشؤونِ الحكم، وفوق العداواتِ الشخصيّة. كانت تتطلّبُ، قبل كل شيء، انفتاحاتٍ وحواراتٍ وتعاوناً وإصغاءً للآخرين من مختلف الأحزاب والمشارب، وقبولاً للتعدّد، بدلَ احتكارِ الحقيقةِ والحقِّ في الرأي.
وقد ذهب أنطون سعاده ضحيةَ الحسابات وتوازناتِ الطوائف وضيق الرؤية. ذهب وهو الذي دخل الحربَ أعزلَ ودخل ميدانَ السياسةِ وصراعاتِها الإلغائيّة أعزلَ إلا من فكرِه وثقافتِه وإيمانه بسورية.
لقد وقعتِ الأحزابُ في سورية في العلّةِ القبليةِ أو الفئوية. أقدرُ أن أقول إن الصراعَ بين الأحزاب، مضافاً إلى صراعاتِ الطوائفِ أو تقاسماتها، كان دخولاً في جحيمٍ لا محلّ فيها لغيرِ صراعِ الموتِ والحياة. وقد استغرقَ الصراعُ بين الفئاتِ والأحزاب معظمَ نشاطِها ومعظمَ إمكانياتِها، واحتلّ المرتبةَ الأولى في خُططِ تلك الأحزاب وقضاياها. وهل الإنقلابات أو محاولاتُ الإنقلابات غيرُ أسلوبٍ للإقصاء والتفرُّدِ والقمع والإستئثار بالسلطة عن طريقِ القوّةِ والمفاجأةِ أي الغدر؟
في النتيجة، عقمُ الحياةِ السياسية والدورانُ في دوامةِ الإنقلابات والقمعِ والإلغاء هو الظاهرةُ والإرثُ الذي جسّدَتْه السلطات كما استثْمرته الأحزاب.
أستطيع القولَ إنّ هذه الظاهرةَ الإقصائيّة الإلغائيّة وادّعاءَ احتكارِ الحقِّ والصوابِ والأهليّة، هي ظاهرةٌ عامّة تمثلَتْ في الأحزابِ كما تمثلَت في السلطة. وغالباً ما كان ينتهي اختلافُ وجهاتِ النظر في حزب من الأحزابِ أو ينتهي التنافسُ على مراكزِ القرار، إلى الإنشقاق. هل بقيَ حزبٌ لم يشهد انقساماً؟ هل أذعنَ حاكمٌ للقانون أو أفسحَ مجالاً لإنتخابِ بديلٍ له إلا بإنقلاب مضادّ؟ وما يحدُثُ اليومَ في سورية وفي فلسطين والعراق، في شكلٍ خاص، وكذلك في لبنان، هو النتيجةُ المباشِرة للنزعة "القبلية" الإحتكاريّة الإقصائية، حيث الفرقاءُ على اختلافهم يقولون قولاً واحداً: السلطةُ لي أو فليكن الخراب أو التقسيم. وما لم يُنجِزْه الإستعماريون بأيديهم ها هو يُنجَز بأيدي أبناء الوطن.
كما ذهب أنطون سعاده ضحيةً لهذه النزعة الإلغائية، وجدت جولييت سعاده نفسَها ذاتَ يومٍ وحيدةً عند ملتقى حرابِ الإلغاءِ المتبادَل، داخلَ الحزب وبين الدولة والحزب. فكانت القربانَ الذي يجب تقديمُه لعُتاة التنابذِ والإنكار والإستئثار، من هنا وهناك بلا استثناء.
ومع أنني خارج الحزب منذ أكثر من نصف قرن، فإنّ المعنى الذي مثّلته جولييت سعاده والآلام التي عاشتها لا تفارق فكري وقلبي، ولا أتوقف عن مساءلتها.
جولييت سعاده، بقوةِ الإيمانِ سارت، بلا طموح غيرِ توحيدِ الصفّ. بقوةِ أملٍ خارق بالحقّ السوري واستعادةِ كاملِ الأقطارِ والأقاليمِ المنتزَعَةِ من الأرض السورية.
احتضنتِ الحلمَ الكبيرَ والرؤيةَ المثالية. وآمنت بالرفاقِ وقدرةِ العددِ الصغير على تحقيق المعجزة، بلا إمكانات، وضدَّ جميعِ الظروف الواقعيّة الميدانية والدولية.
بقوةِ الإيمان سارَت، بقوةِ أملٍ خارقٍ بحقٍّ ساطع، مهما ضاع فقد بقيَ قابلاً للتقديس وحافزاً على النّضال؛ حقٌّ نزلت به الكوارثُ ولا تزال. ولهذا الحقّ تبتّلت.
لكن هذه التي توكّأت على بداهةِ الحقّ وصدقِ الإيمان وطهريّةِ المَسار تُرِكَت؛ نعم تُرِكَت، وأُخِذَت من حيث لم تكن تتوقّع. وأنطون سعاده الذي دفع حياتَه في المرةِ الأولى، خُذِل وطُعِنَ في أسرته: تُرِكَت جولييت المير سعاده لتؤخَذَ كغنيمة رمزية، فدفعت طفلاتُ سعاده الضريبةَ مرّتين.
كان القوميّون حولَها خارجين من مسلسلِ المِحَن بدءاً من محنةِ تموز 1949 إلى معاناةِ الأُسَر التي سُجن أبناؤها وحُكِموا بالمؤبّد حين لم يُعدَموا بالقرعة مراعاةً للتوازن الطائفيّ. وهذا أعجَبُ ما عرفته محاكمُ العالم! وكان ضوءُ وجهها في ملابس الحِداد يرسُمُ طريقَ الإيمان والأمل.
كنّا حولها نجتمع. وكانت الأمَّ الكبرى، حاضنةَ الآلام، خطيرِها وبعيدِها والخصوصيّ. كنّا حولها وكانت بلا حدود.
لم يكن أيٌّ من جهابذةِ المسؤولين الحزبيين أبعدَ رؤيةً ولا أكثرَ تصميماً. فهي من البدء لم تكنْ مقتنعةً بالمواجهات العسكرية ولا بالأساليب العنفيّة أو بالإنتقام والإنقلابات. لم تكنْ تؤيّدُ ألاعيبَ سياسةٍ تهوى السلطة. لكنها قبلَت دورَها الذي لا يقبلُ المنافسة كراعيةٍ حاضنةٍ لبناتِها، بناتِ سعاده، وكصوتٍ معتدلٍ في المجالسِ الحزبية، وكصديقةٍ بل كأمّ لكل من اختار طريقَ سعاده.
على ضفاف حلم وفي محارق طريق مشت. قبلَتُها حلمُ الأرضِ العبقرية، مهدِ الأبجدية وأرضِ السلالات والرائين روادِ البحار، وبُناةِ حضارةِ دمشقَ والأندلس، وعلماءِ دولةِ بني العباس.
مشَت تستضيءُ بالمعنى الذي أعطاه لحياتِه رفيقُها بل زعيمُها كما كانت تصرُّ أن تسميه. مشت تستظلّ بالقيم وبالذكرى. ولكنّ القيمَ، مهما عظُمَ شأنُها، لم تكن وا أسفاه، سقفاً واقياً.
لقد عبَرت زمانَنا، زمنَ القبائلِ المتناحرة وزمنَ الخيبات. لكنّها بالمحبّةِ والعطاءِ والرؤى العاليةِ رسمَتْ طريقَها، وببراءتِها دفعَتْ ثمنَ الخطايا. وإذ عبرَت طريقَ الآلام فقد جعلت منه طريقَ المعنى.