العظماء في التاريخ هم رجال خرجوا من حدود الزمان والمكان وراحوا يخططون لحياة جديدة ويرسمون مثل عليا بديعة لمجتمعاتهم. والحق نقول ان التاريخ الانساني يصنعه العظماء، خصوصاً اولئك الذين يمزجون حبر المعرفة وعرق الجبين بدم الشهادة في سبيل الحق والحرية والحياة ليصنعوا منه اكسير المجد والخلود.
والرجال العظماء هم خالدون في الدنيا قبل الآخرة لأنهم يشهدون لأنفسهم بأعمالهم بالعظمة. وهم لا ينتهون بسقوط أجسادهم وموتها بل هم يستمرون بسيرتهم وأدوارهم المميزة وبأعمالهم التي لا تفنى.. فهم القدوة الحسنة والمثال وهم الشعلة الوهاجة التي تنير الدرب لشعوبهم وللآجيال الآتية. والحق نقول ايضاً ان المجتمعات الحيّة والفاعلة في العالم لا تصبح كذلك إلا بعد اهتمامها الكبير بعظمائها وبرموزها السالفة والآنفة، ونقطة الانطلاقة لدى هذه المجتمعات هي الاهتمام بتاريخها القومي الإيجابي وفي قمته (الشهداء)، ذلك انها اذ تكرم الشهداء وتعظّم قدرهم انما تكرّم نفسها وتكرّم القيم المثالية في المجتمع، لأن الشهداء هم ضحية الهم الإجتماعي الذي يرتبط بكل الناس وهم طليعة انتصارات المجتمع.
ونحن اليوم نكرّم عظيم الأمة وفاديها، ومعلم الأجيال وهاديها، نكرّم رجل المبادىء والقضية شهيد الثامن من تموز الذي سالت دمائه الزكية على رمال بيروت لتنبت شقائق نعمان ولتحّول أرضنا الطيبة إلى ربيعِ حقيقي هو ربيع الخصب والخير ومواسم الحصاد، ربيع الأمل والحب والجمال ودفق العطاء...
في ذكرى وقفة العز التي عزّ نظيرها.. نجتمع اليوم لا تكريماً لرجل القضية واعترافاً بدوره في هداية الأجيال فقط.. بل لأن هذا الرجل العظيم جسَّدَ في حياته أسمى القيم المجتمعية العظيمة.. ولذلك نجدِّد ذكراه بإستمرار لكي نحيي هذه القيم التي مثلها في حياته ولكي نستنير بها علنا نخطو بذلك خطوة مهمة على طريق الاقتداء به.
أنطون سعاده، ايها الحاضرون المحترمون، كان عظيماً بعظمة القيم التي مضى عليها وجسَّدها في حياته ونضاله.. فقيم الحب والأخلاق والإيمان والعطاء والتضحية والبطولة والفداء امتزجت كلها بنفسه العظيمة وعبّرت عن نفسها في أحلامه الكبيرة وطموحاته العالية، وتجلّت في حبه الكبير لشعبه الكريم ووطنه الجميل، في توقه للحرية والمثل العليا والكمال، وفي عشقه للجمال ولحياة العز والشرف والإنتصار..
نفس سعاده العظيمة في إيمانها وحبها وإخلاصها تمثَّلت روحُ الأمة فيها فتفانت بعطاءاتها وتضحياتها من أجل الإرتقاء بالأمة، وتجسّد تفانيها بآلامٍ عظيمة لم يسبق لها مثيل مؤكدة بأن المطلب الإنسانيّ والروحيّ لا تنشده إلا النفوس الكبيرة، التي لا بد لها من أن تتألم وسط الصدماتِ وهي إذ تقبل التضحيات فلأنها تعي أنَّ في التضحياتِ حياة .
نفس سعاده المعبرة عن أماني الشعب وطموحاته والمؤمنة بحقيقة الأمة السورية ويقينها والمراهنة على أصالتها وعلى ما يختزن في طبيعتها من خير وجمال وإبداع هي نفس مفعمة بالحب والإيمان والعنفوان.. ومجبولة بالعز والثقة بالنفس والوجدان. هي نفس مشدودة للأرض والمجتمع والإنسان وترى الحب دافعاً للمثال الأعلى وأساساً للحياة.
وجسّدَ سعاده في حياته قيمة العطاء السخي فكراً وممارسة وإبداعاً. فلقد أعطى الأمة كل فكره وكل وقته وكل حياته ولم يبخل عليها بشيء حتى بدمائه. لقد تخلى عن كل ملذات الحياة ومغرياتها ووقف نفسه وحياته من أجل أمته ووطنه فكانت حياته كلها معاناة والآم ولكنه لم ييأس ولم يتراجع لأن ثقته بنفسه وبشعبه كانت كبيرة ولأنه رأى في الألم حياةً وفي العطاء عزاءً ومن يقبلِ الألَمَ يتخطَّ الأنانيّة.. ترك للأمَّةِ نتاجاً فكرياً ضخماً تضمنَ عقيدة قومية جامعة ومنظومةً منْ الأفكارِ والآراءِ العميقةِ في الفلسفةِ والسياسةِ والدينِ والأدبِ والموسيقى وغيرِهَا منْ ميادينِ الفكرِ والعلمِ والفنونِ. وعلى أساس عقيدته المناقبية الجديدة دعا الأمة لوحدتها ونهوضها وكان هاجسه الدائم والوحيد في كل كتاباته ومواقفه خدمة أمته وإحداث نهضة حقيقية فيها. وفي حين كان أكثر الناس حوله منشغلين بهمومهم الفردية ومصالحهم الخاصة ويبذلون وقتاً كثيراً من عمرهم فيها.. كان هو منصرفاً للإهتمام بعظائم الأمور ومنشغلاً بالهم القومي: بقضية نهوض الأمة والإرتقاء بها إلى المجد.
وقيمة البطولة المؤمنة المؤيدة بصحة العقيدة جسّدها سعاده في قيادته الجريئة للنهضة القومية وفي مواقفه البطولية المشرِّفة التي شكّلت دروساً خالدة للأجيال. فهو الذي رفض عندما كان حدثاً ان يستظل العلم العثماني فمزقه أمام رفاقه وأساتذته في مدرسة برمانا معلناً إنتهاء عهدِ الذل والعبودية للمستعمر التركي. وهو الذي مشى في طريق الحق قبل غيره وجابه المحكمةَ الفرنسيةَ وقضاتِها مدافعاً عن حقِ أمته وحريتها.. وهو الذي تعرّض للسِجنِ والنفيِ وللتهديد بالقتل مراراً وتكراراً ورأى الموت مقبلاً إليه في أشكال مختلفة ولكنه لم يأبه لسلامته الشخصية لأنه كان مستعداً لأن يقدمَ حياته في كل ساعة وفي كل دقيقة من أجل الحرية والعز القوميين.
وسعاده كان مثلاً أخلاقياً يحتذى لا بل مدرسة أخلاقية سامية تحارب الفساد الأخلاقي والنزعة الفردية وسياسة الثعلبة والكذب والنفاق وكل المثالب الإجتماعية وتعتبر الأخلاق شيئاً أساسياً جداً في الحياة. ولقد شدِّد سعاده على القوميين الإجتماعيين بأن يسلكوا في حياتهم بموجب الأخلاق القومية الجديدة قائلاً: "إذا سارَ قومي إجتماعي على الطريقِ فيجب أن يعرف الناسُ بأن سورياً قومياً يسير". كما دعانا لأن نكون "طغاة على المفاسد" لأننا "لا نعني بحركتنا لعباً وتسلية بل بناءً جديداً لا نرضى فيه إلا حياة الأحرار وأخلاق الأحرار."
وأخلاق سعاده هي أخلاق تنبذ الخانعين والخائفين والجبناء وهو القائل للقوميين الإجتماعيين: "إذا كنتم ضعفاء وقيتُكم بجسدي وإن كنتم جبناءَ أقصيتُكم عني وإن كنتم أقوياءَ سِرتُ بكم إلى النصرِ".
وأخلاق سعاده هي أخلاق الصراع في سبيل الأمة وتثبيت حقها في الحياة. فالصراع يقول سعاده هو "امتحان للعقائد والقيم، وهو امتحان للنفوس." وأخلاق سعاده هي أخلاق المواجهة الدائمة لقوى الباطل والفساد والإستبداد وللطائفيين والعملاء والنفعيين والمحتكرين لحقوق الشعب وثرواته. وكان سعاده قاسياً بحق المتطاولين على مصلحة الأمة والمشككين بقدرتها وعظمتها وبحق الساقطين المتنازلين عن الصراع منذراً اياهم: "ويل للمستسلمين الذين يرفضون الصراع فيرفضون الحرية وينالون العبودية التي يستحقون"؟. وعملاً بأخلاق الصراع، نخوض اليوم مواجهة فعلية في كورة العلم والعز والإنفتاح ضد قوى الطائفية والعمالة والإنغلاق التابعة لهولاكو العصر الحديث الذي يدّعي حرصه على الكورة الخضراء وهو الذي هدّم منازلها وأحرق مكتباتها وقتل أبنائها. فلهولاكو العصر الحديث نقول: "إن مرجل النهضة يغلي والويل الويل لمن يقف في طريقها."
وسعاده توّج عطاءاته السخية بقيمة الفداء التي جسّدها بفعل إرادي بطولي تماماً كما كانت تفعل من قبله الآلهة في أساطيرنا الفلسفية التي كانت تصارع قوى الشر والباطل وتضحي بنفسها إفتداء لخير الإنسان والمجتمع وإنتصاراً للحياة واستمرارها. فسعاده سار إلى خشبة الإعدام بخطى ثابتة قوية.. لم ينفعل.. لم ترهبه سطوة الباطل وسلطانه وجيوشه ولم يتخلَ عن عقيدته وإيمانه وأخلاقه لينقذ جسداً بالياً لا قيمة له بل واجه الموت بأعصاب هادئة ورحب به طريقاً لحياة الأمة مردداً "أنا لا يهمني كيف اموت بل من أجل ماذا اموت.. لا أعدّ السنين التي عشتها بل الأعمال التي نفذتها. هذه الليلة سيعدمونني، اما أبناء عقيدتي فسينتصرون وسيجيء انتصارهم إنتقاماً لموتي" .. في تلك الليلة التموزية الظلماء تجسّد فعل البطولة النادرة يقول سعاده للجلادين وهو ينظر إليهم نظرة التحدي: "دعوا عيني مفتوحتين لأرى الرصاص يخترق صدري"... وانهمرت رصاصات الحقد والغدر والخيانة عليه واخترقت صدره وهو يردد بسمو وأخلاق عالية كلمة شكراً لجلاديه وتفجّرت الدماء الزكية إنتصاراً للحق والقضية وافتدت الأمة ذاتها بشهادة عظيم عظمائها ومعلم أجيالها زعيم الأمة الخالد لمدى الحياة.
سقط جسد سعاده على شاطىء بيروت ولكن دمه التموزي انتصر على الموت بإرادة الحياة ولغة العز والمقاومة والعنفوان.. فالمجرمين المأجورين الأغبياء الذين اغتالوا سعاده بهدف القضاء على مشروعه النهضوي الحضاري سقطوا في مزبلة التاريخ وانطووا في العدم وكأنهم ما كانوا.. اما سعاده فبقي حياً خالداً في وجدان السوريين وقلوبهم، حياً بوقفاته المشرِّفة وسيرته المشعة، بأعماله الخالدة وكلماته البليغة، وبحقائقه الساطعة سطوع الشمس.. وأمسى فكرة حية لا تموت... امسى روحاً تتغلغل في النفوس وتنبت في كل يوم وفي كل بقعة سنابل خير ومحبة وعطاء.. تنبت أشبالاً وزهرات ورجالاً ونساءً أحراراً ومقاومين.. يتسلحون بالتعاليم السامية ويحملونها مشاعل نور تبدد ظلام الأمة وتملأ العالم نوراً وجمالاً وضياء.
يطل علينا الثامن من تموز هذا العام والأمة في أسوأ أحوالها تتعرض لأعتى المخططات الإستعمارية. فالهم القومي الذي كان أشغولة سعاده يتعاظم يوماَ بعد يوم.. والأمة في حالة ضعف وتفكك وإنقسامات وتبعية للإرادات الأجنبية التي تفرض مشيئتها وقراراتها علينا. عدونا الصهيوني يتمادى باغتصابه للأرض وتهويدها ويمعن في عدوانه وهمجيته وقهره لشعبنا ويخطط باستمرار لإثارة الفتن الداخلية في مجتمعاتنا وغايته في كل ما يفعله هو تدمير حياتنا ومستقبلنا وإجتثاث وجودنا بالكامل.
وفي لبنان الذي عانى الويلات نتيجة الحرب الأهلية المدمرة والذي أغرق بالديون المالية نتيجة الفساد وتكالب الإقطاع السياسي الطائفي ونتيجة فشل النظام الطائفي الذي أثبت قصوره في معالجة هموم المواطنين وإيجاد الحلول للمشاكل السياسية والإقتصادية وفي العبور إلى الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة.. في هذا الكيان - دويلة الكانتونات الطائفية تنتشر اليوم العصبيات والغرائز المذهبية وتتكاثر خطابات التحريض المذهبي فتطل علينا الفتنة الداخلية من جديد مهددة السلم الأهلي ومبشرة بحروب عبثية مدمرة.
وبعد تدمير روضة الحب عراقنا الحبيب، مهد الحضارة وبداية التاريخ، عراق الإبداع والشرائع التمدنية والقادة التاريخيين، بعد تدميره وسرقة موارده النفطية تمتد المؤامرة الشرسة إلى شام المقاومة الأبية وُتصدّر إليها ثقافة الحقد والكراهية والإرهاب.. ثقافة القتل والتدمير وارتكاب المجازر.. فالقوى التي تآمرت علينا في فلسطين وشرعنت اغتصابها وخرست عن احتلال الجيش اليهودي للبنان والجولان وعن تغطية اعتداءاته ومجازره الإرهابية هي اليوم وبحجة الديمقراطية والإصلاح وحقوق الإنسان تتآمر على شعبنا في الشام وتؤمن التسهيلات والسلاح والمال والملاذ والتغطية السياسية والإعلامية للمجموعات التكفيرية من اجل القيام بأعمال إرهابية ونشر الموت والدمار والذعر والفوضى الهدامة.
في هذا الزمن الصعب، زمن التحديات الكبيرة والمؤامرات المتمادية.. زمن التشرذم والغيبوبة والانهيار نعود إلى شهيد الثامن من تموز وما يمثل من منظومة قيم وأخلاق وحقائق.. نعود إلى سعاده رجل الموقف القومي لنغرف من معينه إيماناً وعزيمة وقوة.. ولنستخرج من حقائقه الدروس والعبر ونعمل على تجسيدها في سبيل خلاص هذه الأمة من التفكك والتبعية والإنقسام والإنحلال.
وسعاده العظيم، أيها الحاضرون المحترمون، يقول لنا: "إن أزمنة مليئة بالصعاب والمحن تأتي على الأمم الحية فلا يكون لها إنقاذاً منها إلا بالبطولة المؤمنة المؤيدة بصحة العقيدة."
فنحن مدعوون، أيها الحاضرون المحترمون، لممارسة البطولة التي تحمي وحدة مجتمعنا وسيادته.. نحن مدعوون لإستنهاض القوة والأصالة الكامنة في شعبنا الحضاري ولتأهيل مجتمعنا ببعث فضائله وقيمه العليا. ونحن مدعوون لإصلاح مجتمعنا وتوعيته لوحدة حياته ومصلحته ولتحصينه بخروجنا من الإنقسامات والإنتماءات الضيقة لننتمي إلى الوطن بأكمله ولنناضل من أجل قضيته بكليتها.. ألا يكفي ما حلَّ بالأمة من ويلات وكوارث لنتعظ ولنضع حداً لكل تناقضاتنا ولنحشد طاقاتنا المبعثرة ونتوحد حول قضية وجود الأمة وحريتها وسيادتها على نفسها؟.
ألا يكفي ما مرَّ علينا من حروب أهلية وفتن مذهبية لندرك ان الطائفية كانت ولا زالت علة لبنان والأمة كلها؟
سعاده دعانا إلى نبذ الحزبيات الدينية العمياء وإلى ان نكن أمة واحدة في قضيتنا الواحدة وقال: "أنَّ المجتمعَ يهلَكُ بالطائفيةِ ويحيا بالآخاءِ القوميِّ."
وسعاده دعانا لنكون مجتمعاً واحداً موحداً ففي وحدتنا الإجتماعيةِ "تزولُ الحزبياتُ الدينيةُ وآثارُها السيئةُ وتضمحلُّ الأحقادُ وتحلُّ المحبةُ والتسامحُ القوميانِ محلَّها..."
وسعاده نبهنا من أن الخطر الصهيوني لا ينحصر في فلسطين بل هو يتناول لبنان والشام، انه خطر على الشعب السوري كله.. وقال: "لا يمكن ان نصل إلى مصير صحيح إلا بقضية واحدة كلية لا بقضايا مبعثرة لا رابطة بينها". وقال أيضاً: "لا يمكن لسورية ان تتقدم إلا بقضية سورية قومية ولا خلاص لها إلا بامتداد الوعي السوري القومي وباهتمام الشعب السوري بنهضته القومية الإجتماعية التي تجعل مصيره في يده لا في يد اتفاقات انترنسيونية ولا في إرادات أجنبية يتزلف إليها النفعيون من أبناء البلاد ويبيعون إليها مصالح الأمة ومرافقها ومواد البلاد الأولية.
فإلى هذا الوعي القومي وإلى هذه النهضة القومية الإجتماعية، وهي ليست حكراً علينا، ندعوكم أيها المواطنون المحترمون لننتصر جميعاً ولتحي سورية كلها حياة سعاده.