سيداتي سادتي،
باسم مؤسسة سعاده للثقافة اشكركم على تلبية دعوتها لحضور هذا المؤتمر الدولي حول الدولة القومية والتحديات المعاصرة بمناسبة المئوية الاولى للمفكر الكبير انطون سعاده.
أتوجه بالشكر خاصة للمحاضرين الكرام الذين أتوا من معظم الدول العربية، وهذه دلالة على أهمية المواضيع المطروحة للبحث، وأهمية المرحلة الراهنة التي تمرّ به أمتنا، وقلق المفكرين على إيجاد الحلول.
اسمحوا لي في البدء أن أقُدم لكم مؤسسة سعاده للثقافة. هي مؤسسة فكرية ثقافية مستقلة كما يوحي اسمها، تسترشد في نشاطها تراث انطون سعاده الفكري، ولا تمارس اي نشاط سياسي أو حزبي . وتهدف الى تشجيع الحوار الفكري الموضوعي حول قضايا المجتمع، وذلك من موقع الالتزام بالمصلحة الوطنية والقيم الانسانية. وتسهم ايضاً في ترسيخ القيم والمفاهيم الديمقراطية والعلمانية في المجتمع المدني .
سيداتي سادتي،
تشهد الساحة الفكرية العربية حوارا متواتراً، واحيانا متوتراً، حول امكانية قيام وحدة أو اتحادات بين دول العالم العربي. ويتعالى ايقاع الحديث عن الوحدة والإنماء كلما ازداد الخرق العربي اتساعاً وازدادت الامة تفرقا، اذ ان المطلب الوحدوي ما زال رجاء واملاً للرد على التحدي التاريخي الذي ما زال العرب يواجهونه منذ الوعود والمعاهدات التمزيقية، كوعد بلفور واتفاقية سايكس بيكو.
وطالما نحن اليوم في مؤتمر بمناسبة مئوية سعاده لنعود الى المناخ السياسي الاجتماعي أو المجتمعي Socio Political الذي عايشه سعاده ونتابعه حتى تاريخنا المعاصر، ونصورّ المناخ الذي نعايشه اليوم ونطرح للبحث حالة الامة الراهنة ومستقبلها .
تزامن صدور وعد بلفور الذي زرع الكيان الصهيوني الاستيطاني في قلب العالم العربي مع عقد اتفاقية سايكس بيكو التي غرست سكين المطامع الاستعمارية في جسد العالم العربي لتمزيقه.الوعد والمعاهدة، ورغم الرفض العربي، نّفذا مستفيدين من الواقع العربي المهلهل آنذاك وحتى اليوم، فامعنت السياسة الاستعمارية تمزيقاً في جسد الامة ضمن كيانات متناثرة.
في مطلع الثلاثينيات، وفي هذا المناخ السياسي المذري، أطلق انطون سعاده حركته النهضوية، وتركّز نضاله وكفاحه في التنظيم الذي شكله كرد على التحدي الاستعماري، على مطلبين: الاستقلال والتحرر كمطلب مباشر والوحدة القومية كمطلب مرجو لضمان مستقبل الامة ،وهي امنية معلّق تحقيقها على زوال الاستعمار.
حصلت الدول العربية على استقلالها في فترات متتابعة بدءا بنهاية الحرب العالمية الثانية، انما للحقيقة والتاريخ فان ما حصلت عليه كان استقلالا مظهرياً مفرغا من معانيه . الأغرب من كل هذا ان الدول العربية المستقلة تشبثت بعد استقلالها بما رسمه الاستعمار لها أثناء الانتداب. فما كان مرفوضاً زمن الانتداب صار مقبولا ومكرسا بعد الاستقلال اذ تشبثت الدول التي أنشأها الاستعمار بحدود خريطة سايكس بيكو واصبح الكيان هو الوطن ، والاستقلال، بعد انقشاع غبار معارك الكفاح ضد الاستعمار. اصبح استقلالا عن الكيان العربي المجاور. يقول غسان تويني في محاضرة حول قراءة ثانية في " القومية العربية " لقد حررّتنا الثورة القومية من استعمار ولم تحمنا من الاستعمار الذي ورثناه فحّولنا أشلاء".
لقد عمل الفكر الكياني/ القطري، على جبهة التاريخ، بابتداع تاريخ مستقل لكل كيان يرد أسس تشكله الى أزمنة غائرة في الزمن كما لو ان كل قطر أو كيان هو أمة كاملة منفصلة منذ بدء التاريخ. قال جبران :
“Pity a nation devided into fragments each fragment believe it is the nation.”
" أشفق على امة مجزأة الى أجزاء وكل جزء يعتقد انه هو الامة " وأصبح الفكر القومي الوحدوي نوعا من الاحلام والاماني للتغني به دون فعل حقيقي لتحقيقها. الوحدة بعد ان كانت امنية أصبحت هاجسا مخيفا يهدر استقلالية القطر/الدولة وكأن العمل الوحدوي والاستقلال أصبحا نقيضين والمطالبة بالوحدة اصبحت ثورة على القطر واصبحت في بعض الدول العربية جريمة يعاقب عليها القانون . انطون سعاده واجه حكم الإعدام لانه طالب بالوحدة وعمل لها. وهكذا وجدت الدول العربية نفسها في درب مسدود ومنغلقة على بعضها البعض. حصل هذا في الهلال الخصيب والمغرب العربي ووادي النيل وشبه الجزيرة العربية.
في منطقة الهلال الخصيب، ظهر الكيان الأصغر حجما بعد زيادة مساحته ليصبح" لبنان الكبير" وعُرّف بانه موطن الاقليات الدينية والطائفية . هذه التعددية لو كان التعبير السياسي الاجتماعي الاقتصادي عنها المساواة بالمواطنة لأغنته ثقافة وحضارة وجعلته مثلا يُقتدى في المجتمعات التعددية في العالم. انما الطائفية حوّلت لبنان الى مجتمع قبلي طبقي فكانت وبالاً عليه. ويكفي ما شهدناه من حروب أهلية وما نشهده اليوم من فساد ومحسوبية.
في هذا المناخ السياسي الاجتماعي سأل انطون سعاده " ما الذي جلب على شعبي هذا الويل" فجاء رده بمبادىء اصلاحية اهمها فصل الدين عن الدولة والغاء الطائفية في الحكم ليجعل من التعددية هذه مصدر غنى لا مصدر تمزق تنتج عنه الصراعات والحروب.
سيداتي سادتي،
لننتقل الى واقعنا الراهن :
لقد نجحت القطرية في تثبيت الكيانات وتكريسها بحيث اصبح من الصعب اليوم إزالتها. ولنعترف ان كل قطر/كيان اصبح هو الوطن النهائي لاهله.
انما نجاحها، اي نجاح القطرية هذا، ولدّ عناصر الفشل على جميع الأصعدة الأخرى. فقد فشلت على الصعيد الاقتصادي في تحقيق ازدهار حقيقي ينقل المجتمع من رخاوة الاستهلاكية المميتة الى القدرة الإنتاجية التي تؤمنّ الحياة الكريمة، اذ ظلّت الثروات العربية محصورة في الأطر القطرية محدثة صدعا وشرخا عميقين في المجتمعات العربية بين فقرائها وأغنيائها، وان كان قاسمهم المشترك هو التخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
وعلى الصعيد العسكري لم تحقق القطرية رغم لقاء جيوش أكثر من قطر على ساحة المعركة ( في مساندة شكلية لرفع اللوم التاريخي)، لم تحقق اية انتصارات بل بالعكس ، مُنيت بهزائم متتالية.
وفي مجال الحكم فشلت القطرية/الكيانية كذلك رغم وجود الهياكل الديمقراطية في بعضها في ملء هذه الهياكل بالمضمون الديمقراطي الحقيقي فلم تحقق حتى الحد الادنى من الحرية والديمقراطية لمواطنيها. والحكم في معظمها محصور بالعائلة ينتنقل من الاب الى الابن والعراب هو " روح القدس".
ثم ان التطرف القومي بات محاصراً ومقموعاً مما أفسح المجال لانتشار التطرف الديني الذي يصعب حظر نشاطه.
كيف يمكن الخروج من هذا المأزق المقلق الى أفق قومي اكثر رحابة؟
لا بد لنا من الإفادة والتفاعل مع التجارب التاريخية للعالم. يحسن هنا الالتفات الى اهمية العامل الاقتصادي في الوضع العربي لسعة وعمق اثره في حياة الفرد والمجتمع اولاً، ولصلابة القاعدة الاقتصادية في عالم اليوم ثانياً، ولإنه خارج الارتهان العاطفي الذي قد يصور الامور على خلاف ما هي عليه حقيقة، ثالثاً.
والعالم يقدّم أمثلة ونماذج وحدودية أو اتحادية ناجحة ارتكزت على القاعدة الاقتصادية كالوحدة الأوروبية المتمثلة بالسوق الأوروبية المشتركة التي استطاعت، عبر البوتقة الاقتصادية، ان تقارب بين دولها وتوحّد مواقفها في الشؤون السياسية والاجتماعية والعسكرية والامنية مع احتفاظ كل منها بسيادتها ووجودها السياسي ومؤسساتها الديمقراطية.
رغم ان العرب يجهرون بانبهارهم بتجارب الوحدة الاقتصادية لدى الاخرين. الا انهم لم يعملوا اي شيء لتحقيق مثلها الا في الجهود اليسيرة التي ظهرت مؤخراً عبر مجلس التعاون الخليجي .
اني اعتقد ان الظروف المحيطة ستفرض ضرورات التقارب والتنسيق في مواجهة التحديات القائمة. فهي لن تتمكن من ان تتعامل منفردة متفرقة مع اي من المنظومات الاقتصادية القائمة .
سيداتي سادتي ،
ان كان تحقيق الوحدة الشاملة يبدو في الحاضر صعبا ولا اقول مستحيلاً في المستقبل، فان المخرج الوحيد كما اراه هو في التقارب الاقتصادي المؤدي الى الوحدة الاقتصادية والتي في حال تحققها ستفرض الرؤيا السياسية الخارجية الموحدة لارتباطها بالمصلحة المشتركة . فمثل هذه الوحدة الاقتصادية التي تجمع الكيانات، مع المحافظة على وجودها القائم وانهاء العزلة بينها، قادرة على التعامل الديمقراطي فيما بينها والتنسيق والتعاون وتحقيق التجانس الكامل مع المستقبل في نظري هذه هي الامكانية الاكثر حظا بالنجاح.
قد يبدو للبعض ان طرحي هذا مقصّر بحق الفكر القومي الوحدوي الشامل الذي اعتز به، ولكن لا بد من محاولة الممكن.فالممكن الصغير يؤدي الى الممكن الاكبر.
وقبل ان اختتم كلمتي هذه لا بد ان اتطرق الى النظام العربي القائم في كل الاقطار العربية وحالة الامة .
النظام العربي للاسباب التي ذكرت يبدو في حالة احتضار يبحث عن وريث وهو صراع بين الدولة القومية العلمانية والدولة الدينية.
والامة تعاني من احتكارات ثلاث:
احتكار السلطة،
احتكار الثروة،
احتكار الايمان،
ولا امل لنا في الاصلاح ما لم نفصل الدين عن الدولة ونكسر هذه الاحتكارات.
اطلت عليكم انما اردت ان اضع اطاراً للتحاور في جلسات المؤتمر.
ولا بد ان المحاضرين وهم من مختلف المدارس الفكرية سيتطرقون الى ما طرحت والى غيرها من الامور الاساسية الاخرى . التساؤلات عديدة وبعد الاجابة عنها سنخرج من هذا المؤتمر اكثر وعيا واغنى معرفة. وربما يكون لنا خطاب نوجهه لاصحاب القرار .
اكرر الشكر باسم المؤسسة لمشاركتكم في هذا المؤتمر الهام واتمنى لكم النجاح في كل المبادرات التي ستطلقونها.
والسلام عليكم