أراني أقف عاجزاً عن الكتابة في رحيل هذه الظاهرة الفكرية الخلاقة، والسؤال الذي ما برح يثقلني: أكان عليها أن تثقّل علينا أحزانَنا في زمن الفقدان والأسى الجماعي في بلادنا؟ هل تقصدت الغياب أثناء غياب الضمير والقيم في مجتمعنا السوري الطبيعي الذي أرادته عنوانًا ومثالاً للعالم العربي. ببناء بديل مدني علماني في إطار دولة المواطنة الحرة المتساوية، والعدالة الاجتماعية، دولة القانون وحقوق الإنسان والحريات الديمقراطية الملتزمة، دولة لا مكان فيها للطائفية، والأوهام العرقية، والإرهاب والتعصب والمحسوبيات؟!

لم تكن مدّعيةً، رغم تعدد ميادين إبداعها، سياسةً واقتصاداً وترجمةً وثقافة متنوعة، وشغفاً وانشداداً لمباهج الحياة؛ إنما كانت تطالب ببناء بديل مدني علماني في إطار دولة المواطنة الحرة المتساوية، في الحقوق والواجبات.

وليس من قبيل المبالغة القول إنّها امتلكت من الشجاعة والجرأة وعمق المعارف ما أهّلها لمجابهة مختلف القضايا الاشكاليّة والمستعصيّة التي أفرزتها الأزمات المعاصرة في وطنها وتداعيات العولمة. لقد ناضلت من أجل مبادئها وبقيت تُنافح عنها لكي تختفي الهويّات الاختزاليّة لصالح الهويّة القومية السورية، التي بإمكانها أن تستوعب الاختلاف، وتُكَرِّس “الفكر المعقّد”، وتعترف بالواحد المتعدّد، وتجْعل من الأرض وطن الجميع.

لقد أفقرت الراحلة حويك بغيابها المفاجئ ما تبقى لنا من الأمل، وجعلتنا نحن المؤمنين بخطها نستصعب البقاء من دون متابعتها في وسائل الإعلام المتنوعة، وهي تنبض بالحيوية في أروقة «ميادينها».

كانت خَلُّاقة لغةَ الخطوطِ وانحناءاتِ الكشف عن معنى النضال خصوصاً بعد فشل انقلاب القوميين في العام 60/ 61 من القرن المنصرم وبداية الحرب الأهلية في لبنان. فرحلت والأمين الراحل بديع عطية إلى الأردن وكانت إقامتهما الجديدة في عمان فرصتهما ليكتشفا مساحة مضيئة جديدة لامعة لهما في عالم النضال.

مر الانقلاب، يشيع الموت في الشوارع اغتيالاً، وينكّل بالمواطنين على “الشبهة”، وقد اكتظت المعتقلات والسجون بآلاف القوميين والمواطنين (عشرون ألفاً من المواطنين احتضنتهم السجون في ذلك الوقت) حتى إن رئيس الحزب الراحل الأمين الدكتور “عبد الله سعادة” لم يتوان عن القول في ذلك الوقت: لم نترك سجناً يعتب علينا في وطننا.

كانت تلك المرحلة من نضال القوميين الاجتماعيين محاولات مهمومة بالبحث عن بدائل قيمة، لتجاوز سقوط الأمل والمرتجى الذي ارتبط بالأحلام الكبيرة التي ظلت تستنهض عشرات الألوف من القوميين وعبر عقود، وتمدّ المبدعين في سورية الطبيعة والعالم العربي بالأفكار برهافة خلّاقة، وتستحثهّم للتعبير عن ذلك الأمل والتشوّف، صراع فكري بين الفلسفتين، القومية الاجتماعية والماركسية، كما الصراع بين القومية الاجتماعية الواقعية التي تقول بالعالم العربي المتشكل من أربع أمم: سورية الطبيعية، وادي النيل، الجزيرة العربية والمغرب العربي الكبير. وبين القومية العربية الوهمية التي تقول بالعالم العربي أمة عربية واحدة. وأنتج الصراع: عن مدارس فلسفية: مادية و”مدرحية” وروحية. وأدبية: شعراً ورواية وقصصاً. وفنية: مسرحاً وتشكيلاً، ونماذج عديدة وغنية تشكل مصادرَ للنهوض والتوثبّ والعبور إلى المستقبل.

كان انكسار الحلم في ٨ تموز 1949 همّاً مؤرِّقاً، واستباحة للكرامة الإنسانية، واسقاطاً للإرادة. كان المثقفون القوميون على اختلاف ميادين انتماءاتهم وإبداعهم هدفاً ووسيلة “سلطات” لانتزاع ذاكرة الأمل منهم. وتلك كانت اللحظة الفارقة التي طبَعت تاريخ لبنان ومن بعده الشام وفلسطين والأردن والعراق، وفكّكت مكامن قوّته ومصادرها، واستدرجته حتى الآن، وإلى أن تكتمل دورة الخراب والانحطاط وتحين لحظة الانبعاث من جديد.

في هذه المرحلة تشكلت رؤى الراحلة “حياة الحويك” وتحولت الى قوة استنهاضٍ، وانبعاثٍ للأمل لعائلتها الصغيرة أولاً ولعائلتها الكبيرة/ أمتها السورية، ولكن بالعلم والجهد والتعب الذي أثمر عدداً من الكتب وآلاف الأبحاث والدراسات التي أبهرت المثقفين والسياسيين في زمن تحوّلت فيها الراحلة إلى منارة يستضيء بها كل قاصدٍ يريد أن ينهل من كنوز الثقافة والعلوم والفلسفة. كان إيمانها بعدالة قضيتها لا يتزعزع حتى في أحلك الظروف حيث يبدو الأمل ترفاً وسراباً!

لم تختر الأردن إلا ليظل أفقها الإبداعي مفتوحاً على مشارفه القومية، العربية والإنسانية، مشدودةً الى همّ الأكثرية القومية/ الوطنية الصامتة التي لم تجد سبيلاً للحفاظ على كرامتها، وما يمكن من سويّتها الإنسانية، سوى الركون لصمتٍ حزينٍ مُدمّى في وطن مسلوب الإرادة تُحاصر فيه المقاومة، وتُكافأ فيه رموز العمالة، وتجلب إليه مئات آلاف “الدواعش” باسم الثورة.

حياة الحويك، كانت متحزبة لهمّها القومي، ولكل أسىً، وغيابٍ، وتراجعٍ للأمل في استعادة فرص النجاة والإمساك بخيط المرتجى الذي يضيع مع كل إشراقة شمسٍ جديدة.

كانت”حويك” وفيةً لقيمِها، صادقةً، ونزيهةً.

ترحل “حويك” اليوم في موسم الفقدان الذي يعاني منه جميع المناضلين، في موسمٍ ناكرٍ للجميل، بخيل الوفاء لمبدعي بلادنا.