من المعروف أنّ النظام الطائفي/ الديني ينتمي إلى القرون الوسطى، حين كان الدين الناظم الأساسي للدولة، بينما النظام المدني يجمع الأفراد حول الهوية الوطنية، وهو الظاهرة الأكثر حداثة، لذلك الحديث عن النظام الطائفي وكأنه شبيه لأيّ نظام تقاسمي حديث للسلطة خاطئ. (راجع ألبير داغر، «بيان من أجل برنامج سياسي وإداري بديل»، جريدة الأخبار، 13 أيار/ مايو، 2021). فالنظام التوافقي في الغرب (consociationalism)، يتمحور حول وجود قوميتين مختلفتين ضمن دولة واحدة، وهذا ما عاينه المفكّر ارند ليبهارت حين درس دولاً كبلجيكا. لا يوجد أيّ تقسيم على أساس ديني في أوروبا الغربية، أو الولايات المتحدة الأميركية، أي في الدول - الأمم (nation-states) الناجحة والمتفوّقة، لأنّ هذه الدول ومثقّفيها يعرفون تمام المعرفة أنّ التقسيم الديني مدمّر لمجتمع الدولة - الأمة التي على رأس دساتيرها «فصل الدين عن الدولة». فدول أوروبا الحالية ليست إلّا نتاج مخاض طويل من الحروب الدينية العبثية، والتي لم تجد حلّاً إلّا بإعطاء الأولوية للهوية الوطنية! والولايات المتحدة الأميركية نفسها تتلاشى من الوجود لو تمّ الاعتراف بأولوية الهوية الدينية، لأنّ مجتمعها يحتوي على عدد لا يحصى من الطوائف والمعتقدات الدينية، والنزاعات فيها إثنية لا دينية، كالأميركي من أصل أفريقي أو مكسيكي أو غيرهما.
الاختلاف بين تراتبية الطوائف وتراتبية المواطنين
بالرغم من أنّ النظامين، الطائفي والمدني، يؤسّسان لتراتبية اجتماعية من الأعلى نحو الأسفل، إلّا أنّ العناصر التي تؤسّس لهذه التراتبية تختلف جذرياً بين النظامين. فالنظام الطائفي يرتكز إلى تراتبية مجموعات دينية على شكل دوائر مغلقة، بدءاً من الطائفة الأهم، نزولاً إلى الطوائف المهمّشة، بينما يرتكز النظام المدني إلى تراتبية مجموعات، لا صلة دموية أو إثنية بينها، فهي تتألّف من أفراد، لا جماعات، ويعود ذلك إلى تطوّر الحضارة الإنسانية عبر العصور. أمّا أوجه اختلاف هذين النظامين
فهي:
أولاً، يرتكز النظام الطائفي إلى التقليد والوراثة، وأولوية الجماعة الدينية، بينما تجهد الدولة المدنية لبناء مجتمع متكافل، مندمج، ومبني على العلم والكفاءة، لا على النسب، لأنّ العلم، في العالم الحديث، هو المعيار الأساس في تحديد مدى تقدّم المجتمع وتطوّره مقارنة بالمجتمعات الأخرى.
ثانياً، يستطيع الأفراد، في نظام الدولة المدنية، التحوّل من طبقة أدنى إلى طبقة أعلى بناء على مجهودهم الشخصي، بينما لا يسمح النظام الطائفي بهذا الحراك إلا ضمن طائفة كلّ فرد، وليس خارج الطائفة، ما يؤدّي إلى قمع العديد من الطاقات المميّزة، وتغريبها.
ثالثاً، تشدّد الطائفة على الزواج الداخلي، وترفض الزواج الحاصل خارج الطائفة لأنّه يهدّد وجودها، ويقوم الأهل والأقارب بدور المانع لزيجات مختلطة طائفياً، وتعاني النساء المتمرّدات على هذا النظام من القطيعة الكاملة من أقاربهن، ويصل الأمر إلى قتلهن، في بعض الأحيان؛ بينما هذه الإشكالية غير موجودة في النظام الطبقي المدني الذي نجد فيه تمايزاً مبنياً على نسبة ثراء الشخص، أو كفاءته بمعزل عن طائفته.
رابعاً، الانتماء إلى الطائفة لا يمتّ إلى إرادة الشخص بأيّ صلة، فالفرد يوصم باسم طائفة والده منذ الولادة، شاء أم أبى. وبما أنّ الفرد لا يستطيع أن يختار طائفته يرى نفسه عاجزاً عن تغيير مركزه الاجتماعي/ السياسي الذي يتطابق حكماً ووراثياً، مع مركز طائفته، فهو ثابت منذ الصغر، وغير قابل للتغيير مهما بلغت كفاءته، أو تضاعف ثراؤه، فالنظام الطائفي اللبناني مشابه لنظام الطوائف المغلقة الهندوسي (caste system)، الذي نبذته الهند في مستهل القرن العشرين واستبدلته بنظام ديموقراطي يمنع التمييز الطائفي.
خامساً، تراتبية الطوائف تراتبية جامدة لا تتزحزح، لأنّ هذه التراتبية مبنية على أفضلية أديان أو مذاهب على أخرى، كما أنّه من المستحيل دمج طائفة مع أخرى بسبب تقسيماتها العامودية، بينما الدمج الاجتماعي ممكن في النظام الطبقي، أقلّه نظرياً، لأنه من الممكن الانتقال من طبقة إلى أخرى بفضل عوامل ذاتية، فتتحوّل التراتبية في الدولة المدنية من عامودية إلى أفقية، ما يسمح للفرد بالتقدّم.
سادساً، تأخذ الجماعات (community) في النظام الطبقي للدولة المدنية، شكل الهرم، فالذين يمثلون السلطة في القمة نخبة منتخبة، مختارة، وصغيرة العدد، بينما يأخذ النظام الطائفي شكل الهرم الواقف على رأسه، لأنّ الطائفة الأكبر عدداً هي التي تسود وتهيمن على الطوائف الأخرى!
أخيراً، يقيّد النظام الطائفي التقدّم الاجتماعي، بعكس ما أورده الدكتور ألبير داغر من أمثلة لكتّاب غربيين يدافعون عن نظام من هذا النوع، فهم يريدونه فقط في دول العالم الثالث، ويرفضونه رفضاً قاطعاً في بلدانهم. فنظام الطوائف المغلقة الذي نشأ ونما في الهند، كان عائقاً قاتلاً لأيّ تطوّر ضمن المجتمع، ما حدا بنهرو إلى إحداث ثورة مجتمعية لإلغاء هذا النظام المانع لأيّ حركة ديموقراطية تؤمّن مساواة المواطنين، ولقد اعترف الغرب بثورة الهند الديموقراطية. فلو كان النظام الطائفي مساوياً للديموقراطية، لما اضطرّت الهند للقيام بثورتها، ولو كان هذا النظام مساوياً للديموقراطية، لما لجأت الولايات المتحدة الأميركية إلى وضع قوانين تساوي بين الأبيض والأسود مخافة نشوب حروب أهلية! ولو كان هذا النظام الطائفي التوافقي يؤمّن الاستقرار، لما شهدنا دورات العنف والحروب الأهلية، والتهديد بها يومياً، كما نرى في لبنان، والآن في العراق. فالغرب ومفكّريه يعرفون تماماً أنّ التقسيمات الطائفية/ الإثنية، تقود إلى الشلل في أفضل الحالات، والدمار الشامل، في أسوأها.
الطائفة في السلطة
إنّ شرعية السلطة في الدولة الديموقراطية مستمدّة من الشعب، بينما مرجعية السلطة في لبنان تعود إلى الطوائف الكبرى. وبما أنّ الطوائف تتغيّر أحجامها، فلا ثبات في النظام، بل صراع أبدي يؤدي إلى انهيار الدولة، وما يزيد الوضع سوءاً، انعدام الأمل في إنجاز أيّ مشروع، لأنّ ما تريده طائفة، سترفضه طائفة أخرى، خوفاً من زوال رصيدها السياسي، كما تتكاتف الطوائف من أجل شدّ أواصر النظام الطائفي على كل الأصعدة، فتراها تتّحد، وتشكّل جبهة قوية أمام أيّ اقتراح لترسيخ الدولة المدنية أو دولة المواطنية، كما أنّها تحافظ على القوانين كافّة التي تمنع الاختلاط والتزاوج بين الطوائف، وهي على أهبة الاستعداد لخوض حروب تقود إلى مزيد من التطرّف والتقوقع الطائفيين، فالحروب والنزاعات هي بوليصة تأمينها من أجل البقاء في السلطة، فلا يتغيّر شيء، ويتبادل قادتها المنافع، والمحسوبيات، والخدمات، كأنّ الدولة ملكية خاصّة لهم ولحاشيتهم.
في القانون الانتخابي الأخير عمدت الأحزاب الطائفية المهيمنة على السلطة إلى ترسيخ النظام الطائفي أكثر فأكثر
إنّ المنطق الذي يتحكّم بالسلطة، هو منطق الصراع الطائفي المحتكر إدارات الدولة، والأزقّة، والشوارع، والمحلّات، والمراكز السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية، ولا ينصاع إلى أيّ قانون إلّا قانون السلطة المجرّدة من أي عدل أو مصلحة عامّة، ما يؤدّي إلى استحالة المحاسبة أو إحقاق العدالة، لأنّ مبدأ الثواب والعقاب يختصّ بالفرد لا بالجماعة، ليس فقط ضمن قوانين الدولة الحديثة، بل أيضاً في المسيحية والإسلام؛ وأيّ خلل أو خطأ أو جرم في إدارة الدولة «الميثاقية»، سينظر إليه على اعتبار أنّ الطائفة كلّها مسؤولة عن الخطأ، لأنّ الإداري ينفّذ إرشادات الطائفة، لا قواعد الإدارة، والنتيجة الحتمية لانعدام المحاسبة، انهيار مؤسّسات الدولة. إنّ إدارة الدولة ليست إلّا مرآة للمنطق الطائفي الذي يسود المجتمع، حيث الاقتصاص يتمّ على أساس الانتقام من أيّ فرد من أفراد الطائفة المستهدفة، لا فرق إن كان مذنباً أو بريئاً، فالقانون الطائفي لا يعترف بالفرد، بل بالجماعة، ولقد عايشنا أمثلة باهرة لهذا المنطق إبّان الحرب الأهلية الكبرى في لبنان.
أما القول بفصل الإدارة عن السلطة السياسية، كما يقترح الدكتور ألبير داغر في بحثه، فغير ممكن منطقياً، إذ إنّ إدارات الدولة جميعها من سياسية وبيروقراطية عليها أن تتبع القواعد نفسها لتكون قراراتها هادفة ومفيدة للشأن العام. أن يكون الشأن العام في السياسة «خاصاً»، أي خاص بالطوائف، على أن تكون الإدارة خارج اللعبة الطائفية، هو أحجية مستحيلة الحل! واقتراح تحديد أمكنة كلّ طائفة وأعدادها ضمن الإدارة يتجاهل التغييرات الديموغرافية الطائفية التي تحدث عبر الزمن، كما أنه يشلّ أيّ تقدّم للأفراد وكفاءاتهم التي تصبح مرتهنة للكوتا الطائفية.
إلغاء الميثاقية شرط المواطنة الحرة
يؤكد الدكتور ألبير داغر أن «الحديث عن الدولة المدنية طحن للكلام من دون طائل، فالدولة في لبنان هي دولة مدنية»، لكنّه في المقابل يريد الإبقاء على الميثاقية ضمن الجهاز السياسي، وإلغاؤها من الإدارة العامة! فكيف تكون الدولة مدنية وميثاقية في الوقت ذاته؟
طالما أنّ مبدأ «الميثاقية» أعلى من الدستور، فهذا يعني أننا لسنا في دولة مدنية، وطالما ننتخب على أسس ملّية دينية، فلا هوية وطنية لنا، وطالما نحن معلبُون منذ ولادتنا ضمن هيكلية طائفية لا نستطيع الخروج منها، فلا وطن يجمعنا.
الميثاقية أعلى من الدستور، لأنّه يحقّ لأيّ طائفة كبرى أن تمارس حق الفيتو، في أيّ قرار سياسي أو إداري، حتى لو حاز على أكثرية الأصوات، لأنّنا لسنا في نظام ديموقراطي حيث تتنافس الأحزاب الوطنية حول برامجها، ومن يحصل على أكثرية الأصوات من قبل الشعب، يصبح مخوّلاً بتشكيل الوزارة، ويرتد الخاسر إلى معارضة تعمل ضمن المجلس النيابي على محاسبة الوزارة ومدى تطبيقها لبرامجها الانتخابية. ففي النظام الطائفي، لا وجود لأغلبية وأقلية، فالكل يجب أن يكون حاضراً، ولا تأليف لوزارة لا تحوز على «إجماع» الطوائف الكبرى. إذا أردنا فصل السلطات بين تنفيذية، وتشريعية، وقضائية، فذلك يتطلّب حكماً إلغاء الطائفية السياسية ومبدأ «الميثاقية»، فتصبح للدولة سلطة مركزية مبنية على إرادة المواطنين المتساوين، لا الطوائف.
لا تستطيع الدولة المدنية إلا أن تكون دولة وطنية، لأنّ ركيزة الدولة المدنية هي الشعب، فهذا الأخير مصدر السلطات جميعها، ولا فرق بين مواطن/ مواطنة وآخر أمام القانون، بل مساواة تامة. «الشعب مصدر السلطات» هو البند الأساس في نظام الدولة المدنية؛ فالقرار الأخير للشعب بكامل فئاته، وبمعزل عن دينه، أو معتقده، أو عرقه، وهذا يسمح لجميع المواطنين والمواطنات بالانخراط في عملية بناء الدولة ومؤسّساتها. الاختلاف الأساسي والجذري بين دولة مدنية، ودولة طائفية، أنّ الأولى تمثّل الوطن بحدوده المعترف بها، وتحمي مواطنيه من أيّ عدو خارجي، بينما تهدف الثانية إلى حماية الطائفة، ومصالح الطائفة، قبل أيّ شيء آخر، ولو كان ذلك على حساب الوطن. وقد يصل الأمر بطائفة ما أن تتآمر مع عدو لوطنها بهدف دحر الطائفة الأخرى وتدميرها.
اختلاف آخر في غاية الأهمية، أنّ مفهومَي «الأكثرية» و«الأقلية» في الدولة المدنية متحرّكان، لأنهما مرتبطان ببرامج سياسية تحوز أكثرية أو أقلية من الأصوات العائدة إلى مختلف الطوائف، إناثاً وذكوراً. وقد تصبح هذه الأكثرية، أقلية، بحسب البرامج المطروحة، بينما الأكثرية والأقلية في النظام الطائفي قائمة على الانتماء الديني، والكراهية للأديان الأخرى، ولا تتغيّر هذه الأكثرية، إلا بتغيّر أعداد الولادات، لا بتغيّر المواقف والخطط، وتنحصر السلطة ضمن رؤساء الطوائف الكبرى في النظام الطائفي، الذي يهمّش من ليس منها بسبب الولادة، وليس بسبب الانتماء الفكري والسياسي؛ بينما يشترك الجميع، ومن دون استثناء، في العملية السياسية كمواطنين/ مواطنات متساوين، وبحرية تامة، يكفلها الدستور الوطني.
بالإضافة إلى ذلك، هدف الدولة المدنية، ازدهار المواطنين، لذلك المراجعة الدائمة للقوانين ضرورية للتكيف مع تقدّم المجتمع، بينما ترفض الطوائف التغيير، لأنّه يؤدّي إلى زوالها، لذلك نجد أنّ العائق الأساس أمام تطوّر المجتمع، هو النظام الطائفي الذي يمنع استصدار قانون للاستفتاء الشعبي، كي لا يقول المواطنون كلمتهم. فقوانين الهوية السياسية في لبنان تتمحور حول الطوائف والمذاهب اللبنانية، وقانون الانتخابات القائم على الهوية الدينية/الطائفية يدمّر أيّ حزب وطني جامع للطوائف، ويدعم الحزب الطائفي، ويرسخ الطائفية في كلّ المجالات استناداً إلى القوانين الطائفية المذهبية. ومن المؤلم رؤية المسيحيين يتشبّثون بقوانين وأعراف طائفية أدّت إلى تلاشي وجودهم في وطنهم، بينما العامل الذي يبقيهم على أرضهم هو التشبّث بالمواطنية، لأنّ المواطنية ستعترف بهم كمواطنين كفوئين، يمثّلون شريحة واسعة من الطبقة الوسطى. فالآلاف يهاجرون بسبب علمهم وكفاءتهم، لأنّ نظامهم الطائفي الذي تدعمه طائفتهم بشراسة، يمنع الالتزام بمعايير الكفاءة ويفضّل النسب والمحسوبيات. إنه انتحار جماعي.
في القانون الانتخابي الأخير (عام 2018)، عمدت الأحزاب الطائفية المهيمنة على السلطة إلى ترسيخ النظام الطائفي أكثر فأكثر، وبين نائب رئيس مجلس النواب، ورئيس التيار الوطني الحر، تمخّض مشروع قانون الأرثودوكسي - التأهيلي، وهو في المحصّلة ليس أكثر من انتخاب كلّ طائفة لنوّابها، وعدم الاعتراف بالشعب والمواطنين كهيئة سياسية مقرِّرة، وأصبح التناحر عبره، ليس فقط بين الطوائف، بل أيضاً ضمن الطائفة الواحدة. فبعض الطوائف تريد توحيد البلد على أسس وطنية، والبعض الآخر يتطلّع إلى التقسيم، حيث أكد سمير جعجع، رئيس القوات اللبنانية، أنّ «محور أيّ مؤتمر تأسيسي جديد سيكون اللامركزية الموسّعة»، وكأنّنا نحيا ضمن دولة مركزية، فالنظام الطائفي، نظام لامركزي، أوليغارشي من أساسه! (راجع جريدة الأخبار، 21 أيلول/ سبتمبر 2020، وليد شرارة، «الحل التقسيمي في لبنان»، أيضاً، هيام قصيفي «خلفيات متناقضة لتقاطع القوات والتيار على اللامركزية»، جريدة الأخبار 10 أيلول/ سبتمبر 2020).
طالما لبنان مصرٌّ على متابعة النمط العثماني في تقسيم السكان بناء على مللهم الدينية، سنظلّ رعايا لا مواطنين. والرعية لا تقرّر مصيرها بل يقرّره راعيها أو رعاتها، لذلك نجد أنّ معظم اللبنانيين يعيشون حالاً من السلبية تجاه وطنهم، لا بل يعتبرون الدولة مناوئة لهم، بما أنهم لا يشاركون في القرارات كمواطنين، وينتج عن ذلك، اتّكالية مطلقة على الخارج، فيتطلّعون إليه على أنه سيفرج كربهم لا محالة. إرساء قواعد الدولة المدنية/ الوطنية يعني تلقائياً إبراز الوعي الكافي للدفاع عن الوطن كل الوطن، لا الأقسام المجتزأة بحسب الطوائف (في عام 2006، تذمّر بعض اللبنانيين القابعين في المناطق المسيحية حين تمّ قصف مناطقهم من قبل إسرائيل، وتساءلوا لماذا تفعل ذلك، فهدف الإسرائيلي هو «الشيعة» لا «المسيحيين»!)
علينا أن ننظر إلى المقاومة كحامل وطني لا شيعي، وبالتالي الحاجة ماسة إلى تأليف مظلّة وطنية - ليس فقط من الأحزاب التقليدية التي مزّقتها الحرب الأهلية - بل من المواطنين المؤمنين بوطنهم وبحدوده الجغرافية، لا الطائفية.
إنّ التنوع الديني والإثني الموجود في المشرق العربي، ومنه لبنان، قيمة حضارية لا يجب التخلّي عنها؛ وللمحافظة عليها، لا حلّ إلا بإرساء قواعد الدولة المدنية التي تعامل جميع مواطنيها بمساواة تامّة أمام القانون، فالإبقاء على النظام الحالي لن يقود إلا إلى مزيد من الاحتراب. لقد أمضينا نحن اللبنانيين قرناً من الحروب، والقلاقل، وعدم الاستقرار نتيجة هذه التركيبة المتخلفة، ما أدى إلى نزوح أولادنا، وطاقاتنا العلمية إلى الخارج. لسنا بحاجة إلى مئة عام أخرى لنتأكد من أنّ هذا النظام قاتل لأولاده، ومدمّر لوطنه.