من عادتي في مثل هذه المناسبات أنني أفضل الارتجال والاختصار. لكن هذا لا يجوز مع ضيفنا اليوم: رفيقنا وصديقنا الشيخ حسن حماده (كما كنا نناديه تحبباً في زمن الشباب)! فالخطأ معه ممنوع، والكلمة عنده تُقاس بميزان الذهب.
لن أدخل في تفاصيل دراسته وشهادته وكتاباته ومشاركاته، فهي معلومة لدى الغالبية العظمى. وبالنسبة لي هناك علاقة معرفية بيننا تعود إلى نصف قرن... وهي البوصلة التي لا تخطئ.
خمسون سنة بالتمام والكمال عندما التقينا مجموعة من القوميين الاجتماعيين، يحفزهم طموح لا يحد وإيمان لا يتزعزع. مطلع السبعينات في مكاتب "البناء" تلاقى نخبة من الإعلاميين الشبان، يرعاهم رفقاء مخضرمون: محمود غزالة، ميشال نبعة، بدر الحاج، حسن حماده، وديع الحلو، محمد معتوق... وغيرهم. كنتُ يومها في الأرشيف للمساعدة، ولم تكن لعنة الصحافة قد أصابتني بعد كوني منهمكاً في شؤون حزبية أخرى.
حسن حماده اهتم بالشؤون الدولية أساساً، ومدى تأثيرها على قضايانا القومية. وهذا المنحى انتهجه الزعيم في كل المطبوعات الحزبية التي أسسها وأشرف عليها. ومنذ البداية، كان الرفيق حسن يتجاوز آنية الحدث الدولي ليغوص في الأبعاد الاستراتيجية، مستخلصاً منها كل ما له علاقة بأوضاعنا القومية.
قبل اندلاع الحرب الأهلية في الكيان اللبناني سنة 1975، عملنا معاً في الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية. كان الاستقطاب الحاد على الساحة اللبنانية يستدعي تعاون أو تحالف القوى الوطنية والقومية على كل الأصعدة، بما في ذلك السيطرة على العمل النقابي بين الطلاب.
كانت المفاوضات بيننا وبين القوى اليسارية من اشتراكيين وشيوعيين ومنظمة عمل شيوعي، قبل الانتخابات وبعد الفوز بها، تتطلب وجود طاقم قومي مفاوض قادر على مواجهة الضغوط: حبيب كيروز وحسن حماده وموسى قبيسي وأحمد أصفهاني... وعلى رغم الضغوط الهائلة من قيادات الأحزاب، ومنها حزبنا، فلم نكن بوارد أن نسمح لأحد منهم بأن "يستوطي حيطنا". حتى أن الراحل أنور الفطايري اتصل ذات مرّة بقيادة الحزب قائلاً لهم: "يمكننا أن نتفق على أشياء كثيرة، لكن رجاء خلوا حسن وأحمد يقعدوا على جنب"!
فرقّتنا الحرب الأهلية جغرافياً، لكن العلاقة المعرفية العميقة لا يمكن أن تتأثر بعاديات الزمن. عندما أنظر في المرآة اليوم، أو أشاهد برنامجاً حوارياً يستضيف الرفيق حسن، فماذا أرى: الشيب يكلل رؤوسنا، والصلع يزحف على ما تبقى من الشعر، وتجاعيد وأخاديد حفرها العمر على وجوهنا. لكن خلف ذلك، وعلى الرغم من كل ذلك، لا أرى إلا ذلك الجيل ـ جيلنا ـ الذي آمن وناضل ودفع أثماناً باهظة... وما تزال الشعلة في يده، تتوهج وتضيء.
تحيا سورية ويحيا سعاده