في شهر تموز من سنة 1946 كتب الأمين الراحل عجاج المهتار رسالة طويلة الى حضرة الزعيم يخبره فيها ويشكو من أن فكرة القومية السورية في غياب الزعيم قد تلبننت واستعربت. في تلك الرسالة نقرأ ما يلي:
"لقد تلبننت فكرة القومية السورية في لبنان واستعربت في الشرق والشمال والجنوب الى مدى بعيد".
ونقرأ فيها أيضاً:
"وجريدة الحزب، صدى النهضة، متلبننة مستعربة معاً فهي الآن في العدد 85 ولم نر أنها عالجت أي موضوع من خلال فكرة الحزب السوري القومي الأصيلة كما كانت تفعل جريدة النهضة في أحرج الأوقات وتحت أقسى الظروف".
رسالة عجاج المهتار لم يستطع إرسالها في حينه الى سعاده، بل سلّمه إياها بعد أقل من سنة حين عودته من منفاه الى الوطن، وهي كانت الرسالة الوحيدة والإعتراض "الرسمي" الوحيد على سياسة "الواقع اللبناني" المستفحل في مركز الحزب، وبوادر نشوء الواقع العروبي فيه.
بإختصار شديد، دعونا نلخّض "فعاليات" الواقع اللبناني، أولاً، كالتالي:
في 2 أيار سنة 44 حصل الحزب على رخصة رسمية من الحكومة اللبنانية للعمل بحرية في لبنان، ومضمون وشكل هذه الرخصة الصادرة عن وزير الداخلية كميل شمعون كان فاتحة التدابير العلنية النافرة التي أتخذتها قيادة نعمة ثابت وتبين لاحقاً أنها كانت ثمرة صفقات سياسية عقدها نعمة مع شمعون وسائر أعضاء الحكومة المسجونين معه في قلعة راشيا. كانت الرخصة بإسم "الحزب القومي" وليس الحزب السوري القومي كما هو إسمه الحقيقي. كانت الرخصة هكذا:
علم وخبر رقم 614. إسم الجمعية: الحزب القومي. مركزها: بيروت. غايتها: أستقلال لبنان. هيئة الادارة: نعمة ثابت، ولسن مجدلاني، أسد الاشقر. الامضاء: وزير الداخلية كميل شمعون.
وتوالت بعد ذلك التدابير "الضرورية" لوصول حزب نعمة الى السلطة، برتبة نائب في البرلمان.
1 - ألغي علم الزوبعة الذي يرمز الى الفجر الذي ينبثق من اشد ساعات الليل حلكاً والى الحركة التي خرجت من الجمود، واستبدل برسمة لا معنى لها ولا ترمز لشيء،
2 - أُطلِق العنان لعميد الثقافة فايز صايغ ليروج لعقيدة نقيض لعقيدة سعاده القومية الإجتماعية، هي العقيدة الليبرالية الفردانية المأخوذة من الفيلسوفين الروسيين كركيغارد وبردياييف.
3 - ألقى نعمة خطابا في مهرجان حزبي في بعقلين سنة 1944 تلا خلاله بيانه المشهور بعنوان "الواقع اللبناني". فريد الصباغ في مذكراته يقول أن المير مجيد ارسلان حضر المهرجان وأستعرض الصفوف القومية الإجتماعية !
4 – جهز نعمة أوراقه الشخصية وغيّر مذهبه ليستطيع الترشح في الانتخابات البرلمانية على لائحة نسيبه كميل شمعون.
5 - في 4 آب سنة 45 صدر تعميم عدد 12 عن عمدة الاذاعة في الحزب في بيروت، وكان العميد هو كريم عزقول، يمنع الهتاف الحزبي لسورية وسعاده ويبدله بهتاف جديد لا ذكر فيه لا لسورية ولا لسعاده. ثم وجه نعمة ثابت، وكان قد عين نفسه رئيساً للمكتب السياسي بمنزلة عميد يحضر جلسات مجلس العمد بالاضافة لكونه رئيساً للمجلس الأعلى، أي رئيساً لكل شيء بالحزب، وجه رسالة الى القوميين الإجتماعيين لتبرير تعميم عميد الاذاعة والدفاع عنه، يقول في رسالته: " لا يجب أن يقف أي عائق في طريق ايصال الحزب الى السلطة" ( الحصاد المر ص 123)، أي لا يجب أن يقف حزب سعاده عائقا أمام وصول حزب نعمة ثابت الى السلطة. وكان هذا التصريح من نعمة إعتراف واضح وصريح بأن منع الهتاف لسورية وسعاده هو عائق اشترطت الحكومة ازالته لمساعدة حزب نعمة ثابت للوصول الى السلطة.
أن عقلية المساومة والمقايضة والتساهل في المبادىء الأساسية والعقيدة من أجل مكاسب سياسية شخصية ونيل نصيب من السلطة، في مقعد نيابي أو وزارة ثانوية أو حتى وزير دون مصلحة، وهو كمن يقطف ثماراً لم تنضج بعد، هي عقلية ظلت مستترة وموجودة في ذهن الكثير من القياديين حتى بعد عودة سعاده وأعادته الحزب وعقيدته وسياسته الى نصابها السليم، بل هي مستمرة لحد الآن بعد سبعين سنة من إستشهاده، وسنعطي أمثلة تثبت ذلك في سياق فصول هذا البحث كلها. لكن هناك من الرفقاء من يحتجون ويقولون: وما العيب في الوصول الى السلطة؟ أليس الوصول الى السلطة شيء ضروري لقيادة المجتمع وتحقيق الاصلاح السياسي والاقتصادي والإجتماعي فيه؟
الجواب هو نعم، إن الوصول الى السلطة هو شيء مقبول ومطلوب وليس فيه ما يوجب الرفض والإحتجاج والمحاربة، بل هو واجب وهدف حتمي للحركات التي تريد إنشاء نظام جديد، أكان ذلك بعد إنضاج الظروف وترسيخ العقيدة وجعلها مقبولة من أكثرية الشعب، أو كان قبل جعل العقيدة مقبولة من أكثرية الشعب عندما يكون ذلك متاحاً أو ضرورياً للإستفادة من قوة السلطة ووسائلها لتحقيق الاصلاح القومي الإجتماعي بفعالية وسرعة. ولكن الوصول الى السلطة لا يجب أبداً أن يكون على حساب عقيدة الحزب وقضيته وغايته وبالتنازل عنها أو التساهل فيها. المطلوب هو وصول الحركة الى السلطة، بكامل مبادئها وسياستها وغايتها القومية الإجتماعية، وليس إستبدال هذه الحركة بالسلطة كما كان يفعل نعمة ثابت.
نعود الى سرد الوقائع التاريخية للواقع اللبناني ونسال:
هل كان سعاده في مغتربه أو منفاه القسري في الأرجنتين غافلاً عن ما يجري في مركز الحزب في الوطن من إنحرافات عقائدية وسياسية؟ الجواب هو حتماً لا، لكن ماذا كان موقفه من هذه المسألة وهو في منفاه بعيداً عن مركز الحزب؟
إن مقالات سعاده ورسائله التي كتبها في المنفى تنبئنا أنه كان يتلقى الأخبار النادرة التي تأتيه وهو في الأرجنتين عن السجون والاضطهادات التي تعرض لها أركان الحزب في الوطن، وكان يتابع ويلتقط كل شذرة من المعلومات التي تأتي عن وضع الحزب في الوطن وسياسات وتوجهات وأعمال قيادته، وقد عبر عن حيرته تجاه تلك السياسات والتوجهات التي لم تكن ظاهرة وواضحة تماما بعد، وفي نفس الوقت كان شديد الحرص على استيعاب ما يجري رغم إرتيابه الشديد منه، كان شديد الحرص على استمرار روحية النظام والإنضباط الحزبي صونا لوحدة الحزب ووحدة سياسته ومسيرته. لذلك، وعندما صار الإنحراف العقائدي والسياسي ظاهراً بوضوح، وسعاده لا يزال في الأرجنتين، عبّر عن قلقه وجزعه وحيرته ومرارته منه، ولكنه لم يفضحه كإنحراف بل سمّاه :"الأساليب السياسية الإختبارية الجديدة" في محاولة لإسيعاب ما يمكن اعتباره "أخطاء"، ولم يقدِم من المغترب على أية تدابير ردعية تعطل أفعال وتدابير وسياسات المركز في الوطن، وهو الذي يعلم أنه لو فعل ذلك فالتمرد على تدابيره سيقع لا محالة في غيابه. ها هو في رسالته الى معروف صعب الموجود في دمشق في 21 أيلول 1946 يقول له فيها: "إن قلقي على مصير الأمة في التيارات السياسية الجديدة، وجزعي على الحركة القومية الإجتماعية وهي تواجه هذه التيارات بعدما أصابها من ارهاق وتضعضع قوى شديدان جداً ويصعب وصف مبلغهما بالكلام، ولكن تغلّب النهضة السورية القومية الإجتماعية على الصعوبات العظيمة التي تعرضت لها يدل على متانة عقيدتها ورسوخها في النفوس وعلى أهليتها للبقاء والانتصار. أن فترة الحيرة والمرارة تجاه الأساليب السياسية الإختبارية الجديدة لن تطول كثيراً وسيعقبها عودة الحرارة والثقة والعزم مع الوضوح والصفاء".
ولسعاده رسائل عديدة لرفقائه في البرازيل والأرجنتين والمكسيك في فترة مشاهدته من مغتربه للإنحرافات العقائدية والسياسية التي ترتكبها قيادات الحزب في الوطن، في هذه الرسائل أعتمد الزعيم على تغطية المرتكبين وتلطيف ما يرتكبونه حرصاً على هيبة مركزهم ومسؤوليتهم في الحزب وحرصاً على ما سمّاه "وحدة القيادة ووحدة السياسة"، أي وحدة الحزب، متحيناً الفرصة التي يتمكن فيها من العودة الى الوطن لوضع الأمور كلها في نصابها الصحيح. حتى أنه تساهل كثيراً من أجل الحفاظ على وحدة الحزب ووحدة القيادة ووحدة السياسة. ها هو مثلاً يداري بلباقة وحكمة ويبرر للرفيق يعقوب ناصيف ما أقدم عليه المركز في بيروت من منع ذكر إسم سورية، ويقول له: "في صدد سؤالك هل يجوز ختم الكتب الموجهة الى المركز بهتاف لتحيى سورية، اقول أني لا أرى مانعاً من ذلك. إن الرسائل الصادرة من بيروت لا تحمل هذه الخاتمة تجنباً للإصطدام مع أغراض الحكومة المحلية المؤيدة بالإرادات الأجنبية إصطداماً مباشراً. هذه الوقاية قضت بها الضرورة وهي ذات صفة مؤقتة...".
وفي رسالته الى منفذ عام سان باولو تاريخ 4-9-46 يقول له في صدد كيفية إستقبال عقيلة رئيس جمهورية لبنان الزائرة للبرازيل: "أعملوا بموجب التعليمات الواردة من المركز"، ويوجههم بإستعمال إسم "الحزب القومي" وليس الحزب السوري القومي ، ويقول لهم أن الحزب القومي هو أختصار لإسم الحزب الكامل الحزب السوري القومي، وأذا سألتكم عقيلة الرئيس هل بينكم سوريون، أي من الشام، "فقولوا أن العمل في المهاجر له بعض خصائص وضعية وظروف خاصة، ونظراً لتاريخ الحزب وعقيدته وحداثة عهد الإتصال بالمركز ظل الحزب القومي يجمع الشاميين أيضاً، ولا مانع من ذلك ما دام أمر إستقلال لبنان مقرراً ومؤيداً، وأنكم لا تحيدون عن أوامر المركز وتوجيهاته".
وسعاده أيضاً يؤوّل ويشرح ويبرر لمدير مديرية ريو دي جنيرو الرفيق جورج الدده "التفاهم الجديد" بين الحزب والحكومة، هذا التفاهم الذي ألغى المبادئ الأساسية للحزب وألغى غاية الحزب وقضية الحزب كلها، وكان واضحاً وجلياً أن سعاده لا يريد من الرفقاء المرتابين المتسائلين أن يظنوا أن هناك أزمة إدارية وسياسية مع قيادة الحزب في الوطن، ويريدهم أن يحافظوا على دعائم النظام ودعائم الثقة بالقيادة الواحدة والسياسة الواحدة للحزب "في هذا الطور الجديد من أطوار سياسة الحزب الواحدة"، حسب تعبيره (الى جورج دده 13-12-46).
سعاده يريد أن يعود الى الوطن للإمساك بزمام الأمور وأعنتها، ويريد الآن أن يزيل من درب العودة جميع العوائق والمطبات والعراقيل. هذه كانت معركته المباشرة المداهمة في ذلك الوقت، وفي هذه المعركة لا يريد لشظاياها أن تصيب وحدة الحزب ووحدة إدارته وسياسته أو أن تهز ثقة القوميين بوحدة حزبهم ووحدة إدارته وسياسته وسلطته.
لكن بعد مجيء غسان توينى الى الولايات المتحدة الاميركية للدراسة، والذي يحمل تفويضاً من مركز الحزب في بيروت ومهمته الإتصال بالزعيم وإعطائه صورة صادقة عن وضع الحزب في الوطن ونقل وثائق سرية اإيه، فأول شيء طلبه منه سعاده، في رسالته الأولى إليه، من الأرجنتين الى بوسطن- أميركا تاريخ 21-2-46، طلب منه أن يضمن تقريره ليس مبلغ إنتشار الحزب وقوته الشعبية وما يحتاجه، بل طلب معلومات عن: "الحزب القومي والأسباب الموجبة لظهوره في لبنان في هذا الشكل، (أي حذف كلمة السوري)، والضمانات لإستمرار عمله وكيف قابلت جميع فروع الحزب هذا الحدث".
وفي رسالة أخرى لغسان يفصح سعاده عن رأيه الحقيقي في ما يجري ، على عكس ما كان يقوله لرفقاء الأرجنتين والبرازيل، فيقول: "يحسن المحافظة على إسم الحزب الأصلي: الحزب السوري القومي وعلى وحدة العمل الظاهرة والباطنة".
إن سعاده كانت قد انكشفت له الخطوط العريضة للمعضلة الجديدة التي يجب أن يعالجها، وهي ذات شقين: الأول هو الإنحراف العقائدي والسياسي، والثاني هو محاولة إبعاده عن الحزب ومنعه من العودة الى الوطن. وما قاله في رسالته السادسة الى غسان تاريخ 26-8-46 يلخص ذلك كما يلي:
"الضرورة السياسية تقضي بتعجيل عودتي فهناك أمور وحوادث تجري في الوطن لا تدعو لإطمئناني، وأني أخشى أن يكون الحزب مطمئناً أكثر من اللازم...ولست راضياً كل الرضى عن سياسة صدى النهضة الإذاعية".
هذا عن طريقة مخاطبة سعاده لرفقاء أميركا الجنوبية ثم معروف صعب ثم غسان تويني، أمّا عن طريقة مخاطبته لنعمة ثابت نفسه فاللافت فيها هذه المداراة وهذا الحذر من مصادمته وهذا الإمتناع عن معارضته أو منعه من الإستمرار في سياسة التنازل والإنحراف.
إستلم سعاده أول رسالة من نعمة ثابت تاريخ 28 -3-46، أي بعد إنقطاع دام سبع سنوات ونصف منذ آخر رسالة بينه وبين المركز في ايلول 1938، وهي رسالته الى فخري معلوف الذي كان لا يزال في الوطن رئيساً للمجلس الأعلى. رسالة نعمة ثابت الأولى الى سعاده مفقودة، ولو تسنى لنا الإطلاع عليها لكان فهمُنا لجواب سعاده عليها أوفى وأكمل.
في رسالة سعاده الجوابية الأولى الى نعمة تاريخ 20-4-46، ونعمة صار رئيساً لكل مؤسسات الحزب المركزية (المجلس الأعلى ومجلس العمد والمكتب السياسي) يتبع سعاده معه سياسة المرونة والمداراة والإستيعاب في محاولة واضحة لربح الوقت وربح وحدة الحزب ووحدة صفوفه وربح قضية العودة الى الوطن دون عراقيل. يقول سعاده في رسالته الى نعمة: "أن ما قرأته من الأخبار المقتضبة الواردة في بعض الصحف عن التحويرات الشكلية الظاهرية في مظهر الحزب، وما أطلعت عليه فيما بعد من النشرة الحزبية التي تسلمت أعداداً منها منذ بضعة أشهر، جعلتني أقدر العوامل الباعثة اليها . وقد سرني كثيراً خطابكم في صدد الرخصة التي نالها الحزب من الحكومة اللبنانية الحافظ المعنويات الحزبية والمنطبق كل الإنطباق على تقاليد الحزب. وكل ما أريد أن أقوله الآن في هذا الصدد هو أني أوافق على اكتساب الرخصة الحكومية وإيجاد حالة من الإستقرار والإطمئنان تمكن الحزب من زيادة قوته الشعبية وإظهارها بحرية. تبقى هناك مسائل واعتبارات تقنية بالنسبة الى عمل الحزب الواسع وغايته الأخيرة يجب تأجيل بحثها الى فرصة أخرى، والأرجح حين عودتي...ولا يقل سروري بأن التدابير السياسية التي قررها المجلس الأعلى الموقر في هذه الظروف السياسية ذات الصفة الإستثنائية قد أظهرت ما في حزبنا الراسخ من المرونة السياسية التي تضاهي ما فيه من رسوخ في العقيدة وإيمان بتعاليمها وتمسك بغايتها الأخيرة" ( الأعمال 11 ص83). هذا كل شيء عن القضية الفائقة الأهمية والخطورة التي من الواضح أن سعاده أراد تأجيل البحث فيها لحين عودته الى الوطن، مع أن رسالة الزعيم هذه الى نعمة أمتدت لخمس صفحات تضمنت أخباراً أقل شأناً مثل صحة الزعيم وأحواله الخاصة وأحوال الجالية في الأرجنتين وأخبار زيارة "الكابتن منصور لحود للنزالة في الأرجنتين"، وغير ذلك من الأمور التي من الواضح أن سعاده أراد منها تطمين نعمة وجعله مرتاح البال من الزعيم ومتجاوباً معه في مسعى العودة الى الوطن. حتى أن موضوع عودة سعاده لم يطرحه بشكل ضروري أو مستعجل، لكي يمرره بشكل سلس دون إحراجات ومخاوف يمكن أن تكون موجودة في ذهن نعمة، ومَن وراء نعمة، يبدأ سعاده بطرح الموضوع في نهاية رسالته هكذا: "أذا كانت الحالة موافقة لعودة الزعيم فيوجد لهذه العودة وجهان....". لكن نحن نعرف أن سعاده كان يترقب أقرب فرصة متاحة ليعود الى الوطن، ويعتبر هذه العودة ضرورية ومستعجلة (رسالته الى غسان تاريخ 26-8-46)، وليس "إذا كانت الحالة موافقة"، حتى أنه في رسالته الى ابراهيم طنوس في 19- 4- 46، أي قبل رسالته الى نعمة بيوم واحد، قد حدد موعدها التقريبي ويدعوه للنظر في إمكانية عودة رفقاء من البرازيل معه مثل طنوس نفسه نجيب العسراوي ووليم بحليس وجورج بندقي وغيرهم، ويطلب منه الإتصال بهؤلاء في هذا الصدد وأن يوصيهم "بكتمان إحتمال عودة الزعيم سريعاً". الجدير ذكره هنا أن عودة الزعيم تأخرت نحو أربعة أشهر ونصف ثمينة عن الموعد الذي كان يرغب به، أضاعها المركز في بيروت الذي كان يعرقل هذه العودة.
واضح جداً أن لغة سعاده مع نعمة فيها مداراة ونوع من التطمين إتقاءً لمزيد من العرقلة (مكروا فمكرنا...). حتى أن سعاده في رسالته الثانية الى نعمة يستهلها بمخاطبته "برفيقي الحبيب الأمين"، ويحرص فيها على عدم مناقشته في موضوع وقضية الإنحراف العقائدي والسياسي قبل العودة، ويقول له: "أن جميع القضايا التنظيمية والإدارية والسياسية ستجد تحليل الزعيم وتعليله لها وحلولها في الخطاب الذي يوجهه الى المجلس الأعلى في أول جلسة يحضرها الزعيم بعد عودته وتكون مخصصة لسماع هذا الخطاب، وفي الخطاب الذي يلقيه الزعيم بعد عودته في إجتماع حزبي عام يعين خصيصاً لهذه الغاية أو يوجهه الزعيم الى مجموع الحزب".
لن نطيل في هذا السرد التاريخي، فالمهم أن سعاده قد عاد الى الوطن ضد إرادة الحكومة اللبنانية وضد إرادة مركز الحزب بقيادة نعمة ثابت ومن معه. وبعد أن ربح سعاده معركة العودة بدأ فوراً، وفي أول خطاب له أمام حشود القوميين في الغبيري عدما دعاهم للعودة الى ساحة الجهاد. منذ تلك اللحظة بدأ معركة الإنحراف العقائدي والسياسي مع أبطال هذا الإنحراف، الذين قال عنهم سعاده "أنهم يتقوّلون في قضايا الحزب والعقيدة والحركة كما لو كانوا جماعة غرباء عن الحركة القومية الإجتماعية بالكلية"، وانتهى الأمر بهم الى الطرد من الحزب.
إن قضية "الواقع اللبناني" استطاع سعاده حسمها والقضاء عليها فور عودته، بما يتمتع به من سلطة مادية دستورية مكّنته من طرد أبطالها بعدما أصرّوا على إنحرافهم، وأيضاً بما يتمتع به من قوة ومستوى فكري مكّنه من تعريتها وإعادة النصاب الى العقيدة القومية السورية ومبادئها الأساسية والإصلاحية في محاضرات عشر ألقاها في بيروت مطلع سنة 1948. وقد تكلم سعاده عن قضية "الواقع اللبناني" في المحاضرة الأولى وشرّحها بإسهاب كما شرح أسباب سكوت القوميين الإجتماعيين عنها وقبولها ظاهرياً و"بحكم النظام" فقط، وقال أن هذا القبول، مع أنه ظاهري فقط وبحكم النظام فقط، "يكوّن مسألة من المسائل الخطيرة".
إن سعاده قد أعطى الأولوية لقضية الواقع اللبناني في معالجته الإنحراف العقائدي والسياسي، ذلك لأن أبطالها كانوا في مركز القيادة والقرار، أمّا الواقع العروبي الذي ذكره الأمين عجاج المهتار في رسالته سنة 1946 فلم يكن بعد مستفحلاً. فبالإضافة الى المحاضرات العشر، قد عالجه سعاده في سلسلة خطب وبيانات ومقالات، خاصةً مقالات العروبة أفلست، إنتصار القومية السورية يحقق الجبهة العربية، حاربنا العروبة الوهمية لنقيم العروبة الواقعية، نحن سوريون لا هللخصبيون، آن للشباب أن يدرك، الحزبية الدينية لعنة الأمة، وغيرها الكثير.
إن قضية "الواقع اللبناني" التي نشأت في الحزب في غياب سعاده القسري عن الوطن خلال الحرب العالمية الثانية، قال عنها أنها قضية "التحديد القومي للأمة السورية" و "أنها خروج عن معنى الأمة الذي نفهمه"، وقال: "في هذه الناحية الواضحة التي لا يمكن أن يحصل فيها أي إلتباس حصلت إعوجاجات كادت تشوِّش حقيقة القضية القومية الإجتماعية...
ونحن يمكننا القول اليوم بوجود "قضية الواقع العروبي"، وهذه القضية هي أيضاً، مثل قضية الواقع اللبناني، تتعلق بالتحديد القومي للأمة السورية، وهي خروج عن معنى الأمة الذي نفهمه، وسنبيّن ذلك بالتفصيل.
صرنا اليوم جميعنا نعرف وقائع مسألة "الواقع اللبناني" التي نشأت في غياب سعاده في منفاه، ولولا عودة سعاده الى الوطن وكشفه عن الإنحراف العقائدي والسياسي الذي كان واقعاً في غيابه، لكانت هذه المسألة قد مرّت وسيطرت دون أن يعالجها أحد.
أمّا مسألة الواقع العروبي فقد ظهرت بعض بوادرها قبل إستشهاد سعاده، ولنا من رسالة عجاج المهتار خير دليل، ولكنها استفحلت بعد إستشهاده، وصار لزاماً علينا نحن رصدها وكشفها ومعالجتها بأنفسنا معتمدين على ما تركه سعاده لنا من إرث عقائدي وثقافي ينير لنا السبيل.
نعم، إن ثمة قضية هي قضية "الواقع العروبي" داخل الحزب اليوم، وهي تشبه قضية الواقع اللبناني التي نشأت في أربعينات القرن الماضي. وكما أن القوميين الإجتماعيين لم يأخذوا بفكرة واحدة من تلك الأفكار الخاصّة بالواقع اللبناني، فإنهم اليوم يشاهدون قضية الواقع العروبي دون أن يأخذوا بفكرة واحدة من أفكاره. فما هي أفكار "الواقع العروبي"؟؟
إن إيضاح أفكار "الواقع ا لعروبي" في الحزب يتطلب منّا أولاً إيضاح معنى العروبة الواقعية التي تقول بها العقيدة السورية القومية الإجتماعية، ثم تشريح العروبة الوهمية، أي عروبة الأمة العربية والوطن العربي التي ترتكز على ثلاثية العنصر والدين واللغة، وصولاً الى كيفية نشوء ما سمّيناه "الواقع العروبي" وإيضاح أفكاره ومظاهره في الحزب. وهذا ما قمت به في فصل كامل على مساحة 60 صفحة من كتابي الذي سيصدر قريباً. لكن هنا الآن فمن غير العملي أن نستغرق في هذا المسار الطويل، لذلك سأختصر كثيرا وسألخص الموضوع كالتالي:
أولاً: العروبة الوهمية وثلاثية العنصر والدين واللغة
لا يكفي سرد ما يقوله سعاده عن العروبة الوهمية وأصحابها، فلا بد من أن نورد ما يقوله هؤلاء أنفسهم. من أجل ذلك انتقيت ثلاثة نماذج تغطي كافة جوانب العقيدة العروبية التي سمّاها سعاده "العروبة الوهمية"، وهي جوانب العروبة الدينية ومنظِّرها ميشال عفلق، والعروبة اللغوية ومنظرها ساطع الحصري، ثم عروبة الأصل العرقي العربي ومنظرها زكي الأرسوزي. ولا ننسى أننا سنفنِّد ثلاث مقولات لثلاثة مفكرين متفقين على عقيدة واحدة هي عقيدة الوطن العربي والأمة العربية والقومية العربية، وهذه هي بالظبط العقيدة التي سمّاها سعاده بالعروبة الوهمية وقال عن شعاراتها أنها "من باب إطلاق التسميات على غير معانيها ومدلولاتها العلمية".
أمّا المعاني والمدلولات العلمية التي أوضحها سعاده في كتابه "نشوء الأمم" فيمكن تلخيصها بما يلي في هذه السطور القليلة:
الأمة هي الواقع الإجتماعي الذي حضنته البيئة الطبيعية، هي المجتمع الطبيعي لا الإصطناعي ولا الإرادي. (لا يختار الإنسان مجتمعه كما لا يختار المرء والديه). فالأمة إذاً هي المجتمع الطبيعي الذي يتكوَّن في بيئته الطبيعية- وطنه، والذي حصل فيه الوجدان الإجتماعي، أي الذي أدرك شخصيته ووحدة مصالحه ووحدة حياته. (شرط المجتمع ليكون مجتمعاً طبيعياً هو أن يكون خاضعاً للإتحاد في الحياة والوجدان الإجتماعي). فالإشتراك في الحياة الإجتماعية الإقتصادية النفسية في وطن معيّن هو العامل الأساس لقيام المجتمع- الأمة وسبب وجوده، وليس امتداد اللغة أو الدين. وهذا الإشتراك في الحياة الإجتماعية الإقتصادية النفسية في وطن معيّن، يشمل جميع المشتركين على اختلاف أصولهم العنصرية العرقية السلالية وعلى اختلاف لغاتهم واصولهم اللغوية وعلى اختلاف أديانهم ومذاهبهم الدينية. فالأمة، علمياً، هي دورة حياة إجتماعية اقتصادية نفسية واحدة قائمة على أساس ثابت دائم مستمر ووحيد هو الوطن، أمّا العناصر والأجناس فتمتزج وتتفاعل، وأمّا اللغة والدين فهي مظاهر إجتماعية تأتي وتتغير وتتبدل وتتكيف وتخضع للمجتمع وطبيعته وشخصيته ونفسيته وظروفه. ففي سورية نزلت أقوام وسلالات وتفاعلت وامتزجت، وفي سورية تعددت الأديان وتوسعت وتقلصت وتمذهبت وكبرت وصغرت وانتقلت، وفي سورية برزت لغات عديدة وتطورت وتلقحت وتغيرت وتبدلت وتقلصت وانتشرت، أما الوطن السوري فبقي ثابتاً لم يتغير ولم يتبدل، ودورة الحياة الإجتماعية الاقتصادية فيه بقيت مستمرة ضمنه وموحدة رغم تغيُّر وتبدُّل العنصر والدين واللغة. فالأمة هي "جماعة من البشر تحيا حياة موحدة المصالح موحدة المصير في بيئة طبيعية يكسبها تفاعلها معها عبر الزمن خصائص ومزايا تميزها عن غيرها من الأمم".
أمّا القومية فهي النسبة الى القوم- الأمة (حتى لا نقول الأمّية)، هي وعي الأمة لوجودها وتنبهها لوحدة حياتها ووحدة مصالحها ومصيرها، هي إدراك الأمة لنفسها ولشخصيتها، هي وجدان الأمة وروحها وعصبيتها.
هكذا وبالتسلسل: وطن، أمة، قومية، والوطن هو الأساس. فلا أمة دون وطن تنشأ فيه وتجري حياتها ضمنه وتستمد موارد حياتها ومصالحها منه. إن إهمية الوطن هي أهمية فاصلة في تقرير شخصية المجتمع وحقيقة الأمة. إن الترابط بين الأمة والوطن هو المبدأ الوحيد الذي تتم به وحدة الحياة.
فلنتقدم الآن ونستعرض الأفكار الرئيسية لكل من الأرسوزي وعفلق والحصري ، ولنر كم هي بعيدة عن هذه المنطلقات العلمية، كالتالي:
أ – زكي الأرسوزي (1900-1968)
لسنا هنا في معرض درس الأستاذ زكي الأرسوزي. نريد فقط، وبإختصار، التطرق الى السمات الرئيسة لعروبته ومعناها لكي نعرف اسباب انتقاد سعاده الشديد لها واعتبارها وهمية.
إن عروبة الأصل العربي، والعروبة الدينية، ثم عروبة امتداد الأمة على مدى امتداد اللغة، أي العروبة اللغوية، هي الأوجه الثلاثة الرئيسة لعقيدة الوطن العربي والأمة العربية والقومية العربية التي وصفها سعاده بالوهمية.
عروبة الأرسوزي تمتاز بوجهي الأصل واللغة، خاصةً الأصل، ولا تقيم للدين دوراً مهماً. في مقابل عروبة الحصري التي تقيم للغة العربية الدور الأول. أمّا عروبة عفلق فتشدّد على الدين الإسلامي المحمدي كعامل أساس وكروح للعروبة، مع أخذه أيضاً بكل من الأصل العربي واللغة العربية كعاملين هامّين. علماً أن الثلاثة، الأرسوزي والحصري وعفلق، لا يعتبرون الوطن، والإشتراك في الحياة بكل مصالحها ضمن الوطن، عاملاً من عوامل نشوء الأمة والقومية.
فالأرسوزي الذي لُقِّب بفيلسوف القومية العربية، هو صاحب نظرية الأصل العرقي السامي- العربي للسوريين. وهو يفهم من كلمة العرب، في عقيدته العروبية، ما يعني السلالة العربية السامية التي مصدرها الجزيرة العربية. حتى أنه يذهب أكثر من ذلك ويعتبر اليهود، كونهم ساميين، عرباً في الأصل ويجب حسب رأيه أن يعودوا الى أصلهم العربي، ويدعوا للتحالف الحضاري بين العرب واليهود على هذا الأساس. لذلك اعتبرنا الأصل العربي هو أكثر ما يميِّز عروبته رغم أنه يعطي للغة العربية ايضاً دوراً مميَّزاً جداً، مثله مثل الحصري، وأن أبرز مؤلفاته وأكثرها شهرة هي: "العبقرية العربية في لسانها"(سنة 1943)، و"في فقه اللغة" (سنة 1952)، و"اللسان العربي" (سنة 1963). فهو يقول مثلاً أن "اللغة العربية هي سر عبقرية الأمة العربية... اللغة العربية هي مفتاح حل مشاكل الأمة العربية وهي القادرة على بعثها من جديد".
لن نناقش الأرسوزي الآن في ما معنى أن تكون اللغة سر عبقرية الأمة، أو في كيف وبأية طريقة تكون اللغة هي مفتاح حل مشاكل الأمة، وكيف تقدر اللغة على بعثها من جديد. لكننا سنبرهن أن الفكرة الأساس التي ينطلق منها، مثله مثل جميع العروبيين الوهميين، هي العنصر والأصل العنصري العربي، وما اللغة والدين إلّا كماليات ومظاهر تغطي فكرة الأصل والعنصر.
في مقال كتبه الأرسوزي في جريدة "فتى العرب" في 26 ك2 سنة 1938 يقول:
"... أمّا من جهة اليهود فإن رأيي أنه يجب أن يتفاهم العرب واليهود في العالم ويتعاونوا لإعادة مجد العرب وتحقيق العبقرية السامية وهي العبقرية العربية- اليهودية. اليهود شعب درج من اصل عربي وتطور وفقاً لظروف أحاطت به في الماضي فأُبعِد عن الأصل بعض الإبتعاد في مظاهر حياته إلّا أنه لا يزال محتفظاً بعبقريته التي هي العبقرية العربية، وما اندماجه مع العرب إلّا عودته الى أصله الحقيقي...".
يجب أن نلاحظ هنا أن اليهود ليسوا مسلمين ولا يتكلمون العربية، ومع ذلك فالأرسوزي قد أدار ظهره لقوله السابق بأن اللغة العربية هي سر عبقرية الأمة العربية، وتطلّع الى اليهود الذين لا يتكلمون اللغة العربية وأراد منهم إعادة تحقيق ما سمّاه العبقرية السامية العربية اليهودية، أراد من اليهود أن يعودوا الى أصلهم العربي.
سعاده يومها رد على الأرسوزي في مقال سريع بعد يومين، أي بتاريخ 28 ك2 سنة 1938 نشره في جريدة النهضة تحت عنوان "فلسفة القومية العصبوية" فنّدد فيه ما سمّاه بالرأي الطريف والظريف للأرسوزي وبيّن خطأه، وقال ساخراً وآسفاً:
"هذا هو مجمل الرأي الظريف الذي جاء به ركن من أركان عصبة العمل القومي العربي، ولعل هذا الرأي الذي لم يحلم به عقل بشري هو نتيجة الدروس الفلسفية التي تلقاها السيد الأرسوزي من جامعة السوربون في فرنسا، أو لعل هذا الرأي هو عصارة القومية العربية التي تحمل لواءها عصبة العمل القومي. وإذا كنا نأسف لشيء فإننا نأسف لهذا الضعف الذي يبدو في شباب أمتنا وخصوصاً المشتغلين بالسياسة القومية، وليس ما طلع علينا به السيد الأرسوزي سوى صورة واضحة لهذا الضعف في الإتجاه ولهذا الخلط بين المصالح القومية الحقيقية والخيالية".
والجدير ذكره هنا أن حزب البعث في عهد الرئيس السوري حافظ الاسد قد شيّد تمثالاً للأرسوزي ودعاه "القائد المؤسس".
ب – ميشال عفلق (1910- 1989)
إذا كان الأرسوزي قد إتخذ اللغة غطاء للفكرة الأساس التي هي الأصل والعنصر العربي، فإن عفلق قد اتخذ الدين، وليس اللغة، غطاءً للأصل والعنصر العربي. نتبين ذلك من هذا التناقض الواضح عند عفلق عندما يتطرق الى العروبة وعلاقتها بالدين. ففي سنة 1957 وفي مقالة بعنوان "القومية العربية والنظرية القومية" يقول:
"إن القومية العربية لدى البعث هي واقع بديهي يفرض نفسه دون الحاجة لنقاش أو نضال، أمّا مجال الإختلاف وضرورة النضال فهما في محتوى هذه القومية. هذا المحتوى المتطور الذي يحتاج في كل مرحلة من مراحله الى نظرية قومية تلائمه. ولهذا لا موجب لأن نناقش في أننا عرب أم لا، ولكن يجب أن نختار وأن نجدد مضمون العروبة في المرحلة الحاضرة... العرب اليوم لا يريدون أن تكون قوميتهم دينية، لأن الدين له مجال آخر وليس هو الرابط للأمة، بل هو على العكس قد يفرِّق بين القوم الواحد... والعرب لا يريدون أن تكون قوميتهم عنصرية فقد جربوا ما معنى العنصرية وجربوا ما معنى الظلم".
هذا ما كتبه عفلق سنة 1957. أمّا سنة 1982، أي بعد 25 سنة، وبدلاً من أن تصبح قوميته أكثر تطوراً وأكثر ملائمة، فإنه قال ما يناقض تماماً قوله السابق، قال:
"وعندما أقول عروبة تعرفون بأنني اقول الإسلام أيضاً، لا بل الإسلام أولاً. العروبة وُجِدت قبل الإسلام ولكن الإسلام هو الذي أنضج عروبتنا وهو الذي أوصلها الى الكمال. هو الذي أوصلها الى العظمة والخلود. هو الذي جعل من القبائل العربية أمة عربية عظيمة، أمة عربية حضارية. فالإسلام كان وهو الآن وسيبقى روح العروبة". (عن كتاب شاكر الجوهري- قصة وخفايا اسلام عفلق. سنة 2007).
وعفلق يقول أيضاً، داعياً المسيحيين العرب ال ما يشبه اعتناق الإسلام:
"وسوف يعرف المسيحيون العرب عندما تستيقظ فيهم قوميتهم يقظتها التامة ويسترجعون طبعها الأصيل، أن الإسلام هو لهم ثقافة قومية يجب أن يتشبعوا بها حتى يفهموها ويحبوها فيحرصوا على الإسلام حرصهم عل أثمن شيء في عروبتهم".
وما يجب ملاحظته هنا أن هذه النصوص تبيّن بوضوح أن العروبة الدينية لعفلق لم تغادر أساسها الذي هو العنصر العربي والقبائل العربية قبل الإسلام، حيث أن القبائل العربية هي، وليس غيرها، التي جعل الإسلام منها أمة عظيمة وحضارية، حسب عفلق.
ولعفلق قول آخر نافر يفصح عن حقيقة الأصل العنصري لعروبته الوهمية. ففي سنة 1982 وفي سلسلة "أحاديث الخامس من حزيران" يقول عن الأكراد السوريين ما يلي:
"هل يضيرنا أن يكون هناك شعب كردي مؤلف من عشرة ملايين أو أكثر وأن يكون بمثابة الأخ والشقيق للأمة العربية وأن يكون هناك تعاون وتفاعل؟ نحن كعرب نساعد على تحريرهم، نساعد إخواننا الأكراد على متابعة تحرير أجزاء وطنهم وشعبهم وتوحيده..."
فبالنسبة لعفلق، الأكراد ليسوا عرباً رغم ثلاثة: أولاً رغم وجودهم واشتراكهم في دورة الحياة الإجتماعية الاقتصادية في "الوطن العربي"، وتحديداً في دمشق وحلب وشرقي دجلة والفرات، وثانياً رغم كونهم مسلمين، وثالثاً رغم كونهم يتكلمون اللغة العربية. شيء واحد ينقص الأكراد ويمنعهم من أن يكونوا عرباً، طبعاً حسب عفلق، وهو أنهم ليسوا من العنصر العربي الآتي من الجزيرة العربية.
في مقابل ذلك، اليهود ليسوا مسلمين ولا يتكلمون العربية ورغم ذلك هم بالنسبة للأرسوزي أصلهم عربي ويجب أن يعودوا الى أصلهم لتحقيق العبقرية السامية العربية اليهودية. والأكراد هم مسلمون ويتكلمون اللغة العربية لكنهم بالنسبة لعفلق غير عرب لأن أصلهم ليس سامياً عربياً. فماذا يكون أساس هذه العروبة الوهمية غير الأصل العنصري؟؟
ج – ساطع الحصري (1880- 1968).
ساطع الحصري هو صاحب العروبة اللغوية، وحدود الوطن هي حدود انتشار اللغة. والعروبة اللغوية عند الحصري هي أيضاً واجهة وغطاء للعروبة العنصرية.
وساطع الحصري يتميّز بأنه قضى نصف عمره قومياً عثمانياً وصاحب عقيدة قومية عثمانية تتخطى الأصل اللغوي والأصل العرقي والديني ولا تقف عند تركي وعربي وأفغاني وسوري ومصري وأرمني وبلغاري وبلقاني، وتقول بالوطن العثماني الكبير الذي حدوده هي حدود انتشار الجيش العثماني، "واللغة هي آخر ما يجمع العثمانيين واحدهم بالآخر" حسب ما كان يقول الحصري نفسه عن قوميته العثمانية. والنصف الثاني من عمره قضاه قومياً عربياً لغوياً يعطي اللغة الدور الأول والأساسي والجوهري في تعيين وتحديد الوطن والأمة والقومية. فالوطن عنده لا حدود له، حدوده المتحركة هي حدود امتداد الجيش وانتشاره، عندما كان قومياً عثمانياً، وحدود امتداد اللغة وانتشارها عندما صار قومياً عربياً.
وعندما سُئِل كيف تحوّل ساطع بك الحصري العثماني الى العروبة، أجاب: "حين انفصل العرب عن السلطنة العثمانية لم يكن مندوحة من اللحاق بهم" (من مقابلة مع ساطع الحصري في 28 أيلول سنة 1966).
فبعد أن كانت اللغة هي آخر ما يجمع الناس واحدهم بالآخر، أصبح يقول: "إن أس ألاساس في تكوين الأمة وبناء القومية هو وحدة اللغة ووحدة التاريخ" (ابحاث مختارة صفحة 249). وايضاً: "إن حياة الأمم تقوم قبل كل شيء على لغاتها" (نفس المصدر صفحة 42).
حتى أن اللغة العربية عند الحصري هي قبل العرب! (لماذا إسمها عربية يا ترى!)، إقرأه يقول: العرب هم نسبة الى لغتهم العربية وليست اللغة العربية هي النسبة الى العرب، كل متحدث بالعربية عربي أكان يعي ذلك أم لا يعيه، أو كان يريد ذلك أو لا يريد" (القومية العربية صفحة 65).
وعندما أراد الحصري أن ينفي كون الدين هو من أسس وعوامل القومية (ولم يقل عنه أحد أنه ضد الإسلام!)، كانت حجته هي:
"إن الحضارة العربية الراقية الخالصة في الجزيرة العربية ابتدأت قبل الإسلام، فالقصيدة الجاهلية والقرآن اشتملا على مفردات تفيد معاني مجردة وتدل على تطور فكري رفيع المستوى في الجزيرة العربية قبل الإسلام" (ما هي القومية- صفحة 252).
إن محاولة الحصري إبعاد وتنزيه عروبته عن الدين قد ورطته بالإعتراف بشيئين إثنين هما الإفصاح عن الأساس العنصري لقوميته العربية، ثم التأكيد على العامل الديني كعامل اساسي فيها.
إنه يرى الجزيرة العربية قبل الإسلام هي مصدر العرب والعروبة والقومية العربية، أي أن من كان خارجها، أي في سورية ومصر قبل الإسلام، لم يكونوا عرباً بعد حيث ان لغتهم لم تكن عربية بعد. هكذا وقع الحصري في ورطة الإعتراف أن السوريين والمصريين صاروا عرباً بالإسلام، أي في اكتسابهم اللغة العربية التي أتت مع الإسلام. الحصري هكذا يؤكد ما حاول أن ينفيه، إنه يؤكد أن العروبة خارج الجزيرة العربية أتت وانتشرت مع انتشار الإسلام ولغته، وأن الإسلام هو في أساس القومية العربية. وهو يقول ذلك بشكل صريح وفصيح هكذا: "إن اللغة العربية كادت تتصدع الى لهجات لا تفهم لولا القرآن ولغته العربية الموحدة، إن الإسلام حمى القومية العربية" (ما هي القومية- صفحة 255).
فالحصري في محاولته تأكيد الأساس اللغوي كأساس رئيس للقومية العربية، إعتمد على ما سمّاه "الحضارة العربية الراقية الخالصة في الجزيرة العربية تحديداً، وإضطر لذكر دور القرآن وفضله في توحيد اللغة هناك وإنقاذها من تعدد اللهجات التي تضعفها وبالتالي فضل الإسلام في حماية القومية العربية. وهكذا يكون قد وقع في ورطة لم يكن يريدها، وهي أن العنصر والدين هما عاملان أساسيان في نشوءالقومية العربية وإنقاذها وحمايتها.
علم يواجه جهلاً.
في مقالة بعنوان "نشوء الأمم" كتبها سعاده في 15 أيار سنة 1938 قبيل إصداره لكتابه العلمي "نشوء الأمم"، يقول:
"لا مشاحة في أن رسالة الزعيم القومية لاقت صعوبات جمّة من عدة أنواع. وأهم صعوبة كانت في الجهل التام للمسائل القومية عامةً المتفشي في الشعب. فما كاد يشاع أن رسالة الزعيم تحمل فكرة القومية السورية حتى قامت ضجة عظيمة حول الأمة ومعناها ومعنى القومية. فأخذ الجهلة المدّعون يقاومون فكرة القومية الصحيحة مؤولين الحقائق وفاقاً للنعرات الخاصة التي ربوا عليها، فتخبطوا في هذا البحث خبط عشواء وخلطوا بين المسائل الإجتماعية والسياسية والاقتصادية خلطاً زاد بلبلة العقائد والافكار بلبلة عظيمة. وبناء على هذه الحالة رأي الزعيم أن الحاجة الى اساس علمي لهذا الموضوع الإجتماعي الخطير ماسّة. وأن لا بد من وضع كتاب في علم الإجتماع يوضح الواقع الإجتماعي ويرينا كيف نشأت الأمم من تطور الإجتماع الانساني فيكون الحد الفاصل بين الخلط والهذر وبين الكلام الجدي المبني على المعرفة". (الآثار الكاملة الجزء الرابع صفحة 66).
هذا القول لسعاده، وحده، يرينا كم عانى وكابد في محاورة خصومه العقائديين في موضوع القومية. كان علماً يواجه جهلاً. وكان لا بد له من تعليم خصومه مبادىء علم الإجتماع كي يصل معهم الى لغة مشتركة تساعدهم على فهمه وفهم معنى المصطلحات العلمية واستعمالها في مكانها الصحيح.
إننا نلاحظ بوضوح الغياب الكلي لفكرة الوطن، عند أصحاب العروبة الوهمية، كأساس ثابت ودائم ومستمر وكعامل أول لنشوء الأمة التي معناها الجوهري هو الإشتراك في الحياة بكل مصالحها على أرض الوطن الواحد الحاضن لجميع الأصول النازلة فيه والمسهِّل لتفاعلهم وامتزاجهم العرقي والجاعل منهم واقعاً إجتماعياً، أي مجتمعاً طبيعياً واحداً يصير أمة متى حصل فيه الوجدان الإجتماعي...
الوطن عند العروبيين الوهميين لا مستقر لمفهومه ولا دور له. فعند الحصري هو نتيجة وليس سبباً كما يُفترض أن يكون، هو يلحق الأمة ولا تستقر عليه الأمة، هو مطاط يكبر ويصغر، حجمه من حجم اللغة وحدوده هي حدود انتشار اللغة. وعنده هو تارةً "الوطن العثماني الكبير" وطوراً "الوطن العربي الكبير"، وفي الحالتين لا إسم له.
أمّا عند الأرسوزي فالوطن العربي لا ذكر له ولا دور أو أهمية في تعيين وتعريف المجتمع والأمة.
أمّا عفلق فوطنه هو عربي لأن أمته هي عربية وليس العكس كما يُفترض أن يكون، وهو مستعد للتخلّي عن قسم منه للأكراد ومساعدة الأكراد على "تحرير وطنهم". إن كون الأكراد مسلمين، وكونهم يتكلمون اللغة العربية، لم يشفع لهم لكي يعتبرهم عفلق مواطنين سوريين متساوين في حقوق السيادة القومية مع باقي السوريين الذين يتحدرون من أصول عرقية غير كردية. فالأصل العرقي عند عفلق يبدو أنه يتفوّق على إعتبارات الدين واللغة، لم يعد من معنى ومصداقية لكل أطروحات الدين واللغة، فالعنصر العربي هو العامل الأساس لدى أصحاب هذه القومية العربية العنصرية الوهمية.
أمّا مع سعاده فالمسألة تغيرت كلياً. صارت مسالة علمية تقيم الحد الفاصل بين الخلط والهذر وبين الكلام الجدي المبني على المعرفة والعلم. فالوطن السوري هو البيئة الطبيعية التي نشات فيها الأمة السورية.
"إن العلاقة بين الأمة والوطن غير قابلة الفصل، فالأمة بدون وطن معيّن لا معنى لها ولا تقوم شخصيتها بدونه. وهذا الوضوح في تحديد القضية القومية يُخرِج معنى الأمة من الخضوع لتأويلات تاريخية وسلالية أو دينية مغايرة لوضع الأمة ومنافية لمصالحها الحيوية الأخيرة. أن وحدة الأمة والوطن تجعلنا نتجه نحو فهم الواقع الإجتماعي الذي هو الأمة بدلاً من الضلال وراء اشكال المنطق الصرف وتراكيب الكلام. أن الترابط بين الأمة والوطن هو المبدأ الوحيد الذي تتم به وحدة الحياة. لذلك لا يمكن تصور متحد إنساني إجتماعي من غير بيئة تتم فيها وحدة الحياة والاشتراك في مقوماتها ومصالحها، وتمكن من نشوء الشخصية الإجتماعية التي هي شخصية المتحد- شخصية الأمة". (من شرح المبدأ الاساسي الثالث).
تعبير "الوطن العربي" هو خطأ شائع.
إن قول العروبيين الوهميين "بالوطن العربي" هو نسخ وتقليد لقولنا بالوطن السوري. إنه ردة فعل وليس فعلاً يعبِّر عن وعي لأهمية الوطن الفاصلة في نشوء الأمة وإكسابها شخصيتها. إنه ردة فعل على مبادىء الحزب السوري القومي الإجتماعي التي تقول بأن القضية السورية هي قضية الأمة السورية والوطن السوري، وبأن الوطن السوري هو البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية. فقبل نشوء الحزب السوري القومي سنة 1932 لم يكن يوجد تعبير "الوطن العربي" في وثائق اللغة العربية، على حد علمنا، بل تم اعتماده بعد ظهور مبادىء الحزب السوري القومي، نسخاً وتقليداً لتعبير "الوطن السوري" الوارد فيها. لكن لم ينتبه العروبيون الوهميون في تقليدهم الى أن الوطن السوري هو حقيقي موجود وإسمه سورية، أمّا "الوطن العربي" فهو وهمي وبدون إسم. العالم العربي اللسان الممتد من المحيط الأطلسي الى المحيط الهندي لا يستوفي معنى الوطن، لأنه لا يشكل بيئة طبيعية واحدة تقوم عليها دورة حياة إجتماعية اقتصادية واحدة، أي مجتمع واحد. إن تعبير "الوطن العربي" هو خطأ شائع.
يقول سعاده أن العرب قد تنبهوا في دقة ملاحظتهم السطحية الى وحدة سورية الجغرافية الطبيعية فسمّوها الهلال الخصيب، فإذا كانت المساحة الممتدة من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي وحدة جغرافية طبيعية كان يجب أن ينتبه لها العروبيون ويسمّونها شيئاً ولا يكتفون بوصفها وصفاً بالوطن العربي. إذا كان "الوطن العربي" وطناً حقيقياً، أي وحدة جغرافية طبيعية يقوم عليها مجتمع واحد، وجب أن يكون له إسم، على الأقل، مثلما هي سورية إسمأ للوطن السوري والصين إسماً للوطن الصيني والهند إسماً للوطن الهندي... الخ.
وحده العروبي شوقي خيرالله، كونه مشبع بالخلفية العلمية التي اكتسبها من كتاب "نشوء الأمم" لسعاده، قد تنبّه لضرورة وجود إسم "للوطن العربي" فسمّاه "عروبا" على وزن روسيا أو فرنسا أو المانيا... الخ. لكن "عروبا"، كونه إسماً متخيلاً لوطن متخيّل وهمي غير طبيعي، بقي إسماً من دون مسمى ولم يستعمله أحد.
فوضى وبلبلة واختلاطات.
والعروبيون الوهميون يتخبطون في مقولات الوطن والأمة والقومية تخبطاً، وذلك بسبب وهمية عقيدتهم وعدم تأسيسها على حقائق علم الإجتماع، فتصبح معهم القومية تتألف من عدة وطنيات والوطنية من عدة قوميات!!
إن القول بقومية عربية واحدة تحتوي على وطنيات لبنانية وفلسطينية وسورية وإردنية وعراقية لهو خلط وهذر وجهل للمعنى الحقيقي للقومية والوطنية على السواء. ذلك أن الوطنية هي النسبة للوطن، لا يوجد وطنية من دون وطن، والقول بعدة وطنيات للأمة الواحدة يعني القول بعدة أوطان لها، فماذا يبقى من معنى للقول بالوطن العربي الواحد؟ هل الوطن الواحد يحوي عدة أوطان؟
وإن القول بوطنية واحدة، الوطنية العراقية مثلاً، تحتوي عدة قوميات واحدة عربية وثانية كردية وثالثة أشورية لهو خلط وهذر وجهل وفوضى وإلتباس واختلاطات فكرية ومصائب وطنية وسياسية موصوفة. ذلك لأن القومية هي النسبة للقوم- الأمة، لا يوجد قومية من غير أمة، والقول بعدة قوميات في الوطنية الواحدة يعني القول بعدة أمم فيها، والقول بعدة أمم في وطن عراقي واحد، أو وطن سوري واحد، ينسف القول بأمة عربية واحدة في وطن عربي واحد!!
وتكر سلسلة المهازل والبلبلة لدرجة الإبداع حيث يقولون بوطن عربي واحد ولا يقولون بوطنية عربية واحدة له!! وطن بدون وطنية!! نعم، إن العروبيين الوهميين لا يقولون بالوطنية العربية، إن الوطنية العربية تعبير لم يجر على لسانهم أبداً رغم قولهم بالوطن العربي الواحد! أنه إبداع في الفوضى والبلبلة والإختلاطات الفكرية ليس بعده إبداع: وطن عربي دون وطنية عربية!!
أراينا الآن لماذا شنَّ سعاده حملته على هذا النوع التعيس من العروبة، ولماذا قال عنها أنها وهمية ونيورجعية وممخرقة وزائفة ومرض نفسي شوّه العقل السوري؟؟ أراينا لماذا وصف دعاة العروبة الوهمية "بالواغلين على المواضيع الإجتماعية والسياسية"؟؟
ثانياً: مظاهر وأفكار الواقع العروبي
سنرى الآن كيف تسرّبت هذه الفوضى وهذه البلبلة والإختلاطات الفكرية وغزت الحزب بدل أن يحصل العكس، أي بدل أن تنزرع المفاهيم العلمية الصحيحة التي يحملها الحزب في أوساط العروبيين الوهميين فتصير عروبتهم واقعية وصحيحة.
سأتناول الآن ثلاثة نماذج، ثلاثة إسماء لسوريين قوميين إجتماعيين لهم مساهمات وكتابات في العروبة، وسأبيّن أنها أقرب الى العروبة الوهمية منها الى العروبة السورية القومية الإجتماعية الواقعية.
من ساذكرهم هم مناضلون سوريون قوميون لهم إنجازاتهم وتضحياتهم وبصماتهم وأثرهم الطيب في الحزب وتاريخه، وذكري لهم لا يجب أن يُفسَّر أنه موقفٌ سلبيٌ منهم أو أنه إنتقاصٌ من جهادهم وتضحياتهم. لهم إحترامي وحبي الأكيد، ولكن هذا لا يمنعني من مناقشة أفكارهم العروبية ومقارنتها مع العروبة الواقعية التي قال بها وشرحها سعاده.
1 – عصام المحايري
يعتقد البعض ويقولون أن عصام المحايري يُعتبر في الحزب، بعد استشهاد الزعيم، أكثر "المتمكنين" من شرح عروبة الحزب الواقعية، وكأنّ هذه العروبة هي شيء صعب وعويص ويلزمه لشرحه أصحاب إمكانيات مميزة واستثنائية! وكأن هذه العروبة الواقعية هي شيء عسير الفهم وعصيّ على بقية المسؤولين الثقافيين والإعلاميين في الحزب، فضلاً عن بقية القوميين والمواطنين العاديين! ولا شك في أن هذا الإنطباع هو خاطئ وغير صحيح، فالعروبة الواقعية هي "واقعية" وواضحة وسهلة الفهم وليس فيها عقد وأحاجي ولا تحتاج لإختصاصيين لشرحها لعامة الناس.
لكنني رأيت في كتابات المحايري نموذجاً عن المبالغة والمزايدة على عروبة العروبيين الوهميين، والإستغراق في كلام يخلط القومي بالعربي مما يحيط عروبة سعاده الواقعية بالغموض والإلتباس بدلاً من الوضوح والتبسيط.
ففي خطاب مفتوح لأديب الشيشكلي سنة 1953، أي بعد استشهاد سعاده بأربع سنوات، يبدأ المحايري بداية رصينة مقبولة في تعريف العروبة الواقعية الحقيقية ويقول: "العروبة في حقيقتها شعور قوي طاغ بتساند أجزاء العالم العربي ورغبة عميقة في ضرورة توحيد إتجاهاته وتأمين تلاحم قواه وتضافر إمكاناته، ولا معنى للعروبة وراء ذلك". ولكنه بعد ثلاثة أسطر فقط من الخطاب المفتوح سرعان ما يخلط القومي بالعربي ويصوِّب على الإنكماش اللبناني دفاعاً عن الإنفلاش العروبي، مع أن الإثنين يلعبان نفس الدور في تفريق ما جعلته الطبيعة واحداً ومحاولة جمع ما جعلته الطبيعة متفرقاً، حسب قول سعاده، ويصف العروبة "بالإحساس القومي النامي الذي لا ينكره أي مكابر".
ثم ينصرف عصام لوصف ما سمّاه "شعور سعاده العربي المتأجج"، ويحشد لذلك ما استطاع من عبارات اللهفة القلبية والمحبة في توصيف مسألة سياسية لا علاقة لها بهذه العواطف أبداً، يقول:
"إن شعور سعاده العربي المتأجج هو شعور واعي مسؤول مدرك قوي عنيف جارف تعبيراً عمّا يكنّه الفؤاد وينبض به القلب ويمتليء منه الفكر من محبة شاملة للشقيق وعالم الأشقاء، وتحسس مرهف دقيق بمساعدة الأخوة العربية وخدمتها وتنميتها، وتفكير واعي بوضع النفس وقواها وإمكاناتها بعد إطلاقها الى أقصى مداها وفعاليتها...".
وبعد وصفه العروبة "بالإحساس القومي النامي" يستمر عصام في خلط القومي بالعربي بما يشبه التوسّل للتقرب من العروبيين الوهميين مستعملاً عبارات مثل: "الجبهة العربية القومية الفعالة".
هنا يبدو المحايري كمن لا يعرف أن الصفة القومية تُطلق فقط على سورية وليس على الجبهة العربية. هناك رسالة من سعاده الى الرفيق صلاح الدين تاريخ 11-12-1937 يقول له فيها أن الجبهة العربية هي قضية سياسية لا قضية قومية، يقول:
"للحزب قضية واحدة هي قضية القومية السورية، أمّا مسألة الجامعة العربية فهي من المسائل التي يريد الحزب أن تكون سورية مستعدة للتعاون فيها مع الأقطار العربية الأخرى التي يهمها إيجاد هذه الجبهة والإشتراك فيها، وبالتالي تكون قضية سياسية لا قضية قومية".
يمكن أن تكون رسالة سعاده الى الرفيق صلاح الدين، ما كانت قد نُشِرت بعد سنة 1953، لكن المحاضرات العشر كانت قد انتشرت ولا بد أن المحايري قد قرأ فيها "إن إيجاد جبهة من أمم العالم العربي تكون سداً منيعاً ضد المطامع الأجنبية والاستعمارية وقوة يكون لها وزن كبير في إقرار المسائل السياسية الكبرى، هو جزء متمم لغاية الحزب السياسية من الوجهة الخارجية". (المحاضرة العاشرة).
إنها ليست مبدأً من مبادئ الحزب الأساسية أو الإصلاحية، بل هي مادة في غاية الحزب السياسية من الوجهة الخارجية. ولا بد أنه كان قد قرأ شروح سعاده عن معنى عروبة الأمة السورية ومعنى كون الأمة السورية هي أمة عربية من ضمن شرحه للمبدأ الأساسي الرابع حيث قال:
"لا ينافي هذا المبدأ مطلقاً أن تكون الأمة السورية هي إحدى الأمم العربية، كما أن كون الأمة السورية أمة عربية (أي في العالم العربي) لا ينافي أنها أمة تامة لها من السيادة المطلقة على نفسها ووطنها ولها بالتالي قضية قومية قائمة بذاتها مستقلة تمام الإستقلال عن أية قضية أخرى".
والمحايري يتطور عروبياً، فها هو سنة 1985 وفي مقالة "العروبة كيان حضاري" لم يعد يميِّز بين العروبة الواقعية الحقيقية والعروبة الوهمية الزائفة. لقد صارت العروبة عنده عروبة واحدة مطلقة من أي تعيين وتحديد، وصار هو يتكلم عن مقولات جديدة ويصف العروبة بإستعمال عبارات صالحة لوصف الأمة الواحدة، يقول مثلاً:
"العروبة تجاوزت حدود كونها إحدى العوالم الحضارية الكبرى كعالم الحضارة الأنكلو أميركي أو عالم الحضارة اللاتينية أو الهندوكية لتغدو إشتراكاً في مصالح حياتية إقتصادية إجتماعية ثقافية روحية تكاد تبلغ مصالح الوجود لتصل بالفعل وفي سياق الصراع لصيانة الوجود أن تصبح مشاركة في المصير".
ونحن نعرف أن الأمة هي جماعة موحّدة المصالح موحدة المصير. فعندما تكون العروبة إشتراكاً في مصالح حياتية إقتصادية ثقافية روحية تكاد تبلغ مصالح الوجود لتصل بالفعل أن تصبح مشاركة في المصير، حسب المحايري، فمعناه أن هذه العروبة هي عروبة الأمة العربية الواحدة.
ويتابع عصام في خلط القومي بالعربي ويورد نصوصاً لا معنى واحداً واضحاً لها، مثل: "وأكدنا على رسالة سورية لعالمها العربي التي هي رسالة التوحيد والنهوض في وعي قومي تاريخي..." مما لا نستطيع أن نعرف ماذا يقصد بالوعي القومي التاريخي أهو وعي قومي سوري أم وعي قومي عربي.
أمّا في مقالته "عروبة لبنان" (30-3-1985- مجلة صباح الخير) فيتبنى مقولة شوقي خيرالله ويقول "الهجرة الفينيقية القادمة من حضرموت" ويطلق عبارات وشعارات غوغائية رائجة مثل: "لا يمكن أن يكون لبنان حيادياً، إنه إن لم يكن في معركة العروبة يكون معبراً للعدو في معركته ضد العروبة"، كأن معركتنا مع العدو هي معركة عروبة وليست معركة وطن مسلوب، وكأن العدو يحاربنا في عروبتنا وليس في وطننا.
أمّا في سدني أوستراليا سنة 1987 فيتبنى عصام المحايري بشكل صريح مقولة العروبيين الوهميين ويستعمل عبارات "الوحدة العربية ووحدة العرب". ثم يقترب سنة 1997 أكثر وأكثر من طلب "إستعادة أمجاد العرب" ويدعو الى جعل شعارنا ما زعم هو أن سعاده قاله، وهو: "نحن لا نقول بالوحدة العربية بل نعمل لها". وها هو في مقالة "العروبة بين دعاتها وصنّاعها" (جريدة البناء 22-11-1997) يزايد على ساطع الحصري ويبزّه في عروبته الوهمية الخيالية ويقول:
"وهكذا تنتقل العروبة من الموازنة التي وضعها فيها المرحوم الاستاذ ساطع الحصري في كتابه (العروبة بين دعاتها وخصومها) الى موازنة تفرضها إعادة نظر جدية صادقة بإتجاه استراتيجية تصنع للعروبة أمجادها هي الموازنة القائمة على العروبة بين دعاتها وصنّاعها، فنجعل شعارنا ما قاله سعاده العظيم: نحن لا نقول بالوحدة العربية بل نعمل لها. فنتائج الفعل غير نتائج القول".
لقد أوردنا ماذا كان رأي سعاده في مقولات الوحدة العربية ووحدة العرب وإستعادة أمجاد العرب، وذلك في القسم الأول من هذا البحث، ولن نعيده هنا، ولن نسأل المحايري عن الجهة التي يجب عليها إعادة النظر بجدية بإتجاه استراتيجية تصنع للعروبة أمجادها، ولكننا سنتوقف عند ما نسبه عصام المحايري الى سعاده من قول بأننا لا نقول بالوحدة العربية بل نعمل لها، ونسأل:
1 – هل صحيح أن سعاده قال ذلك؟ أين؟ متى؟
2 – إذا كنا نعمل للوحدة العربية فلماذا لا نقول بها؟
3 – عن أية وحدة نحن نعمل ولا نقول؟ هل هي الجبهة العربية الواحدة؟ طبعاً لا، لأننا نحن نعمل ونقول للجبهة العربية الواحدة وليس فقط نعمل دون أن نقول. فالوحدة العربية التي نعمل لها ولا نقول بها، هي إذاً شيء غير الجبهة العربية، فما هو هذا الشيء وما هي هذه الوحدة؟ لأية وحدة عربية نحن نعمل دون أن نقول؟ إن عصام المحايري لا يجيبنا ولا يقول لنا. السبب الذي يمنع عصام من أن يجيبنا ويقول لنا هو بكل بساطة: إن سعاده لم يقل ذلك أبداً!
2 – توفيق مهنا
أريد أن إعيد القول هنا أنني لا أنتقد الأمين توفيق مهنا ولا أقلل من قيمة إنتاجه وجهاده في الحزب، وإنني إذ أذكر إسمه فليس لتناوله شخصياً، بل لتناول "السياسة الإعلامية" التي كانت مقررة مركزياً في الحزب وكان الأمين توفيق ينفذها.
لمهنّا دراسة طويلة منشورة في كل من مجلة سوراقيا وكتاب صبحي فريح "العروبة في الحزب السوري القومي الإجتماعي- نصوص لأنطون سعاده"، دون ذكر تاريخها، لكنها كُتِبت قبل سنة 2002 ردّاً على أحد خصوم الحزب.
الأمين مهنّا كان كالعادة موفقاً جداً في ردّه، ولكن المبالغة في تحميل العقيدة القومية الإجتماعية أفكاراً ليس منها وليست لها، والحرص على التقرّب من العروبة الوهمية واستعمال عباراتها ومقولاتها، كما كان ولا يزال شائعاً في الإعلام الحزبي الرسمي، كان ظاهراً ونافراً فيها، وهذه بعض الأمثلة:
1 – هذا زكي قنصل وليس سعاده
لسعاده مقالته الشهيرة "الشهرة على حساب الحزب السوري القومي الإجتماعي" (الأعمال الكاملة ج4 صفحة 90). في هذه المقالة يورِد سعاده نصّاً كتبه زكي قنصل، تمهيداً للرد عليه، وهذا النص هو:
"إن أفضل السبل هي أن ينظم كل قطر من الأقطار العربية شؤونه الداخلية ثم يهتم بعقد محالفات مع غيره تكون نواة إتحاد عربي قد يصير مع الزمن إذا تآلفت الثقافات وتقاربت العقليات وتشابكت المصالح وحدة شاملة أو امبراطورية بالمعنى الذي تريد...".
إن أي قومي إجتماعي مبتدئ إذا قرأ هذا النصّ يعرف أنه ليس لسعاده، ونحن متأكدين أن الأمين مهنا يعرف ذلك، ولكنه نسب كلام زكي قنصل لسعاده واستشهد به على أساس أنه كلام لسعاده. (صفحة 334).
أن ينسب أحدنا الى سعاده قولاً ليس له بل هو لأحد الصغار الذين عرّاهم سعاده وهاجمهم بأفكارهم وأخلاقهم معاً، فإنه مما لا يمكننا تبريره وفهم كيف لمهنا أن يقدم عليه إلّا أن ذلك كان تماشياً مع ما كان شائعاً في مركز الحزب، وهو التفتيش عن أي شيء، وكيفما كان، بدون رويّة ولا تحقيق أو تدقيق، لكي يقول لنا أن سعاده يقول ويعمل "للإتحاد العربي وللوحدة الشاملة" حسب تعبير زكي قنصل المنسوب زوراً الى سعاده.
2 – تعديل غاية الحزب.
والأمين مهنّا يذهب بعيدأ جداً في الدعوة للعروبة الوهمية، لدرجة القول والقبول بتعديل غاية الحزب المنصوص عنها في الدستور. يقول:
"أن دعوة سعاده المبكرة الى قيام الجبهة العربية في الثلاثينات والتي تطورت الى الدعوة لقيام نواة إتحادية عربية في الأربعينات كانت السباقة في العالم العربي".
إن أسلوب المديح والتزيين الكلامي (مبكرة- سباقة) لا يكفي لحجب خطورة ما يعنيه هذا القول النافر. لم يقل لنا مهنا كيف تطورت دعوة سعاده من الجبهة العربية الى النواة الإتحادية العربية. هل يعني أن تطوراً طرأ وأوجب تغيير غاية الحزب الواردة في دستوره، أي تعديل الدستور لناحية غاية الحزب؟ وما هو هذا التطور المستجد الذي أوجب هذا التعديل
3 - القوميون الإجتماعيون يتهجمون!
يقول مهنا بأن حملات التضليل والتشويه المفبركة ضد عروبة الحزب "قد دفعت بعض القوميين الى التهجم على الفكرة العروبية ودعاتها في مرحلة ما...". إن هذا القول هو بعيد جداً عن الحقيقة، فالقوميون كلهم وليس بعضهم فقط، وفي كل المراحل وليس في مرحلة ما فقط، لم يتهجموا على أحد بل كانوا حرباً لا هوادة فيها ليس على الفكرة العروبية ودعاتها هكذا بشكل مطلق وكأنها فكرة واحدة جيدة وممتازة، بل كانوا حرباً على الفكرة العروبية الوهمية الزائفة المغررة بعقول وعواطف الشباب السوري والتي أقعدته عن العمل لما هو واقعي وصحيح. وأن القوميين الإجتماعيين كلهم وفي كل المراحل لم يحيدوا عن عقيدتهم وعروبتهم الصحيحة وفهمهم الصحيح الواقعي الموضوعي لمركز أمتهم السورية في العالم العربي ولمعنى كون أمتهم السورية أمة عربية.
إن هذا الأسلوب الإعلامي لا ينفع في التعبير عن حقيقة النهضة القومية الإجتماعية التي تحارب الفكر الفاسد للإنتصار عليه لا للتعايش معه، والتي تريد قتل المساوىء وغلبة الأفكار العتيقة الرجعية والنيورجعية التي غررت بشبابنا بواسطة أفكار بعيدة عن حقيقته وعن مصالح حياته الحقيقية. إن مهاجمة ومحاربة الأفكار العروبية الوهمية الخيالية الفاسدة هو ضرورة لا بد منها لتقديم وتوضيح وترسيخ جديد الفكرة السورية القومية الإجتماعية وعروبتها الصحيحة والسليمة.
4 – وقف الصراع الفكري؟
ومهنّا يدعو لوقف الصراع الفكري ويساوي بينه وبين حالة العداء والكره المتبادلة، يقول:
"إن حالة العداء والكره المتبادلة بين اصحاب العقائد القومية بكل مدارسهم كانت نتاج صراع إيديولوجي غلّب الصراع الفكري والعقائدي على ما عداه في مرحلة تاريخية معينة، وكانت من نتائج ضعف الأمة وتبعثر قواها الحية، وهزّ حصانتها الداخلية في وجه أعدائها، وتلك المرحلة نأمل أن تكون صفحاتها باتت جزء من أرشيف التاريخ العربي لا صورة عن مستقبله".
ما معنى القول أن الصراع الإيديولوجي غلّب الصراع الفكري والعقائدي على ما عداه؟ وما الخطأ في تغليب الصراع الفكري على ما عداه؟ وأي صراع عداه هو المطلوب؟ أم أن المطلوب هو وقف الصراع بكل أشكاله، الفكري وغير الفكري؟
إن قول مهنا هذا هو دعوة لوقف الصراع الفكري ودعوة للتعايش بين العقائد القومية، صحيحها وفاسدها، على أساس أنها جميعها هي قوى حيّة يجب أن لا تتبعثر. وهو قول لا يتفق ابداً مع قول سعاده في المحاضرة العاشرة:
"... والعمل لإيضاح فكرة الأمة لا يزال قائماً، ولا يزال العراك قائماً في هذا الوطن على تأسيس فكرة الأمة، وسيظل العراك قائماً الى أن يجد المجموع السوري كله نفسه بمفهوم ومدلول واحد يجمعه بشعور واحد بنفسيته، بحقيقته، بإرادته ومقاصده العليا في الحياة".
إن حالة العداء ليست حالة طبيعية ولا يجب أن تنشأ وتبقى، لأن الصراع الفكري لا يجب أن يؤدي الى حالة عداء. إن الصراع الفكري ليس عداءً بل تعبيراً عن الحرية بأجمل وأقوى معانيها ومظاهرها، "فالحرية صراع"، يقول سعاده. ويقول سعاده أيضاً أننا حاربنا العروبة الوهمية الزائفة لنقيم العروبة الحقيقية الصحيحة.
إن مهاجمة ومحاربة الأفكار العروبية الوهمية الخيالية الفاسدة هو ضرورة لا بد منها لتقديم وتوضيح وترسيخ جديد الفكرة السورية القومية الإجتماعية وعروبتها الصحيحة والسليمة.
3 – إنعام رعد.
نعتقد أن كلام الأمين مهنّا عن "تطور" دعوة سعاده من الجبهة العربية الى الإتحادية العربية، مصدره كلام الأمين الراحل إنعام رعد عن ذلك عندما قال: "ومفهوم سعاده للجبهة العربية هو مفهوم الصيغة في السبعينات أوسع نطاقاً منها في الثلاثينات بعامل نمو هذه الروابط". (قراءة جديدة للمحاضرات العشر- صفحة 12)؟
لكن كلام الأمين مهنّا كان أوضح وأكثر جرأة وإفصاحاً، فبالنسبة لمهنا: "إن دعوة سعاده المبكرة الى قيام الجبهة العربية في الثلاثينات، والتي تطورت الى الدعوة لقيام نواة إتحادية عربية في الأربعينات، كانت سبّاقة في العالم العربي".
إن تعبير إنعام رعد "الصيغة في السبعينات أوسع نطاقاً منها في الثلاثينات" تجاوزه توفيق مهنا بثلاثة أمور هي:
1 – "أوسع نطاقاً" عند رعد تصبح "تطورت" عند مهنا.
2 – النطاق الأوسع غير المحدد (أية صيغة) عند رعد، تحدد وصار "نواة إتحادية عربية" عند مهنا.
3 – أربعون سنة عند رعد (من الثلاثينات الى السبعينات)، صارت فقط عشر سنوات عند مهنا (من الثلاثينات الى الأربعينات). سبعينات رعد هي تاريخ قراءته الجديدة للمحاضرات العشر. أمّا أربعينات مهنا فهي تاريخ المذكرة التي قدّمها وفد إحدى منفذيات الحزب في فلسطين الى مؤتمر مشاورات الإسكندرية التي سبقت تأسيس الجامعة العربية سنة 1944، هذه المذكرة التي ورد فيها إقتراح توحيد شؤون الثقافة والدفاع والخارجية فيما بين بيئات العالم العربي الطبيعية. وقد إعتبرها مهنا أنها الحد الفاصل بين الجبهة التي دعا إليها سعاده، والنواة الإتحادية التي دعا إليها "الحزب" في الإسكندرية. نحن الآن في سنة 2020، أي على مسافة تسعين سنة من 1932 تاريخ دعوة سعاده في غاية الحزب، فكيف يجب أن تصبح غاية الحزب اليوم؟
لن نطيل كثيراً في قراءة عروبة إنعام رعد، لكننا نلاحظ بقوة أن رعد لا يستعمل ولا يذكر عبارات الأمة السورية والوطن السوري، إلّا نادراً، بل تراه يحوم حولها ويدور مستعملاً عبارات "مقبولة" من الخصوم العقائديين مثل: مدانا الحيوي، مدانا المجتمعي، الهلال الخصيب، بيئتنا القومية، الجبهة الشرقية، المنطقة. ورعد حريص جداً على إبراز "أية صيغة للإتحاد العربي كمطلب عام"، حتى أنه يقول في الصفحة 51 من كتابه "حرب التحرير القومية" ما يلي:
"إن وعينا لروابطنا المجتمعية القومية الطبيعية مرتبط بالضرورة بوعينا لروابطنا العربية. وأن دعوتنا لتوحيد مدانا المجتمعي والإستراتيجي تتم على أرضية اللقاء العربي العام ومن ضمنه".
والمواطن هنا يحق له أن يتساءل: ما دام وعينا لروابطنا القومية يرتبط بالضرورة بوعينا لروابطنا العربية، فما الفرق يا ترى بين روابطنا القومية وروابطنا العربية؟ هذه روابطنا وتلك روابطنا، فلماذا التمسّك برباطنا وماذا يمنع أن نلتحق برباط غيرنا ونرتاح من هذا التعميم وعدم التمييز؟
ونحن أيضاً نسأل: هل روابطنا القومية السورية هي حقاً مرتبطة بالضرورة بعروبتنا، كما يقول إنعام رعد، أم أن عروبتنا هي التي يجب أن تكون مرتبطة بضرورة وعينا القومي السوري أولاً، كما يقول سعاده؟
إن سعاده قد كرر وشدد ونبّه مرات عديدة وفي مناسبات كثيرة بأن سورية يجب أن تكون هي شيئاً أولاً كي تستطيع تقديم شيء للعالم العربي، أي أن القومية السورية هي ضرورة لعروبتنا، ولكنه ولا مرة قال أن عروبتنا هي ضرورة لوعينا القومي السوري.
أمّا في الصفحة 52 من نفس الكتاب فيقول رعد:
"إن توكيدنا على إرتباط حرب التحرير بالوحدة الطبيعية هو من ضمن الروابط العربية الأساسية، وهو بلورة علمية سليمة للمطالب الإتحادية العربية". ثم يتابع متكلماً عن "حلف سياسي إقتصادي عسكري تتطور روابطه النامية والمتلاحقة نحو أية صيغة إتحادية وفق إطّراد التطورات الإجتماعية".
أن الكلام على "أية صيغة إتحادية" والتساهل المجاني بالعقيدة القومية السورية هو الذي أدى بإنعام رعد الى الكلام على تطوير غاية الحزب، أي تعديلها، أي تغييرها.
إنعام رعد وتوفيق مهنّا من بعده، سيقول أن كل ما يشرحه عن عروبة الحزب، أي عن الإتحادية العربية وفق أية صيغة، هو شرح أمين وصحيح لعقيدة سعاده ومبادئه ونظرته، وليس فيه أي خروج أو إنحراف أو مبالغات. فلماذا إذاً يقول بتطوير، أي تعديل وإبدال وتغيير لغاية الحزب في ما خصّ العروبة؟؟!!
"ومفهوم سعاده للجبهة العربية هو مفهوم الصيغة في السبعينات أوسع نطاقاً منها في الثلاثينات بعامل نمو هذه الروابط". (رعد)
"إن دعوة سعاده المبكرة الى قيام الجبهة العربية في الثلاثينات، والتي تطورت الى الدعوة لقيام نواة إتحادية عربية في الأربعينات، كانت سبّاقة في العالم العربي". (مهنّا)
4 – ترديدة "سعاده سأل نفسه وسعاده أجاب نفسه"
بعيداً عن إسماء رفقاء معينين، هناك عدد كبير جداً من الرفقاء يتناقلون "خبرية" وهمية غير صحيحة وينسبون لسعاده ويلصقون به قولاً لم يقله أبداً.
إن ثمة ميل للمزايدة والمبالغة في تحميل سعاده ما لم يقله وما لم يعنيه. إن هناك خرافة صارت شائعة يرددها كثيرون عندما يريدون المزايدة على عروبة العروبيين الوهميين، ويقولون أن سعاده يقول بأكثر من الأمة العربية، إنه يقول في كتابه نشوء الأمم بأن العالم كله يمكن له أن يصبح أمة واحدة.
الآن بعد ثمانين سنة من صدور كتاب نشوء الأمم لا زال كثير من القوميين الإجتماعيين يسيئون فهم عبارة سعاده: "من يدري هل يقدر للإنسانية أن تصبح مجتمعاً واحداً في مستقبل العصور" ويؤولونها عكس معناها الحقيقي. ويقولون: "سعاده سأل نفسه هل يصبح العالم أمة واحدة في المستقبل، فأجاب نفسه: من يدري". أما الحقيقة فهي أن سعاده لم يسأل ولم يجب، وهو بريء من هذا التأويل اللجوج الذي يريد أن يقول: صحيح أننا اليوم أمة سورية تامة ولكن يمكن أن نصبح أمة عربية في المستقبل، وبما يوحي أن هذا المستقبل هو مستقبل قريب.
لقد وردت هذه العبارة في كتاب نشوء الأمم في مطلع الفصل السادس- نشوء الدولة وتطورها، يقول هناك:
"ولقد تكلمنا على الإجتماع البشري وأشرنا الى انه عريق في القدم وأنه صفة بشرية عامة، حتى أن ما قلناه في هذا الصدد ليحمل على الاعتقاد أن إجتماعية الانسان شيوعية بلا حدود أو قيود، والواقع غير ذلك، فالمجتمع الانساني ليس الإنسانية مجتمعة، ومن يدري هل يقدر للإنسانية أن تصير مجتمعا واحدا في مستقبل العصور".
واضح أن سعاده لم يكن يتكلم على العروبة ولا عن الأمة والقومية، أنه كان يتابع شروحه العلمية حول معنى "الصفة البشرية العامة" للإجتماع البشري، تمهيداً للدخول في معنى الدولة وواقع الدولة. كان سعاده يوضح ما يعنيه بعراقة الإجتماع البشري في القدم، وما يعنيه بالقول أن الإجتماع هو صفة بشرية عامة، كي لا نسيء فهم المقصود من عبارة "صفة بشرية عامة" وكي لا نظن أن المجتمع الإنساني هو الإنسانية مجتمعة، أي كي لا نظن أن الإنسانية مجتمع واحد. يريدنا أن نفهم عبارته "صفة بشرية عامة" على أنها تعني بأنه حيثما وجدنا الإنسان وجدناه بحالة إجتماعية، وأن إجتماعية الإنسان تسري على البشر عامةً بكل أجناسهم، دون أن يعني ذلك أن الإسانية تشكِّل مجتمعاً واحداً.
سعاده يريدنا أن نعرف أن "الواقع غير ذلك"، أي أن الواقع ليس مجتمعاً إنسانيا واحداً، وأنه لا أحد يستطيع القول أو يدري إذا كانت الإنسانية سيقدر لها أن تصير مجتمعاً واحداً في مستقبل العصور. (والعصور هي قياس الأزمنة الطبيعية، كأن نقول العصر الجليدي أو العصر الحجري أو المعدني . وعبارة مستقبل العصور تعني مئات الآلاف من السنين المقبلة).
فالفرق كبير جداً، لحد التناقض، بين قول سعاده أن واقع الإنسانية هو مجتمعات وليس مجتمعاً واحداً، ومن يدري إذا كان سيقدَّر للإنسانية ان تصبح مجتمعاً واحداً في مستقبل العصور، وبين تأويلنا لهذا القول بأنه يعني أن العالم قد يصبح أمة واحدة، وأن ذلك يمكن أن يحدث... و قريباً. إننا في هذه المناسبة نهيب بجميع الرفقاء السوريين القوميين الإجتماعيين درس سعاده بهدوء والكف عن الترديد الببغائي للخرافة التي تقول أن سعاده سأل نفسه وأن سعاده أجاب نفسه ولكل هذه الخبرية السخيفة, فسعاده لم يكن يتكلم عن العروبة ولم يكن يتكلم عن الأمة والقومية، وسعاده لم يكن يسأل نفسه ولم يكن يسأل أحد وكلامه لم يكن بصيغة سؤال. إنه كان يتابع شروحه العلمية حول معنى الإجتماع البشري، وبالتحديد معنى كونه صفة بشرية عامة، تمهيداً للدخول في معنى الدولة وواقع الدولة.
أعود وأكرر إحترامي لروح المرحوم إنعام رعد ولشخص كل من الأمين عصام المحايري والأمين توفيق مهنا وتقديري لهم واعترافي بجهادهم وإدراكهم للعقيدة السورية القومية الإجتماعية وعروبتها الواقعية الصحيحة. وما إنتقادي لهم ولما أعتبِرُه سوء تأويل لعروبة الحزب الحقيقية، إلّا إنتقاداً "للواقع العروبي" الذي كان ردّاً مبالغاً فيه على "الواقع اللبناني"، وإنتقاداً للمناخ العام الذي كان مهيمناً في الحزب بعد إستشهاد سعاده، والمستمر لحد اليوم.
إن ظروف إنتشار "الواقع العروبي" الحالي اليوم قد تغيرت الى الأحسن والأسهل. اليوم صار تمرير الإنحراف، بحكم النظام، عملية صعبة جداً، وصار "الإشراك في العقيدة"، إذا جاز التعبير، عملية مستحيلة. فالمحاضرات العشر صارت موجودة ومتوفرة، وتراث سعاده صار كله موجوداً ومتوفراً، ولا يستطيع أحد الإلتفاف عليه أو تغطيته أو إخفاءه. وإن النظام، وحكمه، فسعاده قد أوضحه في المحاضرة الأولى وهو يعني نظام الفكر والنهج أولاً، ثم نظام الشكل الذي يحقق الفكر والنهج، وأن "النظام هو شيء عميق جداً في الحياة" وهو ليس مجرد طاعة وإمتثال لما هو غير صحيح.