الأمة الحية، الأمة المنيعة، الأمة التي تستطيع أن تحيا حياة حرّة عزيزة هي الأمة التي تكون قادرة على دفع الآفات والأمراض والتقاليد البالية التي تعرقل سيرها وتقدمها.. والأمة التي لا تمتلك القدرة على دفع كل ما يضرّ بها من آفات وأمراض هي أمة مصابة بميكروب فتّاك علىى المستويات الاجتماعية والسياسية والنفسية. وكما يمكن لأي فيروس أن يقضي على جسم الإنسان الذي يفتقد للمناعة، كذلك الأمر فالأمة التي تفقد مناعتها فإنها ستتعرض للإنحلال وكل ما حولها يستطيع أن يلتهمها وتكون مجرّد أمة مستعبَدة وأمة مستهلكة للأمم الأخرى.
والأمة السورية التي رضخت للإستعمار الغربي الذي قَطَّعَ أوصالَها في جريمةِ سايكس بيكو وهي في حالةِ ذهولٍ وتضعضعٍ وضياعٍ بعدَ قرونٍ طويلةٍ من صراعِها الحضاريِ ضدَ بربريةِ السلاجقةِ والصليبيينَ والمماليكِ والمغولِ والعثمانيينَ، تعرّض جهاز مناعتها للعطب وأصبحت في حالة ضعف وعجز غير قادرة على مقاومة الأمراض السياسية والإجتماعية والنفسية وكل القضايا الرجعية الفاسدة والميكروبات الفتّاكة من عصبيات مذهبية ومآرب خصوصية وانحطاط مناقبي وفقدان للثقة وغيرها من المثالب التي تشوّه حقيقة نفسية الأمة الأصلية. فحالة الأمة اليوم هي حالة الوهن والتفكك والجوع واليأس والانهيار وإمكانية العودة إلى عصور الانحطاط والجاهليات البائدة ..
تخبط الأمة السورية:
نعم، إنّ الأمة السورية التي كانت في الماضي "معلّمة وهادية للأمم" تتخبط اليوم في ظلمات الجهل والتكفير والتوحّش والموبقات وتغرق في مستنقعات التخلف والتعصب والتقوقع والإنعزال وكل أشكال التفسخ والإنقسامات وتحاول ان تنقذ مصيرها بعد وقوعها فريسة هيّنة للأمم المتسلِّطة المتغطرسة الظالمة وللصهيونية المجرّمة التي تغتصب الأرض وتعمِّم الفتن والأباطيل وثقافة الحقد والإجرام والإرهاب والتخريب في مجتمعنا... هذه الأمة المُنهكّة تتعرض اليوم لحرب كونية مُدمِّرة وتواجه أخطاراً خارجية وداخلية ووحوش همجية جاهلية مفترسة ترتكب الأعمال الإجرامية والمجازر البشعة والتدمير والنهب والإغتصاب وتنخر في جسم الأمة بأحقادها وبربريتها وتشوّهاتها العقلية والروحية وتمعن في تقسيمه وتقطيعه إلى أشلاء متناثرة .
وأمل الأمة الوحيد لكي تنجو من الهلاك هو ان تتجرع الدواء الكفيل بإستعادة مناعتها وجعلها قادرة على مقاومة الأوبئة القاتلة والخلايا السرطانية. هذا العلاج الشافي وصفه طبيب إختصاصي ماهر استطاع ان يشخًص عللها وحالتها النفسية المَرَضية فبادر بدافع واجبه القومي والإنساني إلى وصف العلاج ودعوة الأمة كلها إلى تجرعه وإلا فمصيرها الموت المحتّم.
من هو هذا الطبيب؟
هو الزعيم. رجل عبقري عميق الفهم والمعرفة. غاص في ميادين وعلوم شتى وتخصّصَ في فهم الجماعات والمسألة القومية ومعنى الأمة وكيفية نشؤها. حلّلَ الواقع الإجتماعي لأمته السورية بكل علاقاته وتعقيداته ودرسَ بموضوعية وعلمية تركيبة هذا الواقع ومشكلاته وظواهره.. كما درس تاريخ الأمة بكل حقبه واطلع على ما يتضمن هذا التاريخ الغني من إرث صراعي بطولي ومن مآثر ثقافية وحضارية وأساطير فلسفية تعبّرُ عن سمو تفكيرنا ونفسيتنا الجميلة الطامحة إلى التفوق والإبداع. وضع مؤلفات عديدة وجاء بفلسفة وجودية عميقة تقدم نظرات جديدة في الإجتماع والسياسة والإقتصاد والأدب والفنون وفي كل ما له علاقة في حياة المجتمع وتقدمه. أرسى فلسفته الاجتماعية، التي دعاها بالمدرحية، على أساس علمي معتمداً على حقائق التاريخ والجغرافية والعلوم الإجتماعية والإنتربولوجية والأركيولوجية ومناهجها.
هذا الرجل – الطبيب عاش كلماته وجسّدَ المُثل والقيم السامية في حياته. كان عظيماً في حبه وإخلاصه لشعبه وكان هاجسه الدائم والوحيد خدمة أمته وإحداث نهضة حقيقية فيها.... لذلك كرّس حياته من أجل أمته وراح يخطط لها حياة جديدة راقية مدفوعاً برؤية مثالية واضحة تعكس طموحه الكبير وآماله السامية، رؤية مشبعة بحب الحياة وجمالها وممتلئة بنور المحبة الصافية، وهي الوصول بأمته إلى "حياة أجود في عالم أجمل وقيم أعلى."[1]
وهذا الطبيب كان صادقاً في مهمته ورسالته المناقبية. تعرّض في حياته لتجارب قاسية وصعوبات كبيرة وآلام عظيمة ولكنه لم ييأس ولم يتراجع لأن ثقته بنفسه وبشعبه كانت كبيرة فواجه التحديات بإرادة صلبة وعمل متواصل وعطاء سخي فكراً وممارسة وإبداعاً إلى آخر لحظة من حياته التي توّجها بقيمة الفداء وهو يردد قبل لحظات من إعدامه: "انا لا يهمني كيف أموت بل من أجل ماذا أموت" وكان استشهاده في صبيحة الثامن من تموز تأكيداً على قوله الشهير: "ان الحياة كلها وقفة عز فقط."
وصف العلاج:
في تشخيصه للأمراض التي تفتك بجسم الأمة نتيجة فقدان سيادتها على نفسها وغياب وعيها القومي، لاحظ الطبيب الماهر حالة التشاؤم واليأس التي حلّت بها، وكتب: " لم يكن يخطر في بال أحد أنّ سورية التي تعاقبت عليها الفتوحات البربرية وقبضت عليها يد الاستعمار المنظّم، وفككتها العصبيات الدينية، وقطع الرجاء بنهوضها فساد الأخلاق وانحطاط المناقب وذهاب الثقة، تنهض من الحضيض الذي تدهورت إليه."[2]
ويضيف الطبيب:
"كان التشاؤم قد قتل العزائم وأرهق النفوس. ولم يكن ملازماً للعامة، بل تفشّى في جميع طبقات الأمة. ولعل النابهين من الأمة كانوا أشد تشاؤماً من البسطاء لأنهم أقدر على إدراك الوهن العام وكثرة المشاكل السياسية والاجتماعية، ووصل هذا التشاؤم فيهم إلى درجة اليأس الكلي."[3]
ووسط هذا اليأس وهذه الأمراض الاجتماعية ــــ السياسية، قرر الطبيب أن يصف علاجاً شافياً يستعيد مناعة الأمة ويعيدها إلى طبيعتها الخلاّقة وإلى دورها الإبداعي وفعلها الحضاري. وهذا العلاج الشافي يشمل مجموعة من القواعد الأساسية والإصلاحية الناجعة والمفيدة ليقظة الأمة ونهوضها وسلامتها وحيوتها الدائمة ويؤدي إلى تقوية مناعتها وجعلها صاحبة السيادة على نفسها ووطنها.
العلاج الشافي:
سنورد في مايلي بعض النقاط المستمدة من العلاج الذي وصفه الطبيب للأمة لإستعادة مناعتها:
1- وحدة الأمة وعصبيتها:
مناعة الأمة، برأي الطبيب، تأتي من داخل الأمة، من قوتها وفاعليتها ووحدتها الإجتماعية والروحية، من فضائلها الحضارية ومثلها العظيمة، ومن اعتصامها بعصبيتها القومية وبثقتها بنفسها وبما تمتاز به من خصائص ومواهب وقدرات. فالأمة السورية، كما يؤكد الطبيب الفيلسوف في خطابه في أول حزيران 1935، "هي أمة ممتازة بمواهبها، متفوقة بمقدرتها وغنية بخصائصها.."[4] فإذا اعتصمت هذه الأمة بوحدتها وقوميتها وبقوة إرادتها الفاعلة فهي قادرة ان تدافع عن حقها وان تحرر نفسها من السيادة الأجنبية والعوامل الخارجية المخضعة.
2- الوجدان القومي:
ومناعة الأمة تقوى بالوجدان القومي الذي يشكل أرقى ظاهرة نفسية إجتماعية في عصرنا الحالي. فالوجدان القومي هو عامل إيجابي يقّوي الآخاء القومي والإرتباط الإجتماعي ويوحِّدُ أبناء الأمة على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم وعناصرهم ويجمعهم في بوتقة قومية واحدة. ويمكن القول ان الوجدان القومي هو سلاح مناقبي للتغيير ولتحويل الوجود بالقوة إلى وجود بالفعل. هذا السلاح يُشكِّلُ قوة روحية تولِّدُ التعاون الداخلي وتدفع بأبناء الشعب الواحد للتضامن مع بعضهم في مواجهة الأخطار وفي الدفاع عن الحقوق العامة والمصالح المشتركة.
3- تقاليد قومية جديدة:
ومناعة الأمة تقوى بدفع التقاليد المتنافرة المستمدة من أنظمتنا المذهبية والمعطلة لوحدة الشعب واستبدال هذه التقاليد بتقاليد قومية جديدة تتربى عليها الأمة وتتمسك بها. وهذه العملية تستدعي الخروج من حالة فوضوية لا نظام فيها ولا قوة، إلى حالة صحيحة عنوانها النظام وشعارها القوة.
4- الاصلاح الجذري:
ومناعة الأمة تأتي من تنبه الشعب لتكاذب السياسيين النفعيين وشعوذاتهم التي طال أمرها وكلفته خسارة كبيرة وفرص ثمينة وثروات عظيمة. فالمناعة تتحقق عندما يدرك الشعب، أولاً، ان النواب الذين قامت نيابتهم على اساس العائلة والدين والنفوذ المالي والدهاء السياسي لا يمكن لهم ان يخدموا مصالح الشعب لأنهم جاءوا لخدمة منافعهم الخصوصية والعائلية والمذهبية.. وثانياً، ان النيابة الحقيقية تقوم على المبادىء والبرامج المؤسسة على مصالح الشعب وخيره.. فإذا أراد الشعب "تغيير الحال فعلاً فعليه هو أن يسعى لهذا التغيير في نفسه في تقاليده واتجاهاته الفكرية."[5] وعليه ايضاً ان يبادر إلى إجراء إصلاحات جذرية في حياته وتنقيتها من كل المثالب والمفاسد والأمراض النفسية والمناقبية والصدأ العقلي. والإصلاح الحقيقي لا يكون في تغيير الحكومات والمجالس وخلع الحلل، بل في إصلاح حالة الأمة النفسية – المناقبية وفي تغيير القضايا الرجعية الخصوصية نفسها التي هي سبب انحطاط الأمة. وهذا الإصلاح يأتي نتيجة عقيدة صحيحة موّحدة للشعب "تنشىء جيلاً جديداً ونظاماً جديداً وجمالاً جديداً."[6]
5- البطولة الواعية:
ومناعة الأمة تأتي بالتخلي عن مواقف التخاذل والخنوع والجبانة والإتكالية والإستسلام وبإعتماد نهج الصراع وممارسة البطولة المؤمنة التي ميزت شعبنا في تاريخه الطويل.. فالأمة التي ترفض الصراع ترفض الحرية ولا تنال إلا العبودية. والإنقاذ لا يكون إلا بالبطولة الواعية المنبثقة عن محبة الأرض والشعب وعن التوق لحرية المجتمع ولإنتصار قيمه العليا. يقول شهيد الثامن من تموز: "إن أزمنة مليئة بالصعاب والمحن تأتي على الأمم الحية فلا يكون لها إنقاذ منها إلا بالبطولة المؤيدة بصحة العقيدة."[7] ويقول ايضاً: "كل أمة أو دولة، إذا لم يكن لها ضمان من نفسها، من قوتها هي، فلا ضمان لها في الحياة على الاطلاق."[8]
6- العودة إلى التاريخ:
ومناعة الأمة تقوى بمعرفة تاريخها الحضاري وباستخراج دروس منه تزيل عنها أوهام الخوف والعجز والتراجع والخيانة وتقضي على عقلية الخمول والتخاذل والإستسلام والتهرب من المسؤولية والواجب وكل التعاليم الفاسدة التي انتقلت إليها من عصور الإنحطاط التي قاستها. يقول شهيد الثامن من تموز: "من أتعس حالات هذه الأمة أنها تجهل تاريخها. ولو عرفت تاريخها معرفة جيّدة صحيحة لاكتشفت فيه نفساً متفوقة قادرة على التغلب على كل ما يعترض طريقها الى الفلاح."[9] من هنا نقول انه من واجب الأدباء والمثقفين الواعيين والمبدعين المخلصين ان يساهموا بالكشف عن الدورات الصراعية الطويلة التي خاضها مجتمعنا عبر تاريخه ضد الموجات البربرية والحملات العسكرية الإستعمارية والتي خرج منها دائماً منتصراً، ليس فقط بفضل بطولات شعبنا وعبقرية قواده الخالدين بل ايضاً بفضل مقوماته الحضارية الرفيعة الفاعلة في الغزاة من أي نوع كانوا.
7- المعرفة الفاضلة:
وما يمنح الأمة قوة ومناعة هو المعرفة الفاضلة واكتساب العلوم المتقدمة ونشر الوعي القومي. يقول سعاده: "المجتمع معرفة والمعرفة قوة". فبالمعرفة نتمكن من فهم حقيقة وجودنا المجتمعي، تاريخاً وواقعاً، وحقيقة اشتراكنا في الحياة الواحدة والمصير الواحد. ونتيجة لهذا الفهم ستتولد عندنا الإرادة الواحدة الفاعلة التي تدفعنا إلى تنظيم أنفسنا وإلى العمل بإتجاه واحد لا بإتجاهات متضاربة. وبالمعرفة نتمكن أيضاً من فهم حقيقة عدونا اللئيم وأهدافه العدوانية.. عدونا الساهر الذي يعرف الكثير عن عوامل قوتنا ومواطن ضعفنا وعن حياتنا بكل أمورها وتفاصيلها ويعرف كيف يستغل ضعفنا وإنقساماتنا. لذلك علينا ان نتعمق بمعرفته وأن ندرس الأسباب التي أمّنت وما تزال تؤّمن له سبل النجاح في تحقيق أهدافه الباطلة. وبإعتماد المعرفة وحقائق العلوم نتمكن من القضاء على مظاهر التخلف والجهل والفوضى والفساد وكل عوامل الضعف والتقهقر والطائفية والإنقسامات. فبالمعرفة نبدّد الظلمات ونواجه الصعوبات ونخرج من البلبلة والشك إلى الوضوح واليقين، إلى أنوار النهضة المشّعة لنرتقي قمم المجد والعز والإنتصار.
عقيدة الحياة والمستقبل الجديد:
في الخلاصة: ان مصير الأمة السورية وسلامة الوطن السوري قد أصبحا في خطر نتيجة فقدان الأمة لمناعتها. ولا أمل لهذه الأمة من مصير الإنحلال والإضمحلال إلا بتجرع وصفة العلاج التي قدّمها فتى الأول من آذار والتسلّح بالعقيدة المناقبية الجديدة التي جاء بها كاشفاً عن حقيقة الأمة السورية ومعبراً عن مطالبها ومقاصدها الكبرى في الحياة.
ندعو أبناء شعبنا إلى اعتناق هذه العقيدة الخالية من الأوهام. انها عقيدة النهوض القومي والحياة الجميلة الراقية.. عقيدة الخير والإبداع السوريين.. عقيدة التجدّد الإنساني الحضاري والمستقبل الجديد الذي يليق بالأحرار والأعزاء والذي من أجله استشهد سعاده في الثامن من تموز وهو يردد: "أنا لا يهمني كيف أموت، بل من أجل ماذا أموت.. هذه الليلة سيعدمونني اما أبناء عقيدتي فسينتصرون."
[1] أنطون سعاده، الصراع الفكري في الادب السوري، ص 37.
[2] عشرة أعوام جهاد 16 نوفمبر 1932 – 16 نوفمبر 1942، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 56، 16/11/1942
[3] المرجع ذاته.
[4] أنطون سعادة، المحاضرات العشر 1948، طبعة 1976، ص 30.
[5] أنطون سعادة، مختارات في المسألة اللبنانية 1936 – 1943، ص 165.
[6] المرجع ذاته، ص 191.
[7] أنطون سعادة، المحاضرات العشر 1948، طبعة 1976، ص 25.
[8] المرجع ذاته، ص 158.
[9] المرجع ذاته، ص 160.