هل كان من الضروري أن تُسلب بيروت قميص الصوف، وقُبّعة الصيف، وأن تُحرم من نسيم البحر الصافي كي نقول لها وداعاً.
هل كان من الضروري أن يتحوّل الويمبي والمودكا والرصيف الى محالّ تجارية ليقول بعضهم إن الثقافة لا تليق ببيروت المدينة، فهي مدينة المركبات المقلعات الى العالم وليست مدينة الصباغ الأرجواني والأحرف الأبجدية، لقد أرادوها جسراً ينقل ما يزيد ثرواتهم ويوسّع أسطول تجارتهم.
هل كان يكفي أن يتحول مسرح المدينة الى مركز تجاري لنودّع ما بقي من أنطون سعاده والذي كان محفوراً على الأرصفة والمقاعد الخشبية وعلى طرقات المنارة والروشة والمساءات الجميلة في منطقة رأس بيروت.
هل كان ضرورياً تحويل راس بيروت المنطقة الشاهد على وحدة شعبنا الى زواريب للمشاكل وفرض الخوّة، والتجارة بالمازوت والبنزين، لنقول إننا لا نستحق أنطون سعاده، بربّكم أخبروني كيف نستحقه ونحن نُصِّفق لمن يغتاله كل صباح في راس بيروت، ونؤدي التحية لمن باعه في ضهور الشوير بثلاثين من الفضة، كيف نستّحقه ولم نعرف أن نحافظ على بيروت التي أرادها أن تكون الخير المُنطلق الى كل سورية الطبيعية؟
أودعنا بيروت في صندوق الأمانات عند رب الكفرة عندما شاركنا في اغتصابها ونحن نغنّي لمجدها.
كيف تلتقي بيروت خالد علوان مع بيروت موتورات الكهرباء والخوّة على المقاهي والمحال والماء وتجارة المشتقات النفطية.
كيف تلتقي بيروت بشير عبيد وكمال خير بك وناهية بجاني مع بيروت المتسكعة على الأرصفة تنتظر رزقاً جديداً.
كيف تلتقي بيروت خليل حاوي الذي لم يستطع أن يراها تحت إرادة المُحتل فانتحر، مع الذين ينحرون بيروت مع كل غياب للشمس.
كانت مصيبة بيروت في تعدد الأوكار الأمنية التي اتخذت من بعض المراكز الثقافية والإعلامية منّصات لينشروا سمّهم في كل المدن السورية. صارت مشكلة بيروت مع الذين يزعمون أنهم يريدون إنقاذها من بين شدقي الحوت البحري ومن بين مخالب الذئاب البرية.
عذراً نزار قباني، لم تعد بيروت ست الدنيا، أصبحت بيروت عروس البحر التي يتناوب على اغتصابها أشباه الحيتان البرية وأشباه الرجال في قصور الأثرياء الجدّد.
عذراً مظفر النواب، لم يدخل زناة الليل الى حجرة القدس واسترقوا السمع لأصوات بكارتها، لقد فضوا بكارة بغداد وسَكِروا على أصواتها ويحاولون فضّ بكارة بيروت وعجزوا عن فضّ بكارة دمشق.
منذ ثلاثين عاماً يتناوبون على فضّ بكارة بيروت خلسة، ويُراكمون الدم في مخازن حقدهم حتى انفجر طوفاناً في شوارعها يّبشر بقروب أجّلها وهم لا يدرون أن بيروت ليست كالفينيق، بيروت هي الفينيق.
أصدقائي
أنعى اليكم بيروت المستشفى والمسرح والسينما ورصيف الثقافة والحضن الذي فرح بأنطون سعاده واستوعب أدونيس ويوسف الخال ومظفر النواب وفايز خضور ومحمود درويش ومجلة شعر والحداثة.
أنعى إليكم بيروت فيروز والرحابنة وصباح ووديع الصافي وحليم الرومي ومَن يشبهم من الأسماء التي غابت عن بالي.
أنعى اليكم بيروت شوشو وأبو ملحم وأنطوان كرباج وأخوت شاناي وإلى أين.
أنعى اليكم بيروت الصحافة الصفراء، والصحافة البيضاء.
عندما اختار أنطون سعاده بيروت، اختارت بيروت أن تنزع رداء دانيال بليس وترتدي رداءه.
غداً ستسدل بيروت الستار عن عن قرن ونصف وتفتح ستاراً آخر وتنتظر.
أيها الأغبياء المنتهكون كرامة بيروت تذكروا أن بيروت كانت حضن النطفة الأولى لوجودكم، وتذكروا أن لكم في كل رصيف منارة وموقفاً، وفي كل زاوية كمين فخر واعتزاز.
وداعاً بيروت صندوق البريد.
وداعاً بيروت ست الدنيا.
وداعاً بيروت العشيقة. فقد قتلك تزاحم العاشقين، على أمل أن نراك بيروت العاشقة.
بيروت مدينة يليق بها أن تعشق، كشقيقاتها دمشق وبغداد، وتستقبل من تعشقهم لتبني معهم قصة عشق للحياة.