للدولة الحديثة التي نشأت مع بداية القرن السابع عشر في أوروبا مرتكزات تختلف جذريّاً عمّا سبقها من تنظيمات اجتماعية، لذلك سُميت بالدولة «الحديثة»، فالدولة الحديثة هي «الدولة - الأمّة» (nation-state)، أو الدولة الوطنيّة/ القوميّة، حيث ينتمي الشعب فيها إلى أرض جغرافية محدّدة، وحيث الهوية وجواز السفر يعودان إلى هذه الأرض بالذات، لا إلى غيرها من المتّحدات. فالعنوان الأساس للهوية هو: مكان الإقامة، بينما تمحورت الهوية ما قبل الدولة الحديثة حول الدين والملة والقبيلة والعشيرة والعائلة، وهي اتّحادات شخصيّة، لا متّحدات جغرافيّة.
الاختلاف الجذريّ تمحور إذاً حول انحسار الانتماء «الشخصي»، وحلول مفهوم انتماء أعضاء المجتمع إلى أرض مشتركة بمعزل عن دينهم أو اثنيتهم أو عرقهم أو طائفتهم. نتج عن ذلك تغيّرات بالغة الأهمية، فهُوية الفرد ما قبل الدولة - الأمّة تقوم على علاقات الدم، كما يحصل في القبيلة والعشيرة والعائلة، أو على العلاقات الدينية عبر الانتماء الشخصي الإيماني. وفي كلتا الحالتين، تلعب الجغرافيا دوراً ثانوياً، وهي دائمة التحوّل بحسب ارتحال القبيلة من جهة، أو بحسب امتداد الوهج الديني من جهة أخرى. فالأديان لا تعترف بحدود جغرافيّة، أو انتماء جغرافيّ، وهي مفتوحة للبشرية جمعاء.
أحد أهمّ أسباب افتراق نموذج شرق المتوسط عن غربه، وبقاء نمط الإمبراطوريات الدينية كالسلطنة العثمانية حتى بداية القرن العشرين، هو ترسّخ النظام الملكي في الغرب، وانعدامه في المشرق العربي. وهذا الافتراق أساسه قانونيّ بحت، ففي الغرب، نصَّ قانون الوراثة في النظام الإقطاعي، السائد آنذاك، على توريث الأرض فقط للصبي البكر، بينما اتّبعت السلطنة العثمانية الشريعة الإسلامية التي تنصّ على تقاسم الإقطاع بين الأبناء، ما يعني عدم التمكّن من اقتناء أراضٍ شاسعة تعود إلى شخص واحد أو مرجعية واحدة، وتبعثر الأرض، وكذلك تنازع الأبناء وحروبهم فيما بينهم للاستيلاء عنوة على الميراث. المكان الوحيد الذي تجمّعت فيه الأراضي كان عند رجال الدين عبر الأوقاف.
الملِك في الغرب هو الإقطاعي الذي استطاع الاستحواذ على أكبر حيّز جغرافي عبر الوراثة، أو الزواج من عائلة ثرية، أو عبر حروبه مع الإقطاعيين الآخرين وتفوّقه عليهم، وهذا واضح في قصصهم وأساطيرهم، كقصة الملك آرثر. إرساء قانون واحد، ولو جائر، على أرض مترامية الأطراف، وكذلك إرساء منظومة وراثة المُلك للولد البكر شرعاً، قادا إلى وضع أحد أسس الدولة - الأمّة، وهذا ما لم يحدث عندنا.
تنشأ المقاومة الشعبية حين يفشل الجيش في الدفاع عن أرض الوطن، هذا ما حصل في لبنان بعد الاحتلال «الإسرائيلي» عام 1982، وفي العراق بعد الاحتلال الأميركي عام 2003
مع تطوّر بناء الدولة - الأمّة، سقط مفهوم النسب لصالح المساواة التامة بين المواطنين، وتلاشت الأرستقراطية التي تتوارث امتيازاتها على أساس علاقات الدم، ومنها النظام الملكي ليحلّ محله نظام المواطنة الديمقراطي، فاستُبدلت سلطة الملك المطلقة، والمستمدّة من كونه ظلّ الله على الأرض، بالشعب الموجود على هذه الأرض، وأصبح هذا الأخير مصدر السلطات، كما ألغيت القوانين الدينية وحلّت محلّها القوانين العقلانية الوضعية، وأصبح الدين محصوراً في الحيز الخاص للمؤمن، فهو حرّ في اختيار دينه وطقوسه على ألّا تتضارب وقوانين الدولة الوطنية، وبالتالي أصبح رجل الدين مواطناً في الدرجة الأولى، لا سلطة له أعلى من سلطة الدولة، وعليه الانصياع لقوانينها وإلا اعتُبر خائناً لوطنه.
هذا النموذج، نموذج الدولة - الأمّة، لم يتبلور بعد في المشرق العربي، ذلك أن الغرب الذي بنى ترسانة وطنية قوية خلال قرنين من الزمن، استطاع اكتساح منظومة السلطنة العثمانية القائمة على نظام ملل ديني مبعثر ومتنافر ومتضاد، ثم قام بتقسيم المنطقة بحسب أهوائه ومصالحه مستغلّا التقسيمات الملّية المتضاربة، وسمّاها زوراً دولاً وطنية. وفيما بعد، تابعت الولايات المتحدة الأميركية نفس السياسات الاستعمارية، إنما باسم الديمقراطية، بالرغم من معرفتها بخطل ادّعاءاتها، إذ إن مفهوم الديمقراطية الحرفي هو: حكم الشعب لنفسه، فالقرار والمصير يرجعان للشعب، لا لدولة تحتلّ أراضيه كما حصل في العراق، وغيرها من دول العالم الثالث.
المقاومة الشعبية
مفهوم المقاومة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الدولة الحديثة، أو الدولة الوطنية، لأن المقاومة تعني الدفاع عن الأرض، فهي تنشأ نتيجة حصول احتلال لأرضها حصراً، ولا تنشأ لأسباب دينية أو اثنية أو عرقية أو قبلية، كون الانتماء والهوية في العصر الحديث مرتبطين ارتباطاً وثيقاً بالأرض، فكلّ خسارة للأرض تعني خسارة هوية أصحاب الأرض، لذلك إذا لو استطاعت «إسرائيل» أن تستولي على كل أرض فلسطين، كما تحاول أن تفعل، سيستتبع ذلك حتمية إلغاء الهوية الفلسطينية، لأن الهوية في الدولة الحديثة لا تقوم على النسب أو علاقات الدم أو الاثنية، بل على امتلاك الأرض، وبالتالي يُجبَر الفلسطيني على تبنّي هوية الدولة التي يقيم في أرضها بشكل دائم: فهو أميركي في أميركا، وفرنسي في فرنسا، وتركي في تركيا، وملزمٌ باتّباع قوانينها. من هنا دور المقاومة الأساس، والذي لا بديل منه، في الحفاظ على الهوية الوطنية.
تنشأ المقاومة الشعبية حين يفشل الجيش في الدفاع عن أرض الوطن، هذا ما حصل في لبنان بعد الاحتلال «الإسرائيلي» عام 1982، وفي العراق بعد الاحتلال الأميركي عام 2003. الدفاع عن الأرض حقّ مقدس ومعترف به دولياً، فطالما الهدف هو الدفاع عن الأرض، لا يهمّ مَن مِن فئات الشعب يتصدى لهذه المهمّة. ففي الحرب العالمية الثانية، احتلّت ألمانيا فرنسا، ودحرت جيشها، ونشأت مقاومة شعبية لمواجهة العدو، ولم يتساءل أحد فيما إذا هذه المقاومة هي من كاثوليك ضد بروتستانت، لأن الجهتين، الألمانية والفرنسية، تعملان بناء على المفهوم الوطنيّ/ القوميّ، فكل مواطن في الدولة - الأمّة، يعرف تمام المعرفة أن خسارته النهائية للأرض تعني خسارة هويته الوطنية لا الدينية، كون هذه الأخيرة غير مرتبطة بأرض محددة. هذا لا يعني رفض المظاهر الدينية لدى بعض المقاومين طالما هذه المشاعر تدعم وتسند الموقف الوطني ولا تناقضه. أمّا موقف بعض الطوائف التي تريد القضاء على المقاومة، فهي ليست مواقف نابعة من حرص وطني للحفاظ على الأرض، بل من تواطؤ مع عدو محتلّ تريده داعماً لطائفتها على حساب الوطن. ولقد سمعت نائباً في البرلمان اللبناني يقول بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 إنه يحبّذ استيلاء «إسرائيل» على جنوب لبنان.
حين يمثل الدين أحد دعائم المقاومة الوطنية، فلا ضير في ذلك، أما أن يصبح الدين في مرتبة أعلى من الوطن، وتجيِر الطائفة مصير الأرض لمصلحتها الشخصية، ففي هذه الحالة، تتحوّل إلى عامل مدمر للدولة الوطنية.
هنا يكمن الاختلاف الجوهري بين حركات مقاومة يدعمها الدين أحياناً كما في العراق ولبنان وفلسطين، إنما هدفها تحرير الأرض، وبين حركات إسلامية بُنيت على أسس الاتحاد الشخصي، والتي لا تعترف بهوية الدولة - الأمّة، ولذلك تُسمى بالحركات «الجهادية»، فهي لا تبغي تحرير وطن من الأوطان، بل إرغام الجميع على اتّباع الاتّحاد الشخصي الذي تترأسه تحت راية تكفير من لا ينصاع لها، والأمر نفسه ينطبق على تيارات مسيحية متطرفة تضع طائفتها فوق المصلحة الوطنية المشتركة.
لذلك، لا يقتصر عمل المقاومة على الشق العسكري، لأن المجهود العسكري يتطلب إعلاماً وصحافيين ومفكّرين ومحامين وأطباء وممرضين ورجال أعمال، أي إنه يتطلّب جهداً جماعياً من كلّ مكونات المجتمع بمعزل عن دينهم أو عرقهم، فالأرض يتشاركها الجميع، ومصيرهم من مصيرها. أما العودة إلى منطق اللادولة الحديثة، الدولة الوطنية، والحديث أنني لن أدافع ولن أقاوم لأن المقاومة شيعية، أو سنية أو مسيحية، فهذا يعني أني أرفض الاعتراف بالدولة الوطنية التي أنتمي إليها، ما يعني أن انتمائي وولائي هو لديني وطائفتي ووجودي على أرض مشتركة مع طوائف أخرى عرَضي! وبالتالي تصبح المقاومة أمام نارين: نار العدو الخارجي المحتل، ونار الهويات الطائفية اللاغية للشعب والجغرافيا. هذا ما يحدث في العراق وسورية ولبنان، فالاتحاد الشخصي العرقي والديني طاغٍ على مفهوم الاتحاد الجغرافي، لذلك نجد أن بعض السنة السوريين أو العراقيين أو اللبنانيين يعتبرون أنفسهم ينتمون إلى تركيا السنية ضد إخوانهم الشيعة أو المسيحيين، ويحاربون من يشاركهم الأرض، ويحمل جواز السفر نفسه، باسم الدين والمذهب، أي إنه ينفي صفة السوري والعراقي واللبناني عنه، لصالح دولة إسلامية لا يهمّه إن ترأسها تركي أو باكستاني، وهو في سعيه هذا لا يرى أن التركي هويته قومية، ودولته دولة - أمّة تستعمل الدين للسيطرة والهيمنة، وهي قطعاً لن تقبل بأن تسيطر عليها دولة أخرى حتى لو كانت سنية. الأمر نفسه ينطبق على الدولة الإيرانية، التي هي وطنية بالدرجة الأولى، وولاء شعبها لأرضه لا لبس فيه، بمعزل عن دينه أو اثنيته، فإيران تسمي نفسها «جمهورية» أوّلاً، أي إن هويتها الأولى وطنية جامعة؛ وثانياً - فقط ثانياً - تؤكد المبدأ الديني، ما يعني أن ولاء كل رجال دينها هو لإيران، وإن حصل وشذّ أحدهم، فإنه سيُحاكم كخائن لوطنه.
كي تنجح المقاومة على المدى البعيد عليها ترسيخ مفهوم المواطنة، لأن مبدأ «المقاومة» كما أسلفنا وذكرنا، مرتبط ارتباطاً عضوياً بمفهوم الدولة - الأمة، فهو دفاع عن الأرض، ومن يحيا على هذه الأرض، بمعزل عن دينه أو عرقه، وهذا ما يميزها عن الحركات الإسلامية التكفيرية التي ولاؤها ليس للأرض، بل للانتماء المذهبي العابر للدول والقوميات والشعوب. ولكي تنجح المقاومة عليها أن ترسّخ في مدارسها وجامعاتها وثقافتها، المبدأ الوطنيّ/ القوميّ، وأن تسعى لدمج مصالحها مع مصالح الفئات الأخرى من شعبها على الصعيدَين الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، لأن «الكولاج» السياسي النمطي المُتّبع لا يكفي، ولا يحلّ المعضلة، بل يفاقمها حدة.
* استاذة جامعية