ستنشر مؤسسة سعادة للثقافة خلال هذا الشهر ندوة فكرية بالعنوان أعلاه أقيمت في بيروت، آذار 1996 شارك فيها الدكتور نعيم اليافي، الأستاذ محمد جمال باروت، الدكتور عصام نور الدين، والدكتور مروان فارس. وقد كتب ورقة العمل وأعدّ الندوة وأدارها الامين نزار سلّوم.
تمهيد
انقضى ربع قرن على انعقاد هذه الندوة التي، ربما، إلى هذا التاريخ هي الوحيدة التي تناولت كتاب أنطون سعادة: الصراع الفكري في الأدب السوري، على نحوٍ منهجي مستقل، في محاولة لمواجهة تجاهله وتغييب تأثيره في حركة الحداثة.
سنبدأ، بنشر أبحاث الندوة تباعاً، ابتداءً من ورقة العمل العامة، التي ارتكزت إليها هذه الأبحاث، لأنّها – برأينا – تشكّل مرجعاً نقدياً مهماً لدراسة حركة الحداثة وتاريخها.
إشارات
1- وضع أنطون سعادة هذا الكتاب أثناء اغترابه القسري في الأرجنتين (1938-1947). وهو في الأصل حلقات نشرها في صحيفة "الزوبعة" في العام 1942. وقد جاءت هذه الحلقات كلها تحت عنوان واحد هو:
"الصراع الفكري في الأدب السوري: ثلاثة كتب وتعليق في ديوان".
2- طبع هذا الكتاب مرات عدة. أولها عام 1942، ثم عام 1947.. وآخرها عام 1978. فضلاً عن نشره سلسلة الأعمال الكاملة (جزء 11).
3- مقاطع من مقدمة الطبعة الأولى التي وضعها أنطون سعادة بتاريخ (15 ديسمبر 1942):
"في شهر مايو من هذه السنة وقعت في يدي نسخة من العدد الثاني، السنة الأولى، من مجلة "العصبة" التي كانت تصدر في سان باولو، البرازيل، وهو العدد المخصص لشهر فبراير سنة 1935. كانت نسخة ونسخة الغلاف وقد انتزعت منها صفحات عديدة والصفحات الباقية مخلخلة ومهددة بالعطب. مع ذلك رأيت أن أنظر في هذه الصفحات، وأقف على ما فيها، فوجدت نص مراسلة أدبية بين ثلاثة أدباء سوريين، هم أمين الريحاني، ويوسف نعمان معلوف وشفيق معلوف. والمراسلة المذكورة، عبارة عن ثلاثة كتب مشتملة على آراء ونظريات في الشعر والشاعر. والشعر والشاعر يدخلان في موضوع الأدب الذي كان قد استلفت نظري ما يجري من تخبّط وتخليط فيه. قرأت الكتب الثلاثة المشار إليها، وقرأت التعليق الأخير الذي ألحقه بها شفيق المعلوف حين دفعها للنشر في المجلة المذكورة. فشعرت بالنقص الفكري الكبير الذي مثلته الكتب في هذا الموضوع، وبالحاجة إلى درس يتناول موضوع الأدب في أساسه، ويجلو الغوامض الكثيرة التي أثرّت فيها سهام الرماة وضاعت مجهودات الكتاب".
"... وكم كنت أتألم من تفاهة الأدب السائد في سورية، وأشعر أنّ فوضى الأدب وبلبلة الأدباء تحملان نصيباً غير قليل، من مسؤولية التزعزع النفسي والاضطراب الفكري والتفسخ الروحي المنتشرة في أمتي".
"... قررت الكتابة في هذا الموضوع، بالاستناد إلى ما ورد في مراسلة الأدباء الثلاثة المنشورة في مجلة (العصبة)".
"... أتممت هذا البحث في ثمانية أقسام تشبه المقالات، نشرت متلاحقة في ثمانية أعداد من "الزوبعة"، ابتداءً من العدد الصادر في 15 أغسطس وانتهاءً في العدد الصادر في 1 ديسمبر 1942".
4- أثّر هذا الكتاب، تأثيراً مميزاً، في حركة الحداثة الأدبية والفكرية، رغم تجاهل هذا الأمر من قبل العديد من المؤرخين النقديين، ونعزو هذا التجاهل لأسباب "إيديولوجية" كون أنطون سعادة، نفسه، هو زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي.
5- حاولت الندوة، من خلال إقامتها وأبحاث الذين شاركوا فيها، وضع "التاريخ النقدي لحركة الحداثة" عند إحدى عتباته المتميزة العالية. داعية أصحابه إلى ريادة هذه العتبة تعرّفاً واكتشافاً، وصولاً إلى صياغة "تاريخ نقدي" جديد شامل ومتكامل.
يكتنف تاريخ الحداثة (الشعرية خصوصاً) إشكالات متعددة، تجعل من هذا التاريخ (بداية ومسيرة) مسألة خلافية أخرى، تصل إلى تأسيس حدود تناقضية لرواياته المتعددة.
بعيداً عن المماحكات الشكلانية فيمن يكون الرائد الأول، أو الحداثي الأول: نازك الملائكة... أو عبد الوهاب البياتي، أو غيرهما؟ فإن "تأصيل" الحداثة يعتبر المسألة – الأساس التي يمكن الاستناد إليها في صوغ "تاريخ واحد" لإحدى أهم المحطات الإبداعية في تاريخنا المعاصر.
أ- لم تصل المحاولات النقدية التأريخية لمسألة الحداثة وتأصيلها إلى يقين واحد. لا يعود ذلك إلى ما تُتخم به هذه المسألة من عناصر وعوامل متشابكة، ومصاحبات غامضة ملتبسة، بل وعلى الأغلب، إلى سيطرة "النزعة الإيديولوجية" على منهج هذه المحاولات. ونقصد بالنزعة الإيديولوجية هنا، ذلك البعد التصنيفي – الاستبعادي "المتماهي مع السياسي" الواضح أحياناً، والمضمر أحياناً أخرى، الذي تمارسه هذه المحاولات على كل ما لا يتفق مع منهجها وموقعها ومراميها.
وكان أن أدى ذلك كله، إلى حصول حالة من القطيعة (فراغ) بين مسارات المحاولات النقدية، وذلك كإكمال لحالة القطيعة التي كانت سائدة وللأسباب نفسها، بين مسارات حركة الحداثة، إلى الحد الذي يدفعنا للافتراض أنه ليس ثمة "حداثة"، بل ثمة "حداثات"، متعددة، لكلٍ منها مسارها المكتمل بمنهجها النقدي التأريخي الخاص.
ب- يظهر كتاب أنطون سعادة "الصراع الفكري في الأدب السوري" في "تاريخ الحداثة" الذي صاغته محاولات نقدية متعددة، في أماكن نادرة ومحدودة. ولعل ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى سيادة "النزعة الإيديولوجية" التي استبداداً، قامت باستبعاد هذا الكتاب فتجاهلت تأثيراته
ومناخاته التي فرضها في الحقبة الزمنية الحاسمة، التي شهدت "البدايات المكتملة" لحركة الحداثة.
وبالرغم من خرق هذا التجاهل لاحقاً، في بعض المحاولات النقدية، كما في بعض السير الثقافية، (ما كتبه أدونيس على وجه التحديد في سيرته الثقافية)، فإن ذلك لم يكن كافياً بما يؤدي للافتراض بأن البحث النقدي لهذا الكتاب يوازي أو يقارب مكانته الحقيقية.
ج- يمكننا، بالاستناد إلى هذه "الفذلكة"، طرح إشكالية حضور كتاب أنطون سعادة "الصراع الفكري في الأدب السوري" في المحاولات النقدية التأريخية للحداثة.
ذلك في المستويين التاليين:
أولاً: كيف يبدو هذا الكتاب بعد انقضاء نيف ونصف قرن على صدوره (صدرت الطبعة الأولى عام 1942). أي كيف يمكن النظر فيه لجهة منهجه خصوصاً، ومضمون دعوته إلى التجديد بوجه عام؟
وفي المستوى نفسه أيضاً: أيبدو تأثير الكتاب جليّاً في تيار الحداثة؟ بالرغم من إغفال ذلك نقدياً!!
ثانياً: كيف يمكن تحرير الفعل النقدي، وتالياً، التاريخ النقدي للحداثة، من المصاحبات الاستبدادية الناتجة من ريادة "النزعة الإيديولوجية" – في بعدها السياسي المباشر – لهذا التاريخ، أو غير ذلك من أبعاد وعوامل مرتبطة بها، وذات منحى تعسفي أو في الأقل انتقائي؟
-----------------------------------------------
الحلقة القادمة: تجديد المنهج، الدكتور نعيم اليافي.
بعد قرائتي سعاده، وجدت أننا بحاجة باستمرار إلى أن نعيد النظر في قراءة تراثنا القديم والحديث.
فهذا الناظر الذي أُبعد من النور إلى الظلام، من واجبنا الآن أن نعيد النظر فيه وأن نقرأه قراءة جديدة في ضوء إمكاناتنا المتاحة لنا.
سأقرأ كتاب سعاده قراءة فيما يتفق مع رؤيتي ومنهجي وقراءتي الحداثية. سأتحدث فقط عن الظواهر الحداثية التي تطرح الآن على الساحة الفكرية والأدبية والنقدية، وكيف كان أنطون سعاده في هذا الكتاب رائداً وسبّاقاً.
الحداثة كما تعرفون مصطلح إشكالي وحيادي، تتعدّد فيه وجهات النظر ما بين زمانية ومكانية تاريخية وجغرافية... إلخ.
ولكن نستطيع أن نجد في هذه الحداثة قواسم مشتركة تجمع بين المتخالفات.
أول قاسم من قواسمها:
- أن الحداثة تعني التغيّر، تعني التحوّل، تعني التقدّم. تعني الانعطاف. ولا توجد حداثة من دون انعطاف، من دون تغيّر، من دون تحوّل، مهما فسّرناها.
- الأمر الثاني: أنّ الحداثة كلٌّ متكامل، لا يمكن أن نقرأ الحداثة في حيّز اجتماعي ونهملها في حيّز آخر.
ولا أتصور أن المجتمع يستطيع أن يكون حداثياً في الأدب أو في التكنولوجيا ومتخلفاً في الفكر والفلسفة والتصور.
صحيح أننا قد نقول أن الشعر العربي الحديث في صورته الراهنة هو حداثي في مجتمع متخلّف. لكن هل نستطيع أنّ نقول أن بعض الدول الخليجية حداثية لأنها حصلت على مدن ألكترونية أو صناعية، وهي ما تزال متخلّفة في كل شيء؟
أيضاً من الأمور الحداثية التي يشترك فيها جميع الحداثين أنّ الحداثة غايتها الإنسان.
الحداثة كنظرية لا قيمة لها، إذا لم تخدم أولاً وأخيراً هذا الإنسان، وإذا لم يكن الفرد / المجموع / الإنسان النوع هو غاية الحداثة فلا قيمة للحداثة ولا قيمة لأية نظرية أخرى لا تخدم هذا الإنسان.
أيضاً، أريد أن أقف عند نقطة قد نختلف فيها أو نتفق... هل الحداثة واحدة أم حداثات؟
أنا مع أولئك الذين يعتقدون بتعددية المجتمعات، وبذلك أورد بأن الحداثة حداثات حتى لا نربط مصيرنا ومجتمعنا بالتبعية الغربية. لا يمكن أن نقبل أن تكون الحداثة الغربية هي نقطة الانطلاق، وبالتالي المركزية الغربية هي نقطة الانطلاق. ومن هنا أؤمن بتعددية المجتمعات وأؤمن بتعددية طرائق الوصول إلى الظواهر المشتركة، إلى الحداثات وفق شروط كل مجتمع، وبذاته وزمانه ومكانه.
وإذا انتقلنا الآن بعد هذا الحديث عن الحداثة إلى كتاب أنطون سعاده، علينا أولاً أن نضع الكتاب في تاريخه حتى نعرف قيمته ومبلغ ما طرح فيه من رؤى حداثية.
صدر الكتاب كمقالات في أوائل الأربعينات، وهو من كتابات المرحلة الثالثة من فكر أنطون سعاده.
هذه المرحلة في الميدان النقدي والأدبي هي مرحلة إنعطاف وتحوّل من الرومانسية إلى المرحلة الواقعية على مستوى العالم العربي أو مستوى الوطن السوري هنا.
في الثلاثينات كانت اندفاعاتنا إلى الرومانسية بكل كآبتها وتشاؤمها، بكل عويلها وشحوبها. فجاء رد الفعل مع نهاية الرومانسية برفض هذا البكائيات والتعويل على الواقع.
لقد حاول الكتّاب جميعاً والنقّاد جميعاً في تلك الفترة أن يزيلوا الرومانسية سعياً إلى التمسك بواقعية مبينة واضحة في سورية في منتصف الثلاثينات، وهكذا تأسّس المجتمع اللبناني أو الشامي في تلك المرحلة.
إذاً، عندما وضع أنطون سعاده كتابه، كان يرى أمامه نصوصاً رومانسية ونقّاداً رومانسيين يشيدون بأحلام رومانسية، فأدان الجميع.
كيف أدان الجميع؟
كل ناقدٍ، كاتبٍ، باحثٍ لكي يتجاوز ما هو مطروح لا بد أن يقدم أمرين متصلين معاً:
- الأمر الأول هو الرؤيا.
- الأمر الثاني هو الطريقة.
من دون رؤيا لا يمكن أن يتجاوز الكاتب لا عصره ولا نفسه ولا أن يستشرف آفاق المستقبل.
وكذلك من دون منهجية أو طريقة لا نستطيع أن نقول أن هذا الكاتب / الناقد / الدارس متميّز.
فما هي الرؤى التي قدمها أنطون سعاده في كتابه؟
إن موضوع كتابه أو المحور الأساسي فيه هو موضوع التجديد. وهو موضوع الحداثة، ما دمنا قد ربطنا منذ البداية الحداثة كمصطلح بالتجديد. فالحداثة في الوقت الحاضر تتجاوز التجديد وأشياء كثيرة. في عصره كانت الحداثة تعني في أحد معانيها هذا التجديد، تجديد الأدب. ولكن كيف يمكن تجديد الأدب؟
لا نستطيع أن نجدد أيّ أدب في أيّ عصر إلاّ إذا نظرنا إليه من ثلاث زوايا:
- الزاوية الأولى: الزاوية التاريخية، أي أنّ توضع الظاهرة الأدبية ضمن سياق التاريخ، لا خارجه.
ومن هنا يبتدئ الخلاف الكبير بين الرؤية التقدمية والرؤية السالفة. تضع رؤى الرجعية أو السلفية طروحاتها فوق حركة التاريخ، فجاء سعاده ليطرح الظاهرة الأدبية ضمن حركة التاريخ لا خارجه.
- الزاوية الثانية: أنه طرح الظاهرة الأدبية والنقدية بشبكة علاقاتها الاجتماعية المؤسسة لها، الأمور السياسية والاقتصادية وشبكة العلاقات الاجتماعية على امتدادها وخاصة المعرفية.
- الزاوية الثالثة: وهو أنه ربط الظاهرة الأدبية بالقضية الفلسفية أي القضية المعرفية. وهذه القضية جوهرية ولم يتنبّه إليها الكثرة من الدارسين.
وأحكي لكم حكايتي مع هذه الزاوية: كان كل الذين يقتربون من دراسة الشعر حتى عهد قريب ومن دراسة الأدب يربطون التقنية بنظرية الشعر فقط.
وهذا ما فعلته أنا في أطروحتي لدرجة الماجستير "التطور الفني لشكل القصة القصيرة" ولكن بعد أن اطّلعت على سعاده في هذا الكتاب في مرحلة ما بين الماجستير والدكتوراه شدّني طرحه بربط النظرية الأدبية بالنظرية الفلسفية، أي المعرفية، فكانت أطروحتي لدرجة الدكتوراه عن تطور الصورة الفنية قائمة أساساً على ربط النظرية الشعرية بالنظرية الفلسفية أو المعرفية لكل عصر. وتعرفون أنّ لكل عصر نظرية خاصة في المعرفة. وتحقق الكثير مما حلمت به عندما فعلت ذلك. وكان أنطون سعاده في كتابه من جملة قراءاتي الكثيرة التي تأثرت بها وحوّلت منهجي في الدراسة.
هنا، يعترضني سؤال، هل كان سعاده مثالياً في هذا الطرح أم كان مادّياً؟
أنتم تعرفون أنّ هذه الإشكالية قائمة في الفكر الماركسي ليس عن أسبقية المادة للفكر بل عن ارتباط الفكر بحركة المادة. وكانت فترة الثلاثينات والأربعينات والخمسينات هي الفترة
الستالينية الطاغية في سيطرة البنية التحتية على البنية الفوقية، أو سيطرة المادة على الفكر. فجاء سعاده في هذا الكتاب ليطلعنا على شيء مختلف رجعت إليه الماركسية ذاتها في الخمسينات والستينات عندما قال: أنّ الفكر صدى لحركة الواقع لكنه يعود ليؤثر في حركة الواقع. من هنا ربط البنية التحتية بالبنية الفوقية وأعتقد أن سعاده كان واضحاً عندما قال: أنّ التفاعل قائم بين الفكر وبين حركة الواقع، وإلا ما جدوى الفكر إذا كنّا سننتظر حركة الواقع حتى تصحح لنا فكرنا؟!
لا بد أن يسير هذان الخطان معاً، الفكر يقود الواقع، والواقع يؤثر في تطور الفكر على حد سواء.
فإذا كانت عقابيل هذه الأمور / الرؤيا فيما يتعلق بالصيرورة؟ هو الزمان المستقبلي، لأنّ سعاده ينتقل في رؤيته في الزمان من المستقبل وليس من الماضي.
وهذا أيضاً موضوع طريف أحدّثكم عنه سريعاً وهو من جملة ما تأثّرت به بفكر سعاده، أنّ كل الدارسين يقدمون لنا زمناً يبدأ من الماضي، وجاء فكر سعاده فيما قرأته أنا يدلّني على الشق الآخر، بما أنه كان يتحدث عن التحوّل، فزمن الاستقبال هو زماننا الذي نطمح إليه، ومن هنا أقول أن الزمان يجب أن يبدأ من المستقبل ليرتد إلى الماضي.
هذا الموضوع عام في قراءة التراث، وهناك فرق جوهري بين القراءة التقليدية والقراءة الحداثية.
إنّ التقليديين يردّون الشاهد إلى الغائب والحداثيون يقرأون الماضي في دور الحاضر أي يشدون الماضي إلى الحاضر ويضعونه في قراءة معاصرة. في حين أنّ الآخرين يشدون الحاضر إلى الماضي وهم بذلك يثبتونه ويحجرونه تحجيراً كبيراً.
في دمجي هذه الأمور على اختلافها، رأيت أنّ سعاده يتحدث بصورة واضحة عن الأنا، النوع. لا يتحدث عن "أنا" الشخص ولا يتحدث عن الجماعة فقط. وإنما هذه هي المعادلة التي كانت حاصلة: / جمع الأنا لها / الفرد مع النحن فبرز لديه "الأنا النوع" وهو النوع الذي يستمر مع ولادة الإنسان ومع تغيّر الأجيال. الأنا الفرد، أنا أموت، لكن لا بد أن ينتقل عملي من جيل إلى جيل، ومن هنا تستمر الشعلة محملة على الأكف...
كانت نتيجة هذه الرؤى أنّ القضايا التي يجب أن يعبر عنها الأدب والفكر، قضايا الأدب الكبرى قضايا مصيرية: / الكون / الإنسان دون أن ندخل في التفاصيل الكثيرة.
وكان من نتيجة ذلك فيما يسمى من مصطلح في الوقت الحاضر (القضية المعرفية) فما دام قد ربط الأدب بالفكر، وربط الفكر بالنظرية الفلسفية. فأنتم تعرفون أنّ كل عصر له مفهوماته وله
جهازه المعرفي وبالتالي لا بد أن تقوم قطيعة معرفية منهجية على الأقل بيننا وبين العهود السابقة.
حين نأتي إلى الطريقة، يلفت النظر في منهجية أنطون سعاده وهو أمر ثالث تأثرت به وبغيره في زمن الثانويات المتعارضة. لا يوجد شرق ولا يوجد غرب، لا يوجد جسد مادة ولا يوجد روح، وإنما طرح مصطلحاً جديداً استخدم بعد ذلك واستخدمته أنا كما استخدمه سواي هو "المدرحية" أي الجمع بين المادة وبين الروح شريطة أن نفسّر الروح تفسيراً أخلاقياً ومادياً وليس تفسيراً غيبياً.
وهذه القضية جوهرية فيما يتعلّق بالانعطافات الفلسفية. الفكر الثانوي هو فكر سجالي، فكر تعارضي. إمّا أنا أو الآخر. أما الفكر التداولي، الفكر التعددي، الفكر الذي يرفض الثانويات فهو فكر يحاور ذاته ويحاور الذات يقبل ذاته ويقبل الآخر.
أيضاً، فيما يتعلّق بالمنهج يمكن أن نتحدث عن قضية جوهرية هي المحلية والعالمية.
في ضوء المحلية والعالمية رفض سعاده كل الرفض اجترار التراث. وتقليد التراث وإعادة إنتاجه. ورفض التبعية إلى الفكر الغربي وإلى الأدب الغربي. وآمن بعبقرية المكان وأنّ الأديب الحق، هو من صاغ رؤيته للمستقبل إنطلاقاً من واقعه.
وأدان جميع الرومانسيين، لأنهم حين يتحدثون عن الصدق والعصر، يقصدون صدقاً غربياً وعصراً آخر هو العصر الغربي، ودعا إلى التمسك ببيئتنا وانطلاقتنا من هذه البيئة، من هذا المكان، من عبقرية المكان، حتى نكون نحن ولا نكون سوانا.
أيضاً من القضايا الحداثية التي طرحها ويتناولها النقد في الوقت الحضار كلية الصدور وكلية التلّقي.
إنّ الأدب لا ينبثق عن الشعور وحده وإنما ينبثق عن كلية النفس الإنسانية، عن الشعور وعن الفكر أي عن كلية الإنسان. وبالتالي فعلينا نحن كمتلقّين نقّاداً وغير نقّاد أن نتلقّاه بهذه الكلية. من هنا يقرأ الناس الحداثة قراءة متغيرة، بعضهم يقرأها تراثياً، بعضهم يقرأها حداثياً، بعضهم يقرأها بمعايير أكل الدهر عليها وشرب ونام. لا بد أن نقرأ الشعر وفق معايير خاصة به ويجب أن نطور هذه المعايير.
هذه لمحة، عبّرت عنها بقراءة بانورامية لفكر سعاده كما بدا في (الصراع الفكري في الأدب السوري)، عن كل القضايا الحداثية المطروحة في الوقت الحاضر.
-----------------------------------------------------------
الحلقة القادمة: القول الملتزم وإنشاء الحياة. الدكتور عصام نور الدين.
مقدمة
قُدّر لي أن أتعرّف إلى عظيمين مظلومين من بلادي.. وهذان المظلومان مبدعان.. متوقِّدان... سرى وهجهما الفكري والسياسيّ والفنيّ إلى قلب الأمة... ومع ذلك فلا يزالان مظلومين على الرغم من أنّ كلاهما قد أسس حزباً سياسياً رائداً...
فأُعدم الأول رمياً بالرصاص ظنّاً من رجال السلطة يومذاك أنّ في إعدامه تغييباً لصوته ولمنهجه في الحياة..
وشُرّد الثاني.. وجاع.. وماتت أمّه دون أن يستطيع شراء دواءٍ لها.. وكاد يُعدم جوعاً لولا أن تداركه الله بالرئيس حافظ الأسد الذي أعاد إليه في أواخر أيامه بعضاً ممّا خسر، في شبابه.. وقد يكون هو من أمر بطباعة مؤلفاته كاملة. ولولا ذلك لضاعت دون أن تضوع...
الأول هو أنطون سعاده...
والثاني هو زكي الأرسوزيّ...
الأول هو مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي.. الذي يؤمن بالبعث القومي والثاني هو مؤسس حزب البعث العربي الذي يؤمن ببعث الأمة العربية وبوحدتها.
فكأن قدر هذه الأمة أن تقتل أنبياءها...
وكأن قدر أنبياء هذه الأمة أن يصلبوا أو يعدموا رمياً بالرصاص.. أو تشجّ رؤوسهم بسيوف مسمومة...
مراجعي في هذه المحاضرة كتابات الأرسوزي القومية وكتابات سعادة القومية.
القومية الأولى تقول عن نفسها أنّها هي سيف العروبة ودرعها وقلبها..
والقومية الثانية تقول إنّها هي الجسد العربيّ الزاخر بالحياة والممتد من المحيط إلى الخليج..
وأنا أقول:
- لا بدّ للجسد الحيّ من قلب نابض...
ولا يوجد قلب طبيعي نابض إلاّ في صدر الجسد الحي..
فهل نستطيع أن نبعث الحياة في سفرٍ نقدي جليل... فنتذوق عسله وقمحه.. لنكون من أبناء الحياة؟
من المعروف عند أصحاب النظريات الاجتماعية والسياسية والفكرية الرائدة أنّ الحياة تنشئ القول... كما ينشئ القول الملتزم. الحياة بكل تفتحاتها، لأنّ الإنسان الاجتماعي يتماثل مع الفكرة المنبثقة عنه تماثلاً تكوينياً يُفصح عمّا تحمله نفسه الأصلية من ميول كريمة تنهض بالفرد وبالجماعة نهضة متناسبة مع عمقها وأصالتها.. فيدرك الإنسان الكون والوجود والمجتمع من آفاق متفاوتة..
إنّ كلامنا، على كتاب المفكّر أنطون سعادة "الصراع الفكري في الأدب السوري /1942/" يشير إلى قضيتين متلازمتين:
- يشير، أولاً، إلى أصالة فكر سعاده، وقدرة هذا الفكر على الصمود... وعلى اختراق الزمن... وعلى إنارة الحاضر والمستقبل، لأني أظنّ ظنّاً قوياً أنّ فكر هذا الرجل متوقّد توقّد صاحبه... والتوقّد – كما تعرفون – ينير الذّات والموضوع والمدى...
- ويشير، ثانياً، إلى حاجتنا الماسّة لمنهج فكر سعادة الصراعي... لأنه يشكّل إحدى الصوى الفكرية والصراعية والمنهجية التي قد تنقذنا من ليلنا البهيم هذا.. من عصر الردّة والذلّ هذا.. ولأنّ السعادة قد تكون في منهج سعادة...
لقد استطاع سعاده أن يقدّم لأبناء الأمّة منهجاً فكرياً نقدياً رائداً على الرغم من أنّ الرجل ليس ناقداً أدبياً محترفاً.. ولكنّ منهجه الاجتماعي القومي قد أنار نفسه.. وأنار له الموضوع، فنظر إلى الفن نظرة مختلفة، مبدعة، لا تكتفي بإرجاع القصيدة، أو العمل الأدبي، إلى جمل، ثم ترجع الجمل إلى الكلمات، ثم ترجع الكلمات إلى الأصوات التي تتألف منها.. ثم تحاكم هذا النص محاكمة قواعدية بمقياس الصحة والخطأ، والثبات والتحول.. والانحراف...
لم يكتف سعادة بذلك على الرغم من أهمية تفكيك النص وإعادة تركيبه.. لأنّ همه كان منصبّاً على المنهج الفنيّ الملتزم، وعلى النحو الذي ينحوه الشاعر أو الأديب، او الفنّان في استقطاب المعاني المتضمّنة في الأصوات والكلمات والجمل والفقر... والارتقاء بهذا الاستقطاب لبلوغ الإلهام مُنبثقاً فوق سلسلة الحوادث الذهنية.
فالجمال الشكلي، في عقيدة سعادة وفي منهجه، لا قيمة له إن لم يكن نوراً ينقل الأمة من عصر الظلام إلى عصر النور والسعادة..
والقدرة الفنيّة لا قيمة لها إن لم تُحوَّل إلى سلاح يرمي الأمّة.. والمجتمع.. ويحمي المتحد الاجتماعيّ ومن فيه وما فيه....".إنّ سعادة "يُحاكم" فنّاني الأمّة بهذا المنهج، فيقول إنّه قد قرأ بضعة مقاطع من ملحمة سعيد عقل "بنت يفتاح" في أواسط سنة 1935، ولكنه لم يستطع إكمال نصّ هذا الشاعر العظيم، فبماذا أحسّ أنطون سعادة حتّى رمى نص سعيد عقل من يده؟ وماذا قال؟
إنّ ثمار المنهج عند سعادة متعدّدة، ولكنني سأكتفي منها بعددٍ قليل ينشّطكم ولا يتخم عقولكم ويحفزكم إلى إعادة قراءة هذا السِفر النقدي النادر.
- والثمرة الشهيّة الثانية هي تمييز الذات القومية من الذات اليهودية ومن الذوات الغريبة. هذا التمييز الصارم جعل سعادة لا يطيق قراءة (بنت يفتاح)، فألقاه من يده، لسببين:
- الأول: أنّها تخدم موضوعاً غريباً عن المواضيع السورية.
- والثاني: أنّها تخدم موضوعاً مختصّاً باليهود أعداء سورية.
فسعادة يميّز، إذاً، تمييزاً دقيقاً وواضحاً الموهبة الشعرية الممتازة والجديرة بتناول قضايا الحياة والنفس من الموضوع الذي أنتجه صاحب هذه الموهبة، وينبهنا بصرامة منهجيّة ملتزمة لا تقبل المساومة. ينبهنا إلى أنّ هذه الشاعرية لا تعدو اللغوّ والزخارف الشكلية إن لم تخدم الحياة والنفس السورية، ثم يجرّد حسامه الفكري / العقائدي الصارم ويقول إنّ هذه الملحمة (بنت يفتاح) ليست في خروجها عن المواضيع السورية فقط، بل في خدمتها موضوعاً مضاداً في انتصاره انكسار سورية ومثلها العليا ومطامحها وقواها... وفي كسره ودحره وإزالته انتصار سورية... وسلام العرب... وطمأنينة الإنسانية...
بل إنّ سعادة قد أضاف سبباً ثالثاً إلى سببي الغربة وخدمة عدوّ الوجود والعقيدة وهو أنّ نصّ هذه الملحمة يصنّف في "أدب الكتب". فمع كلّ الشاعرية الجيدة الظاهرة في الملحمة لم يجد فيها سعادة فتح مدخل جديد للأدب السوري، ولم يستطع مؤلفها أن يُحدث تغييراً في أدب سورية أو تجديداً له.
إنّ ملحمة (بنت يفتاح) مظهر من مظاهر "أدب الكتب". و"أدب الكتب" هذا بعيد عن الحياة الطبيعية الاجتماعية وعن أدبها، و"أدب الكتب"، هو، في الأغلب الأعمّ، أدب لا نسغ فيه، ولاحياة، ولا تمثيل ولا تمثّل. هو شيء غريب مستعار وغير قابل للتعديل او للاستخدام أو للحياة، فهو كالشَّعر المستعار لا حياة فيه ولا مائيّة، ويُمثّل عِقَد صاحبه، وخوفه، وغشّه.. وإذا ما مَسّت يد الحبيب هذا الشَّعر المستعار سقط.. وكشف عن عورات صاحبه.. ولم يشعر اللامس إلاّ بالقرف والقشعريرة.. بينما يشبه "أدب الحياة" الذي طالب سعاده به، شعر الحبيبة الطبيعي.. المعّبر عن الشباب وقوة الحياة... ووعودها.. وإغراءاتها.. فإذا مَسّته يد الحبيب سرت رعشة الحب في أوصاله.. وتمتّع بالجمال وخيراته. وشعر بالرغبة في الاستمرار..
إنّ الأدب، في عقيدة سعاده هو الذي يكشف عن عظمة مطامح الأمّة، وعن نفسيتها، وعن سموّ مراميها.. ومهمة هذا الأدب رسولية.. كشفية، إبداعية، ريادية.. تخلق المُثل والقيم أو تعيد خلقها، وتبعثها بعثاً يرسّخها في ذهنية الأمّة، وفي سلوكها، وفي منهجها في النظر إلى نفسها أولاً، وإلى الكون ثانياً، وإلى الأمم الأخرى ثالثاً...
الأدب الحيّ، في عقيدة سعاده، هي الذي لا يكتفي بأن يكون (مرآة للعصر)، أو للحياة، أو للمجتمع.. بل هو منارات المتحد الاجتماعي.. أدب حياة، هذا المتحد هو الأدب الذي يفهم حياتنا، ويرافقنا في تطوّرنا، ويعبّر عن مُثُلنا العليا، وعن أمانينا المتسخرجة من طبيعة شعبنا وتاريخه وكيانه النفسي ومقوّمات حياته.. وهذه من الأمور التي شغلت أكبر قسم من تفكير سعادة في البعث القوميّ وأسبابه. والتي رأى أنّ تركيز الأدب عليها غير ممكن إلاّ بالاتصال بنظرة إلى الحياة والكون والفن جديدة..
إنّ احترام القارئ، منهج سعاده النقدي الاجتماعي ينبع من أمانة هذا الرجل لمبادئه، ومن قدرته على تطبيق نظرته الاجتماعية والسياسية على كلّ أمور الحياة المتجدّدة في سورية سواء أكانت إنشاء حزب سياسي جديد..، أم إنشاء أدب حياة جديد...
حقيقي لا وهمي – لا يكون الأدب سوى ألوان تقليدية أو استعارية باهتة لا نضارة لها، ولا رونق، ولا شخصية..
وبدون الحافز الروحي الواعي لا تفيد قراءة شكسبير وغوته.. ولا زيادة العلم.. ولا التعمق في الأدب القديم..
أ- استخراج كنوزها..
ب- واستئناف مجرى خططها السامية...
ليتمكن الفنان أو الأديب بفضل اتصاله بالنظرة القومية الاجتماعية من تحقيق عدد من القضايا المهمة، ومنها:
أ- ربط قضايا سورية القديمة بقضاياها الجديدة...
ب- إيجاد موصل الاستمرار الفلسفي بين القديم السوري والجديد السوري القومي الاجتماعي..
ت- استخراج المُثل العليا الفرعية والتفصيلية الجوهرية في الأخلاق والمناقب...
ث- إبراز أجمل المظاهر النفسية، وأسمى المواقف المناقبية حسب الإحساس والتصور الملازمين لخصائص النفسية السورية..
ولأن اللغة ليست وسيلة اتصال محايدة.. إنما اللغة والفكر توأمان.. ونحن نفكّر بكلمات... أو بأشباح كلمات.. واللغة تحكم نظرتنا إلى أنفسنا وإلى الآخرين وإلى الكون.. وباللغة نتميّز من الآخرين.. لأنّ لكّ أمة لغة تُعرف بها، فيقال: الأمة الفرنسية، والأمة الألمانية، والأمة الروسية وهكذا...
أولم يدفع سعادة حياته ثمناً لأمانتة العلمية، ولصرامة منهجه النقدي؟ أولم يصرّ على التكلّم باللغة العربية الفصحى في كلّ شؤون حياته الخاصة والعامة.. وفي كلّ المناسبات؟ أو تتذكرون موقفه من اللغة العربية في لحظات عمره الأخيرة.. قيبل اغتياله؟ أولم يصّر على التكلّم بالفصحى حتّى مع جلاّديه؟...
إنه درس في الالتزام.. إنه تطبيق عمليّ للمنهج المبدع.. إنه حرية الالتزام.. إنه التزام الحرية... إنه السعادة في منهج سعاده الاجتماعي القومي...
خاتمة
سأحاول أخيراً أن أُحدّث منهج سعادة النقدي، وأن أجربه تجربة افتراضية، وأقول:
إذا اتبعنا، اليوم، منهج سعادة العلمي الصارم الذي استعمله هو مع سعيد عقل ما بين سنتي 1933-1936، وأحيينا هذا المنهج الاجتماعي القومي النقي المنقذ من الضلال، والموصل إلى شاطئ الحرية المبدعة الملتزمة وبعثناه في عقولنا وفي وجداننا وفي سلوكنا، وطبّقناها على بعض الأدباء والشعراء، الذين لم يكتف أحدهم بالخروج على مبادئ الزعيم النقدية، بل مدّ لبني (إسرائيل) يداً، وجرّد لمدحهم قلماً، واستعمل من أجل تطبيع العلاقات معهم منابر وأتباعاً، وتخلّى من أجل وهم جائزة "نوبل" عن شعب طيب عريق، وعن تاريخ فني وعلمي وفلسفي يتمنون لو كان لهم جزء بسيط جداً منه، وفعلنا ذلك ودرسنا إنتاجه الأخير في ضوء معايير سعادة النقدية، فما الحكم الذي يمكن لشعبنا أن يصدره؟
إنّ الفنان حر بمقدار التزامه قضايا شعبه وأمته وأرضه.. فحرية الإبداع.. وحرية الكلمة.. وحرية النقد.. وحرية اختيار المناهج والأساليب.. وحرية اختيار الفنون للتعبير عن حاجات الأمة وطموحاتها.. كلّ أولئك حق للمبدع الفنان الذي يتسلح بالالتزام وبالواجب.. وبحق أمته في الخلود...
إنّ أمتنا قد اشتقت كلمة "العقيدة" من "عَقَدَ الجنين أو الزهر" بما يشير إلى المناسبة بين حياة الأمة والمعرفة التي تتجلّى بها لذاتها.. وأنّ أمتنا قد عقدت جنينها على عقائدي أصيل سخّر منهجه المتوقد من أجل حياة الأمة وبقائها.. فالبقاء للأمة... دائماً وأبداً.
الحلقة القادمة: تأصيل الحداثة. الدكتور مروان فارس.
د. مروان فارس
إنّ هذا الكتاب قد أغمط حقه وإن كان قد أسّس لاتجاه وأطلق تياراً قد ركن إلى جملة من المفاهيم. إنه يهدف لرسم مسار ويعترض على نمو غمرته الفوضى واكتنفت مضامينه البلبلة. ذلك لأنه قد وضع قواعد لانطلاق الأدب تماماً كما وضع صاحبه القواعد العامة لانطلاق الفكر. وهكذا استطاع تشكيل وثيقة نقدية بارزة وقدم مستنداً منهجياً للمحاكمة الأدبية في وقت مليء بالاستحقاقات.
"كل أدب لا يعرف الحياة لا يحيا" يقول سعادة: أنه الأساس في مذهبه الأدبي".
ذلك لأن "حصول النظرة الفلسفية الجديدة إلى الحياة والكون والفن يفتح آفاقاً جديدة للفكر ومناحي جديدة للشعور كما قلت آنفاً. وهنا نقطة الابتداء لطلب سياسة جديدة وأشكال سياسية جديدة ولفتح تاريخ أدب وفن جديدين. فالأدب والفن لا يمكن أن يتغيرا أو يتجدّدا إلا بنشوء نظرة فلسفية جديدة يتناولان قضاياها الكبرى أي قضايا الحياة والكون والفن التي تشتمل عليها هذه النظرة".
الحياة والنظرة إلى الحياة مشفوعة بالكون والفن هي في جوهر العملية الأدبية وفي صلب تمظهراتها. لذلك فإن الضرورة تفترض تعيين المعنى العميق لهذه النظرة كما تفترض تعيين شكل الأداء إذ يطال الأمر مسألة الحداثة في علاقتها بالتاريخ.
الحياة بالنسبة لصاحب الصراع الفكري ليست في الانطلاق من حياة الفرد، بل هي حياة الأمة وطرائق عيش المجتمع الخاص بها، لذلك فإن دعوته للعودة إلى التاريخ الذي يسجّل مواهبها، روحها وتراثها إنما هي تعبير عن حركة الاتصال بين حقباتها من الأسطورة إلى منجزاتها.
في أيلول من عام 1957 كان الشاعر أدونيس يقول ذلك: "ليس بين قصيدتي وقصيدة خليل حاوي أي التقاء. ذلك أنّ القصيدتين تنبعان من مصادر واحدة أطلقها في بلادنا عقائدياً أنطون سعادة. وحققها من ناحية استخدام الشعر شعراء في الغرب قبل خليل حاوي وقبلي: فليست مجهولة دعوة أنطون سعادة شعراء بلاده العودة إلى أساطيرها واستخدامها في كتابه "الصراع الفكري في الأدب السوري".(1)
غير أن العودة إلى الأسطورة ليست بحد ذاتها أكثر من تفاصيل للحداثة التي تتم الدعوة إليها انطلاقاً من مقولة التجديد. يقول سعادة: بهذا الاتجاه الجديد يمكن أن يترافق الأدب والحياة. فيكون لنا أدب جديد لحياة جديدة فيها فهم جديد للوجود الإنساني وقضاياه التي نجد فيها الفرد
والمجتمع وعلاقاتهما ومثلهما العليا كما تراها النظرة الجديدة الأصلية إلى الحياة والكون والفن. إن الأدب الصحيح يجب أن يكون الواسطة المثلى لنقل الفكر والشعور الجديدين، الصادرين عن النظرة الجديدة، إلى إحساس المجموع وإدراكه إلى سمع العالم وبصره فيصير أدباً قومياً وعالمياً لأنه يرفع الأمّة إلى مستوى النظرة الجديدة ويضيء طريقها إليه. ويحمل، في الوقت عينه، ثروة نفسيه أصلية في الفكر والشعور وألوانهما إلى العالم".(2)
إنّ التجديد إذن يقوم على المعاصرة الدائمة بنتيجة ترافق حركة الأدب مع حركة الحياة. هذا التلازم بين الموضوعتين هو تعبير فذ عن الأصالة والحداثة يختصر قضية الصراع بين طرفي مقولتين اعتقد الكثيرون أنهما لا يلتقيان. كما يختصر المسافة أيضاً بين نوعين من الأدب واحد قومي وآخر عالمي. فيرتفع الأول إلى سوية، حين تكون تعبيراً عن شعور الإنسانية وفكرها، تختصر المسافة آنئذ بين العابر والثابت وبين المحدود واللامحدود. وهكذا يتعين المفهوم الجديد للحياة مفهوماً خاصاً بالأمّة وعاماً بالعالم في آن واحد.
أمّا ترافق مقولة الحياة بمقولتي الكون والفن باستمرار فمسألة تعود في فكر سعادة إلى مبدأ الشمولية الذي يعتمده في طروحاته العقائدية. فالاجتزاء في المعطى إنكار للكلية في الوجود. والوجود هو بحد ذاته اكتمال لا نقصان فيه. والأدب هو توق للإفصاح عن هذا الاكتمال والتعبير عنه بطريقة متوازية مع التطور في حركة التاريخ. لذلك فإن اللغة الدقيقة والأسلوب المتميز في أداء المعاني هما جزء لا يتجزّأ من حركة الإحاطة بمفاهيم الدعوة الأساسية.
ولأنّ الحياة هي حياة المجتمع التي يستمد منها الفرد شخصيته فإن وظيفة الفرد الأدبية هي التعبير عنها وفي الوقت ذاته المضي بها إلى المثل التي تتوخّاها الأمّة. ولما كانت هذه المثل دائمة الرقي والتطور فإنّ شكل التعبير عنها يجب ألا يتوقف عند حدّ لأن الحياة بحد ذاتها لا تتوقف عند حد. وهكذا يظهر المنطق الأساسي في التفسير منطقاً دائم التقدم معتمداً على أوليه لا تعتبر الحداثة حدثاً خارجياً بل مضموناً للحياة بذاتها والكون بذاته والفن بذاته أيضاً.
إنّ الكون عند سعادة هو موضوعة في الترقي الإنساني أكثر منه معطى جغرافي في الأرض أم حدثاً في اصطدام المجرّات. الكون هو الوجود للناس في اجتماعهم. لذلك فإنّ الأدب الأمثل هو الذي يصف صيرورتهم. لما كانت هذه الصيروة لا تنتهي فإنّ الأدب الخاص بها فكراً وشعوراً لا يقف عند حد. إنّ سمته الأساسية تتمثّل في تطوره الدائم وتجدّده الأزلي. وكما يطال الأمر الواقع أنه يطال في الوقت عينه الماوراء. إنه إذ يطال الواقع في واقعيته لا يهمل الماقبل والمابعد في الآن ذاته.
أما مسألة الفن المتلازمة باستمرار مع مسألتي الحياة والكون فهي توازي في فكر سعادة طريقة الظهور الإنساني. إنّ الفن بالنسبة إليه ليس ما يظهر منه في الشعر أم الرسم أم الموسيقى فحسب. إنه تمظهر النظرة الفلسفية الجديدة إلى الحياة الجديدة لذلك فهو يقع في إطار
المثل العليا للأمة. ولما كانت المثل بحد ذاتها نسبية فإنّ الفن بحد ذاته هو أيضاً نسبي لقوانين العصور في تطورها في التاريخ. من هنا يمكن أن يكون فن قديم كما يكون فن جديد ليظهر في السياق الفكري ذاته وسيلة مترقية باستمرار للتعبير عن الحياة والكون.
من كل ذلك تتبين الحداثة في "الصراع الفكري في الأدب السوري" نتاجاً لاعتماد فلسفة جديدة تؤسس لحياة جديدة تستند إلى الأصول في التراث الروحي للأمة وتعتمد على مواهبها في القدرة على التطور والرقي. ويعبرعن ذلك كله في الكون وفي الوجود فن تترامى أصوله إلى التاريخ القديم ويتقدم باضطراد إلى أحدث التعبيرات عن المستجد في المعطيات.
غير أنه كتاب في النقد، يؤسس ويضيف. وفي الحالتين: التأسيس والإضافة يظهر الاهتمام باللغة كمنطلق وكهدف في الوقت عينه إن الدقة في التعبير هي محط الإبداع ومهبط التحليل الذي يعتمد بشكل أساسي على فلسفة جديدة تنبئ بأدب جديد، تحمله لغة جديدة "وأنّ أنطون سعادة صاحب كفاءة نقدية في مجال الأدب يبرزها كتابه الذي يشير إليه أدونيس – الصراع الفكري في الأدب السوري – وهي نتاج خبرة عميقة في الفنون والأدب والفلسفة والاجتماع والتاريخ واللغة من جهة ونتاج منهج فكري متراص لا يعجز عن الإدلاء بالحجّة الأقوى وهو في صدد تحليل أية ظاهرة وأية مسألة. وسعة اطّلاعه هذه تتبيّن بشكل جلي في تعاطيه مع مسائل أدبية محددة كبحثه مثلاً في التقليد والتجديد أو في دراسته دراسة نقدية لنتاج شاعر أو رسالة أديب".(3)
إنّ اللغة تحمل المعاني من جهة وتنتج من جهة أخرى مهارات التحليل والإبداع. وحين تكون دقيقة في اللفظة وفي التركيب تصبح محملاً جديداً للفكر. ولما كان هذا الفكر متجدداً فإنها في حالة من التحدي الذي لا يتوقف عند حد من الحدود وصولاً إلى الإبداع اللغوي بحد ذاته. يرى أ.ج غريماس في كتابه "في المعنى" ما يلي: "منذ وقت، نسمع، في بعض الأوساط، كلاماً يتردّد حول نوع من الامبريالية الألسنية. ومع أن الألسنين ليسوا على علاقة بالأمر، تظهر الألسنية وكأنها أحياناً تهديد وتظهر كأنها وعد أحياناً: فبحسب المدارس والأشخاص المعنيين إما أنه يحصل تقدير عال للمقدرات المنهجية في هذا المجال أم يحصل سوء تقدير عال للمقدرات المنهجية في هذا المجال أم يحصل سوء تقدير لظاهرة عابرة"(4). في كلا الحالتين إنّ الخطاب اللغوي يحمل الدلائل. فلا تظهر المقدرة اللغوية الفعلية إلا في صياغتها لمقاصدها حتى تصبحان – اللغة ودلالتها – حالة واحدة إلى درجة لا تقوم فيها اللغة دون قصدها ولا يقوم القصد دون لغته، على هذا المستوى العميق من التواصل بين المعنى والإشارة إليه يمكن الكلام عن امبريالية متساوية في الإبداع. إنّ لغة سعادة هي بحد ذاتها تجديد وهي حداثة، لا تنوجد فقط في الأدب الذي يدعو إليه، بل في الفلسفة والسياسة وعلم الاجتماع وفي قراءة التاريخ وفي إظهاره.
أما في الإجابات الأساسية حول المعارف الإنسانية وكيفية تمظهرها عند الأفراد، فإن النص النقدي يتكئ إلى المعطى العقائدي أكثر مما يلجأ إلى فواصل الجسد والفكر. والمعطى العقائدي هذا مستند إلى قواعد فقهية عند الإنسانية عامة. هذه القواعد تنتج، فيما تنتج عنه من تمثلات مترابطة مع أصوات ومعان تنتج المعرفة أو على الأقل الجزئية منها، في علاقة الأصوات بالمعاني"(5). إنّ هذه الشبكة المتصلة من الأصوات إلى المعاني مترابطة عند سعادة في بنية عميقة تحدث وقعاً مستمراً يصل بثبات إلى الذاكرة ليصبح النص عنده أكثر من موضوعة معرفية، يصبح خطاباً متكاملاً يساهم في نقد الأدب ويعبّر في الوقت ذاته عن أدب جديد. إنّ النقد هنا هو فن من فنون الأدب. لذلك فإنه خارج إطار التقليد والكلاسيكية في موقع مغاير لما سبق من طرائق نقدية. وهو صاحب مطلب معرفي في الفن والأدب والشعر. وهذا المطلب يتأسس على الفلسفة التي هي في آن للغة والحياة.
إن النقد الحديث عند سعادة يتأسّس إذن على التاريخ وعلى الفلسفة باتجاه صناعة تاريخ جديد وفلسفة جديدة: "مما سبق إيراده يتبين بوضوح مطلب سعادة بإرساء النقد على أسس تاريخية وفلسفية تكون ضمانة ضد الاستبداد بالرأي الفردي الذي لا قاعدة موضوعية له وضمانة للحقائق المقررة بالتالي"(6). إنّ هذه الأسس إذ تصون الأصالة باعتمادها على التاريخ تترك الباب مفتوحاً أمام إنتاج فلسفة جديدة للحياة والكون والفن. ذلك لأنّ المطلب الأساسي للوجود هو هذه الحياة الجديدة التي يعبّر الفن عنها ويصوغها باضطراد صياغات حديثة مرتبطة بالعصر وحاجاته ومقاصده. حتى الأساطير القديمة التي تتم الدعوة لاعتمادها في الأدب والشعر لا بد وأنها بحسب منطق الصراع الفكري من ارتداء حلّة جديدة متوافقة مع رؤية من العصر للعصور الخوالي. ذلك لأن "الأسطورة – كما يقول رولاند بارت هي لغة"(7). ويضيف: "بعد الكشف داخل عدد من الحوادث الراهنة حاولت أن أحدّد بشكل منهجي الأسطورة المعاصرة"(8). إنّ هذا الكلام يزيل الالتباس حول مسألة الأسطورة. فهي ليست عودة للتاريخ أم لحدث منه بقدر ما هي قراءة له بشكل حديث أم نظرة فلسفية معاصرة لنظرة فلسفية قديمة. إنّ دعوة سعادة للعودة إلى الأساطير بقدر ما هي استنباط لروح الأمة إنها إطلاق لهذه الروح باتجاه مستقبل الأمّة ومآلها. لذلك فإنّ النقد عند هذا المستوى إنما يدخل في عالم جديد في إطار مقولتي التراث والحداثة والمسألتان جزء من الثقافة التي ليست اتباعاً بل موقف ناجم عن استقلال الرأي تجاه المعطيات.
في كل ذلك ترسو القاعدة على مفهوم التطور في التاريخ والصيرورة في الفلسفة.
فالقديم يعادل التوقف والجديد يوازي الحركة. ولما كان النهج بالأساس يقوم على مبدأ التطور والحركة فإنه يمكن الاستنتاج بأن الأدب الذي يدعو إليه سعادة كما النقد هو أدب جديد ونقد جديد.
إنّ الصراع الفكري في الأدب السوري هو كتاب يؤصّل الحداثة بربطها بقوانين الحياة بما هي استمرار. إنه كتاب الحداثة بما هي تجديد مستمر للحياة. ولأنّ "اللغة معطاة في الوقت ذاته مع المجتمع فإن كلاً من المفهومين: اللغة والمجتمع يفترضان الواحد الآخر. لذلك فإنه لا بد من دراستهما الواحد مع الآخر واكتشافهما معاً لأنهما قد ولدا معاً"(9). إنّ كلام بنفنيست هذا يأتي داخل النسق الذي عمل ضمنه سعادة. فلإن اللغات تماماً كما المجتعات تحيا وتموت فإن قانون السياق هذا هو ذاته قانون الحياة تبقى إذا تقدمت وتموت إن توقفت.
داخل هذه الجدلية يتم النظر الأدبي إلى العلاقة الوثيقة بين أطراف الوقت فيحصل التأسيس على التراث المتواجد داخل اللغة ويحصل التحديث بواسطة هذه اللغة انطلاقاً من النظرة الفلسفية الجديدة. وهذه النظرة ليست أحادية البعد. إنها تمسك بعلاقات الخاص بالعام، بما هو ذاتي متّصل بالمجتمع وبما هو عام متّصل بالإنساني. فينتج عن كل ذلك تخط دائم إلى اتجاهات يفترضها التأويل الأدبي. "إنّ فن التأويل لا يظهر بوضو إلا في أعمال عميقة المعاني". بحسب ما يرى فريدريك شليفل عن كتاب تودورون "الرمزية والتفسير"(10). على هذا المستوى يتم الخلق ويحصل الإبداع. فيرتفع النص العادي إلى النص اللااعتيادي بواسطة الانتقال من المعنى المباشر إلى المعنى اللامباشر في صيغ غير الصيغ المتدوالة وفي نظرة متآلفة مع رؤى جديدة ومع أشكال للحياة جديدة.
صحيح أنّ مجمل السياق هذا إنما هو سياق عقائدي. غير أنه بشكل قاطع غير دوغماتي. بل على العكس من ذلك إنه إطلاق فكري لحركة الحداثة بمفهومها الذي لا يتوقف التجديد فيه عند حدود. ذلك لأنّ التأصيل بحد ذاته هو محمل للحداثة والحداثة مكان لا حدود له في الوقت.
المراجع
· د. مروان فارس: دكتوراه في علم الألسنية محاضر في الجامعات اللبنانية له مؤلفات متعددة
· مراجع وإشارات:
1- مقالات في المنهج للدكتور مروان فارس عن مجلة لأدونيس – أيلول 1957.
2- الصراع الفكري في الأدب السوري – أنطون سعادة – منشورات عمدة الثقافة – بيروت.
3- مقالات في المنهج: الدكتور مروان فارس – بيروت – منشورات مجلة فكر 1980، ص 141
4- A.J. Greimas: Du sens. Ed. du seuil-Paris 1970-4-4
5- No am Chomoky – Regles et Representations – Flammarion – Paris 1980.
6- مقالات في المنهج: الدكتور مروان فارس – منشورات مجلة فكر بيروت 1980
.
7-8 Roland Borthes: Mythologies – Edittions du Seuil – Paris 1970.
9- Benveniste: Probleme de linguistique generale 2- gallimard – Paris – 1974.
10- Tzetan Todorov: Symolisme et Interpretation – Editions du seuil – Paris 1978.
-------------------------------------------------------
الحلقة القادمة: راهنية سعادة الدائمة. محمد جمال باروت.
الحلقة السادسة: راهنية سعادة الدائمة
ماذا يعني "الصراع الفكري في الأدب السوري" اليوم؟ وهل يمكننا قراءته من جديد، وتحديد الآثار العميقة التي تركها على تطور حركة الشعر الحديث، أي بشكل يكون فيه قابلاً للاستعادة النقدية وبالتالي للحضور المتجدد؟ ولكن من هو "سعادة" بالنسبة لنا في "الصراع الفكري في الأدب السوري"؟ هل هو الزعيم النهضوي الذي يرى كل شيء في ضوء منظور النهضة القومية الاجتماعية، ودوافعها واضطراراتها، وبالتالي فإنه محكوم إيديولوجياً بظروف نشأة هذه النهضة وتوجّهها للحياة أم أنه وهو المتأصّل في قيم هذه النهضة يتخطّى البعد الإيديولوجي المحدود بطبيعته إلى البعد الخاص والشامل للأدب عموماً، وللشعر خصوصاً بوصفه جنساً أدبياً حساساً، قابلاً لاستيعاب الحساسية الجماعية وتحريك نبضها؟
يتّصل السؤال الأول بوظيفة الشعر، في حين يتصل السؤال الثاني بطبيعته. وتكمن أهمية سعادة في أنه ربط وظيفة الشعر بمدى أمانته لطبيعته الخاصة كجنس أدبي مميّز، أي بمدى كونه شعراً، ومن هنا لم ير الوظيفة في العلاقة ما بين الشاعر وجمهور يحرضه، أي أنه لم يرها في إطار خطابي وتحريضي بقدر ما رآها كامنة في طبيعة الشعر نفسه، بعد إعادة النظر بمعناه وبطبيعته ووظيفته وأدواته. وإعادة النظر هذه تفسّر استراتيجية مفهوم التجديد لديه، حيث تتواتر كلمة "التجديد" ككلمة مفتاحية، لا يدع تواترها أي شك حول مبلغ استيعاب سعادة لهذه الإشكالية.
وما سمّاه بـ "التجديد" هو نفسه على وجه الضبط ما أسمي بدءاً من النصف الثاني من الخمسينات بـ "الحداثة". ودفعاً للالتباس فإن ما هو مؤكد أن سعادة لم يفكر بمعنى "التجديد" أو "الحداثة" داخل معنى من معاني "الحداثية" أو "الحداثوية" أو الـ "Modernisme"، بل داخل معنى لها يقع في إطار "الحداثة" بمعنى الـ "Modernite"، بمعنى تأصل التجديد.
أية علاقة يمكننا تحديدها ما بين مفهوم سعادة لـ "التجديد" ومفهوم "الحداثة" أو لـ "Modernite" ذلك تمييزه له عن مفهوم "الحداثية" أو "الحداثوية" أي الـ
"Modernisme"؟ وكيف يمكن تحديد هذه العلاقة واكتشاف أبعادها في إطار الآثار العميقة التي أنتجها "الصراع الفكري في الأدب السوري" بشكل أصبح فيه لهذه الآثار آليات اشتغال دينامية ذاتية، أي أنها تحولت إلى عنصر تكويني توليدي من عناصر الظاهرة الشعرية الحديثة، تتخطّى الإطار الإيديولوجي نفسه إلى إطارات أوسع وأشمل.
تلك العلاقة ما بين "التجديد" و "الحداثة" هي على وجه الضبط ما سمي في مرحلة تالية بـ "الرؤيا". وإذا كان ممكناً تكثيف جوهر حركة الشعر الحديث بدءاً من النصف الثاني من الخمسينات، فإنها ستكون على وجه الدقة كلمة "الرؤيا" بمعناها المصطلحي المنظومي ويسمي سعادة الرؤيا بـ "نظرة فلسفية جديدة"، الأساسي هنا أنّ الحداثة ليست تغيّراً شكلياً بل تغيّراً في الرؤيا والنظرة إلى العالم. وذلك هو الركن الأساسي الذي قامت عليه حركة الشعر الحديث في منبرها الأهم (حركة مجلة شعر).
فإذ يرى سعادة أنّ الشعر "رسالة" تعبر عن "شخصية الأمة ونفسيتها"، فإنه لا يعني بالرسالة المعنى الإيديولوجي الضيق، مع أنّ العنصر الإيديولوجي كامن بالتأكيد في رؤيته للشعر وتحديده لمعناه. ذلك أنّ مفهوم الرسالة، محكوم هنا بتعريف للوظيفة الرائية للشاعر التي يحددها بأنّ الشاعر، هو الذي يُعنى بإبراز أسمى وأجمل ما في كل حيّز من فكر أو شعور أو مادة" أي أنه يربط وظيفة الشعر بمدى تحقيقه لطبيعته. ومن هنا احتمل مفهوم "الرسالة" معنى يتخطى البعد التبشيري الخطابي ليعانق المفهوم الكياني للرؤيا، فأشار سعادة إلى احتمال استيعابها لـ "الأفكار الفلسفية أو اللاهوتية المتعلقة بأسرار النفس والخلود والخالق وما وراء المادة". وليست هذه الأفكار سوى عناصر أساسية في الرؤيا الحديثة.
إذن التجديد لا يكمن في تغيير الموضوعات، ولا يتحدد في تغيّر الشكل بحد ذاته، بل في الرؤيا، كي يتجدد الشعر عليه أن يكون رؤيا جديدة. يعبّر سعادة: "الأدب والفن لا يمكن أن يتغيرا أو يتجدّدا، إلا بنشوء نظرة فلسفية جديدة يتناولان قضاياها الكبرى، أي قضايا الحياة والكون والفن التي تشتمل عليها هذه النظرة".
في هذه النظرة التي تقترب فيها النظرة الفلسفية الجديدة للحياة والكون والفن من مفهوم "الرؤيا" الحديث. يلحّ سعادة على الوحدة العميقة ما بين الفكر والشعور في الأدب، في إطار تميّز الأدب. يحدد ذلك أنه رغم أنّ "الأدب ليس الفكر عينه وليس الشعور بالذات. فإنه يقصد منه "إبراز الفكر والشعور بأكثر ما يكون من الدقّة وأسمى ما يكون من الجمال.
التجديد تبعاً لذلك لا يمكن أن يتم إلاّ إذا انطلق من رؤيا جديدة، فكرية – شعورية في إطار ربط تجديد الأدب بتجديد الحياة التي تغذّيه، وتجديد النظرة إلى الحياة، حيث يقول "إنّ الأدب لا يمكن أن يحدث تجديداً من تلقاء نفسه... ولذلك أقول التجديد في الأدب هو مسبّب لا سبب
هو نتيجة حصول التجديد أو التغيير في الفكر وفي الشعور، في الحياة وفي النظرة إلى الحياة، وبموجب ذلك تتحدد وظيفة الأدب في أن يقدم "فهماً جديداً للحياة".
وكما يشير كمال خير بيك أنّ مجلة "شعر" (عندما طرحت تجديد الشعر، طرحت تجديد الحياة نفسها، ولتجديد الحياة يجب تجديد العقل الذي يتحكم بهذه الحياة). هذا الكلام في الواقع يبدو متأثراً بنظرية أنطون سعادة حول التجديد الثقافي والفني في بلادنا.. فلا يمكن أن تجدّد الأدب إلا عندما تجدد الحياة التي تغذي الأدب.
إذا انتقلنا إلى مزيد من التخصيص والتدقيق، سنجد علاقة وثيقة ما بين استخدام الشعر العربي الحديث للرمز التموزي وبين كتاب سعادة؟ إننا نعني هنا على وجه الدقة القصيدة التموزية.
ما هي القصيدة التموزية وما طبيعة علاقتها بكتاب سعادة؟
هناك حدان في هذا المصطلح: القصيدة، وهو مفهوم بنائي تنظيمي أي مفهوم شكلي و "التموزية" أي النمط الأصلي للرؤيا الانبعاثية. في العلاقة ما بين هذين الحدين لا نكون أمام الرؤيا وحدها، بل نكون إزاء الرؤيا الحضارية على وجه التحديد، التي تتحسّس الرمز الحضاري وتعيد اكتشافه في سياق موقف جديد من العالم، يتماثل فيه الانبعاث التموزي شعرياً دلالياً مع الانبعاث القومي والحضاري نهضوياً.
وكان جبرا إبراهيم جبرا في دراسة له في مجلة "شعر" عام 1958 أول من أطلق مصطلح "الشعراء التموزيين"، على شعر كل من أدونيس ويوسف الخال وبدر شاكر السيّاب وخليل حاوي وعلى شعره نفسه، ثم أصدر أسعد رزوق كتابه "الأسطورة في الشعر المعاصر" عام 1959 وحلّل فيه الأسطورة التموزية لدى هؤلاء الشعراء، مبيناً أنّ الشعراء الخمسة يشتركون بتصوير الحاضر "أرضاً خراباً" ماتت فيها القيم الإنسانية، ومعالم الحضارة، ثم يلوحون بقيم جديدة، ويرون أنّ بلوغ العالم الجيد الذي يتوقون إليه لا يكون إلا بالموت الذي يعقبه البعث والخصب أي بعث الإله أدونيس.. تموز. ولم تتوقف القصيدة التموزية عند هذا الحد، بل تخللت حركة الشعر الحديث لتشكل أهم ظواهره، لتمتد عميقاً في شعر البياتي وتوفيق الصايغ وكمال خير بيك ومحمود درويش وفايز خضور ومحمود السيد ومحمد عمران وفؤاد سليمان، لتنجز عملية:
1- إعادة النظر بمفهوم التراث، فالموروث الثقافي – الشعري لا يتوقف هنا عند المرجع العربي – الإسلامي أو ما قبله الجاهلي بالمعنى الخاص، بل يميل إلى مرجع أقدم، يرقى إلى أكثر من 3500 عاماً في الحضارة السورية القديمة ورموزها.
2- إنعطاف الشعر العربي الحديث من الخطابة إلى الرؤيا، ومن الموضوع إلى التجربة، ومن التقريرية إلى الحدس ومن التسلسل المنطقي والعقلي إلى وحدة التجربة.
القصيدة التموزية تشير هنا إذن إلى بنية شعرية إجمالية ذات دلالة، لا تنفي حضور بنيات صغيرة أو فرعيه فيها. ومن هنا لا يصف المصطلح بنية جمالية بحتة بل بنية من نوع دلالي. تبعاً لذلك يضيء مصطلح العقيدة التموزية دلالة البنية الشعرية الحديثة، التي بدأت تشكلها منذ مطلع الخمسينات، وقامت على اكتناه النماذج الأصلية الانبعاثية، التي يشكل الرمز التموزي – انتربولوجياً – شكلها الأقدم والأساسي. من هنا يمكن تسمية "القصيدة التموزية"، بقصيدة الانبعاث، وهذه هي دلالتها الجوهرية، إلا أنّ صفة التموزية، تضيء النمط الأصلي للانبعاث أي النمط التموزي باستبدالاته العديدة، وتتمحور الدلالة التموزية هنا حول تجربة الموت القرباني، الافتدائي الفردي والانبعاثي الجماعي في أنّ الشاعر / المتنبي / الرائي الذي يموت فرداً ويُبعث جماعة.
ويلحّ نقاد ومؤرخو الحركة الشعرية الحديثة على أن استخدام الرمز الحضاري التموزي قد تم تحت تأثير "ترجمة" هيمنت بدون شك على الحركة الشعرية الحديثة لفترة طويلة، لا سيما في مفهومها عن المعادل الموضوعي.
غير أنّ هؤلاء النقاد والمؤرخين فاتهم أنّ دلالة الرموز التموزية في الشعر العربي الحديث تختلف عن الدلالة الإليوتية (نسبة للشاعر الإنكليزي: ت. س. إليوت)، لهذه الرموز. بكلام آخر، إنّ إشكالية الرؤيا الحضارية التي تكشفها الرموز التموزية المضمرة في شعر إليوت مختلفة عن إشكالية الرموز الحضارية التموزية في الشعر العربي الحديث.
فـ "الأرض الخراب" أو "اليباب" لإليوت هي "معادل موضوعي" لخواء الحضارة المسيحية الغربية وبؤر الإيمان فيها. إذ أنّ "الأرض الخراب" هي نفسها أسطورة الأرض التي حلت بها اللعنة، وبات ملكها عاجزاً جنسياً أمام شهوة زوجته، وكان على أحد المنقذين أن يعود إلى الكنيسة، ليصل إلى الكأس المقدسة، فيرفع اللعنة عن الملك العقيم وزوجته الأرض المجدبة. إلاّ أنّ "تيرزياس" بطل قصيدة "إليوت" لا يصل إلى هذه الكنائس، لأنه افتقد الإيمان بالكنيسة والمسيح، فلا يبقى هناك إلا لعنة الأرض الخراب. في حين نجد الانبعاث باستمرار في القصائد التموزية في مركز الشعر العربي الحديث، وهو انبعاث مرتبط بالدلالات التي تثيرها سياقاتها في الخمسينات والستينات.
إذا ما أعدنا القصيدة التموزية إلى مراجعها، فإننا نجد مرجعاً أساسياً من مراجعها هو مرجع "الصراع الفكري في الأدب السوري". ففي هذا الكتاب الرائد يتخطى سعادة المرجعية التقليدية الجاهلية – الإسلامية للشعر العربي ليراها قائمة في "القصائد والملاحم" الكنعانية، وليرى فيها أصل نشوء الشعر الكلاسيكي في الشعر العالمي. فيؤكد أنّ الأساطير السورية أثّرت تأثيراً كبيراً في الأساطير الإغريقية، وساعدت على نشوء أبدع الشعر الكلاسيكي وأسمى التفكير الفلسفي.
ليصل إلى أنه "لا بدّ هنا من تصحيح الاعتقاد الشائع أنّ الشعر الكلاسيكي يبتدئ بهوميروس، إذ أنه يبتدئ مئات من السنين مثل ألياذة هوميروس بقصيدة طافون في سورية".
ما يهم سعادة بالنسبة للوظيفة النهضوية للشعر هو العودة إلى هذه "القصائد والملاحم السورية" المتجلية بـ "الأساطير" وإعادة اكتشافها عبر نظرة جديدة إلى الحياة والعالم. من هنا يطلب من "الأدباء الواعين أن يحجّوا إلى مقام الآلهة السورية، فيعودا من سياحاتهم حاملين إلينا أدباً نكتشف حقيقتنا النفسية ضمن قضايا الحياة الكبرى التي تناولها تفكيرنا من قبل في أساطيرنا التي لها منزلة في الفكر والشعور الإنسانيين تسمو على كل ما عرف ويعرف من قضايا الفكر والشعور.
فسعادة التقط البعد الحضاري للرمز التموزي بوصفه رمزاً حضارياً. لقد رأى أنّ الأسطورة تعبّر عن مشاعر الجماعة، وتفصح عن حقيقتها النفسية، وموقفها من "قضايا الحياة الكبرى" على حد تعبيره. ومن هنا فإنها ذات صبغة فلسفية، تصهر "الفكر والشعور" أو "المغزى الفلسفي" بـ النظر النفسي. وبذلك تستطيع أن تعبر عن المثل العليا للجماعات، المنبعثة من الحياة أو أشواقها. ولا يوجد هنا أدنى شك وفي إطار ربط سعادة ما بين الحداثة في الأدب والرؤيا أو النظرة الجديدة في أنه رأى الرمز التموزي الحضاري السوري القديم رمزاً فريداً قابلاً للاكتشاف المعاصر، بل وإيجاد – بالنسبة إليه موصل الاستمرار الفلسفي بين السوري القومي الاجتماعي القديم والسوري القومي الاجتماعي الجديد.
***
في ضوء ذلك من الصعب القول أنّ أدونيس وخليل حاوي ويوسف الخال قد اقترحوا القصيدة التموزية تحت تأثير قصيدة "الأرض اليباب" لأليوت. الأدق أنهم عثروا عليها، في ضوء تشرّبهم بمبادئ "الصراع الفكري في الأدب السوري" ذلك أنهم جميعاً كانوا في فترة قوميين ومتعرفين بعمق على هذا الكتاب.
وإذا ما أردنا التوقف عند بعض الشهادات فإنه يحسن بنا أن نستعيد ما كتبه أدونيس: يؤكد أدونيس أنّ هذا الكتاب "كان صاحب الأثر الأول في أفكاري وفي توجيهي الشعري، وأنه بالإضافة إلى ذلك، أثّر تأثيراً كبيراً في جيل كامل من الشعراء، بدءاً من سعيد عقل وصلاح لبكي ويوسف الخال وفؤاد سليمان، وانتهاء بخليل حاوي. وكان إلى ذلك ملهماً لكثير من الأفكار والآراء الشعرية والنقدية في النقاش الذي دار حول مجلة "شعر" والمشكلات التي أثارتها، كما يؤكد الدكتور نذير العظمة أن "أغلب الشعراء التموزيين ما خلا جبرا إبراهيم جبرا وبدر شاكر السيّاب، كانوا ينتمون إلى الحركة القومية الاجتماعية أو يتصلون بها بشكل من الأشكال". وحين سُئل أدونيس عام 1957 عن العلاقة بين قصيدته وقصيدة خليل حاوي، أجاب بوضوح بأنه ليس بيننا أي التقاء، فنحن معاً انطلقنا من "الصراع الفكري في الأدب
السوري" لأنطون سعادة. وتذهب خالدة سعيد إلى أن الرمز التموزي الذي كشف عن أحلام الجماعات آنذاك، كان له كتعبير شعري ما يقابله على المستوى السياسي، فقد اندفعت هذه الجماعات وراء زعامة أو رموز وطنية مثّلت لها البطل المنتظر الذي يحقق المعجزة، أو الأب القادر على اختراق الموت، ولعلها تبين هنا حركة النهضة القومية الاجتماعية و"مسيحها" سعادة.
تلك إشارات إلى اعترافات وشهادات اعترفت بتأثير مباشر لـ "الصراع الفكري في الأدب السوري" على الظواهر الطليعية في الشعر العربي الحديث. وقد قمت من جهتي في كتابي "الحداثة الأولى" بتحليل هذه الشهادات، في سياق تحليل بنية القصيدة التموزية لدى شعرائها، وإبراز ما كان لهذا الكتاب من دور في كل ما قمت به من تحليل، لكني سأشير إلى ما هو دافع في تأثير كتاب سعادة في بعض الشعراء الذي أصبحوا من كلاسيكيي الحداثة مثل أدونيس.
فيكتب أدونيس قصائد تموزية عديدة. من بينها قصيدتين "وحدة اليأس" و "أرواد يا أميرة الوهم". يعلّق عليهما أدونيس "أعتمد في أسلوب هذه القصيدة، كما اعتمدت في قصيدة وحدة اليأسي، على الأسلوب في الشعر القديم في فينيقيا وما بين النهرين. أملي في استخدام هذا الأسلوب من التعبير الشعري، أن أضع مع زملائي الشعراء الآخرين حجرة صغيرة في الجسر الذي يصلنا بجذورنا وبحاضر العالم.
لعل هذا يندرج فيما سمّاه سعادة "ربط قضايا سورية القديمة بقضاياها الجديدة" وإيجاد موصل الاستمرار الفلسفي بين القديم السوري والجديد السوري القومي الاجتماعي، ومعروف ما قاله سعادة لسعيد عقل من ضرورة قراءة كيفية بناء قرطاجة العظيمة، وحوادث تاريخها الموقظة للشعور والمنهج الفكري على حقيقة سعادة. وفي هذين النصّين – القصيدتين لأدونيس هناك اختبار شعري مرهف للفرق بين الرمل / الخصب، البداوة / الحضارة، الأعراب / العروبة وعلى مستوى الرمز اختيار بين الخرافة ذات المغزى المحدود والأسطورة ذات المغزى الكياني، وكل ذلك داخل الزمنين.
أما في "البعث والرماد"، فيبدو أدونيس وكأنه يحقق ما رغبه سعادة من سعيد عقل، أي، في البعث والرماد. نحن في مناخات حريق قرطاجة، والارتماء الافتدائي في النار، وقطع النساء لغرائزهن لكي تصير حبالها للسفن وتضحية أليسار بنفسها. كما يستعيد أدونيس على وجه الدقة "ملحمة البعل وعناة" التي أوردها سعادة في "الصراع الفكري" وبشكل مطابق لما أورده سعادة. لقد كان أدونيس آنذاك أميناً لهذا الخيط الدامي المتوهج ما بين النبؤة والبطولة القربانية الذي اسمه سعادة فمن هو ذاك الذي مات باسماً على صليبه فاتحاً ذراعيه، ونبتت بحيرات من الكرز من دماه؟ من هو هذا الذي تنبت له الشقائق؟ إنّ كل سياق القصيدة يشير إلى سعادة الذي يغدو هنا في القصيدة تموزاً آخر.
إنّ كل هذا يدعونا إلى إعادة قراءة نقدية منفتحة لـ "الصراع الفكري في الأدب السوري" في سياق تأثيراته الفاعلة في الحركة الشعرية الحديثة. فكي يكون سعادة راهنياً علينا إعادة قراءته باستمرار، القراءة المستمرة لا يمكن أن تكون إلاّ تفكيكية وإعادة بناء. الأساسي هنا أن تكشف راهنية سعادة. ليس لرغبتنا، بل لأنّ لدى سعادة ما يمكن أن يؤهلّه لأن يبقى راهنياً.
-----------------------------------------------------------------------------------
محمد جمال باروت: ناقد وباحث ومؤرّخ له العديد من المؤلفات في الفكر الاجتماعي والنهضوي.