يقول باحث الآثار الفرنسي وعالم المسماريات الشهير، شارل فيرلو، وهو أول باحث آثار تولى فك رموز أبجدية الأوغاريتيين المكتشفة في موقع أوغاريت في تل رأس شمرا قرب مدينة اللاذقية الساحلية، وهي أول وأكمل أبجدية في التاريخ وتعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد. يقول: "لكل إنسان وطنان.. وطنه الأم وسوريا."
وما دفع شارل فيرلو لإطلاق هذه العبارة هي معرفته بحضارة هذه البقعة الجغرافية المتميزة بخصوبة أرضها وإنسانها المصارع الذي كان سباقاً في اختراع الكتابة الأولى (الصورية ومن ثم المسمارية) وإنشاء المدرسة الأولى وإطلاق الشعاع الأول وممارسة الحياة الديمقراطية والإصلاح الإجتماعي وفي إبتداع أول برلمان..
يحق للسوريين أينما كانوا ان يفتخروا ويعتزوا بأمتهم السورية لما أعطته للعالم من إسهامات حضارية إنسانية ولما يختزنه تاريخها الفكري-الثقافي-الروحي والسياسي والإجتماعي من فن وعلم وفلسفات وشرائع وملاحم وأساطير وعبقريات وبطولات وإنجازات.
يحق للسوريين أينما كانوا ان يعتزوا بأمتهم السورية التي كانت على مر الأزمنة والعصور، وما زالت، أمة معطاء، خيّرة، أعطت العالم العطاءات السخية بدون حساب وفتحت له دروب الخير والتعارف والتفاعل والسلام.
سورية، أمة العقل، وزّعت من حضارتها وأبجديتها ومعارفها وقيمها وجازفت بأبنائها ليكونوا رسل محبة وسلام ورواد علوم ومعرفة. جاءت بالرسالات السماوية والفلسفات الإجتماعية وإشعاعاتها الأولى: الشرائع التمدنية، ووزعتها على باقي الأمم لتكون منارات لها على دروب الفضيلة والعدالة والسلام. من رحمها ولدت المسيحية لتنسف صنميتهم ووثنيتهم الخرافية ولتفجّر ينابيع المحبة والرحمة والقيم الجديدة ومن أرجاءها انطلقت المحمدية لتكمل رسالة الإسلام ولتحطم ما تبقى من أصنام وأوثان.
وتاريخ سورية القومي السياسي الثقافي حافل بالأمجاد والإكتشافات والمنجزات الحضارية.. وما أكثر الآثار التي اكتشفت في مناطق عديدة فيها (ليس في أوغاريت فقط، بل في إيبلا ومارى وغيرها من الأماكن الأثرية في لبنان وقبرص والعراق) التي تظهر إسهام أمتنا في الفكر الحضاري لا بل أسبقيتها على العالم في إستنباط المآثر الحضارية في كافة شؤون الحياة ونشرها وتعميمها إلى سائر أصقاع الدنيا.
فقد شهدت بلادنا أقدم الحضارات وسبقت باقي الأمم في ممارسة الديمقراطية والمساواة بين البشر وفي وضع الشرائع والقوانين في كافة الأمور وتطبيقها (قانون أورنمو عام 2110 ق. م. وقانون لبت عشتار عام 1930 ق. م. وقانون ايشنونا عام 1850 ق. م. وتشريع حمورابي عام 1780 ق. م.) وفي إبتداع العلوم والفنون وممارسة الطب والعمليات الجراحية ومسح الأراضي وحفر الأقنية وجر المياه وتخزينها في الآبار وإتقان الفنون الصناعية والخزفية وبناء القصور والمعابد والحصون ونحت التماثيل واعتماد الثورة وحروب التحرير والسعي الدائم لتحقيق وحدة جماعات البيئة الواحدة في دولة مركزية قوية وإنشاء المدارس والمعاهد التعليمية والمكتبات ووضع الفلسفات الإجتماعية المتسلحة بالأدلة العقلية وممارسة مراسم وطقوس دينية تحمل في طياتها تفكيراً روحياً سامياً ودعوة الى المحبة والسلام.
ويكفي ان نقول ان أجدادنا السوريين كان رواداً في العديد من مجالات الحياة. فهم اكتشفوا النار والمعادن ودجّنوا الحيوانات والنباتات وابتكروا الزراعة واستصلحوا الأراضي واخترعوا الدولاب والمحراث والآلات وانشأوا صناعات الفخار والخزف والأسلحة والغزل والنسيج والأصبغة وبدأوا الكتابة التي طوروها من التصوير الى المسمارية الى إختراع الأحرف الهجائية التي علّموها لليونان ومن ثم نشروها في أوروبا وبقية العالم وأقدموا على دراسة الأجرام السماوية فوضعوا التقاويم وأسهموا في تأسيس "علم الفلك" وعرفوا التجارة ومارسوها في البر وفي البحر وأنشأوا العملة والأوزان والمقاييس وكانوا السباقين في طرح مشكلات فلسفية حول أصل الوجود وفي عبادة الإله الواحد "إيل" أو "بعل" او اي اسم آخر نسبة الى المنطقة الجغرافية ولهجتها.
وفي مراحل تاريخ أمتنا تأسست المدن-الدول التاريخية كسومر وآكاد وبابل وماري وأشور ونينوى وارام وكنعان وإنطاكيه وغيرها من المدن المزدهرة والمشّعة على من حولها وبرز في أوساطها العديد من القواد والحكماء والفلاسفة النوابغ الذين كانت لهم أهداف أساسية وإسهامات كبيرة في تاريخ الحضارة الإنسانية. ومن هؤلاء القواد والعظماء نذكر، على سبيل المثال لا الحصر، سرجون الآكادي الكبير موحّد بيئته الطبيعية لأول مرة في التاريخ والملك حمورابي العموري (1792-1750 ق. م.) مؤسس الدولة المركزية القوية وجامع الشرائع السورية الأولى في العالم وموحدها في كتاب واحد. ونذكر آشور الذي امتاز بعبقريته العسكرية ونبوخد نصر الكلداني الذي نقل زعماء اليهود الى بابل في محاولة منه لصهر جماعاتهم في البوتقة السورية.
ومن المدن-الدول الفينيقية المنتشرة على الساحل السوري الممتد من فلسطين في الجنوب حتى كيليكية في الشمال، من عكا وحيفا ويافا وغزة وبيسان وأريحا وصور وصيدون وبيروت وجبيل وطرطوس وأرواد وجبلة وأوغاريت والإسكندرون وغيرها من المدن والقرى انطلق الكنعانيون يمارسون حياتهم البحرية وينشرون ثقافتهم ومعارفهم في البحر السوري، المعروف بالمتوسط، لينتقلوا في ما بعد الى آخر آفاق المعمورة يكتشفون مجاهيلها ويملؤن أجزاءها المعروفة والمجهولة بأمجادهم وعظماتهم ومحطاتهم ومدنهم الجديدة لتكون قواعد إنطلاق حضاري توزّع أنوارها على العالم.
انطلقوا من صيدون ليؤسسوا محطات تجارية في بلاد مجهولة وبعيدة... فأظهرت الإثباتات الأركيولوجية انهم وصلوا اميركا الشمالية والوسطى والجنوبية وكانوا المكتشفين الأوائل لهذه القارة قبل كريستوف كولومبس بقرون عديدة وقد تركوا فيها آثاراً واضحة وكتابات مدهشة نجدها على صخرة دايتون في الولايات المتحدة الأميركانية وصخرة غافيا في عاصمة البرازيل والصخرة العظيمة التي تسمى بالحجرة المنحوتة في ولاية براهيبا البرازيلية وعلى الصخور الواقعة على ضفاف نهر الأمازون والأنهر المنصبة فيه كما نجدها في جبال الأندس وبطاح الأرجنتين وفي لغة وعبادة قبائل التسندال في المكسيك.
وانطلقوا من صور بقيادة الأميرة الشجاعة أليسا (اليسار) إبنة الملك ميتينوس وبنوا قرطاجة عاصمة المجد وملكة البحار، تلك المدينة-الدولة الفينيقية التي امتازت بالحيوية والبراعة والإبداع والتي حققت مرتبة ممتازة من الرقي والتمدن والإزدهار في جميع الحقول مكنتها من فرض سيطرتها على المستعمرات المغربية ولعب دور حضاري في شمالي افريقيا وجزر البحر وإسبانية وبريطانية وغالية ومن إكتساب صداقات الشعوب وجعلهم حلفاء لها.
وفي عاصمة المجد ترعرع هاني بعل ابن هملقار العظيم وأعظم نابغة حربي في كل العصور وكل الأمم، هاني بعل الذي أعلن الحرب على رومية واجتاز جبال الألب الشاهقة والمغمورة بالثلوج لينقضّ على عدوة قرطاجة التي هالها ما رأته من براعة الفينيقين وانتشار حضارتهم فطمعت بإحتلال ملكة البحار وبفرض سيطرتها على بلاد حوض البحر المتوسط. هذا القائد القرطاجي الذي رفض مصير الخنوع والعبودية واختار درب القتال ليرفع اسم قرطاجة عاليا تجسّدت في مواقفه الأصالة السورية وروح المواجهة والبطولة والصراع.
ومن إحدى المدن على سواحل آسية الصغرى انطلق طاليس الفينيقي (أول فيلسوف في العالم ويعرف بأبو الفلسفة) إلى جزر بحر ايجه ليبشّر بفكر فلسفي جديد وليؤسس أول مدرسة فلسفية في تاريخ الإنسان فيتلقف المجتمع اليوناني تعاليم هذه المدرسة "الايونية" وروائعها الإنسانية والأدبية والفنية ليبدأ عهداً جديداً في امتداد العلم الصحيح والإفتراضات المنطقية. ومن اكتويوم في قبرص الفينيقية، انطلق معلم الحياة زينون بن منسى السوري لينشر مبادىء فلسفته الرواقية الإنسانية في أثينا وليعلّم الفضيلة المطلقة والمواطنة الكونية. ولقد كان لفلسفته الأخلاقية الجديدة أثر كبير ليس على الفكر اليوناني فحسب، بل على الفكر الروماني والأوروبي من بعده.
وبالإضافة إلى الشرائع البابلية والعبقرية الأشورية والحضارة الفينيقية، أعطت سورية الثقافة الآرامية التي حلت لغتها التي تكلم بها السيد المسيح محل اللغة الكنعانية وتغلبت حتى على اللغة العبرية لتتحول بعد ذلك إلى لغة عالمية ذات نفوذ وتأثير ثقافي كبيرين.
يحق للسوريين أينما كانوا ان يفتخروا بأصالتهم القومية وبأمتهم العظيمة لما أعطته عبر العصور من رجال عظماء وقواد خالدين ومن أدباء ومفكرين ومبدعين ظهروا في تاريخنا الحديث وتركوا آثاراً قيّمة في الحضارة والفكر والعلوم الإنسانية لا يمكن طمسها أو نسيانها. ومن بين هؤلاء نذكر المفكر فرنسيس المراش الحلبي، أحد رواد الأدب الرومانسي في القرن التاسع عشر، وعبد الرحمن الكواكبي، أحد رواد الفكر السياسي الإصلاحي، والدكتور خليل سعاده، رائد الفكر والأدب والسياسة والنضال القومي في العقود الأولى من هذا القرن، والأديب جبران خليل جبران صاحب الروائع الأدبية والفنية الذي ذاع صيته في العالم، والأديبة الكبيرة مي زيادة والمعلم بطرس البستاني والعبقري كامل الصباح الذي امتاز بعقل منتج وروحية مبدعة خلاّقة.
ويحق للسوريين ان يفتخروا بأروع ما أعطته سورية في تاريخها الحديث: رجلاً عظيماً امتاز بعبقريته ونبوغه... رجلاً كانَ آية في المناقبِ الجديدةِ وكان فيلسوفاً وقائداً وهادياً، كرّس حياته لينقذ أمته من ويلاتها وأمراضها، فأسس مدرسة فكرية ووضع أسس نهضة قومية إجتماعية جاءت بنظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن، نظرة أهدت أدبائنا وشعرائنا ومدرسة تربى فيها المصارعون وتخرّج منها الأبطال والشهداء والمبدعون ومشاعل نهضوية في شتى الحقول. هذا الرجل العبقري المتفوق في الفكر والعطاء والبطولة، الزعيم الخالد، قال فيه الشهيد كمال جنبلاط: "إن سعاده هو رجل عقيدة ومؤسس مدرسة فكرية كبرى وباعث نهضة في أنحاء الشرق قد يندر لها مثيل".[1]
وبالرغم من هذا التاريخ المجيد، وللأسف، فنحن عاجزون عن إصلاح أوضاعنا وأنظمتنا السياسية..
[1] الحزب السوري القومي الإجتماعي، إستجواب جنبلاط التاريخي للحكومة حول إستشهاد سعاده عام 1949، منشورات عمدة الإذاعة، ص 94-95.