في هذا الزمن الصعب، زمن الوباء والفقر والإفلاس السياسي والموت المتكاثر.. زمن الإحباط واليأس نتيجة فقدان البوصلة وتحويل مسيرة الصراع عن محورها الطبيعي.. في هذا الزمن الرديء، نتساءل: هل يجوز أن نبقى على حالنا البائسة نتلهى بقضايا سطحية وأمور صغيرة وصراعات جانبية عبثية ونتغافل عن هم القضية القومية ومسارها؟
هل يجوز أن نصرف اهتمامنا في منازعات ومماحكات لا فائدة منها إلى أن يحل البلاء الكبير وتلتهم النار كل شيء يحيط بنا؟
ألا نعي ما يحيط بنا من أخطار عظيمة محدقة تهدد سلامة الوطن ووجود الأمة؟
ألا نعي أن الفئات الرجعية لن تجلب على الأمة بسياساتها الخصوصية وخططها الإعتباطية وحزبياتها الدينية والعشائرية إلا الخراب والدمار والويلات وإن النهضة القومية الجديدة هي وحدها من يعبّر "عن إرادة الأمة واستعدادها لصيانة حقوقها ومصالحها"، كما يقول باعث النهضة.
ألا نعي ان نجاحنا متوقف على أفعالنا لا أقوالنا وعلى اتحادنا لا منازعاتنا وعلى أنفسنا لا غيرنا؟
أمتنا اليوم تتعرضُ إلى جملة من الأخطار الخارجية والداخلية ونحن نرى أن الواجب القومي يحتّم علينا ان نواجه هذه الأخطار كلها لا ان نتلهى بأمور صغيرة..
وأهمُ خطرين يهددان أمتنا من الجنوب ومن الشمال هما خطر التقدم التركيٍ على حدودنا الشمالية والخطر الصهيوني الذي يغتصب فلسطين ويحتل الجولان ومناطق من لبنان ويحاول التوسع باستمرار.
الخطر التركي المتمادي اقتطع في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي أجزاء حيوية من وطننا متمثلة بكيليكيا ولواء الإسكندرونة وخليج السويدية في الزاوية الشمالية الشرقية للبحر السوري، وتبلغ مساحة هذه الأراضي المحتلة ما يزيد عن 117000 كيلومتر مربع، إضافة لستة أقاليم أعالي الفرات لتصبح الأراضي المغتصبة بتواطؤ المستعمر أكثر من 191000 كيلو متر مربع في القرن الماضي. واليوم تراود الدولة التركية وحاكمها اردوغان أحلام قديمة بإحياء الإمبراطورية العثمانية. لذلك تحاول هذه الدولة نشر ثقافة التتريك والعثمنة في المناطق التي تحتلها داخل الأراضي السورية عبر مشاريع متعددة ومتنوعة اقتصادية وثقافية واجتماعية، وعبر اعتماد سياسة قمعية وعمليات خطف وإعتقالات وتهجير للسكان الأصليين من مدنهم وقراهم وبلداتهم وتدمير المنازل والمستشفيات والبنى التحتية وجلب سكان جدد من مناطق أخرى، من بينهم عائلات المسلحين المرتزقة ولاجئين قادمين من دول مثل تركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان وأذربيجان وأفغانستان، لتوطينهم. وتحاول الدولة التركية تعزيز عمليات التغيير الديموغرافي بتتريك المنطقة المحتلة، بما في ذلك الشوارع والقرى والأحياء وإنشاء الجامعات والإهتمام ببرامج المدارس وفرض تعليم اللغة والتاريخ التركيين على الطلبة السوريين وفرض التعامل بالعملة التركية بدلاً من الليرة السورية وإجبار المواطنين على حمل بطاقات شخصية جديدة لها رمز ونظام خاصان ومرتبطان بدائرة النفوس في تركيا.. وكان النظام التركي قد قرر إنشاء كلية في عفرين تابعة لجامعة غازي عنتاب، كما سمى مدرسة في تل أبيض باسم "نبع السلام". وقام بتغيير أسماء قرى سورية بريف عفرين من أسماء كردية إلى أسماء تركية كتغيير الساحة الرئيسة بعفرين إلى ساحة أتاتورك. وفي عملية مماثلة أطلق اسم "الأمة العثمانية" على الحديقة العامة في مدينة إعزاز بعد ترميمها، كما تم تجديد واستكمال مستديرات في المدينة وزرع العلم التركي في وسطها. كما يرفع هذا العلم فوق العديد من المقرات والهيئات الحكومية.
ومؤخراً أعلن النظام التركي عن افتتاح كلية طب ومعهد عال للعلوم الصحية في بلدة الراعي شمال مدينة حلب يتبعان لجامعة العلوم الصحية الأم في اسطنبول.. هذا القرار الباطل، وهو واحد من الإجراءات غير القانونية، يُشكّل خرقاً فاضحاً للقانون الدولي ولميثاق الأمم المتحدة ويذّكرنا بذات الأساليب والإجراءات التي اعتمدتها الدولة التركية في لواء الإسكندرون القرن الماضي تحقيقاً لغايتها بسلب اللواء وضمه إلى تركيا وقد نجحت في ذلك.
ومنذ بداية الحرب على الشام، تواصل الدولة التركية دعمها لمجموعات مسلّحة وتنظيمات إرهابية كجماعة "الأخوان المسلمين" و"جبهة النصرة" وغيرها من الميليشيات التي ترتكب أعمالأ إجرامية وممارسات عدوانية بحق المدنيين. كما تحاول إعادة إنتاج خطر "داعش" وتلاحق الأكراد بغية إبادتهم وتسعى لتعزيز احتلالها لقرى وبلدات سورية وفرض قوانينها التعسفية كما تسعى لزيادة نفوذها على الحدود السورية الشمالية من خلال سياسة التهجير الممنهج وعمليات التطهير العرقي وضربها للعمق الديمغرافي للشام والتمدد داخل الأراضي السورية من أجل تحقيق مطامع بعيدة الأمد، وعلى رأسها السيطرة على معادن ونفط شرق الفرات.. وكم كان سعاده محقاً عندما قال في خطاب له عام 1948: "إنّ الحيوية التركية ككل حيوية أخرى، في العالم تحاول دائماً الامتداد والتوسع. وطالما نحن في تفسخنا، فالحيوية النامية على حدودنا ستظل تمتد. فالخطر في الجبهة التركية لا يزال ماثلاً اليوم، وسيتحول قريباً إلى خطر مخيف."[1]
أما الخطر الصهيوني فيمثِّلُ مشروعاً إستعمارياً توسعياً يطمعُ في مياهِنا وثرواتِنا الطبيعيةِ وفي السيطرةِ على وطننا بأكمله. إنه مشروعٌ إلغائيٌ يريدُ إجتثاثَ وجودِنا وتفريغَ أرضِنا ومُصادرتِها عبرَ قوانينَ عنصريةٍ جائرةٍ وتهويدَها بتغييرِ معالمِها الحضاريةِ وتحويلَ ملكيتِها إلى ملكيةٍ يهوديةٍ محض. لذلك نبّه سعاده قائلاً: "إن خطرَ اليهودِ لا ينحصرُ فقط في فلسطينَ بل هو يتناولُ لبنانَ والشامَ، إنه خطرٌ على الشعبِ السوريِ كلِه لأن اليهودَ لن يكتفوا بالإستيلاءِ على فلسطينَ ففلسطينُ لا تكفي لإسكانِ ملايينِ اليهود". [2]
آخر فصول المشروع اليهودي- الصهيوني تمثّلَ بصفقة القرن المشؤومة والمرسومة بالإشتراك مع الإدارة الأميركانية. هذه الصفقة غايتها تصفية المسألة الفلسطينية من خلال حرمان شعبنا الفلسطيني من حقوقه المشروعة ومنع عودة اللاجئين منه إلى ديارهم ومن خلال تهويد مدينة القدس وبناء المزيد من المستوطنات واعتماد الإجراءات التعسفية والقوانين العنصرية الظالمة والكفيلة بإقتلاع شعبنا الفلسطيني من أرضه.
إن المشروع اليهودي- الصهيوني يشتدُ شراسة ويستعدُ لتحقيق المزيد من أحلامه وأطماعه في أرضنا... إنه مشروع خبيث يستعمل كل الإمكانيات والوسائل المادية والإعلامية والسياسية لضرب مجتمعنا وإضعافه وابتلاعه.. إنه، بإختصار، مؤامرة عدوانية، تستعمل أحياناً لغة السلام والترويج لمعاهدات السلم المذّل، ولكنها في الحقيقة ليست إلا حرباً عنيفة على وجودنا. إنها حرب على كل الجبهات يستعمل فيها العدو أسلحة متعددة ويعتمد سياسات البطشِ والإرهابِ والقتلِ والتدميرِ وهدمِ المنازلِ والإعتداءِ على المقدساتِ ومصادرةِ الأراضي وبناءِ المستوطنات لأن إستراتيجيته الأساسية هي الإحتلالُ والسيطرةُ والتوسعُ.
هذه المؤامرة اليهوديةَ - الصهيونية التي تستهدفُ كامِلَ مجتمعنا دون استثناء تستلزم منا اليوم أن نضع حداً لكل تناقضاتنا وخلافاتنا وأن نوحِّدَ قوانا المبعثرة في إرادة واحدة نافذة...
لقد خسرت أمتنا أجزاء حيوية من الوطن بسبب ما يعتري مجتمعنا من أمراض وإنقسامات ومن إفلاس أخلاقي وسياسي.
إنه من المخجل علينا ان نبقى مجتمعاً مضعضعاً، مشلولاً بفساده وصراعاته الداخلية وأحزابه الوصولية ومحكوماً عليه أن يسير إلى مصير الإنحلال والإنهيار والهلاك. لذلك فالمطلوب منا ان نحشدَ كل طاقاتنا وجهودنا وإمكانياتنا وأن نوحّدَ قرارنا ونقف مع أنفسنا ونعتمد خيار المقاومة والمواجهة الفاعلة لإسقاط "صفقة القرن" الخبيثة ولصد الأخطار الإلغائية التي تحيط بوطننا من كل ناحية والتي تستهدف كامل وجودنا الحضاري.
أما الأخطارُ الداخلية والتي لا تقل أهمية عن خطر العدو الخارجي فتتمثلُ بما يعتري مجتمعنا من أوضاع فاسدة وعصبيات مذهبية وولاءات عشائرية وثقافات لاقومية وسياسات عقيمة تبشِّرُ بالتنازل والإستسلام وبالتفريط بحقوقنا القومية. ان مصيبتنا بهذه الأمراضِ الداخلية وبالعملاء الأذلاء أصحاب النفوس الإنتهازية – النفعية، النفوسِ العاجزةِ التي تسقطُ مستسلمةً في ذلها هي أشد من مصيبتنا بالأعداء الخارجيين. لذلك لا يمكننا ان نواجه عدونا الخارجي ونتغلب عليه إلا إذا واجهنا في الوقت ذاته ما يتهددنا من أخطار داخلية وتغلبنا عليها.. فمتى حققنا ذلك نستطيع عندئذ ان نقف على أقدامنا بثبات وأن نواجه عدونا بصفوفٍ جديرة بالإنتصار، صفوفٍ تعي وحدَتها الروحيةَ والإجتماعيةَ وتعي حقيقَتها وروابطها القوميةَ ولا تسيرَ إلى الحربِ إلا بإرادة واحدة هي إرادةُ الحياةِ والإنتصار.
ما أحوجنا إلى تعاليم سعاده الذي قال: "إذا تركت سورية الفرص الحاضرة والآتية قريباً تمرّ بلا فائدة لها، فليس من باب المبالغة القول، إنه يكون في ذلك القضاء على أمل سورية بالحرية إلى أجيال وأجيال، وقد يكون في ذلك القضاء على الأمة السورية قضاءً مبرماً."[3] وقال ايضاً: "يجب على السوريين أن يلتفوا حول نهضتهم، وأن يقفوا موقفاً واحداً بقيادة واحدة ونظام واحد، ليحرزوا الحقوق التي تطالب بها حركتهم القومية الاجتماعية."[4]