وصلني من الرفيق الدكتور علي حمية مقال للسيد قاسم عز الدين بعنوان "سعاده ليس سبحة للطقطقة"، وفيه يرد على تعليقات أبداها قوميون اجتماعيون على مقالات سابقة... وكنتُ أحد الذين كتبوا آنذاك تحديداً حول تساؤل طرحه بعض المثقفين فحواه: هل فشل مشروع سعاده؟ وكذلك حول راهنية سعاده وفكره القومي الاجتماعي. وعلى رغم دخول أقلام أخرى في ذلك النقاش، إلا أنني لم أرغب في جدال لا يساهم كثيراً في إيضاح مسار تعاملنا مع المستجدات القومية والعالمية.
لكن المقال الجديد فرض عليّ الكتابة لأسباب ثلاثة:
1 ـ أن السيد عز الدين ينتقد بعض ما كتبتُه في مقالاتي.
2 ـ أن العنوان يتهم القوميين ـ وإن بطريقة غير مباشرة ـ بالتعامل مع سعاده وكأنه "مسبحة للطقطقة".
3 ـ أن الحيط الذي وقف عنده مواطننا الكردي، واستخدمه السيد عز الدين للتقليل من قيمة الحوار، هو "حيط فكري" متجذر في أدمغة بعض "المثقفين". ومن واجبنا القومي تهديم تلك الحيطان، وتحرير أولئك المثقفين من التكلس المعيب في أفكارهم!
لن أتناول خلطة الآراء التي أوردها السيد عز الدين في مقاله، فالنقاش حولها يأخذنا إلى متاهات لا أفق لها. لكننا نعترف له بمسلمة أساسية هي قوله "إن المبادئ ليست معتقدات دينية أزلية ثابتة، بل هي نتاج ظروف وتحولات تاريخية سابقة وإنها قابلة للتحوّل في مواكبة التحولات المستجدة...". وكان باستطاعة السيد عز الدين اعتماد قول سعاده "إن المبادئ هي قواعد لانطلاق الفكر"، و"أن العقل هو الشرع الأعلى"... فيطمئن قلبه، ويرتاح عقله، ويجنّبنا إضاعة الوقت في الشرح والتوضيح.
نحن نعتمد، بل ونؤمن، بعبارات سعاده أعلاه. ولذلك ننظر إلى المبادئ بوصفها "نتاج ظروف وتحولات" كما يؤكد السيد عز الدين. إذن المطلوب الآن ليس البحث في المبادئ أولاً، وإنما البحث في "الظروف والتحولات" التي أحاطت بمرحلة صياغة سعاده المبادئ الأساسية والإصلاحية في ثلاثينات القرن الماضي. السؤال الذي طرحته في مقالي السابق، وأكرره هنا هو التالي: هل تغيّرت "ظروفنا وتحولاتنا" الراهنة في سورية والعالم العربي كثيراً عمّا عايشه وعاناه شعبنا السوري قبل تسعين سنة تقريباً؟ وبالتالي، هل يستدعي حجم ذلك التغيير ـ إذا كان هناك تغيير جذري بالفعل ـ أن ينقض القوميون الاجتماعيون على مبادئهم لتفكيكها وتعديلها وإعادة تركيبها لعلها تنجح في مواكبة التحولات المعاصرة؟
جوابي سابقاً وحالياً هو أن واقعنا السوري والعربي، كما "ظروفنا وتحولاتنا"، تؤكد صوابية المبادئ السورية القومية الاجتماعية وراهنيتها وامتلاكها المنهج الذي يمكنها من "إقامة جسر معرفي يصل بين الماضي والحاضر، ومنهما إلى المستقبل". (هذه العبارة لم تعجب السيد عز الدين فوضع شرطاً خاصاً لهذا الجسر المعرفي)!! وبما أن النقاش يجب أن يبدأ بتحديد طبيعة الظروف والتحولات، فيكون من الخطأ المنطقي التركيز فقط على المبادئ بمعزل عن نتائج دراسة الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والفكرية في مجتمعنا السوري، والمجتمعات العربية الأخرى.
إن أي مراقب سوري أو أجنبي، يتمتع بالحد الأدنى من الموضوعية ولا تعميه الغرضية المقيتة، سيصل إلى نتيجة واضحة كعين الشمس: أوضاعنا الراهنة لا تقل خطورة عن تلك التي درسها سعاده بعمق، وخرج من أبحاثه الاجتماعية والفلسفية بالمبادئ التي تشكل أساس النهوض القومي لأمة فقدت سيادتها منذ قرون، ولشعب نخره الفساد والانحطاط حتى النخاع.
لا أحد ينفي أهمية الاقتصاد في حياة الأمم، لكن الاقتصاد ليس هوية قومية بحد ذاته. مصلحة الأمة هي الأساس، والترتيبات الاقتصادية إلى أية مدرسة انتمت يجب أن تتناسب مع المصلحة القومية. لقد أثبتت التجارب السابقة أن الإيديولوجيات الاقتصادية عرضة للتبديل والإلغاء حسب الظروف التي تمرّ بها الأمم. أما الثابت المطلق فهو المصلحة القومية. ولنا مع التجربة "الرأسمالية" في الصين الشيوعية خير مثال. وعندما نقول الآن إن النظريات الاقتصادية لا تحتل الأولوية في عملنا القومي، فلأن المهمة المركزية للفكر القومي الاجتماعي تتمثل في بناء الإنسان الجديد، الحامل وعياً قومياً راسخاً وإرادة قومية واضحة.
ويبدو أن السيد عز الدين إستفزته عبارتي التالية: "الفكر القومي الاجتماعي ما زال يُشكل قاعدة انطلاق لمواجهة التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية"... فإذ به يستنجد بمواطننا الكردي وحيطه: هذا الكردي وهذا الحيط! وأغلب الظن أنه يخلط بين القومية الاجتماعية وبين النزعات القومية العنصرية والشعبوية التي عادت إلى الانتشار في أنحاء العالم. وفي هذه الحالة، يكمن الخلل في الكاتب وليس في القومية الاجتماعية بوصفها وحدة حياة لجماعات من البشر في حيّز جغرافي معيّن، بغض النظر عن الأصول العرقية والدينية لتلك الجماعات.
خلال إقامتي الطويلة في بريطانيا، كانت لي صداقات وعلاقات مع أبناء بلادنا من الأكراد والأشوريين والسريان والأرمن. هؤلاء استوعبوا، على درجات، مفهوم القومية الاجتماعية. وربما بات من الواجب علينا أن نرسل صديقاً منهم كي يساعد السيد عز الدين في فهم القومية الاجتماعية واستيعابها... عندها يبطل أن يكون سعاده "مسبحة للطقطقة"، ويرعوي "المثقفون" عن التخبط في ما لا يعلمون.
وأختم بعبارة لسعاده وردت في رسالة إلى رئيس المجلس الأعلى بتاريخ 9 تموز 1938، يقول: "فحاولت جهدي في الوقت الذي سمحت به الظروف، أن أوقظ الأمة وأنبهها للأخطار المداهمة. ولكن المادية القاتلة المسيطرة، ووجود صحافة واسعة النطاق تخدم مصالح الأجانب الاستعماريين وتندفع في خدمتها عند أقل إشارة، وانعدام حرية القول والاجتماع، وقيام إدارة تجرد كل واحد فيها من أي شعور حقيقي بالقومية أو محبة الوطن، جعلت مجهودي يضيع قسم كبير من مفعوله السريع، ويقتصر على قسم من القوميين الواعين".(الأعمال الكاملة ـ الجزء التاسع. صفحة 48)
من العبارات المميزة التي ننظر بها إلى سعاده، واحدة جاءت في عنوان مقال للأمين الراحل ميشال نبعة في مناسبة الثامن من تموز: "هو الذي رأى"!
سعاده الرائي شق الطريق وعبّده وأنار ظلماته. يبقى علينا نحن، قوميين وغير قوميين، أن نكون أهلاً للسير على ذلك الطريق ذي المعالم الواضحة... أما إلى أين سنصل؟ فهذا رهن بخياراتنا: "في الصراع المميت بيننا وبين قوات التوحش لا نشك في أن قوتنا الروحية المتمدنة العظيمة ستسحق التوحش وغدره ولؤمه سحقاً تاماً كاملاً". ("الزوبعة"، العدد 67. أول تشرين الأول 1943).