في 12/12/2001 عممت عمدة الثقافة والفنون الجميلة النص التالي كان أعده الرفيق لؤي زيتوني يتناول فيه "تحليلاً لأدب الأديب القومي الراحل الرفيق فؤاد سليمان"، وقد اقتطفت من النص الجزء التالي الذي نعيد نشره، مع أهم ما جاء عن سيرة الرفيق الأديب، في الرسالة الجامعية (ماجستير) التي أعدها الرفيق سيمون الديري عام 1971 وصدرت عن "فجر النهضة" عام 2002.
*
كتب الرفيق لؤي زيتوني معرّفاً عن أدب الرفيق الأديب فؤاد سليمان، التالي:
تنبع اهمية كتابات فؤاد سليمان من كونها على اتصال مباشر في كثير من الأحيان بالزعيم وبنظرته الجديدة الى الحياة والكون والفن، فكانت تتلبس بشكل دائم المنطق الصراعي موجدة موصل الاستمرار الفلسفي بين السوري القديم والسوري القومي الاجتماعي الجديد، مبرزة التعاليم القومية الاجتماعية على الدوام.
فكان توقه المستمر الى الوحدة القومية التي تحوّلنا من ضعفاء الى اقوياء، فهو يقول: " يا صديقي أنت ضعيف وأنا ضعيف، فاسند ضعفك الى ضعفي لنحارب فلا نموت.. شدّ جناحيك يا صديقي لأشدد جناحي، واشف من جراحك لأشفي من جراحي.
أنا الأمل الأخضر يا صديقي، نحن الشباب. نحن الزوبعة الحمراء التي تهصر الأغصان" .
ولذلك رأى بأن أول خطر يواجه الأمة ووحدتها ومصيرها هو العدو اليهودي المتربص بنا الشر بشكل متواصل، ومن اجل هذا يسأل: " أما تزال الأرض تضج تحت أقدام الجبابرة من اسرائيل، يحملون الدم والموت والخراب؟ أو ما يزال صوت يهوه، يا رب، سنة وشريعة الأرض ".
فصراعنا ضدهم صراع وجود، فإما أن يصرعونا وإما أن ننتصر عليهم ونأخذ الحرية لأمتنا. من هنا كان تشديده الدائم على التضحية والإستشهاد في سبيل حياة الأمة وحريتها وكذلك رقيها.
فكان طلبه من نساء أمتنا، وهنَّ الأساس في التربية والتوجيه، أن يحضّوا ابناءهنّ وأزواجهنّ على الشهادة من أجل حياة شعبهم قائلين: " موتوا يا ابناءنا وأزواجنا لتفرح بكم الحياة ".
وذلك لأنه يؤكد على " أن باب الدم، أوسع أبواب الخلود.. ومن يمت في العاصفة يكتب التاريخ عاصفة ".
فأرضنا لا تتحرر ولا تتوحد إلا من خلال الدماء الطاهرة التي اثبت التاريخ أنها الطريق الأمثل لحرية الأمم ولا سيّما أمتنا من أيام صور الكنعانية وايليسا حتى يومنا هذا.
لذا فهو يطلب تواصل هذه الطريق قائلاً: " صلّ لربك.. أن تفرح دائماً أرض بلادك وتخصب على دماء الشهداء! ". ونرى بوضوح هنا أن الشهادة طريق للحياة وليس للفناء لدى فؤاد سليمان، فهي دليل أكيد على نهوض الأمة وإيمان راسخ بانتصارها.
لهذا يصرخ سليمان من مأساة شعبه في فلسطين: " من آلامنا الطويلة، من جراحاتنا الدامية، من عذابنا واضطهادنا، من تضحياتنا التي لا تعرف حداً، من بطولات شبابنا الجديد سنخرج نحن لفلسطين، ولكل حبة تراب تضيع من أرضنا.. ولن تضيع يومذاك حبة تراب واحدة في هذه الأرض، وسنزرع التراب هنا بطولة فلا تنبت ارضنا غير البطولات. ونقف في وجه التاريخ مرة أخيرة، ندقّ التاريخ على رأسه لنكتبه كما نشاء وتشاء الكرامات".
من هنا كان كلامه الدائم عن خط النضال السوري ضد الأيدي الجبارة العاتية للتنين اليهودي، المتجلي في احقاب متعددة من تاريخ الأمة، والذي تتجند فيه كل عناصر الأمة وجميع افرادها. فيقول: " هو الصراع، بين كنعان واسرائيل، يدفع دليلة المرأة الكنعانية الى وادي سورق (فلسطين) لتشد قرني الجبار الإسرائيلي (شمشمون).. وتكسر من حدته.. وخرجت كبيرة منتصرة رائعة ".
وعلى هذا الأساس يتكلم سليمان بلسان الأمة السورية بأسرها، وبلسان نهضتنا الحية معلناً: " اعداؤنا نحن نعرفهم.. ولن يفلت واحد منهم من قبضة التاريخ الذي سنكتبه نحن.. هم اقوياء، ولكننا سنجعلهم خزفاً وفخّاراً في موقدة التاريخ، ولن يبقى منهم غير الرماد.. حتى رمادهم سنذرّيه في الريح..".
وبناء على ذلك فهو مطمئن للمستقبل لأنه سيكون مشرقاً بالنسبة لأمتنا ما دام حاضرنا مليئاً بالبطولات والتضحيات، ويوضح ذلك بقوله:
" للأفعى السمراء هذا الربيع وحده، وللشحارير والأطياب والورود كل ربيع بعده ".
وهكذا ففؤاد سـليمان يناجي أجيال النصر الآتي معتبراً أنها ازهار تدل بتفتحها أنه قد حان زمان الخير والمحبة، ويحضّ هذه الأجيال على التحرك والخروج من التربة بغية الإشارة الى بدء الانتصار الحقيقي للأمة، فيقول: " اطلعي أيتها الشقائق الحمراء الحلوة " لتعود الحياة من جديد الى اروع مما كانت عليه.
لذلك فإن ما علقه من رجاء وأمل على الحزب السوري القومي الاجتماعي يتضح بشكل جلي لا ريب فيه في آخر ما كتب.
حيث يبعث رسالته الى القوميين الاجتماعيين بأن لا يكلوا ابداً عن الخوض في ساحة الجهاد، فهو لا يريد لقنديل النهضة الأحمر أن ينطفئ في وجه الليل العاتي بعد انطفاء جميع الأضواء على الأرض، وذلك في إشـارة واضحة الى الزوبعة التي تنير بيته – أمته، لأنها الأمل الوحيد والمضمون الذي سيتحوّل الى شمس تولّد النهار وتكسر الليل الطويل، قائلاً:
" لا تنطفئ، لا تنطفئ، يا قنديل بيتنا الصغير!
يا الذي انطفأت النجوم ولم ينطفئ..
حكاية الليل الطويل، أنت يا قنديلنا الاحمر الصغير ".
إذا فلتشـرق يا سـليمان – الزوبعة الحمراء هذه، لتنهض الأمة والبلد الذي "فيه خير وفيه حق وفيه جمال"، لا بل فيه كل خير وكل حق وكل جمال ".
سـيرتـه
مولده: هو فؤاد بن الشيخ خليل، بن موسى، بن جرجس سليمان الحصني.
ولد في فيع، قرية من قرى الكورة الخضراء الأربعين، تقع على تلة بيضاء التربة، مشرفة من الشمال والشرق على سهل فسيح من الزيتون وأحراج السنديان والكروم، ومن الغرب والجنوب على شواطئ شكا وانفة، تكوّن مع بترومين وددّه وبدّبا وعفصديق وقلحات القسم الأسفل من الكورة وتعتبر مع قلحات مدخلاً لدير البلمند.
صادف مولده عام 1911 في الصيف بعد الحصاد قبل عيد مار سمعان الواقع في أول ايلول كما تقول أمه العجوز، مرجّحة مولده في يوم من شهر تموز، أبصر النور في الغرفة الشرقية من البيت القرميدي الريفي المزروع على "بيادر" فيع حيث يسمع الجرس المترنّح في كنيسة مار سمعان المجاورة.
هو صغير العائلة المؤلفة من عفيفة واديل وعفيف وموسى وفؤاد. كان جدّه الشيخ موسى جرجس سليمان شيخ صلح مدة طويلة في بلدته فيع، وقد نزح اليها من بلدة الحصن في الشام لذلك تعرف العائلة باسم آخر هو عائلة الشيخ خليل سليمان الحصني أو عائلة خليل الشيخ. كان أبوه الشيخ خليل سليمان شيخ صلح في القرية، بفرمان من الدولة العثمانية أصبح مندوبها الرسمي. وكان خيّالاً فارساً حوّاداً. هاجر الى المكسيك طلباً للرزق، واستغرقت هجرته الأولى ثلاث سنوات، وبعد عودته مكث عشر سنوات بنى خلالها بيتاً وأولد عفيف وموسى وفؤاد. وكانت هجرته الثانية قبيل الحرب العالمية الأولى، طالت قرابة خمسة وثلاثين عاماً، يمد خلالها العائلة بالمال.
وإلى هجرته يشير فؤاد في "درب القمر": " أخذه البحر منا في الفترة العنيفة وفي العنفوان الأشد، وأعاده البحر ذات يوم على غير ما أخذه منا " ولمّا عاد كان فؤاد يزاول التعليم وحرفة الأدب(1).
أما أمه فهي كريمة نقولا الحايك من بشمزين. ولدت عام 1874 وماتت في 18 حزيران 1971. تعهدت الأولاد بحنان بعد سفر ربّ الأسرة.
من هذين الأبوين، أب يكافح في سبيل لقمة شريفة فيهاجر، وأم تبذل النفس في تعهد أبنائها بتربية صالحة وحنان جمع عطف الأبوة والأمومة، ولد سليمان يكرج فوق تربة فيع فيسري عبيرها في دمه وروحه.
طفولته: يقول فؤاد سليمان عن طفولته: " ما زلت حتى اليوم العب في جنباتها مع أتراب مثلي منذ عشرين سنة، وأمرّغ
وجهي بترابها وأتمدد على أعشابها وأختبئ في معابرها ومنعطفاتها. اراها تتأبط كتابها ورغيفها. مملّعة القميص، مبعثرة الشعر، مخدّشة، مجرّحة، سفيهة، وقحة. أنا أراها الآن في هذه الليلة الباردة تحاول أن تنتزع القلم مني لتجلسني بجانب أمي قرب الموقـد الدافئ، أقفقف على النار، رأسـي إلى كتف أمي، اصغي بقلبي وعيني الى حكايات كانون الجميلة ".
عاش طفولته قبل الحرب وبعدها وعانى أهوالها ونكباتها من جوع وتشـرّد وبؤس.
كانت طفولته مضطربة وسط الظروف الاجتماعية التي اوجعت طفولته ثم الهبت حنينه اليها من بعد. ولم تكن طفولته مميزة عن طفولة أبناء الريف الملتصقين بخيرات الأرض ومواد الهجرة. ونشـأ فؤاد شـبه يتيم في غياب ابيه تتعهده امّه. وكانت طفولته في فيع ريفيـة خالصة، يكرج على بيادر الضيعة ويسـرح بين الكروم مرمياً في حضن الطبيعـة والأرض يرتوي من ينابيعهـا ويشـنّف أذنيه بأصوات بلابلها، تتكيف حياتـه مع الفصول مواقد دافئة وحكايات سـمر في كوانين ولعباً ومرحاً و"تشـيطناً" طفولياً في الربيع والصيف، يلسـعه البرد وتدفئه الشـمـس وترتوي عينه من جمالات الحياة القروية، حياة الفلاحين والرعاة.
وتنازعت النشـأة الريفية والظروف الاجتماعية في وجدانـه الطفولي، في كلامه عن جوع الحرب صدى عذابه وعذاب من نشأ معهم في تلك المرحلة:
" جوع.. اطعمنا في لبنان، مرة في التاريخ، لحم الجيف المنتنة في القبور، من القبور نبشـناها لنشـبع، وأطعمنا لحوم اطفالنا، نذبحهم لنأكل، وأكلنا الديدان من جيف البغال الميتة، اكلناها يومذاك، أنا ما ذكرته عهداً إلا وتنشـف دمائي في عروقي ".
دروسـه:
كانت مدرسـة الضيعة الخاصة، وصاحبها ابراهيم شـاهين، مدرسته الأولى، وانتقل بعدها الى مدرسـة دير البلمند عام 1921 – 1922 أيام المطران الكسـندر جحا وكان من أسـاتذته فيها البروفسـور نقولا شـاهين(2) وأخوه قسـطنطين وأسـتاذ روسـي.
عاد من مدرسـة دير البلمند الى مدرسـة الصفـا بين فيع وقلحات. مدرسـة أسـسـها الشـاعر نعمان نصر صاحب مجموعـة "شـقائق النعمان" يعاونه الشـاعر سـليمان نصر. وكان من اسـاتذة فؤاد سـليمان في الصفا بالإضافة الى نعمان نصر وسـليمان الأستاذ نسـيم نصر.
يقول جبران جريج(3): كان الصف مؤلفاً من: جبران جريج، ميشـال أسـعد، أيوب ليّوس، جرجي ابراهيم عبد الله، عبد الله قبرصي، فؤاد سـليمان. وقضى فؤاد في مدرسـة الصفا سـنتين: 1923 – 1925 وفي الفصل الدراسـي الأخير اشـعرنا الأستاذ سليمان نصر ان مدرسـة "الصفا" سـتغلق أبوابها نهائياً.
وفي الأسـبوع الأخير علمنا أن الأستاذين سـليمان ونسيم نصر تعاقدا مع المدرسـة الأرثوذكسـية للصبيان في طرابلـس فاتفقنا أن ننتقل معهما. ويوم انتقل فؤاد الى طرابلس كان قد حصّل دروسـه الإبتدائية في مدرسـة الضيعة والبلمند والصفا.
مكث فؤاد سليمان في مدرسة الصبيان الأرثوذكسية سنة 1925 – 1926 "وقد اعتبرناها سنة تمهيد وتركيز للصف الرابع في معهد الفرير" كما يقول جبران جريج. وكان استاذه للغة العربية نسيم نصر.
انتقل بعدها الى معهد الفرير في بيروت. وظل في المعهد من عام 1927 الى 1931 ليتخرّج منه عام 1932 حاملاً شهادة البكالوريا، وقد درّسه الأدب العربي خلال السنة الأخيرة بطرس البستاني.
وتابع دروسه في معهد الآداب الشرقية سنة 1943 فنال شهادة الدبلوم بناءً عل بحث قدّمه عن جبران.
شخصية فؤاد التلميذ: تفتح ميلـه الأدبي باكراً وفي ذلك يقول عبد الله قبرصي: " درس بعقلية الأديب، الشـاعر، العصبي. لم تكن تهمّه الرياضيات ولا باقي المواد. كان يدرسـها لينجح في الإمتحانات بلا رغبة وبلا جلد. أما الأدب فقد اسـتهواه منذ ابعد سـني طفولته. وعلى شـرفة بيتهم مثلت مسـرحية "الآباء والبنون" لنعيمه، وكان من ابطالها فؤاد رغم أنه لم يكن قد تجاوز الثانية عشـرة من عمره. كان يمثل دور فتاة " ولم تكن حياة فؤاد المدرسـية لامعة إلا في الإنشـاء العربي والخطابة. كان دائماً في الطليعة ".
ويزكي قول الأستاذ قبرصي زميل آخر لفؤاد هو جبران جريج فيقول: " كان يدرس الرياضيات لأنها واجب ". أما اسـتاذه نسـيم نصر فيكشـف عن ذكائه وقلة دأبه واجتهاده: " عرفته مبكراً في نباهته غير ملحّ على الشـدة في التحصيل، فكأنه كان يريد أن يكتفي بما يتعلمه من أصول تسـاعده لجعل البيان عن معرفته وافياً بأدائها صحيحاً. كان رفاقه يدرسـون دائبين ولكن هو على قلّة ما يدرس متنبّه الرأي مسـتيقظ التفكير ". ويعلل الأستاذ نسـيم نصر سـبب تقصيره: " السـلحفاة لم تسـبق الأرنب إلا مرة واحدة وذلك في خيال لافونتين. وهو يقصد أن صاحب الموهبة هو السـبّاق مهما حصّل أصحاب الشـهادات ".
في معترك الحياة
حبّه – زواجه: باكراً جداً أحبّ فؤاد سـليمان وخفق قلبـه على درب القمر في فيع. أحب التي اصبحت فيما بعد رفيقـة حياتـه جوزفين خوري ابنة عمته وابنة الأكسـرخوس غفرائيل جبور كاهن فيع آنذاك. كان حبّه ريفياً شـاعرياً فمنحـه روحه وأعصابه وحافظ على براءته وكتب فيه القصائد والمقطعات.
يقول جبران جريج: " في السـنوات الثلاث 1927 – 1930 (بين السـادسـة عشـر من عمره والعشـرين) وهي بعض من الفترة التي عشـق فيها والتي كانت بالنسـبة لنا سـنوات مراهقة، ما تحدثنا يوماً بموضوع الجنـس، مع أننا كنا نتبادل المعلومات الكثيرة عن غزلياتنا الأفلاطونية العذرية، وما كان للجنـس أية علاقة بالغزل ".
وانتهى حبّـه الريفي الى الزواج، ولكن التقاليـد الطقوسـيّة وقفـت حاجزاً بادئ الأمر دون إتمام زواجه. تقول السـيدة زوجته:
" منعنا من الزواج لأن تقاليد الطائفة الأرثوذكسـية تقتضي بأن لا يتزوج الإنسـان من ابنة عمته ". ومن جراء ذلك وعناده سـجّل فؤاد سـليمان موقفاً بين الإنتحار والشـجاعة.
ورد على لسـان عبدالله قبرصي رفيق ذكرياته: " الجميع كانوا ينظرون إلى الحبيبين مجالاً لإنشـاء عائلة طيبة منسـجمة، ولكن الجميع لا يرضون عن هذا الزواج لأنه خروج عن قواعد الدين ".
كانت ضربة أولى صوّبها فؤاد سـليمان إلى الذين أرادوا أن يضحّوا به وبحبيبته عن حسـن نية أنه اطلق يوماً من الأيام النار على جنبه من مسـدس صغير، لقد هزَّ بهذه المحاولة قلوب القرية، فتراخت الأعصاب ولانت الإرادات وتظاهر الكل بالقبول، وصفت الدنيا أياماً للحبيبين.
قدر فؤاد سـليمان بموقفه المغامر أن يحرر ذاته فتزوج ابنة عمته جوزفين، من فتيات الكورة الراقيات، خريجة مدارس طرابلـس الأرثوذكسـية، وتم قرانهما في أيار عام 1941 وفؤاد في الثلاثين.
فؤاد الزوج والأب: اختصرت زوجته حياتهما قائلة: " كان زوجاً مثالياً يحب الحياة العائلية، وكان بيتنا ملتقى أصدقاء وأدباء كثر". وكلمتها بعد دفنه، والناس يحاولون العودة بها الى المنزل، تعبّر عن أواصر الإلفة التي كانت تجمعهما: الى أين اعود؟ الى البيت؟ لقد كان فؤاد بيتي.
انجب ثلاثة: ربيع(5)، وليد(6)، وسـام(7). ويوم توفي كان ربيع يبلغ من العمر تسـع سـنوات ووليد ثماني سـنوات ووسـام خمـس سـنوات.
غمرهم وهو حيّ بحنان، وأصر على أن يرتووا من طفولتهم.
وفي سـجلّ الولادة البيتي كلمة بخط يده موجهة الى ابنه ربيع حين ولادته عام 1942: " عشـت ربيعاً ناضراً يا بنيّ، لقلبي وقلب أمك التي احبهـا كثيراً ولهـذا البيت الذي يسـتقبلك بلهفة وحنان ولهذه الدنيا كلهـا. ها شـبابي وشـباب أمك المخلصة يعيشـان في شـبابك انت ولأيامك كلها ولسـعادتك وها أنت طيب من حب حملته أنا وأمك في قلبينا زمنـاً طويلاً فكنت الثمرة اليانعة والأمل الطري والربيع الحلو الإلهي. لتحرسـك قلوبنـا يا بني وليحرسـك الله.
وفي بيته مجموعة من الصور الفوتوغرافية تبرزه يلعب مع اولاده، وفي حضن الطبيعة يعربشون على ظهره فيحني رأسه لهم وهو الذي قال مرة لصديقه الأديب الياس زخريا: " نحني رأسنا لأولادنا في صغرهم كي يعرفوا معنى شموخ الرأس عندما يكبرون.
لقد حرم فؤاد وهو صغير من عطف الاب المهاجر فمال لأن يعوّض لأولاده ما حرمه، وعرف الإستقرار النسبي بعد زواجه. يقول جبران جريج: " انتقل الى منزل جديد في بيروت. كان مرتاحاً نفسياً. كان يحدثني عن افكار تزدحم في مخيلته. وبدأ يفكر في توسيع دائرة نشاطه الأدبي في التحرير “.
شـخصيته: كان نحيف البنية، متوسـط القامة، كسـتنائي الشـعر ضارباً الى صهب، ووجهه بلون شـعره، عيناه صغيرتان تقدحان حياة، وجبهته عالية، أنفه ميّـال الى الطول قليلاً، ووجهه الضامر يوحي بالعصبية، والطيبة، وعليه شـحوب. يترك شـعره منفوشـاً، وربطة عنقه مرخية إحمالاً. متحرر من قيود اللباس فلم يتأنّق، ويرتّب هندامه على بسـاطة لا تخلو من الإهمال. كان عصبي المزاج " ذا حسـاسـية دقيقة وعصبية ثائرة، وقد عرف فؤاد عصبياً الى درجة الكفر وحسـاسـاً الى درجة الإغراب. عاش لعاطفتـه على حسـاب أعصابـه ".
وكان الى جانب عصبيته طيب القلب، وديعاً قروي الطباع، سـريع الانتفاض، سـريع الهدوء. وفي حسـن طويته يقول الشـاعر خليل حاوي أنه تخاصم مع فؤاد ومضى زمن، واتفـق أن رأى خليـل حاوي يمـر في الشـارع مشـيحاًَ بوجهه عنه، فاقترب منه فؤاد وقال: " بعدك زعلان يا خليل؟ لا شـيء يسـتحق الزعل ".
وكانت أخلاقه مرحة أحياناً فإذا ضحك، ضحك من قلبه، وإذا تطرّف جاءت نكتته لاذعة. يقول جبران جريج: " سأل الأستاذ في الصف قال: " هل يعرف أحد منكم شخصاً كان يتقاضى على كل كلمة يقولها أو يكتبها أكثر مما كان يتقاضى عليها الكاتب الفرنسي الذائع الصيت الكسندر ديماس؟ " فكان الجواب من فؤاد: " نعم. نائبنا الكريم في الكورة فهو لا يفوه بأية كلمة ويقبض ما يقبض ".
ويروي الفرد خوري عن فؤاد السـاخر: " كنت اجلـس وإياه في الليوان في بيتـه. وقف فجأة. رأى جبر جوهر (8) وهو يشـبه فؤاد نحافة وقامة. قال لي ضاحكاً: " انظر الى الشـخص الذي يمر هناك هو إما أنا وإما جبـر جوهر ".
وأخبرني عبد الله قبرصي عن حادثة يعرفها أهل فيع " تبنى اخصام آل سـليمان فتىً شـرسـاً للإعتداء عليهـم. يوم أحد حضر ثملاً الى البيادر وراح يشـتم آل سـليمان. سـمعه فؤاد، نزل بجرأة نادرة لمجابهته أعزلاً. الأول بطّاش مسـلّح، والثاني شـاعر ما غازل الرصاص ولا البارودة رغم أنه أول من أهداني مسـدسـاً في حياتي. واسـتطاع اللسـان والقلب الشـجاع ان يقهر السـلاح الثمل. ألقى الفتى سـلاحه وعانق فؤاداً واعتـذر ".
وقد جمع الى الشـجاعة الوفاء، وكان عظيم الحفاظ على الجميل، حميم الصداقة طيب المعشـر، يقول جبران جريج أنه كان يشـجع زملاءه على إقامة نصب تذكاري لأسـتاذه نعمان نصر.
روى لي نسـيم نصر اسـتاذه انه زاره حين مرضه. قام بنفسـه يهيئ القهوة. "ابيت عليه ان يفعل خوفاً على صحته، قال لي بالحرف: " إن هذا العمل الواجب انجع في نفسـي من تناول جرعة الدواء ".
وفـوق ما في أخلاقه من نبل كان واثقاً من نفسـه حتى العنجهيـة، عنجهيـة وديعـة. يقول جبران حايك(9) :
" كتبـت مقالاً في "النهار" أعجب به فؤاد. قال لي: " بهنيـك ما حدا بيقدر يكتب هالمقـال إلا فؤاد سـليمان ". كان ذلك سـنة 1949.
كان يكره التعصب الطائفي على ممارسـة الفرائض، وعلى صادق ايمانه المسـيحي. يقول شـقيقه الدكتور موسـى سـليمان في مقدمة "أغاني تموز": " كنت برعماً لم تتفتـح اكمامك بعد عندما كنا نجتمع في ليالينـا الباردة، حول مواقد النار، في القرية الحبيبة، وحولك العشـرات وأنت بينهم عاصفة ثائرة، باليمين إنجيل النصارى، وباليسـار قرآن المسـلمين ".
وتنم مواطنيته عن ضمير حيّ يحمل آلام الشـعب ويدافع عنـه بجرأة. يروي أهل فيع أن نائب الكورة عام 1947 ميشـال مفرّج دعا الى اجتماع في اوتيل النورماندي يواجه فيه المشـتغلين في حقل السـياسـة الكورانية. كان فؤاد سـليمان حاضراً. أزمة العطـش في اذهان الناس. وقف مجابهـاً وقال: " إن الحمير في الجنوب تشـرب وأبناء الكورة عطاش الى الماء ".
أما في حياته اليومية " فكان يميل الى المطالعة هواية رئيسـية، ويصيد العصافير، ويهمل صحته بالإكثار من شـرب القهوة والدخان، ودخانه المفضل "يانانجه" يكتب على قفا علبه بعض مقالاته في المقهى وفي الترامواي وفي السـيارة ".
آثـاره
" قضى فؤاد سليمان ولم ير اسمه على كتاب من كتبه. وهو الذي كان قلقاً يريد جمع ما كتب، في أواخر حياته ". وما جمع وطبع كان بعد وفاته. وتعليل ذلك قول له " لم يحن الوقت بعد لنشر كتاب اضع عليه اسمي. إن الأدب تمزقات قلبية تصطرع في أعماق الإنسان وتجارب نفسية يمر بها الأديب فيصورها معبراً بذلك عن آمال وأماني المجتمع وأين أنا من كل هذا ".
ولكن اعترافه بعدم بلوغه مرحلة النضج لم يكن سبباً جوهرياً لتخلفه عن تأليف كتاب. أما يوسف الخال فيرد قلة إنتاج فؤاد سليمان: " عاملان جعلا فؤاد سليمان يبخل بالكمية على إجادته بالنوعية: تشدده على ذاته، وزواجه الباكر الذي شغله في إعالة اسرته. ولو انصرف للأدب لأعطى أكثر مما اعطى قيمة وكمية، لذلك لم تتح له الفرصة على موهبته وإبداعه أن يكون مرحلة تاريخية ذات أثر عميق في تطور الأدب العربي المعاصر ".
وتركت عصبيته اثراً على نفسه في التأليف فقصر. " أنف أن يحبس قلمه في موضوع فيكب عليه – على قول عبد الله قبرصي – ويصرف الساعات الطوال متأملاً في إخراجه، في تنسيق مصادره، في فتحه وإغلاقه ".
ويمكن ترتيب آثار فؤاد سليمان وفق المخطط التالي:
- ما نشر مفرقاً في الصحافة وجمعته "لجنة تخليد ذكراه" بمساعدة أخيه الدكتور موسى سليمان، وطبع في آثار أربعة: "درب القمر"، "اغاني تموز"، "تمّوزيات"، "القناديل الحمراء".
- ما كتبه من مقالات صحفية وهو محفوظ ولم ينشر ويحتوي على مقطعات نقدية أدبية واجتماعية.
- ما كتبه وضاع: أطروحة عن جبران في معهد الآداب الشرقية.
ونشير الى كتاب زعمت مجلة "الجمهور" أن فؤاد سليمان قرر طبعه عن ميخائيل نعيمه يدرس فيه أدبه، ويردّ على الإتقادات التي ذكرت عنه حين وضع كتابه عن جبران. وليس ما يؤكّد أن فؤاد سليمان قد ألّف هذا الكتاب.
*
القسم الاول: كتبه المطبوعة
درب القمر: صدر للمرة الأولى عام 1952(1) وكان أول كتاب يحمل اسم فؤاد سليمان. وضع مقدمته ميخائيل نعيمة وجاء فيها: " وها هو يحيا حياة جديدة في ما اقتنصه قلمه من عميق مشاعره وجميل خواطره ". يقع في حوالي مائة وستين صفحة. يحتوي على إحدى وعشرين قطعة مؤرخة بين 1936 و1951(2) خمسون صفحة منها: لوحات تستلهم حياة الريف بأسلوب شاعري وجداني طابعه التصوير الفني والتفجع على مأساة خراب القرية. وما تبقّى من مقطعات موضوعاتها مختلفة وأسلوبها واحد. محورها السياسة والدين والاجتماع.
وفي "درب القمر" حنين وألم وآراء فكرية وسياسية ونشدان مثالي لعالم جديد وإعادة شعرية مع تعليق لبعض الحوادث التاريخية وأحاديث عن "الميلاد" و"ومحمد" و"دليلة في التوراة" ورواية شعرية لمأساة مي زيادة، وحوار على لسان الريحاني مع "ملوك العرب في الفريكة"، ومقطوعة "بعد الخطيئة" التي لخّص فيها حكاية المرأة والرجل، حكاية الإنسان منذ تكوّن الخليقة.
اغاني تمّوز: وبعد "درب القمر" صدرت له مجموعة قصائد نشرها في مجلات كـ "المعرض" و "المكشوف" و"الجمهور" بين 1931 و1938. ظهرت بعنوان: "أغاني تموز" سنة 1953. ديوان يجمع أربعاً وعشرين قصيدة محورها المرأة والحب، ويشيع منها الحزن والعذاب واليأس والبوح والذكرى والكآبة السوداوية والتشاؤم والشعور بزوال الشباب والإرهاص بالموت. والديوان مهمور بمقدمة للدكتور موسى سليمان.
تموزيات: سبع وستون قطعة نشرت في "النهار" تحت زاوية "صباح الخير" بين سنة 1949 وسنة 1951. كتب مقدمتها غسان تويني، أحد رفقاء صراعه، بعد ان اصدرت للمرة الأولى عام 1953. تبرز في هذا الكتاب موهبة "تمّوز" – وهو الأسم الذي كان يوقّع به مقطعاته – الصحيفة في النقد الاجتماعي اللاذع بما احتوى من موضوعات متنوعة تثير في فؤاد العصبية والإشمئزاز والتحدي عناصر نفسه الواحد في كلّ مقطعاته التمّوزية.
القناديل الحمراء: أو الجزء الثاني من "تمّوزيات". مجموعة ثانية من مقالات كتبها فؤاد سليمان في "النهار". تسع وخمسون قطعة هي تتمة لمضمون "تمّوزيات" صدرت مرة واحدة عن دار الحضارة 1963. كتب مقدمتها أنسي الحاج، وتناول بصورة مميزة تحليل أسلوب فؤاد سليمان. والكتاب آخر ما حبّره قلم فؤاد سليمان(3) .
*
القسم الثاني: ما كتبه وضاع
دراسة عن جبران(4): وهي دراسة ذكرها عارفوه ولم تبلغنا، ويستشفّ بعض مضمونها من اقوال جمعناها وأسئلة طرحناها على من كانت لهم صلة بالمؤلف .
يتحدث جبران جريج عن فؤاد سليمان فترة 1935 – 1936 يقول: " أخذ يستقر في بيروت. أكبّ على دراسته عن جبران. كان يجمع ما تيسّر له من نتف، من رسائل، من مقالات مبعثرة منشورة مستحوذة على كلّ حواسه ومشاعره (5).
في 9 تموز 1943 يرسل الى نسيم نصر يقول: " أنا منكبّ على جبران. اهيئه أطروحة لمعهد الآداب في اليسوعية"(6).
ويسأله ثلاثة أسئلة حول جبران. ونشرت مجلة "الأجيال الجديدة"(7) جوابي ميخائيل نعيمة وشارل مالك على اسئلة فؤاد حول جبران المتعلقة بتأثره بالأدب الاميركي، والمقارنة بين جبران وشكسبير، وغوته، وحول رأي الحاخام الاميركي فرانكلين الذي يدّعي يهوديّة جبران.
وقد اهلته هذه الدراسة لنيل أول شهادة من الإجازة في اللغة العربية في معهد الآداب الشرقية سنة 1944 كما جاء في ملفّه كمدرّس في الكلية الثانوية.
*
القسم الثالث: من آثاره
وضمن الأعمال الكاملة التي صدرت عن الشركة العالمية للكتاب، هناك الأعمال التالية:
- يا امتي إلى أين: وهو مجموعة مقالات اجتماعية وسياسية.
- كلمات لاذعة: وهو مجموعة مقالات على نسق كتابه السابق "تمّوزيات".
- في رحاب النقد: وهو مجموعة مقالات ودراسات أدبية نقدية تندرج ضمن مدرسة النقد الإنطباعي الميال الى تحسس القيمة الجمالية والإلتزامية للأثر الأدبي.
- يوميات ورسائل: وهو كتاب مذكرات وتواصل مع أصدقاء معظمهم أدباء وشعراء وصحافيون.
- فؤاد سليمان بأقلامهم: وهو مجموعة مقالات ودراسات كتبها أصدقاء لفؤاد سليمان ونقّاد وباحثون تناولت كتابات
"تمّوز" من جميع النواحي الأدبية والاجتماعية والثورية والنقدية.
مقالاته وأبحاثه المنشورة في "الجمهور" و"المعرض" و "المكشوف" و"النهضة" " و"كل شيء" و"وصوت المرأة"
و "النهار" ولم تطبع بعد. وهي تقسم الى:
" لا تنطفئ، لا تنطفئ يا قنديل بيتنا الصغير
يا الذي انطفأت النجوم ولم ينطفئ
حكاية الليل الطويل يا قنديلنا الأحمر الصغير ".
في: 23/09/2021 لجنة تاريخ الحزب