صدر حديثًا عن مؤسّسة سعاده للثقافة كتاب المحاضرات العشر لأنطون سعاده باللّغة الإنكليزيّة – ترجمة الرّفيق الدّكتور عادل بشارة المحاضر في كلّيّة العلوم السّياسيّة في جامعة ملبورن الّتي تخرّج منها. ويعتبر هذا الإصدار انجازًا ثقافيًّا مهمًّا يُقدّر عليه الدّكتور بشارة لما له من فائدة للباحثين والدّارسين وللأجيال النّاطقين باللّغة الإنكليزيّة. هذا الكتاب الثّمين الّذي انتظرناه طويلًا يضاف إلى المجموعة الكبيرة من الكتب القيّمة عن الفكر القوميّ الاجتماعيّ الّتي أصدرها الدّكتور بشارة باللّغة الإنكليزيّة والكتب الأخرى الّتي أصدرها كلّ من الأمين الدّكتور إدمون ملحم والدّكتور سليم مجاعص بهدف تعريف المغتربين السّوريّين وأبنائهم والعالم الغربيّ، بصورة عامّة بفكر سعاده وفلسفته القوميّة الاجتماعيّة الجديدة المتضمّنة رؤية إنسانيّة راقية وحلولًا ناجعة لمشكلات المجتمع الإنسانيّ.
وهذه التّرجمة الجديدة للمحاضرات العشر الّتي قام بها الدّكتور عادل بشارة بجهد ومهارة لغويّة هي ليست المحاولة الأولى الّتي يقوم بها ولن تكون الأخيرة. ففي عام 2011، نشر د. بشارة ترجمة رائعة للقصّتين الرّائعتين: “عيد سيدة صيدنايا” و”فاجعة حب”، اللّتين كتبهما سعاده وطبعتا للمرّة الأولى في بيروت عام 1933، وضَمَّنَ التّرجمة مقدّمة تحليليّة لأسلوب سعاده الأدبيّ ولغايته من كتابة القصّة. وفي المستقبل القريب جدًّا سيتحفنا الدّكتور بشارة بترجمات إضافيّة لبعض روائع سعاده الثّمينة: الصّراع الفكريّ في الأدب السّوريّ والإسلام في رسالتيه ونشوء الأمم.
والأهمّيّة الثّانية لترجمة المحاضرات العشر أنّها تتضمّن أيضًا تمهيدًا ومقدّمة تحليليّة وقائمةً بالمراجع المعتمدة وفهرسًا للمواضيع وهوامش كثيرة تحتوي على معلومات إضافيّة وشروحات لبعض العبارات والمصطلحات ولأحداث معيّنة قد تكون غير مألوفة للقرّاء. وتعتبر هذه الحواشي، بعد مرور زمن طويل على كتابة المحاضرات العشر، كما يشير د. بشارة، أمر لا بدّ منه لقراءة النّصّ قراءة صحيحة من منظور القرن الواحد والعشرين.
وبالعودة إلى المقدمّة، فهي تتناول سعاده المفكّر والباحث وموقعه في تاريخ الفكر السّياسيّ وتبرز الغاية الجليلة للمحاضرات الّتي ألقاها والمفاهيم الجديدة الّتي ناقشها بأسلوب رائع ولغة واضحة والّتي تصبّ جميعها في التّعريف بالحزب السّوريّ القوميّ الاجتماعيّ كحزب فريد من نوعه ومتميّز عن غيره من التّجمّعات السّياسيّة، كما تتضمّن ملخّصًا للمحاضرات الّتي يعتبرها متسلسلة بشكل منطقيّ وتدور بمجملها حول فكرة مركزيّة وهي التّعريف بالحزب السّوريّ القوميّ الاجتماعيّ وبرنامجه الإصلاحيّ لبناء الحياة القوميّة الجديدة.
وفي التّمهيد يدعو المترجم القرّاء لقراءة هذا الكتاب بعقل منفتح وروحيّة حرّة، آخذين بعين الاعتبار المرحلة الزمنيّة الّتي ألقى فيها سعاده محاضراته في النّدوة الثّقافيّة بعد عودته من مغتربه القسريّ ومستوى المعرفة والمعلومات المتاحة في ذلك الوقت. كما يأمل أن تثير ترجمته هذه اهتمام الكتّاب والباحثين المهتمّين بسعاده وتمكّنهم من التّعمّق بفكره والتّأكّد بأنفسهم من صوابيّة تحليله للمشكلة القوميّة الاجتماعيّة في سورية بدلًا من الاعتماد على تفسيرات انتقائيّة وجزئيّة. وبالرّغم من ذلك فهو يشدّد على أنّ قراءة نصوص المحاضرات العشر الجذّابة بأسلوبها ومضمونها ووضوحها يجب أن تقرأ بموازاة أعمال سعاده الأساسيّة: نشوء الأُمم والصّراع الفكريّ في الأدب السّوريّ والإسلام في رسالتيه للوصول إلى فهم أكمل وأكثر دقّة لرسالته.
ويشير الدّكتور بشارة إلى أنّ سعاده صرف جهدًا كبيرًا في شرح عقيدته القوميّة الاجتماعيّة بكلّ جوانبها مفسّرًا أولويّات العمل القوميّ الاجتماعيّ بالتّغلّب على الصّعوبات الدّاخليّة أوّلًا، ومشدّدًا على إخضاع جميع وظائف الحزب للقضيّة القوميّة الاجتماعيّة ومركّزًا على إعطاء الأولويّة للجوانب الفكريّة والأخلاقيّة الّتي يجب أن تكون فوق السّياسة، وللنوعيّة بدلًا من الكمّيّة، وللمجتمع بدل الفرد، ولنظام الفكر والنّهج قبل التّرتيبات الشّكليّة.
ويؤكّد الدّكتور بشارة أنّ أهمّيّة المحاضرات العشر تتجلّى بما يلي:
أوّلًا، بكونها مرجع أساسيّ، ربما مقدّس للبعض، يُظهر تاريخ الحزب العاصف وصراعه مع الخصوم، ويكشف عن رؤية سعاده الأصليّة وغايته في تحقيق وجود سام، وعن منهجيّة حزبه وطبيعته، كحزب سياسيّ غير اعتياديْ وكحركة نهوض قوميّ اجتماعيّ. فالمحاضرات العشر، بإختصار، هي أداة لا غنى عنها للغوص في تاريخ الحزب المهمل جدًا.
ثانيًا، بكونها مصدر غنيّ بالمعلومات والمفاهيم النّهضويّة وهي أمر بالغ الأهمّيّة لفهم فلسفة سعاده الشّاملة وبنيته الفكريّة.
ثالثًا، بكونها تُشكِّل قراءة أساسيّة كبديل للأدبيّات المنتشرة والمليئة بالتْناقضات، وهذه القراءة تُوفّر للمتخصّص السّياسيّ وللطلّاب المعنيّين بدراسات الشّرق الأوسط فرصة الحصول على رؤية واضحة لأفكار سعاده ومكانتها في تاريخ الفلسفة والفكر السّياسيّ.
وفي نهاية مقدّمته، يؤكّد الدّكتور بشارة على طبيعة المحاضرات الّتي ما زالت مضيئة وصالحة لحاضرنا ولمستقبلنا وللأجيال القادمة، معتبرًا أنّها بحث في التّاريخ وتحليل اقتصاديّ، سياسيّ وثقافيّ. إنّها نبوءة.
ويضيف: إنّ سعاده لم يقصد بهذا العمل أن يكون مجرّد وثيقة تفسيريّة، بل دليل عمل واضح للشعب السّوريّ لتحقيق حياة أفضل وأكثر جمالًا.
ختامًا، لا بدّ من التّأكيد على أهمّيّة هذا الكتاب لأبنائنا وأجيالنا المولودين في المغتربات ولكلّ النّاطقين باللّغة الإنكليزيّة. فهذا الكتاب سيكون، كما هو باللّغة العربيّة، مرجعًا أساسيًّا لطلّاب المعرفة لفهم عقيدة سعاده والتّعمّق بمضامينها. لذلك نوجّه الشّكر للرفيق الدّكتور عادل بشارة لجهده الكبير ومساعيه الدّائمة في نقل تراث سعاده وشرحه باللّغة الإنكليزيّة. كما نوجّه الشّكر الكبير لمؤسّسة سعاده للثقافة الّتي نشرت هذا الكتاب انطلاقًا من اهتمامها بالثّقافة القوميّة الاجتماعيّة وبترويج فكر سعاده الرّائد.