أوردت بعض الصحف، ومن ضمنها صحيفة ” الأخبار” اللبنانية، خَبَرَ قرار إحدى المحاكم الأميركية بإعادة بعض لوحات جلجامش المسروقة إلى العراق. وسرقة الآثار هذه ليست الأولى، فالسنوات المائة والخمسون الماضية، التي شملت الفترة الاستعمارية الغربية، شهدت الكثير من السرقات للآثار المشرقية في الهلال الخصيب ونقلها إلى عواصم الغرب، وحتى الآن لم تُستعَد. ولم يكن آخرها الشاحنات ذات اللون الواحد التي سلبت متحف بغداد، في بدء الإحتلال الأميركي للعراق.
كانت التوراة، قبل حوالي 150 سنة، المصدر الوحيد للتاريخ القديم، مع أن الاكتشافات أظهرت أنَّ كتابة التاريخ بدأت منذ حوالي 7000 آلاف سنة، بينما لم تُكتَبْ التوراة إلّا بين الفترة الآشورية والفترة الكلدانية، أي بعد آلاف السنين من بدء الكتابة. ولم تعد التوراة مصدراً للتاريخ بعد الاكتشافات الأثرية في الهلال الخصيب، التي قام بها المستشرقون الغربيون، سواء كان عملهم مرتبطاً بالمخابرات الغربية (بريطانيا وفرنسا)، أو كانت غايتهم البحث العلمي المجرد من السياسة (ألمانيا)، أو بغرض السطو على مدونات الماضي البعيد من أجل تشويهها بتحويرها لخدمة أهدافٍ سياسية وعنصرية لا قاعدة تاريخية لها. والأمثلة على هؤلاء عديدة: فقصة الطوفان مدوَّنة في كثيرِ من التراث المكتشف في أرض الرافدين. والوصايا العشر منسوخة من شرائع حمورابي. وقصة الدخول إلى مصر والخروج منها تشبه عصر الهكسوس في مصر. وطفولة موسى تشبه طفولة سرجون الأول الآكادي الذي وضعته أمُّه في قاربِ صغيرٍ من القشِّ المطلي بالقار، وعوّمته في النهر.
ومن هذه الاكتشافات كانت ملحمة جلجامش. فما هي هذه الملحمة وما مغزاها؟
الفلسفة بدأت بالشعر، والذي كتب ملحمة جلجامش كان على الأرجح شاعراً لأنها اسطورة تحتوي على الكثير من الرؤية الفلسفية والرمز والإيحاء كما هو شعر الحداثة اليوم. وقد تكرر الأمر لاحقاً مع هوميروس في الإلياذة، ومع الفلسفة الأورفية التي تُنْسَبُ إلى الشاعر “أورفيوس”.
الشعراء والفلاسفة والأنبياء والقادة الحكماء وأصحاب العقائد إستعملوا العقل في مخاطبة الإنسان. وأغلب الأحيانِ خاطبوه بالأمثلة، بالرمز، وبالإيحاء أو التورية… وما أكثرالتورية في اللغة العربية! بينما اليوم، الذين يدّعون الغيرة على دينهم لغاية أو لأخرى، لا يستعملون العقل بل يحاولون تبرير انتماءاتهم إلى هذا الدين أو ذلك باستعمال النصوص المكتوبة بمعناها المباشر البسيط وغير الرمزي، مع أنَّ الرمزية والإيحاء والتورية موجودة في كثير من هذه النصوص. وأغلب الأحيان فآنَّ تمسُّكَ بعض الناس، إن لم نقُلْ أغلبهم، بهذه النصوص هو من أجل التجمع والتعبئة، من أجلِ دعم أهوائهم ومصالحهم الشخصية في المجتمع. يقولُ الأستاذ يوسف كرم في كتابه “الفلسفة اليونانية” بأَّنَّه في أوائل الفلسفة الإغريقية “كانت “الأورفية”، (نسبة إلى الشاعر أورفيوس) تؤمن بعالمٍ روحيّ، وبالعدالة الإلهية وبالطهارة. أما الآخرون فكانوا يعتقدون بأن الطقوس وحدها كفيلةٌ بتحقيق أغراض الدين دون التكامل خلقياً فاستباحت كلَّ شيء”. ( ص:7).
والله في تصور الناس لم يكن يوماً، وعلى مدى التاريخ، شخصاً بتكوينٍ مادي ذا رأسٍ بعينين وأذنين وأنف، بل كمكوّنٍ روحي ذي الأسماء الحسنى، تتجمَّعُ فيه كلَّ الصفات الخيِّرَة في هذا الكون. والصفات الخيِّرة هي مُسَلَّمات أخلاقيَّة تَوَصَّلَت إليها المجتمعات الإنسانية منذ زمنٍ طويل، وجمعتها في كيانٍ روحي لا ماديٍّ هو الله القوة العظمى في الكون. وهي اليوم تهبط من السماء بشكلٍ إلزامي، وتتحوَّلُ إلى طقوسٍ وقواعد للسلوك الإجتماعي نَصَّت عليها سلطة الأسلاف (فراس السواح، “الأسطورة والمعنى”. ص:222)، بينما هي نتاج عقلي هدفه التنظيم المجتمعي. كان سقراط يقول إنَّ الدينَ هو تكريمُ الضمير النقي للعدالة الإلهية، لا تقديم القرابين وتلاوة الصلوات مع تلطُّخِ النفس بالإثم.
تقولُ حكمةٌ بابليَّة:
إعبد إلهك كلَّ يوم
كن رحيماً مع الضعفاء
ولا تَهُنْ منكسري القلوب
ليكن رائدُكَ الخير والخدمة كلّ أيَّامك
لا تتلفّظ بذَمٍّ، بل قُلْ ما هو حسن
وامتدح الناسَ، ولا تذكرهم بسوء
لا تسيء إلى خصمك
أحسِنْ إلى من يسيءُ إليك
عامل عدوَّكَ بالعدل
التقوى تُوَلِّدُ السعاده…
(وديع بشور، “الميثولوجيا السورية”.ص: 40).
عودةً إلى جلجامش، فهل هذه الشخصية كانت بداية الشعر الملحمي أو الفلسفة أو النبوة؟ والسؤالُ يفرضُ نفسَهُ كيف كان موسى نبيَّاً، بوصاياه العشر، وهو الذي لمْ يُكْتَشَف له أثرٌ حتى الآن إلّا ما وَرَدَ عنه في التوراة، وحمورابي الذي وَضعَ شرائع الكون ليس نبيَّاً، وشرائعه مثبتةُ بحروفٍ منحوتةٍ على الحجر؟
الهاجسُ الذي شَغَلَ الإنسان منذ الأزل هو ماهية الكون. بدأت الفلسفة اليونانية بالأيونيين الذين أبحروا من اليونان وسكنوا آسيا الغربية “كانوا أنجب اليونان، جاوروا الأمم الشرقية (في الهلال الخصيب) فانتفعوا بعلومها، واصطنعوا وسائل مدنيتها. فكانت بلادهم مهد الثقافة اليونانية، فيها نُظِّمَتْ القصائد الهوميرية، ومنها خرج العلمُ والفلسفة”. (يوسف كرم، “الفلسفة اليونانية”. ص: 2). كان سقراط يعتقدُ بأنَّ غاية العلم هي إدراك الماهيات، فلكلِّ شيءٍ طبيعة أو ماهيَّة يكشفها العقلُ وراء الأعراض المحسوسة. ومعرفة الذات عند أفلاطون ليست معرفة الجسم، بل معرفة النفس. والنفسُ الإنسانية فيها جزءٌ إلهي هو العقل.
التعقل، إحدى الوسائل الأربع للوصول إلى الحقيقة عند افلاطون، هو “إدراك الماهيات المجرَّدة من كل مادة”. والأخلاق جميعها مجرَّدة من كلِّ مادة، كما هي أسماء الله الحسنى.
ومن جهةٍ أخرى، الفكر الإنساني قديمٌ في رؤياه العقلية، ولا يتناقض في تفسيراته للكون، لا بل هو مخزونٌ دائم التراكم. كان هوميروس يعتقدُ بأنَّ الأوقيانوس هو المصدر الأول للأشياء تزوج من السماء وأنجب الإنسان. والإنسان عنده نَفْسٌ وجسد، الجسدُ ماءٌ وترابٌ، والنفسُ هواءٌ يتشَكَّلُ بشكل الإنسان، يموتُ فينزلُ إلى العالم السفليِّ ليحيا حياةً رتيبة. (نفس المصدر. ص:3) وكان طاليس يقول بأنَّ الماءَ هو المادة الأولى والجوهر الأوحد الذي تتكَوَّنُ منه الأشياء. هذا التصوُّر، عند هؤلاء، سبق إليه “البانثيون السومري” قبل ذلك بثلاثة آلاف سنة، والذي قال: “وفي تلك الأزمان الأولى، لم يكن سوى المياه… وفي البدء، قبل أن تُسَمَّى السماءُ، وأن يُعرَفَ للأرض إسمٌ، كان المحيطُ وكان البحرُ”. وقال إن “آنو” هو أب الآلهة وإله السماء، و”كي” آلهة الأرض، ومن اتحادهما وُلِدَ “إنليل” إله الهواء الذي جَلَبَ الرطوبة والأمطار ليُسقي الصحارى والحقول، فتنبتُ الأشجارُ والنباتات. وتقول قصة مصرية فرعونية: “في البدءِ كان المحيطُ المظلمُ أو الماءُ الأوَّلُ حيث كان “أتونُ” وحدُهُ الإلهُ الأوَّلُ صانع الألهة والبشر والأشياء”. (“وخلقنا من الماء كلَّ شيءٍ حيٍّ”).
لقد استطاع أفلاطون بالحس والظن والإستدلال والعقل الوصول إلى ماهية الأشياء، وكان يقول إنَّ المحسوسات تُمثِّلُ صُوَراً كلِّية ثابتة هي الأجناسُ والأنواعُ. وإن كانت هذه ثابتة إلّا أنَّ الصورَ تأتي وتزول، وماهيتها تتكاملُ وتثبتُ في العقلِ. وعلى هذا الأساس، وبالعقل والمنطق، نتصوَّرُ تجسُّدَ الروح الإلهية في الجسد عند المسيح، وكذلك النبي محمد استعمل العقل والرؤية فجاءه الوحيُ في تصوُّر مجتمعٍ أخلاقي متطور بديلاً عن البداوة وعدوانيتها، فجاءه الوحي بالسور المكية الروحانية، وحين تمَّ ذلك رأى الحاجة لتنظيم هذا المجتمع فأوحيَ له بالسور المدينية – اليثربية.
وجلجامش، حسب المؤرخ اللغوي محمد بهجت قبيسي، يجب أن يُكتَب إسمُهُ “قلقامش”، ولفظه بالقاف العراقية (GAF)، والإسم مؤلف من كلمتين قلق – مش (مش) هي علامة الجمع حسب لغة حضارة “العُبّيْد” حين بدأت اللغة منذ أكثر من سبعة آلاف سنة. فإسم الشخصية يصبحُ “القلقون” وهم البشر الذين كانوا قلقين على مصير الإنسان في حتمية موته. فالملحمة تتساءل: لماذا الإنسان يموت والآلهة تبقى خالدة؟ فالمغزى الأول هو أنَّ الإنسان يبحثُ دائماً عن الخلود، لذلك حاول إنسان جلجامش البحث عنه، وكان هدفه الوصول إلى غابة الأرز، وهو المغزى الثاني، لأنَّ الأرز هو رمز الخلود إذ أنَّ شجرتَهُ تعيش أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمِائة سنة. إلا أنَّ الأفعى، وهي على مدى التاريخ مثَّلت الروح الشريرة الشيطانية، تسلّلت، وهو نائم، لتسرق منه نبتة الحياة الخالدة. المغزى الثالث من الملحمة هو أن خلود الإنسان يتحققُ بولادة أجيال جديدة: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ. وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”. (سورة الروم)، “وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً”. (سورة الرعد)
فالحياة في تطور ولا تبقى على حالها، وهذا ما عنت به عشتار حين طلبت من قلقامش بالـ (GAF) أن يقترن بها ولم يفعل. وليست ملحمة قلقامش كما ظهر في المقال آكادية، وإنما هي سومرية انطلقت من “أوروك” (الورقاء) التي كانت وريثة “أريدو” عاصمة حضارة “العُبَيْد”، ولا علاقة لها بالتوراة. وقلقامش سبقت التوراة بآلاف السنين، ولكن التوراة سرقت بعض نصوص الملحمة كالطوفان، وقد صورته على أنَّهُ تعبيرٌ عن غضب الله على البشر، بينما في ملحمة قلقامش مغزى الطوفان هو أنَّهُ، أثناء الكوارث، يتشارك الإنسان في عملية الخلق وبناء الأجيال الجديدة.
هل تغيّر فكر العالم ومصيره منذ تصوره في فلسفة قلقامش؟
لم يتغيّر شيء، فلا يزالُ الإنسان مقتنعاً من خلال المسيحية والمحمدية، بخلوده. ولكن في العبور إلى العالم الآخر، أي القيامة بعد الموت. والقيامة لها أيضاً رمزيتها، ولا مجال للحديث عنها الآن. ولكن تبقى في هذا العالم ديمومة الحياة، كما تصورتها عشتار أمُّ الإنسان والطبيعة. وديمومة الحياة مرتبطة بالتناسل وبقدوم أجيالٍ جديدة، وكما تصوَّرها البانثيون البابلي في زواج “آنو” و”كي” وولادة “أنليل”.
والسياسيون اللصوص والفاسدون في بلادنا، الذين يتسلَّحون بالنصوص لتحقيق مآربهم الشخصية الشيطانية في التحكُّمِ بالسلطة، وفي الخلود فيها، والذين يعتقدون بأن الطقوس وحدها كفيلةٌ بتحقيق أغراض الدين دون التكامل خلقياً فاستباحت كلَّ شيء، عليهم أخذ العِبَرْ واستعمال العقل لفهم ما وراء النصوص. فبلادنا مصدرُ الأخلاق (الأسماء الحسنى) التي تجسدت في صورة روحية هي الله. وليس الله صاحب ثأرٍ أو قاتلاً كما يُصوِّرُه الفكر الصهيوني، وكما يتبنّاه الهجوم الاستعماري الغربي على بلادنا. ويبقى الشرقُ ملهماً للفكر الإنساني في سعيه لكشف ماهية هذا الكون.