-1-
الإفناء الذاتي هو حالة يحيط بها الالتباس والغموض، فهي غير مفهومة تماماً، لا بدوافعها ولا بأسبابها النهائيّة، وإن بدا أنها ناتجة من (طفرة جينيّة)؟ تبدو عوارضها في الظهور في وقت ما من عمر (الكائن)، ثم تنمو وتتمكن من تغيير نظامه الحياتي فيبدو هائماً يتحرك في الاتجاه الذي يلاقي فيه حتفه، أو في الطريق الذي تغيب عنه ذاته التي يدمّرها عمداً ولا يُبقي منها غير التوّهم بها، فيقتلها كـ (حياة) ليُنتجها كـ (وهم).
-2-
الإفناء الذاتي ليس حالة تصيب خلايا الكائنات الحيّة وحسب، بل تشمل الجماعات وكائناتها المعنويّة مثل الدول أو الجمعيات أو الأحزاب، أو حتى الأديان وطوائفها ومذاهبها، فضلاً عن الأشخاص / الأفراد بمواقعهم المختلفة، سواء أكانوا أبطالاً أو قادة أو قديسين أو مرسلين!
-3-
التوافق اللفظي بين الإفناء الذاتي وإفناء الذات يمنح معنى العبارة الثانية للأولى، الذي ليس سوى التضحية، التي تشير إلى ذلك السلوك الذي يقود إلى التضحية بالذات من أجل الآخرين. وفي إيقاعها العالي تصل التضحية إلى مرتبة الفداء، حيث يقوم (بطل – رسول – قائد) بافتداء مصير الجماعة الذي يتطلب منه تكريس حياته من أجلها أو بذل دمه في سبيلها. غير أن الإفناء الذاتي يحمل في جوهره مضموناً معاكساً لمعنى التضحية التي تقع لحماية ذات الجماعة وتقويتها وترسيخها، فيما الإفناء الذاتي ليس سوى السلوك المؤدي إلى تدمير تلك الذات بقتلها أو بتغييرها واستبدالها.
-4-
عندما تصيب الجماعة حالة الإفناء الذاتي، فهذا يعني أنها تعاني وتكابد في حياتها، فيثقل جسمها وتتعثر مسيرتها ويتلعثم لسانها ويتغير صوتها وتدب العشوائية في علاقاتها فلا تعود تُعرف لا بسلوكها ولا حتى بمكان إقامتها. في هذه الدرجة من تفاقم أعراض هذه الحالة ستستبدل وعيها أو تغيب عنه وإن صمّت الآذان بالصراخ العالي وهي تردد اسمها!
-5-
ليس الإفناء الذاتي انتحاراً خاطفاً، بل هو سلوك يجرّد (المُنتحر) من روحه وعلاماته المميزة وشخصيته، ويتركه شلواً متعثّراً بضياعه.
في أحد أوجهه، يدفع العمر المديد الكائن إلى الشعور بالملل من نفسه إذ يراها خارج المستقبل.
الافناء الذاتي يضع حداً للملل وللحياة معاً.
-6-
في علاقته مع ذاته، قد يتبرّم الكائن من متطلباتها ولوازمها فتنشأ علاقته المأزومة معها. الإفناء الذاتي يبدو هنا تحرراً من اللوازم والمتطلبات، وفي النهاية انقلاباً على الذات نفسها.
-7-
عندما يقرر الكائن التغييري / حزب أو قائد أو مفكّر، الإقامة في (الواقعيّة) ويعتاد سكونيتها ورتابتها وتوالي فصولها، يقتل التغيير في ذاته ويكون عليه كي يبقى مؤهلاً للاستمرار في تلك الإقامة، ممارسة النسيان المنهجي لذاته ولما يشكّلها وهو بالأصل تغييري لهذا الواقع الذي يقيم فيه، وعلى نحو أدق المسجون في شروطه.
النسيان المُمَنهج هو العَرَض الذي يؤكد على نحوٍ دامغ حالة وخيار الإفناء الذاتي.
-8-
التصحّر، هو استسلام التراب لاغتصاب الجفاف له وتحويله إلى رمل.
في أحد معانيه، التصحّر هو تآكل ذاتي لنسغ الخصب في جسد التراب. هو إفناء ذاتي للخصوبة، واستبدالها بالجدب والقحط والنشاف.
-9-
التصحّر، الذي يضرب في الأرض، يؤكده التصحّر الذي يسود السماء.
السماء الصافية سرابٌ كالصحراء القاحلة.
الإفناء الذاتي يقتل شجر الأرض وغيوم السماء المطيرة في آن.
-10-
خيانة الذات ضربٌ من إفنائها.
-11-
العمود الذي أقام فوقه سمعان لمدة أربعين سنة، رغم تدميره بفعل الزلازل مرة وبفعل (التوحّش التكفيري) مرات… لا يزال منتصباً في التاريخ الروحي. لو نزل عنه القديس سمعان العمودي، في هذه الأربعينيّة مرة واحدة، ليس فيزيائياً، بل في علاقته مع إيمانه… لو نزل مرة واحدة، لتحوّل العمود إلى حفرة عميقة لا تحتاج الطبيعة لردمها إلاّ بهز خصرها قليلاً، ولكان داسها (التوحّش) دون أن يراها.
-12–
لو كانت (مملكة المسيح) من ذلك العالم (الواقع الذي جاء لينقضه)، لكانت الانسانيّة لا تزال محتجزة في حالة من عماء الروح، ولكان المسيح استبدل (ذاته) بأخرى لن تكون سوى نسخة من أتباع يهوه.
المسيح افتدى البشرية وأنقذها من مصير الإفناء الذاتي بنقض الواقع الذي كان يتآكلها.
-13-
لو تابع أنطون سعادة طريقه، في ذلك المساء التموزي من العام 1949 قاطعاً بلدة الكسوة ومتجاوزاً حدود الشام مع الأردن، لكان فتح باب الإفناء الذاتي للنهضة التي أسسها وأطلقها، ولكان أتباعه الآن أسوة بأبناء أمتهم: كائنات (مذهبية – طائفية – اتنيّة…).
سعادة أفنى ذاته، منعاً لوقوع حالة الإفناء الذاتي.
-14–
يبقى الحلم والإيمان به وقايةً مصيريّة من الزحف الهائج لحشود الإفناء الذاتي.