لم أجدْني يوماً قريباً من فكر أنطون سعاده كما حالي اليوم. الزلزال الدموي المدمّر الذي خلخل الكثير من الأفكار والقناعات مثلما خلخل الكيانات والخرائط، قرّبني من أنطون سعاده وفكره، خصوصاً لجهة الاعتقاد بخصوصية ما لهذا المشرق العربي، خصوصية تمنحه سمات وعلامات فارقة وتجعله أكثر جاذبية للدسائس والمؤامرات وللهجمات المتوحشة التي تشنّ عليه وعلى أهله ومكوّناته كل بضعة عقود.
كان سعاده من أوائل الذين أدركوا أهمية هذا المشرق وغنى مكوّناته وتنوّع مصادره المعرفية والثقافية، ورسوخ جذوره الضاربة في تربة التاريخ الخصبة المجبولة دائماً بدماء بنيها للأسف.
أجدُني أقرب من أيّ وقت مضى إلى فكر سعاده، إلى رؤاه الثاقبة بعيدة المدى، لا سيما إدراكه المبكر والواعي مخاطر «سايكس ـ بيكو»، وترابط هذا المشروع التقسيمي مع مؤامرة «وعد بلفور» ونشوء الكيان الصهيوني الغاصب على أرض فلسطين المحتلة. ولعل هذه الرؤى الاستشرافية لما سيكون، قد عجّلت في قرار اغتياله إعداماً بتلك الطريقة الخسيسة تحت جنح الظلام في ليل الغدر والتآمر.
كم أتمنّى أن تُعاد قراءة أنطون سعاده على ضوء ما تعيشه بلادنا اليوم، وما تتعرّض له من هجمة استعمارية رجعية دنيئة تهدف من جملة ما تهدف إلى إنشاء كيانات طائفية ومذهبية محيطة بكيان الاحتلال «الإسرائيلي» لتبرير هدفه الرامي إلى ترسيخ يهودية الدولة العبرية -الغاصبة. صحيح أن الهجمة الرجعية الظلامية لا تطاول المشرق العربي وحده، إنما بلاد العرب من المحيط إلى الخليج، لكن خصوصية المشرق وتنوّع مكوّناته، وضرورة الحرص على هذه المكوّنات، كل ذلك يجعله قاعدة مهمة للمواجهة الطويلة الضارية مع الفكر الظلامي وقواه المتوحشة، ونموذجاً لمقاومة تشترك فيها جميع القوى المتنوّرة التي تجد نفسها على تناقض وجوديّ مع أهل الظلام.
لعلّ السعار الطائفي والمذهبي القاتل، والتطرّف الديني العائد بِنا إلى مرحلة قروسطية مظلمة، يفرضان علينا البحث عن كوى ضوء وسبل خلاص للخروج من هذا النفق المسطوم. وهنا يبدو لي أن فكر أنطون سعاده في مقدّم الحبال التي يمكن لنا الاعتصام بها، طبعاً مع البحث عن القواسم المشتركة مع القوى التقدّمية والوطنية والقومية الأخرى.
لقد انتهى زمن الايديولوجيات الأحادية الجامدة والإلغائية والإقصائية، وبعض ما نعيشه اليوم هو نتيجة فشل تلك الايديولوجيات التي أقفلت التاريخ وراءها. ولعلّ ذكرى استشهاد سعاده تشكّل جرس إنذار لكل القوى التنويرية والعلمانية لإستنهاض نفسها والقيام من كبوتها التي طالت، عبر إجراء مراجعة نقدية صارمة لكلّ التجربة الماضية. فالحاجة ماسّة اليوم إلى تيار تنويريّ جامع عابر للطوائف والمذاهب، تيار مشرقي يجد في أفكار سعاده نواته الصلبة ويتلاقى مع القوى التنويرية الأخرى على امتداد العالم العربي. إذ لا خلاص لهذه الأمة بغير نهضة ضرورية عاجلة وملحّة. والنهضة المنشودة لا يمكن للسياسة أن تحققها في معزل عن الفكر والثقافة. وسعاده يمثل نموذجاً رائداً للسياسيّ المفكر المتنوّر الذي لا نملك في يوم ذكراه إلا أن نستلهم من إرثه الفكري والنضالي ما يسعفنا في المواجهة والمقاومة حتى ينتصر النور على الظلام،
وهو فاعل لا محال.