من بين المجلات التي مرت أمامي في الأرشيف الالكتروني، عدد خاص أصدرته جريدة "المعرض" اللبنانيّة في 25 شباط 1936، يتناول الحزب السوري القومي الاجتماعي ويتضمن مقابلة مع أنطون سعاده في فترة سجنه، ومقالات لزكي نقاش، فؤاد سليمان، مأمون اياس، عبد الله قبرصي، صلاح لبكي وغيرهم. ولفتني في الملف ما كتبه الأديب فؤاد سليمان، عن أنطون سعاده، بعبارات تنمّ عن تقديس زائد، ووضعه في كفة أثقل وأعلى شأناً من الأمة ككل، فهو سيد الخلاص والمنقذ وسفينة النجاة، قائلاً: "الزعيم، وثبة عنيفة، قوية في عروق هذه الأمة الغافية منذ آلاف السنين على بوابة الاستعطاء تستجدي أكف المحسنين من عابري الطرق"... "هذه الأمة التي تقدّس ألف وثن مذهّب، وتؤله ألف مسخ مذنّب، وتعبد ألف إله كاذب"... "الزعيم، رجولة صحيحة، كاملة"... ويصل كلام سليمان في مقاله إلى درجة التأليه: "عرفتُه عندما كان الحزب ضباباً في دماغه، فأحسست بأنّ، من خلال ذلك الضباب، سينبثق فجر الإيمان الحقيقي… ولمست في نبرات صوته الموسيقي أصداء زوبعة بعيدة تزمجر في صدره، وشعرت بإيمان جديد يتسرّب من روحه إلى روحي، فيعانق كياني، ماضيَّ وحاضري ومستقبلي؛ في تلك الساعة ولد إله جديد قويّ في قلبي، وماتت آلهة".
ربما يكون هذا الكلام أعلى مراحل التقديس للزعيم، وهذا النص الذي كتب في الثلاثينات، بقي مستأنفاً عند آخرين (شعراء وكتّاباً وجمهوراً) في مرحلة الخمسينيات والستينيات في خلال تقديسهم جمال عبد الناصر، أو مرحلة الثمانينيات وتقديس صدام حسين (عشرات القصائد)، والآن تقديس حسن نصرالله من بعض الإعلاميين والجمهور. بمعنى أن لكل زمن مقدّسه، وكل واحد يبرر اختياره مقدّسه... وعلاقة فؤاد سليمان بأنطون سعاده تحتاج الى دراسة كما علاقة كل الشعراء والكتّاب به، فذلك السحر الذي كان سعاده يضفيه على أنصاره أو أتباعه الشعراء يبدو لغزا محيراً.
وفؤاد سليمان، الأديب اللبناني الذي رحل قبل نحو 70 عاماً، عرف بـ"نبل عباراته" و"تَمّوزياته" وتركيزه على "جماليات القرية"، وكان له تأثير في الكثير من الشعراء اللبنانيين. أنسي الحاج نفسه، الذي طالما نُسب الى الحداثة ورامبو وبودلير وقصيدة النثر، تتمثّل حداثته في تجربة شاعرين وكاتبين لبنانيين كبيرَيْن غيَّبهما الجهل والتكاسل العربيين: فؤاد سليمان وإلياس خليل زخريا. فيقول عن الأول في شهادته: "من الكتّاب اللبنانيين الذين تأثرت بهم آنذاك، أذكر على سبيل المثال فؤاد سليمان الذي اطلعت على كتاباته بالمصادفة وقد أعجبني نبض كتاباته خصوصاً في مقطوعاته السريعة لأن هاجسي الحقيقي، كان البحث عن الكتابات التي لا ملل فيها. [..] فؤاد سليمان أثر فيَّ كثيراً آنذاك. كان يوقع كتاباته باسم (تمّوز) وكان يكتب في شؤون متعددة في السياسة والمرأة والحب والمودة بأسلوب غنائي متوتر فيه واقعية وفيه رومانطيقية، فيه لغة حية وجديدة. [..] فؤاد سليمان شاعر موهوب ومجدد على طريقته من دون أن يدعي التجديد، إنه بحق أحد الذين أثروا فيَّ وجعلوني أكتب ما كتبت"(*). وانعكس تأثر الحاج بسليمان على الكثير من أقرانه، من بول شاوول إلى عقل العويط وآخرين.
ولئن رحل سليمان في سن مبكرة، عن 39 عاماً، تحولت الكتابة عنه نوعاً من التفجع والفقدان، أي أن الكثيرين يعتبرونه ناطقاً باسمهم، وصاحب رؤية، وكلماته أقرب إلى النبوة: "ما أحوجنا إلى حبر فؤاد سليمان لتمريغ لصوص الهيكل"، و"تموز ينبعث في زمن اليباب"، و"الكاتب الحاضر برؤيته النافذة"، و"صوت صارخ أبداً".. أو يختارون عبارته "يا أمّتي إلى أين؟"، على اعتبار ان السؤال يتجدد.
فؤاد سليمان الذي درسنا نصوصه النثرية في المدرسة، أمضى طفولته في بيئة القرية الكورانية، تخرج في مدرسة الفرير طرابلس (الزاهرية)، ونال إجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة القديس يوسف. انتمى باكراً إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي. درّس اللغة العربية في الانترناشونال كوليدج من 1937 الى 1951، وأسس فيها النادي الأدبي، وحرّر مجلة "صدى النادي". ساهم في الصحافة أديباً وشاعراً وناقداً، كما حرر زاوية "صباح الخير" في جريدة "النهار" ووقّع مقالاته باسم "تموز".... وكان الأديب المفضل لدى أنطون سعاده.
وقد حقق سليمان بعض الخواطر التي كتبها سعاده سنة 1930 على متن الباخرة التي أقلته من البرازيل إلى بيروت. وكتب مقدمة ونشرت في جريدة الحزب "سوريا الجديدة" العام 1939. نشأت علاقة صداقة بينه وبين سعاده (كانا يلتقيان في مطعم حداد في بيروت)، وكلفه "الزعيم" مع عبدالله القبرصي، زيارة الأديبة اللبنانية مي زيادة في بيتها في شارع السادات - رأس بيروت، وتهنئتها بالسلامة بعد خروجها من المستشفى. ولما فتحت الباب ورأتهما يقدمان إليها الأزهار قالت: "أهلاً وسهلاً بأزهار الأدب".
(*) حديث مع نوري الجراح نشر في مجلة "نزوى" العُمانية.