"أن كل ما هو عظيم يكمن في الزوبعة"
أفلاطون
الفينيقي هذا هو الاسم الذي كان الأثينيون يطلقونه على زينون، مؤسس المذهب الرواقيّ في الفلسفة. وقد ولد زينون سنة 336 قبل الميلاد في مدينة "كتيوم" بجزيرة قبرص على الشاطىء المقابل لفينيقيا. والمعروف، تاريخياً، أن جزيرة قبرص في ذلك الوقت كانت ولا تزال تناضل من أجل فينيقيتها. وما إن بلغ زينون ريعان الشباب حتى اشتغل بالتجارة، متأثراً بوالده الذي كان تاجراً محترفاً. وساقت الأقدار هذا الشاب الطويل الأسمر اللون والنحيل، كما يوصف. إلى ان يُبحر على ظهر سفينته التي حمّلها ببضاعة من أرجوان الفينيقيين إلى أثينا، لكن زوبعة بحرية عنيقة حطمت سفينته. وتمكن من الوصول إلى أثينا. وعاش هنا في تلك المدينة الرائعة "أثينا" تجربة وجودية تعدُّ من أروع التجارب في تاريخ الفلسفة. وحالتئذ صرخ هذا الفيلسوف صرخته المدويّة "لقد قمتُ بتجارة رابحة عندما غرقت سفينتي". وقد حظي زينون بين الأثينيين باحترام عظيم، وعرضوا عليه لقب "مواطن"، إلا أنه رفض ذلك إخلاصاً لأصله الفينيقي، وتأكيداً لواجبه نحو بلده " كتيوم".
وصل زينون الى تلك المدينة العظيمة "أثينا" خالي الوفاض، لا يملك شروى نقير، ويكاد يكون من الأعاجيب ألاّ يفكر هذا الشاب الذي خسر أمواله كلها بالعودة الى "كتيوم" مع أول سفينة تبحر من "أثينا" باتجاه قبرص، بل على العكس من ذلك، قرّر زينون البقاء في "أثينا". وكان دافعه الوحيد الى ذلك هو التعرف على الفلسفة اليونانية في تجربة حية مباشرة. وآية ذلك أن زينون تنبه الى الأهمية القصوى للفلسفة، بتأثير من والده أيضاً، والذي كان بحكم كونه تاجراً، كما سبق القول، يزور "أثينا" بين فترة وأخرى، وكان يجلب معه كتباً في الفلسفة اليونانية، وأنصبّ اهتمامه من بين هذه الكتب على أعمال السقراطيين الفلسفية. ومن هنا تأثر زينون بدوره بفعل تأثر والده بالسقراطيين.
وهؤلاء السقراطيون يزعمون جميعاً أنهم أتباع سقراط (469-399 ق.م.)، وأنهم يصدرون في آرائهم عن فلسفة سقراط، لأنهم تتلمذوا عليه، ونقلوا تعاليمه أثناء حياته، أو بعد موته. والأشهر بين هؤلاء السقراطيين ثلاثة فلاسفة، أسس كل واحد منهم مدرسة خاصة به، وهم : إقليدس الميغاري مؤسس المدرسة الميغارية، وانستانس مؤسس المدرسة الكلبيّة، وأرستبوس مؤسس المدرسة القورينائية. وعلى هذا الأساس يُلاحظ أن ثقافة زينون الفلسفية انبثقت بداية في أفق هذه المدارس الثلاث التي يغلب على الأولى منها التلفيق والجدل، وعلى الثانية " اللا أدريّة"، وتسود الثالثة نزعة حسيّة تصويريّة. والمهم في الامر أن زينون عندما أخذ أنفاسه بعد وصوله الى "أثينا"، سارع الى الالتحاق بحلقات الفلاسفة في أثينا. وكان من بين الفلاسفة الذين التقاهم ثيوفراسطس (370-288 ق.م) تلميذ أرسطوطاليس وخليفته على "اللوقيون"، وحامل لواء الفلسفة الأرسطوطاليس. لكن يلوح ان زينون لم يُعجب بفلسفة ثيوفراسطس التي تنهل من أرسطو، فتحول عنها. ويقال إنّ زينون كان يتنقل من مدرسة الى مدرسة، ومن أستاذ الى أستاذ، دون أن يصل الى مبتغاه. " يروون عنه أنه كان يحضر دروس "أقراطيس" الكلبّي، فلما سئمها أراد أن يُغادر مجلس ذلك الأستاذ ليستمع الى دروس " استلبون" الميغاري، فجذبه "أقراطيس" من عباءته يريد أن يمنعه من الانصراف، فقال زينون : " يا أقراطيس إن الفلاسفة لا يجذبون الا من آذانهم "! ولعلّه يريد بذلك التعريض بما كان في التعليم الكلبيّة من فقر وقلة كفاية من الناحية العقلية. وتردّد زينون على المدارس الفلسفية اليونانية زهاء عشرين عاماً. ولما أصاب منها بغيته اتخذ لنفسه مجلسا ًللتعليم مستقلا في إيوان ذي أعمدة هو الرواق المنقوش الذي كان في ما مضى منتدى للأدباء والفنانينن، ومن ذلك المكان أشتق اسم المدرسة الرواقية".
وقد تمّكن زينون ببراعته من أن يكون زعيماً لمذهب فلسفي جديد، ولم يرض بأن يكون تابعاً لأحد المذاهب الفلسفية اليونانية السائدة في ذلك الوقت، بل وضع دعائم مدرسة فلسفية كان لها تأثير هائل في الثقافة الأوروبية لزمن طويل.
وتجدر الإشارة الى ان تاريخ المدرسة الرواقية يقسم تقليدياً الى ثلاثة أطوار:
- الرواقية المُبكرة early stoicism : تمتد من زينون مؤسس المدرسة، الى كروسبوس chrysippus ، وهو أحد أعظم الرواقيين قاطبة.
- الرواقية الوسطى middle stoicism : في عصر بانتيوس panaetius وبوزيدونيوس posidonius .
- الرواقية الرومانية roman stoicism في عهد الأمبراطورية الرومانية، وقد تولّى زعامة هذه المدرسة سنكا seneca، إبكتيتوس Epictetus ، ومرقس اوريليوس Marcus Aurelius ". واذا تأملنا في ديمومة أطوار المدرسة الرواقية وجدنا أنها تمتد من عام 312 قبل الميلاد يوم جاء زينون أثينا الى عام 180 بعد الميلاد يوم وفاة مرقس أوريليوس.
ومعنى هذا أن المذهب الرواقي استمر قرابة خمسة قرون، بوصفه مذهباً رئيسياً في الفلسفة. وكان لهذا المذهب أتباع مخلصون في العالم اليوناني والروماني.
وعليه، يظهر مدى تأثير هذا الفينيقي الشريد في أزقة أثينا باحثا ًعن الحكمة في أجيال من الفلاسفة، من خلال مؤلفات فلسفية رصينة لم يبق َ منها للأسف سوى شذرات متفرقة. وقد أورد ذيوجانس اللائرسي في كتابه "حياة مشاهير الفلاسفة " قائمة بها: "في الحياة بمقتضى الطبيعة"، " الكون"، "العلامات"، في "الواجب"، "في العلم كله"، "قضايا فيثاغورية"، " الكليات"، "مذكرات أقراطيس"، " في الخطاب"، " في الأخلاق"، "القانون"، "النزوع"، "قراءة الشعر"، " التربية اليونانية، " "الإبصار". وهذه المؤلفات كافة كانت على هيئة رسائل فلسفية.
وهكذا استطاع هذا الفينيقي المغامر أن يثبت نفسه في تاريخ الفلسفة، مثله مثل عمالقتها الكبار، لا فرق بينه وبينهم. وبذا أوصل رسالة الى اليونانيين بأنهم ليسوا سادة الفلسفة على الاطلاق. وقد تلقّى اليونانيون هذه الرسالة برحابة صدر، من فيلسوف يصفه معاصروه هكذا: "كانّ زينون طويل القامة، نحيف الجسم، شديد سواد الجلد، رأسه مائل على كتفه. وكان يرتدي الأقشمة البسيطة الرخيصة، ويقنع في مأكله بالقليل من الخبز والتين والعسل، والقليل من النبيذ. وكان سلوكه سلوك الرجل الوقور، وتبدو على هيئته سمات الجد والانقباض، ولكنه لم يكن يأنف أن يغشى أحياناً مجالس الأنس والمرح. فإذا سئل في ذلك أجاب بأن طبيعة "الترمس" المرارة، فإذا نقع في الماء مدة طاب مساغاً. وكان زينون يؤثر الصمت على الكلام"، وقد أجمع القدماء على أن زينون كان على خُلق عظيم، وأنّ حياته، على بساطتها، كانت قدوة طيبة ومثالاً أخلاقياً عالياً.
بلغ هذا الحكيم من قوة الإرادة وطول الصبر وضبط النفس والعفة والسيطرة على الهوى مبلغاً أدهش معاصريه، فكان الأثينيون يضربون به المثل قائلين : " أضبط لنفسه من زينون".
واذا كان هذا هو زينون على المستوى الشخصي، فما هي تعاليمه الفلسفية التي كان لها كل هذا الأثر البالغ المتصل؟
هنا القول: نظراً لضياع غالب مؤلفات زينون، فإنه لا يمكن التمييز بين آرائه وآراء تلاميذه، ولكن لا شك بأن التلاميذ كانوا مخلصين تماماً لأفكار زينون ومبادئه الجوهرية.
المهم أنّ الرواقيين عموماً ينظرون الى الفلسفة بوصفها وحدة واحدة مترابطة الأجزاء، بمعنى أن التفكير الفلسفي متجانس ومتوحّد ولا تجزؤ فيه، الا أنّ الرواقيين قسّموا الفلسفة الى ثلاثة علوم، هي: المنطق والطبيعة والأخلاق. وبالرغم من هذا التقسيم، إلا أن الوحدة في الفلسفة موجودة تماماً، والتقسيم نفسه اعتباري، والغاية منه هي تسهيل استيعاب الفلسفة للمريدين، أو الدارسين. ولذلك فالرواقيون "شبّهوا الفلسفة ببستان: علم المنطق سُورُه، وعلم الطبيعة أشجاره، وعلم الأخلاق فاكهته".
وأهم جانب من جوانب المنطق الرواقي هو نظرية المعرفة. والمعرفة عند الرواقيين ذات أصل حسّي أساسه هو فعالية مباشرة للأشياء في الحس، ما يؤدي الى انطباع صورة الشيء في الحس دون توسط. وهذا النوع من المعرفة حقيقي لا لبس فيه، ومن ثم تصير المعرفة الحسية داخل النفس الانسانية بمثابة تصديق، " يقوم في النفس استجابةً للتأثير الخارجي، وهذا التصديق متعلق بالإرادة، ولو أنه يصدر حتما كلما تصورت النفس فكرة حقيقية".
ويلي التصديق الفهم، وأخيراً العلم، الذي يعود بأصله الى الإحساس، ويُعد أرقى أنواع المعرفة.
واذا كان العلم يرفع من شأن المعرفة الحسية، أو الإدراكات الجزئية، بتأليفها وتوحيدها، والارتقاء بها الى مستوى مفهومي يكون الاساس في الحصول على المعرفة الحقّة، فإن "العلم لا يخرج عن دائرة المحسوس، وليست معاينة الكليّة إلا آثار الإحساسات، تحدث عفواً في كل إنسان دون قصد ولا تفكير، فهي عزيزة فطرية بهذا المعنى".
هذا الى أن الرواقيين يقولون بمعان ٍ أوليّة موجودة في جميع الكائنات الإنسانية، ويطلق عليها الرواقيون أسم " الأوليات"، التي عليها يقوم صرح العلم. وقد عرّف الرواقيون المعنى الأولي بأنه "الأمر الكلي الذي نتصوره تصوراً طبيعياً". والرواقيون يعتقدون أن المعاني الأولية " ليست إلا بدايات وأسساً لكل نوع من أنواع المعرفة إطلاقاً".
ويرى الرواقيون أن الخطأ المعرفي الإنساني يجب أن يرجع إلى الأشياء الخارجية، وليس الى الحواس، فالشيء الواحد يبث صوراً مختلفة له، فيلتقطها أشخاص متعّددون، لكن كل واحد منهم يلتقط صورة من الشيء يعتقد انها حقيقة الشيء. لكن زينون الرواقي يرى " أن الانسان حين يقع في الخطأ، فيصدق شيئاً باطلاً، فإثم ذلك عليه هو، لا على الأشياء التي وردت عليه وتأدّت اليه دون ان تفرض عليه اعتقاده، بل تركت له من الحرية والاختيار ما يحسن الإستفادة منه". وبما ان الرواقيين قد انتهوا الى ان العلم هو أرقى أنواع المعرفة، فإن هذا العلم، يجب أن ينتهي الى حقائق أساسية، في مجال الطبيعيات التي لها من حيث نتائجها دور كبير في تحديد الموقف العقائدي للفيلسوف الرواقي. وآية ذلك هي سعة الميادين التي يبحث فيها العلم الطبيعي عند الرواقيين، فمجال علم الطبيعة "واسع يشمل من المباحث ما يتصل بالكون، بما فيه الله والإنسان".
ويعتقد الرواقيون بوجود للمادة هو بمثابة وجود منفعل. وما يفعل في هذه المادة هو الله، فالله يسري في دخيلة المادة، والله من حيث هو مبدأ فاعل يشبهه الرواقيون بنار مقدسة. "والعالم إلهي بالنار التي هي العلة الأولى والوحيدة، وبما فيها من عقل وضرورة وقدر، وكل اولئك مترادفات يراد بها المعقولية التامة في الاشياء".
ويرى الرواقيون أن ثمة عقلا منبثاً في الكون، وهو يتضافر مع النفس التي تسري في الكون أجمع.. "وحكم العالم بأجمعه حكم أي جسم، فالعالم حي له نفس حار هو نفس عاقلة تربط أجزاءه وتؤلف منه كلا متماسكاً".
والعلاقة بين الله والعالم في الفلسفة الرواقية تتحدد على اساس وحدة الوجود، فالعالم هو جوهر الله بالقدر نفسه الذي يكون فيه الله هو جوهر العالم. وعليه ف "الله ليس هو المبدأ الخالق للعالم فحسب، بل هو العالم نفسه". ويبدو ان الرواقيين قد نظروا الى العالم بوصفه كائناً حياً، والإنسان نفسه جزء من هذا الكائن الحي الأعظم الذي هو العالم. لأن الرواقيين قالوا "بنوع من وحدة الوجود الديناميكية، فقالوا بأن العالم جسم، وأن الله هو النفس الحالة به، ويشرح ذلك فلوطرخس فيقول: انه موجود واحد هو نفسه يتجلى مرة على شكل وحدة فردية (الله) ، ومرة على شكل كثرة منقسمة (العالم)". والمعنى العميق لهذه النظرة يقوم على أن الحكمة الإلهية تكون بالوفاق مع الطبيعة ما دام الانسان جزءاً من كل، أو قبساً من النار الإلهية، لذلك على الحكيم الرواقي ان يتماهى مع الطبيعة، فيصير جزءا منها، غير ان هذا الموقف الرواقي دفع فيلسوفاً مثل هيغل الى أن يقول : " في انحطاط المدينة القديمة، حين ينكسر انسجام الطبيعة والروح، الفرد والمجتمع، يسعى الانسان الى الافلات من فوضى الاختلاط بإلتجائه الى .... (فكر محرر) وارتفاعه بواسطته فوق الواقع. هذا الموقف هو موقف الرواقية: عمليتها الخاصة هي أن أكون حراً، على العرش كما في السلاسل، في حضن كل تبعية تخص وجودي، هنا المفرد، عمليتها هي أن احتفظ بهذا اللاتأثر الذي لا حياة فيه، والذي، خارج حركة الكائن، هنا، حركة الفعل والعذاب، ينسحب دائماً في محض جوهرية الفكر". ومعنى ذلك ان فكرة الوفاق مع الطبيعة عند الرواقيين تعني الإذعان والإستسلام التام لضربات الأقدار وتقبلها برحابة صدر، وهذا ما يرفضه هيغل. يقول مرقس أوريليوس الإمبراطور الروماني المُلقب بــ"الفيلسوف على العرش"، لأنه كان من اتباع المذهب الرواقي، يقول، معبّراً، عن معنى الوفاق مع الطبيعة: " كن مثل رأس الأرض في البحر: تتكسر عليه الأمواج من غير انقطاع، وهو قائم ثابت حتى يفتر من حوله جيشان الماء. أفتقول: ما أتعس حالي إذا أصابني هذا الأمر! بل قل العكس: ما أسعدني إذا أصابني هذا الأمر، وما زلت خالياً من الحزن والأسى. لم يحطمني الحاضر ولم يخفني المستقبل. قد ينزل الخطب بأي إنسان. ولكن ليس كل أنسان بقادر على أن يتحمله من غير ابتئاس".
ومن هنا يظهر تماماً أن على الحكيم الرواقي أن ينسجم مع العقل الساري في الكون، ويتجلى هذا الإنسجام في تطبيق الشعار الرواقي الشهير: "الحياة في وفاق مع الطبيعة". وهنا يتحدد معنى الفضيلة: "وحياة الفضيلة هي الحياة بحسب الطبيعة، وبحسب سُنة الكون الذي يخضع كل شيء فيه للعقل الكلي الذي لا يختلف عن الإله (زوس) رب الكون وحاكمه".
بناءً على ما سبق، يلاحظ هذا الأثر الكبير الذي تركه زينون على تاريخ الأفكار، فقد أثار زوبعة معرفية لا تقل قوتها عن تلك الزوبعة التي أغرقت سفينته، وقذفت به الى خضم التفلسُف، بشكل فاق فيه كثيراً من أقرانه اليونانيين.
عاش زينون حتى بلغ من العمر 98 سنة. ولما مات رثاه الاثينيون رثاءً رسمياً، وأصدروا قراراً أعلنوا فيه أنه استحق تقدير الوطن لخدماته، وحثه الشبيبة على الفضيلة والحكمة، لذلك منحوه تاجاً من ذهب، وقبراً في مدفن العظماء. وهاك نص القرار : " حيث أن زينون بن أمناسياس من مدينة كتيوم، أقام في مدينتنا هذه سنين عديدة لتعليم الفلسفة، وحيث اتضح أنه من أهل الاستقامة في جميع الأمور، وأنه سار في حياته كلها على مقتضى الأصول التي كان يعلمها ويدعو اليها، وأنه دأب على حث تلاميذه على لزوم الفضيلة، فقد رأى الشعب أن يمدحه على رؤوس الأشهاد، وأن يمنحه تاجاً من الذهب، استحقه لورعه واستقامته، وأن يشيد له قبراً بقرميق (= أسم مكان) من بيت المال. ورأى الشعب أن يختار خمسة من الأثينيين لمباشرة عمل التاج والقبر، وأن يُنقش هذا القرار على عمودين : أحدهما بالمدرسة الأفلاطونية، والثاني بالمدرسة الأرسطاطاليسية، وأن المال اللازم لهذا العمل كله يسلم حالاً لمباشرة مصالح الدولة، حتى يعلم الناس جميعاً أن أهالي أثينا يشرّفون أرباب الفضل أحياءً وأمواتاً".
ها هو مثلٌ خالد على إنسان بسيط متواضع خرج من أرضنا، أرض فينيقيا، وابتكر مذهباً فلسفياً عميقاً تحول الى ما يشبه "ديانة عقلية" لها أتباع ومؤيدون وأنصار في كل مكان وزمان.
لكن، هل كان زينون نفسه في أواخر حياته سعيداً بما أنجزه؟ هنا قد يكون الجواب مفاجئاً، لأن زينون يحتقر السعادة، فالسعادة لا تليق بالرجال، فهي حالة عرضية بائسة لا معنى لها ومثيرة للاشمئزاز، فمن الأفضل أن تُترك للصبية والنساء، ومن هنا رأى زينون أن على الإنسان الحقيقي أن ينهي حياته بالانتحار، وهذا ما فعله هو نفسه. فعندما كان خارجاً من منزله الى حديقته زلت قدمه فسقط أرضاً، وقد كسر اصبعٍ من أصابعها، فنظر عندئذ زينون الى السماء، وردّد بيتاً من الشعر قيل في " بنلوبي" : "إنني قادم فلماذا تناديني على هذا النحو "، ثم شنق نفسه من فوره.