بالعقل أكتب هذه الكلمة لا بالعاطفة ، وبالوقائع لا بالإنطباعات . لعل الجيل الجديد الذي لم يسمع باسم هذا المفكر المناضل يتبيّن ويتّعظ .

إنه الأمين حيدر عيسى حاج إسماعيل ، المعروف في وسط القوميين الإجتماعيين باسم «عبود عبود». لعل نشاطه المديد وإنتاجه الغزير بهذا الإسم قد غلبا على اسمه الحقيقي، تماماً كما حصل مع أبي العلاء المعري أو مع فولتير اللذين، مع رهطٍ آخَر من الأعلام، عُرفا بالإسمين المستعارين في حين ظلت هويتاهما الحقيقيتان خبيئتيْن ... إلا لِمن أوتُوا من البحث الكثير .

نشأ الطفل حيدر في كنف أُسرة سورية، الأبُ فيها من الجولان والأم من فلسطين. لذلك شعر بمرارة الإحتلال على الجبهتين من العدُوَ الواحد الذي يبدو أن احتلاله يحلو في نظر الذين أعمتْهُم موجة التطبيع الخبيثة عن ثقافة الحرية والكرامة، بل عن قيمة الأرض وأمانة المقدسات. ولما بلغ الشاب الزاخر بالإيمان النهضوي والحياة الجديدة مبلغ الرشد القومي، شَرَعَ يُدَرّس في منطقة «الوادي» الشامية والقامشلي الشاميّتيْن، إضافةً إلى عَمّان وإربد الأردنيّتيْن.

في بيروت دَرّسَنا «الأستاذ» حيدر مادة الفلسفة العربية في صف البكالوريا- الجزء الثاني. وبالرغم من صوته الخفيض ، كان منطقه عالياً وآراؤه عاصفة . أما دوره في الحصة الدراسية فساحِر... في الحِذق والعمق والدفق ، وحتى في الخروج الهادف عن الموضوع.

لم يزده زواجُه من إبنة البيت القومي الإجتماعي منى حسن الأحدب إلا رسوخاً في مناخ النهضة. وما مِن ريب في أن إعجابه التاريخي بفيلسوف الرواقية الخالد، زينون، هو الذي دفع ابنته الوحيدة رلى إلى تسمية ابنها البكر باسم مؤسس المذهب الرواقي ، المعروف بأنه أول من أطلق صفة «المواطن العالمي» ، وأول من قال: «البشر كلهم إخوة» ، وأول من أعلن أن العقل هو السِّمة الأولى للحياة الإنسانية الراقية.

نال الطالب الجامعي حيدر الإجازة في الفلسفة من جامعة دمشق ، ثم أكمل الماجستير في الجامعة الأميركية - بيروت خلال تدريسه للفلسفة والفيزياء في بعض مدارس العاصمة اللبنانية . ولما انتدبه مركز الحزب السوري القومي الإجتماعي إلى أستراليا عام 1972، أكمل الدكتوراه في اختصاص الفلسفة المحبَّب إلى قلبه في جامعة سدني . وهناك لم تُتِح له مسؤوليته بوصفه معتمداً مركزياً ذا صلاحيات للحزب في القارة الأسترالية الشاملة نيوزيلندا أن يمارس أي عملٍ آخر.

عكف الأمين «عبود عبود» على العمل الإذاعي-الثقافي- الإداري، واصلاً الليل بالنهار في مشروع أشبه ما يكون بعملية تأسيس جديدة للحزب في أستراليا التي كانت فروعها ضامرةً ومهملة ، فَزَخّمَ حركة الإدخال على القاعدة العَقَدية الأخلاقية التي لا تقبل التساهل أو المساومة . وأسّسَ ثلاث منفذيات في المدن الرئيسية الثلاث: سدني وملبورن وأديلايد ، حيث عاونه فريق قدير من الأعضاء الذين تَشَرّبوا نَفَساً جديداً في الوعي والصراع هو نَفَس النهضة النقيّ اللاهب. وفي المدينة الرئيسية الجميلة، سدني، أصدر المعتمد المركزي صحيفة «النهضة» التي كان لها دورٌ ثقافي جوهري على مستوى فروع الحزب في أستراليا ، إضافة إلى تغطيتها أخبار الوطن القومية ، والأخبار الإجتماعية للجالية ، من دون الدخول في الصغائر السياسية ولا في طاحونة الأنباء التافهة التي كانت ترِد في جرائد لبنانية هناك ، وتستهلك حيوية المهاجرين اللامنتمين وخزعبلاتهم.

كذلك أسس عبود عبود «منبر العقائد» الذي عُنِيَ فيه بمقارنة الفكر القومي الإجتماعي مع إيديولوجيات أخرى، ماركسية أوعروبية منفلشة أو لبنانية منغلقة أو دينية أو طائفية . ويدرك جميع الذين حضروا حلقات «المنبر» أن أحداً في القارة الأسترالية كلها لم يكن ليتمكن من مناظرة عبود عبود أو من معادلته في الفكر السياسي أو الفلسفي أو التاريخي. كما يدرك الذين واكبوا تلك المرحلة أن ممثلي الأحزاب في سدني مارسوا ضغوطاً هائلة على قياداتهم في بيروت حتى يتدخلوا لدى قيادة الحزب القومي من أجل إيقاف «منبر العقائد» وإسدال الستار على فضائح التعرية الفكرية التي كان يثيرها.

وبعد خمسة عشر عاماً من النضال الملحمي الذي جعل الحكومة الأسترالية تصنّف القائم به «خطراً على الأمن القومي» الأسترالي فلم تمنحه جنسيتها ولا جواز سفرها ، استدعاه مركز الحزب بعد زيارة قام بها إلى هناك رئيس الحزب الأمين عصام المحايري وذلك لسببين : الأول هو الإنشقاق المؤسف الذي شهده الحزب عام 1987، والثاني هو اللغط الكبير الذي رافق إنشاء عبود لنادي أستراليا والشرق الأوسط ، الذي لم ينجح كمشروع إقتصادي ، بالإضافة إلى تَسَبُّب هذا المشروع بخسارة عدد من أعضاء الحزب لتبرعات وأملاك رهنوها من إجل إنجاح المشروع الذي ثَبُت، مع الأسف، فشله المُكْلف.

في الوطن ، عُيّنَ الأمين عبود عميداً للإذاعة والإعلام والثقافة ، وانتُخِب عضواً في المجلس الأعلى إضافة إلى عضويته في هيئة الطوارئ الحُكمية . لكنه بالرغم من نشاطه وحماسه- جرى تصنيفه «مشاكساً» أو «عقائدياً غير مسيّس». ولأنني رافقتُ تلك المرحلة عن كثب في مجلس العُمُد، أمِيل إلى الإعتقاد أن منهجية تفكيره ، ولو كان مُقِلاً في مداخلاته خلال الجلسات الرسمية ، بَدَتْ غريبة عن منهجية التفكير في لبنان-الحرب الأهلية ، لبنان الفاقد بعض المرتكزات المبدئية للعمل القومي ، أو حتى القطري الذي نسميه في قاموسنا العمل الكياني.

عاوَد الرجل تجربة الهجرة فسافر إلى الولايات المتحدة الأميركية ، إلى مُدُن أكرِن وكليفلاند ونيوجيرسي. وفي ولاية أوهايو أصدرمجلة شهرية تُعنى بالفكر الفلسفي الغربي دعاها «فيليا صوفيا». كما ألقى محاضرات في بعض الجامعات الأميركية بدوام جزئي . ولما حان موعد رجوعه إلى الوطن رجوعاً نهائياً عاوَده شغفُ «الإثم الكنعاني»... صحيح أنه لم يتسلم أية مسؤولية حزبية ،إلا أنه شارك في العديد من الحلقات الإذاعية والنشاطات الثقافية ، حيث ركّزَ على الأصول والمنطلقات والقواعد . وكرّمتْه عمدة الثقافة والفنون الجميلة في مركز الحزب عام 2009 بشخص العميد فهد الباشا أثناء الدورة الرئاسية الأولى للنائب أسعد حردان. ولما كان وقته متاحاً فقد وقّعَ عقداً مع المنظمة العربية للترجمة حيث قام بتعريب مجموعة من الكتب الفكرية. كما أعطى محاضرات تدريسية في الجامعة اللبنانية -الأميركية، وجامعة بيروت العربية...ونسأل الآن : ماذا يفعل اليوم هذا المثقف الكبير والمناضل الصِّنديد ؟

بعد مسيرة حافلة بالعطاء والتضحية والإنتاج الغزير ، بعد إصدار عشرات الكتب والدراسات الفكرية التي حفّزها الفكر القومي الإجتماعي والثقافة الموسوعية المكتَسبة ، يقيم هذا الذي أدركته الشيخوخة ، هذا المُتَيّم بمثاله الأعلى أنطون سعاده ، في شقة صغيرة متواضعة ، وحيداً إلا من مؤلفاته، ومن رعاية زوجة راقية تبتسم حتى للإنفراد وللألم . لكنهما يَعْلَمان علم اليقين أن اليمين العظيمة التي أقسماها لن تَصْغُر في لحظة ضعف ولن تُبتذلَ بسؤال . فهنيئاً لهما على هذه العزيمة الصادقة التي لم تتمرغ بوحول ، وعلى صهوة العز التي لم يترجّلْ بعد فارِساها.