إنّ أهمّ خصائص المُصاب بالنزعة الفردية هي كما يلي:
"فبعض الأفراد تصل به النزعة الفردية إلى حد لا يرون عنده فارقا بين الإختصاصي في فن من الفنون ومن لا علم له به أو بين المعلم والتلميذ، القائد والجندي أو الضابط الصغير."[2]
وتشتد هذه النزعة عند بعض الأذكياء أو بعض الناجحين في ناحية من النواحي. ويضرب الزعيم على ذلك مثل أحد الذين دخلوا الحزب وظنّ أنه يستطيع أن ينافس الزعيم على صلاحياته ويمثل وجهة نظر الحزب بآرائه الخاصة، لأنه قبل دخوله الحزب كان "أديبا" قد ترجم بعض الكتب لبعض المؤلفين "ترجمةً غير منقودة."[3]
إنّ ازدراء الأنظمة واختبار الأعراف والتقاليد واختبار الشذوذ عنها قاعدة هو، في نظر سعاده " أسوأ أنواع الإنحطاط الإجتماعي وشر ضروب الإنحلال القومي."[7]
ويرفض الزعيم في تحليله لهذه الظاهرة الخبيثة "أن تكون كما توهمها بعض الدارسين غير المتعمقين، طبيعة في شعبنا لا تزول أي أن تكون خاصة وجودية من خصائص أمتنا."[8] وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن البحث عن علاج لها؟ إذاك تصبح النزعة الفردية قضاء وقدراً لا خلاص منه إلا بالخلاص من الوجود ذاته.
ويترتب على مثل هذه النظرة السطحية المستعجلة نتيجة هامة باهرة هي اليأس من أي حل والتشاؤم من الحياة ذاتها والإستسلام للأمر المفعول وهو بقاء شعبنا خارج النهضة القومية الإجتماعية أي في دائرة التفكك والإنحلال والعدم بديل الوحدة والحياة والإرتقاء.
وإذا لم تكن النزعة الفردية خاصة وجودية فينا، فما هو أصلها؟ يجيب سعاده: "إنه النظام الإجتماعي-السياسي القائم والنظام الإجتماعي-الثقافي- التربوي المعمول به في البلاد.[9] النظام الأول إنحلالي والثاني إنحطاطي. في النظام الإجتماعي-السياسي لا نجد مركزاً قيادياً موحداً يدعو إلى الإحترام والتقدير والثقة التامة. كل ما هنالك عبارة عن مراكز سياسية-طائفية ومراجع دينية-مذهبية ومراكز نفوذ اقتصادية-إحتكارية. وهذه كلها رجعية تبعث على الإحتقار والإزدراء والشك وتجعل الفرد، في النتيجة، يطلب خيره في مخالفتها والتمرد عليها واتباع هوى نفسه. وفي النظام الثقافي-التربوي لا يقوم منهج واحد يسمح بتثقيف النفوس على أسس واحدة يشرف عليه مرجع تعليمي واحد محترم كل الإحترام. فهناك فسيفساء من الثقافات المزيفة والمشوّهة. ثقافات الرجعيين والإستعماريين على تعدد ألوانهم واتجاهاتهم. هذه الثقافات المتضاربة تبعث روح التصادم بين الأفراد التي هي روح النزعة الفردية.
"النزعة الفردية، إذن، ليست من طبيعة السوري وإن ظهرت متفشية في جيلنا الحاضر."[10] إنها عرض للأنظمة الإجتماعية الرجعية الإنحطاطية السائدة الآن في بلادنا. إنها مرضٌ طارئ لكن له علاج. وطريق الشفاء يحددها الزعيم بالنقاط التالية:
ويقول سعاده: "إنّ المصح الوحيد لهذا المرض كما لغيره من أمراضنا الإجتماعية هو نظام الحزب السوري القومي الاجتماعي."[13] ثم يعلن:
"إن الذين يعطون أنفسهم شهادات وبراءات شخصية مستغنين عن براءة المنظمة وشهادتها هم من الذين لا يريدون الإعتراف بوجود المرض ولا يبغون الشفاء منه. إنهم أصحاب لأنفسهم ولكنهم ليسوا أصحاء للمجتمع.[14]
ويعتبر سعاده النزعة الفردية وأخلاقها أفدح خطراً على الأمة من الإستعمار ويطلب من جميع القوميين الإجتماعيين أن يشنّوا حرباً ضروساً ضدها لأنها كالإحتلال الأجنبي، كائن غريب عن جسم الأمة، يقول:
"يجب على القوميين الإجتماعيين أن يكافحوا النزعة الفردية مكافحتهم الإحتلال الأجنبي، بل أشد، فخطر الإحتلال الأجنبي من الخارج، أما خطر النزعة الفردية على سلامة المجتمع فمن الداخل."[15]
والجدير بالملاحظة، أن ذوي النزعة الفردية قد حاولوا في تاريخ النهضة القومية الإجتماعية أن يفلسفوا مرضهم الخبيث ويضعوا له عقيدة خاصة اغلب عناصرها مستقاة من كتابات فلسفة غريبة، وذلك للدفاع عن موقعهم في مجابهة الفلسفة القومية الإجتماعية. إنّ مثال فايز صايغ، الذي كان عميداً للإذاعة والثقافة عام 1947 ما يزال مثالاً صالحاً للدرس والتأمل والإعتبار. لقد حاول هذا الرفيق السابق المطرود، أن يبشّر بفلسفة النزعة الفردية وأخلاقها داخل الحزب من مركز مسؤوليته الحزبية في عمدتي الإذاعة والثقافة. وقد اعتمد على كتاب (العبودية والحرية Slavery & Freedom لنقولا بردياييف Nicolas Berdyaev) المطبوع في لندن 1944. أما مرتكزات تلك الفلسفة فيعددها سعاده كما يلي:
الشخصية الفردية عند بردياييف، هي المركز الوجودي المطلق. اما ما هو المجتمع وما هو الكون؟ يجيب بردياييف "بأنهما جزءان من الشخصية الفردية."[18]
ويقول أيضا: " أنها تخلق نفسها وتوجد بمصيرها الخاص." وهذا إنكار لما تقدّم من أن الشخصية الفردية إنبثاق من الله رأسا.[20]
أ – فلسفة صغرى، عندما تزجّ برأسها في الرمل إذ يدركها الصيّاد.
ب – فلسفة فردية كبرى تشرحها القصة التالية. قيل للنعامة: طيري، فقالت أنا لست طائرا إنما أنا جَمَل، فقيل لها: يا نعامة احمَلي، فقالت: أنا لستُ جملاً بل أنا طير.[22]
ومما يقوله بردياييف انه "لا يمكن للشخص أن يكون بكليته عضواً في العالم أو الدولة لأنه عضو في مملكة الله. وهذا مرتبط بالواقع أن الإنسان (الفرد)، كائن ليس في عالمٍ أحد، بل في عالمين."[23]
ويعلّق سعاده على هذه الفلسفة بقوله: " بما أن الفرد يخص عالمين لا عالماً واحداً وجب أن يختار، بحسب مرتكز ولائه لشخصيته، في أية مناسبة، يحسن أن يكون ولاؤه، بعد نفسه، ومن أجل نفسه فقط، لأحد العالمين دون الآخر، فمرةً يكون ولاؤه لعالم الملكوت ومرة يكون لعالم الأرض".
"الطريقة الأخرى لتطبيق فلسفة النعامة الثانية، هي أن يكون المرء بوجهين ولسانين، فلسفة عظيمة وسلوكية باهرة.[24]
هذه هي الفلسفة الغريبة العجيبة للنزعة الفردية التي ليست الا مسلسلاً من الكلام الذي لم يتقدم بأصحابه ولا بقضية الشعب خطوة واحدة في سبيل المعرفة الحقة أو طريق الحياة الجيدة.
حقا، إن النزعة الفردية كما وصفها سعاده هي "من ألدّ أعداء نهضتنا النفسيين"[25] لأنها عدوّ مقيم في داخل النفس وفي داخل الكيان الإجتماعي بفضل الأنظمة الرجعية الإنحطاطية وسموم ثقافات الدوائر الإستعمارية والامبريالية.
[1] أنطون سعادة، "عود على النزعة الفردية في شعبنا"، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 50، 15/08/1942. راجع ايضاً الأعمال الكاملة التي أصدرتها مؤسسة سعاده للثقافة، المجلد السادس 1942-1943.
[2] المرجع ذاته.
[3] المرجع ذاته.
[4] المرجع ذاته.
[5] المرجع ذاته.
[6] أنطون سعادة، "النزعة الفردية في شعبنا"، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 49، 1/8/1942. راجع ايضاً الأعمال الكاملة التي أصدرتها مؤسسة سعاده للثقافة، المجلد السادس 1942-1943.
[7] أنطون سعادة، "عود على النزعة الفردية في شعبنا"، المرجع السابق.
[8] أنطون سعادة، "النزعة الفردية في شعبنا"، المرجع السابق.
[9] المرجع ذاته.
[10] المرجع ذاته.
[11] المرجع ذاته.
[12] المرجع ذاته.
[13] المرجع ذاته.
[14] المرجع ذاته.
[15] المرجع ذاته.
[16] انطون سعادة (هاني بعل)، " مدرسة الأنانية ومحبة الذات تعاليمها الفوضوية الغريبة"، النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية، بيروت، المجلد، أ، العددان 3 و4، 15/12/1947 و 01/01/1948. راجع ايضاً الأعمال الكاملة التي أصدرتها مؤسسة سعاده للثقافة، المجلد السابع 1944-1947.
[17] المرجع السابق.
[18] المرجع السابق.
[19] المرجع السابق.
[20] المرجع السابق.
[21] المرجع السابق
[22] المرجع السابق.
[23] المرجع السابق.
[24] المرجع السابق.
[25] أنطون سعادة، "عود على النزعة الفردية في شعبنا"، المرجع السابق.