هل الوعي الإنساني ينطلق من فراغ؟ أو يتأسس على فراغ؟ هل الانتماء يحصل بمعزل عن ثقافة تنير الوعي بحقائقه؟ هل واقعنا المأزوم هو في جانب من جوانبه "مأزق ثقافي" يعكس ذاته على الوعي؟
أسئلة مشروعة لا بدّ من طرحها في محاولة لمقاربة "الواقع المجتمعي" الذي نحيا اليوم أخطر تداعياته على مختلف الصعد.
وبالتالي، يبرز سؤالٌ من نوعٍ أخر :"هل الخروج من هذا المأزق ممكن بعيداً عن الثقافة والصراع الثقافي؟ هل يمكن مقاربة حلول مستقبلية لأزمات الواقع الاجتماعي بمعزل عن التنوير الفكري وضخ قيم نهضوية جديدة تعيد صياغة الوعي المجتمعي على قواعد رؤية جديدة للمجتمع والقضايا المتصلة به؟"
هذه الأسئلة لا تدخل في باب "الترف الفكري"، بل هي أسئلة تحاكي الواقع ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
والجواب على كل هذه الأسئلة يحمل مضموناً واحداً يتصل بالثقافة أولاً وأخيراً. أجل، المأزق ثقافي بامتياز، فالوعي انعكاسٌ صادق للثقافة المنتشرة سطحياً في فئات المجتمع والتي همّشت وسطَّحت كل المفاهيم الاجتماعية الإنسانية والحضارية، وخرّبت واقع التواصل الفاعل والقائم منذ قرون في كل الحواضر من مدن وقرى ودساكر شكلت نماذج حية عبّرت عن وحدة المجتمع وعن وحدة حياته ومصيره ومستقبله في كل الحقبات.
هل صراعاتنا "السقيمة" و"العقيمة" داخل مجتمعنا إلا نتيجة مباشرة لضحالة "الثقافة" المنتشرة في أوساط الشعب؟ والتي ـ بالمناسبة - لا تعبّر عن حاجات نموه وتطوره وتقدمه وارتقائه، ولا تعبّر بأي حال من الأحوال عن مصالحه الحياتية والاقتصادية والاجتماعية، لا المباشرة ولا غير المباشرة.
هل الاختلافات حول قراءتنا للدين والمجتمع والدولة إلا نتاج هذا الخلل في فهم جوهر الدين، وحقيقة المجتمع وواقع الدولة؟
بلادنا بلادُ الخيرات والثروات اللامحدودة، ولكن عقلنا "المعطوب" بثقافة "التدمير الذاتي" و"الدوران على محور الرجعة والتخلف" أوصلنا إلى هذا الدُرْك الخطير، الذي بات يهدد الأرض والمجتمع والإنسان والدولة بالاندثار والتفكك والانحلال الذاتي والتقهقر والعدمية في معيار الوجود.
هل النقلات النوعية في حياة الشعوب ومن خلال تجاربها العالمية إلا نقلات جوهرها الثقافة والوعي؟
بالطبع، الثقافة أساسُ الوعي. والوعي هو جوهر النهضات الخلاقة الوثابة المتطلعة إلى فعل العقل واجتراحات حلوله للأزمات في "الواقع الانساني".
انطلاقاً من هذا المعطى، يبرز دورُ أصحاب ثقافة النهضة في طرح المعادلات الصراعية المرتكزة على الثقافة والوعي بقيم ومفاهيم ورؤى وأفكار عصرية، "حداثوية"، تنطلق من الواقع باتجاه تغييره وتفعيله وتحصينه وتطويره بما يتلاءم وحاجات المجتمع وطاقاته وقدراته.
هل الطائفية مثلاً التي تنخر جسم المجتمع وتعطل مفاعيل القوة فيه إلا ظاهرة "ثقافية" منحطة تعبّر عن مأزق مجتمعي كبير؟ وهل المذهبية إلا انعكاس ثقافي خطير لـ "ثقافة ضحلة" لا تفقه معنى وجوهر الرسالات السماوية الحقة؟ وهل الانقسامات الأفقية والعامودية التي تضرب في عمق بنيتنا المجتمعية إلا إرهاصات "ثقافية" تعكس ذاتها في الوعي والسلوك والممارسة؟
نحن معنيون اليوم بإطلاق حركة ثقافية جديدة ترتكز على تراث وتاريخ وحضارة، تعيد صياغاتها العصرية بلغة جديدة وتُحدِث التحول في أنماط وأساليب التفكير لدينا، من خلال اعتماد كل الوسائل المتاحة في عملية التواصل الإنساني ومن خلال الاستفادة من كل أدوات وتقنيات الاتصال والتواصل في هذا العصر.
لا بد من تنظيم هذه الحركة الثقافية المرتكزة على إرث نهضوي كبير، وإطلاق مكنوناتها في كل زوايا الفعل المجتمعي.
فنحن اليوم نعيش ـ واقعاً- مرحلة انتقالية خطيرة لا يمكن إنقاذ مجتمعنا فيها إلا بالثقافة... أولاً وأخيراً.
فهل نحنُ جديرون بهذه المهمة؟