الزعيم أنطون سعاده: وقفة عز.. ونشوء أمة عبد العزيز بدر القطان لا يمكن لأي إنسان أن يتمسك بنهجٍ معين، أو ينفتح على بحار العلم والثقافة إذا لم يكن يفهم ويعي ماهية الإنسان، من خلال قراءة الإنسان، و
الزعيم أنطون سعاده: وقفة عز.. ونشوء أمة
-----------------------------------------------------------------
لا يمكن لأي إنسان أن يتمسك بنهجٍ معين، أو ينفتح على بحار العلم والثقافة إذا لم يكن يفهم ويعي ماهية الإنسان، من خلال قراءة الإنسان، والغوص في تفاصيل الإنسانية، كما التاريخ المرتبط بعظماء لهم بصمتهم الإنسانية المجرّدة، يتحقق ذلك بحب المرء قراءة ثقافة الإنسان والمجتمع والإطّلاع على زمانه ومكانه مع مراعاة فرق الأزمنة، رغم أنهم في كليّتهم، ينعمون ببصيرة إمتدت إلى أيامنا هذه وستمتد إلى الأجيال اللاحقة.
لا أحد يستطيع أن يكون حراً إلا إذا كان مجتمعه حرّاً. والمجتمع الحر لا يمكن أن يكون حراً إلا إذا تحرر بالمعرفة، ونهض بالمعرفة، وقام بواجب تعميق المعرفة، ومارس نظام المعرفة، وقوّى نفسه بالمعرفة، فاكتسب بحرية المعرفة وواجب المعرفة ونظام المعرفة وقوة المعرفة حياة مناقب وقيم وفضائل الحق والخير والجمال التي يرتفع بها إلى الحياة الأجود والعالم الأجمل والقيَم الانسانية الأعلى والأسمى.
إن قراءة التراث الإنساني والمجتمعي، نعمة لمن يريد إكتشاف الإنسان والمجتمع من بابه الواسع، إذ لا يخفى على أحد أنه لا يوجد إنسان في العالم أحدث ضجة كبيرة لجهة منهج وثقافة وفكر إلا بسبب آثار محفوظة له، وأفكار نستطيع وصفها بالخالدة، فعند الإطلاع وفهم تلك الأفكار ومشاركة عيش المراحل السابقة في الخيال، يعطينا توصيف دقيق للإبداع والتراث والفكر الذي بين يدينا اليوم، والزعيم أنطون سعاده واحدا منهم وأفضل شخصية مؤثرة إلى يوما هذا، فكم نحتاج إلى وجود أشخاصٍ مثله تحمل فكره ومسيرته النضالية وما أحوجنا اليوم إلى من يقف وقفة عز شامخا كقاسيون صلبا كالسنديان ورقيقا برقّة مياه دجلة والفرات .
أحرار الامّة
وُلد الزعيم أنطون سعاده في 1 أذار /مارس عام 1904 في بلدة الشوير اللبنانية، وهو المفكر ومؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، الزعيم سعاده، أحد المنادين بعودة سوريا الطبيعية، وقسّم العالم العربي أربع أمم، الأمة السورية، وأمة وادي النيل، وأمة الجزيرة العربية وأمة المغاربية، فكان السعي هو إنشاء جبهة عربية وليست سورية فقط، ويتوحدوا معا في وجه كل أشكال الإستعمار، خلف سعادة إرثًا معرفيا كبيرا، وله العديد من المؤلفات والكتب. ويعد من الشخصيات المؤثرة في العالم.
"إن لم تكونوا أحراراً من أمّةٍ حرّة، فحريات الأمم عار عليكم"
هذه الشخصية المؤثرة التي نهلت وإنكبت على العلم في سنٍّ مبكرة، إستبصرت أمورا أحدثت نقلة نوعية في إستطاعة الأشخاص مقارعة الإستعمار، وهو الذي إستشرف مشروع الحركة الصهيونية وخطره على سوريا الطبيعية، رابطا بين وعد بلفور بوطن قومي لليهود في فلسطين المحتلة، وبين إتفاقية سايكس بيكو التي قسمت سوريا الطبيعية.
إذاً، عندما يخرج علينا إنسانا إنموذجاً متكاملا، يرى ما لا يراه الكثيرين، يُلغي "الأنا" من قاموسه، ويعمل ويعمل لأجل الجميع، لأجل وطن موجود لا يريد فقده بفعل إستعمار أو جهل أو تخلّف، فبالنظر إلى واقع الحال اليوم، لا يوجد هناك شخصيات مؤثرة بقوة وعَظَمة الزعيم سعاده وأقرانه، فمع أحداث الربيع العربي اليوم وعربدة الكيان الصهيوني على سوريا ولبنان وفلسطين المحتلة، واليمن وليبيا والقائمة تطول، لم نرَ أحدا يجاهر بالدفاع عن قضايانا حتى إنسانيا، فهل هو الخوف أم ضعف، أم قلة ثقافة وعلم؟
بين اليوم والأمس
يندرج كل ذلك من السلوك العام للفرد، ويرتبط بالنشأة والتربية، وتحصيل المكتسبات من ثقافة وعلوم وفكر، فخروج أي منهج يكون قدوة لفئة كبيرة من الناس، مبني على خلاصة حياة، مستمدة من كل ما هو مفيد للبشرية، فالزعيم سعادة أدى دور كبير في الدفاع عن قضايا سامية، أهمها برأيي، موقفه من الكيان الصهيوني الذ إلى الآن يهدد بلادنا، وتقصير وتآمر الدول العربية، فما بين اليوم والأمس هي نفس الأزمة القائمة وذات المشكلة، لكن كان ينقصها إظهار حقائهم بشكل علني، وليس آخرها مسألة التطبيع والتي أفردت لها مقالات عدّة، وحذرت من الخطر القادم إلينا، من قبل طرح موضوع صفقة القرن، وها هي اليوم تصبح واقعا وتتجول الوفود الصهيونية في بلاد المطبعين "العربية والإسلامي"، إن جاز التعبير، فكل منا يحمل راية الحق ضمن الظروف الراهنة التي تحيط به وضمن البيئة التي نحاول أن نحافظ عليها من كل رموز الحداثة الإستعمارية المغلفة بأشكال جديدة من أتون الحروب والإحتلال.
في العام 1949، كتب الزعيم أنطون سعاده، "العروبة أفلست"*، ومما جاء فيها الجملة التي وقعها أشبه بعاصفة وبركان على قلبي، *"ذهبت كيليكيا، ثم ذهبت إسكندرونة، ثم جاءت فلسطين، فكررت إنذاراتي".
هذه الكلمات القليلة في عددها، الكبيرة في وقعها على الوطنيين والأحرار في كل أنحاء الأرض، إن توقفنا لبرهة قليلة فقط ونظرنا بتمعن، لبكينا دماً بدل الدموع، على حال أمتنا اليوم، أمة متفتة ومتشرذمة ويحكمها الجهل والتخلف، إلا قلة قليلة من المكافحين لتغيير هذا الواقع والنهوض بأمة عظيمة كما يريدها الزعيم سعاده، وأنا وأنت وكل حر شريف في هذه الأرض.
ترى الدكتورة *صفية أنطون سعاده*، في مقال لها عن التمييز بين اليهودية والصهيونية في فكر أنطون سعاده، أنه ومنذ بدايات كتاباته أكد أنطون سعاده أن القضية الفلسطينية ليست مسألة يهود يريدون الإقامة في فلسطين، بل هي مسألة «انترنسيونية» متعلقة بمطامع المستعمر الغربي في الاستيطان في المشرق العربي خاصة بعد اكتشاف آبار البترول في الجزيرة العربية والعراق من قبل البريطانيين. فموضوع فلسطين يتعدى هجرة اليهود الغربيين ويختص في جزء كبير منه بسياسات الدول التي ساندت وسلحت هذه الهجرة لأغراضها ومصالحها.
فالزعيم سعاده كان السبّاق ومن أوائل الذين حذروا من خطر الهجرة اليهودية من الخارج إلى فلسطين، وهؤلاء المهاجرين ما هم إلا أدوات إقامة مشروع دولة قومية دينية لليهود.
إذاً هي قضية قومية عروبية، فالأطماع الإستعمارية لا تعرف حدودا لها، بل تحاول الإمتداد وإستغلال كل بلد يمتلك من المقدرات ما يفوق خيالنا، فلا شيء يأتي صدفة، كله مخطط ومدروس وبعناية فائقة، فما يحدث اليوم من تواجد قواعد عسكرية لأعتى دول العالم، وحول العام، لأكبر دليل على ما نقول، بمقابل ذلك، كل الدول المنتجة والحرة محاربة اليوم، ألم تسألوا أنفسكم هذا السؤال، لماذا اليوم الدول الحرة محاربة؟
ببساطة لأنها تتبع منهج ولديها مشروع، لديها خطط وتعمل على تطوير الذات، صناعات وإختراعات وتطور عمراني، ونهضة، مع التأكيد أن كل بلد ينهض بنفسه نتيجة لعوامل قاهرة فرضت عليه ذلك، كالحصار والعقوبات وما شابه ذلك، لعل تجربة سنغافورة والتجربة الإيرانية وحتى باكستان، من هنا، نرى في الإرث الكبير الذي خلفه الزعيم سعاده، هو تراث عظيم، وأنا شخصيا عند قراءتي لمجموعته الكاملة، تأثرت بما قرأت، ولا أقارن نفسي به، لكن أرى أن هناك ما يجمعنا خاصة فيما يتعلق بالموضوع الإنساني والمجتمعي والتفكير المطلق بالآخر، ونبذ التعصب والطائفية، والإستعمار، تأثرت به لروحه وإيثاره في تحمله وتكبده الكثير في حياته القصيرة لأجل النهوض بالأمة، الأمة التي نكافح لأجلها اليوم.
روح الجماعة
يقول الزعيم سعاده، في كتابه "الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية"*، *"إن العروبة التي تهمل مبادئ النظام الاجتماعي ونواميس الاجتماع ولا تستند إلا إلى الدين وإلى اللغة بمقدار، هي عروبة زائفة لا نتيجة لها غير عرقلة سير المبادئ القومية الصحيحة في سوريا والأقطار العربية عامة، وإعطاء الدولة الأجنبية كل فرصة للتسلط على أمم العالم العربي والتغرير بها وإذلالها".
أليس ذلك ما يحدث اليوم وما يقوم به تحديدا الرئيس ترامب، مع الدول العربية والغنية تحديدا، وعلانية وبوقاحة إن جاز التعبير، ألسنا نحن من أعطاه حرية التحكم بنا، قد يكون الإستعمار قديما قدم على راس جيوش وإحتل أراضينا، لكن الاحتلال اليوم جاء بأيدينا ومن خلالنا من خلال ضعفنا وصمتنا، وخوفنا المغلف من إعلان الحقيقة.
نحن لسنا بتبّع أحد، كل شخصٍ جيد حتى يثبت العكس، ولكن نفتقر إلى الصحوة الحقيقية وإلى إظهار مواقفنا بحزم، نحتاج اليوم هذه الصحوة أكثر من أي وقتٍ مضى، ونحتاج إلى أن نتوحد بالفكر والأسلوب وحتى بالأخلاق، لننتقل من الدفاع إلى الهجوم.
في مقدمة كتاب نشوء الأمم للزعيم سعاده، جاء فيها، إن الوجدان القومي هو أعظم ظاهرة إجتماعية في عصرنا، الظاهرة التي يصطبغ بها هذا العصر على هذه الدرجة العالية من التمدن، ولقد كان ظهور شخصية الفرد حادثا عظيما، في إرتقاء النفسية البشرية وتطور الاجتماع الإنساني، أما ظهور شخصية الجماعة، فأعظم حوادث التطور البشري شأنا وأبعدها نتيجة وأكثرها دقة ولطافة.
نعم هي روح الجماعة، روح التعاون وروح الإيثار، كخليجي كويتي، أتألم لحال أمتي، لحال فلسطين الحبيبة ودمشق وبغداد وطرابلس الغرب، وأحاول جاهدا، أن أترك بصمتي بما ينفع الآخر ويحفزه على النهوض والإرتقاء، في داخل كل منا يوجد الزعيم أنطون سعاده، يوجد سلطان باشا الأطرش، إبراهيم هنانو، يوسف العظمة، ناجي العلي، ودرويش، بداخلنا بركان يغلي، يحتاج أن نظهره بمحبة ودون خوف من ظلم حاكم أو ملك أو رئيس، فلا المحمديين معصومين ولا المسيحيين، لكن خطأهم أن حدود الدنيا تقف الوحدة في محاربة الاحتلال، نقف سوية في مقاومة المشاريع الإستعمارية، نقول لا للظلم ولا للتطبيع، فما الحياة إلا وقفة عز.
كاتب وحقوقي كويتي.