لعلّ أهمّ السمات الّتي تميّز مجتمعًا حيًّا متقدّمًا عن مجتمع يتآكله الشلل والتخلّف تكمن في سلوك هذا المجتمع حيال مسألة التغيير والتطوّر. تستطيع المجتمعات الحيّة الناضجة أن تقوّم وتطوّر أوّ تبدّل الممارسات والمعتقدات الأشدّ رسوخًا، عند الاكتشاف بأنّها تتعارض مع مصالح المجتمع وتتناقض مع نتائج الاكتشافات العلميّة وما يقرّه العقل.
إنّ التطوّر والتغيير من أجل الأفضل يحتلّ مركز الصدارة في معرض القيم الاجتماعيّة في هذه المجتمعات، في حين تختزن المجتمعات التقليديّة البليدة قدرة عظيمة على مقاومة التغيير. بعض المجتمعات العربيّة، وفي طليعتها لبنان، تكاد مقاومة التغيير تشارف حدود الانتحار الجماعي.
من البديهي أنّ درء الأخطار وعلاج العلل والإشكاليّات يقتضي بداية وعيًا لها ولمسبّباتها ومضارّها، كما يقتضي تقديرًا دقيقًا للقوى الفاعلة والمسيّرة لها، وفهمًا صحيحًا للمصالح التي تحرّك هذه القوى، داخليّة كانت أم خارجيّة. لكنّ وعي المخاطر وفهم الدوافع والتقدير الدقيق لمخطّطات وأهداف القوى الفاعلة، لا تكتسب أهميّة إلّا بقدر ما توظّف تلك الجهود في حشد الطاقات وتنظيمها وتفعيلها بشكل دؤوب لدرء الأخطار والتغلّب على المصاعب.
فلو نظرنا إلى حال المجتمعات العربيّة وسلوكها إزاء ما تعاني من تخلّف وتفكّك اجتماعيين يتفاقمان باطراد، ولو نظرنا على وجه التحديد إلى تعامل النخب العربيّة مع ما يجري في مجتمعاتها، لجهة وعيها لمسؤوليّاتها وفهمها لأهميّة الربط بين الجهد والنتيجة في علاج العلل التي تتهدّد، لا بل تنهش، مجتمعاتها، لأعيتنا العبارات والنعوت الملائمة وانتهينا إلى أنّها مجتمعات تأبى الحياة.
أتعمّد التركيز على النخب لأنّها مقياس الحيوية لدى الشعوب. ففي المجتمعات الحيّة هي من يضع قواعد السلوك الاجتماعي والسياسي ويشرحها، وهي من يراقب تقيّد الحاكم والمسؤول بهذه القواعد، وإليها يعود تبيين العلل التي تعاني منها مجتمعاتها واقتراح العلاج الملائم لها. وهي من يتولّى توعية الشعب لما يحيق به من أخطار، فضلًا عن حشد طاقاته وتنظيمها وتفعيلها لدرء هذه الأخطار.
فالنخب العربية مغيّبة، وإلى حدٍّ بعيدٍ بإرادتها، عن القيام بدورها الطبيعي. ويظهر هذا الغياب، أو هذه الغيبوبة، بجلاء في الظروف العصيبة التي تمرّ بها المجتمعات العربية، والأدلّة على ذلك عديدة.
لا يبدي المجتمع العربي ونخبه ردود فعل طبيعيةً تجاه أكثر الجرائم هولًا، كانتشار القتل والتنكيل والعودة إلى السبي والرقّ وتشويه الدين وأغلى المعتقدات. وكذلك إزاء حروب العدوان مهما بلغت من التوحش والعنف، حتّى لو طال العنف الأطفال والمرضى والشيوخ، وقد غابت عمّا يُرتَكب من جرائم جميع قواعد السلوك الإنساني وما تأمر به قوانين السماء والأرض.
والغيبوبة العربية قائمة أيًّا كان الفاعل, عدوًّا خارجيًا كما في حال الجرائم التي ارتكبتها وترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، أو كان بقيادة عربية كالفظائع التي ترتكب بحق الشعب اليمني، أو جرائم ترتكبها منظمات إرهابية تكفيرية تدّعي التغيير والتحرير، وتستظلّ الدين مبررًا لسلوك وحشي لا يقرّه مجتمع بشري. وهو سلوك خال من كل قيمة تحملها عادة الثورات وقوى التغيير كمبرّر آني للّجوء إلى العنف والخروج عن المألوف في السلوك الإنساني. فالثورات وقوى التغيير لها عادة أدبيّاتها وأثرها في الحياة الفكريّة والفنّية ومجالات الجمال المختلفة وتشكّل محور النشاط الفكري لدى النخب المثقّفة.
ولعلّ أوجع ما في غيبوبة الانسان العربي هو موت حسّه بالجمال وانعدام حرصه على التراث والحفاظ على الذات التاريخّية وعلى أهمّ مكوّنات الموروث الحضاري. فلا نراه يُعير اهتمامًا لتدمير المدن الأثريّة وما تحتضنه المتاحف من تحف جماليّة. وهو لا يبدي حراكًا يدلّ على شعوره بضرورة الدفاع عن هذه الذات التاريخية، وكأنه قد فك كل ارتباط له بالحسّ السليم وبالقيم والمبادئ التي هي أساس تماسك مجتمعه ومقوّمات تطوّره. فأصبح يراقب ببلادة أو حتى يشيح النظر عن أدوات الهدم التي تدمّر مجتمعه وتفتك بقيمه وحريته وتراثه وكل ما يضمن استمراره أو تطوّره بين المجتمعات الحيّة.
القدرات الفكريّة التي تبدي اهتمامًا بالشأن العام قد نرى عملها في دراسات أو كتب، تَظهر بين الحين والآخر، وتتناول توصيفًا دقيقًا لواقع العالم العربي والأزمات التي تحلّ ببعض أقطاره. وقد نقرأ أو نسمع شرحًا مقنعًا لوجود أزْماتٍ ومخاطرَ تتهدّد المجتمع بأسره، بمن فيه الكاتب أو المتحدّث، لكنّ الجهد يتوقّف عند هذا الحدّ. فتعاظم المخاطر والتهديدات، عوضًا عن أن يدفع إلى العمل الفوري على درئها، يحمل النخب في مجتمعاتنا على توصيف وتحليل مصالح القوى الفاعلة، والاسترسال في شرح مخططاتها وتقييم مدى نجاح هذه القوى في بلوغ أهدافها، وذلك ليس بهدف وضع الخطط ورصّ الصفوف وتفعيل الطاقات لدرء هذه الأخطار وتفشيل خطط الأعداء وكل من يعمل لغير مصلحة المجتمع، بل على العكس من ذلك, فهي تجهد في تعظيم العقبات وخلق المبرّرات لتجنّب المسؤولية عن أيّ نشاط أو عمل من شأنه أن يدفع عنها الأخطار المحدقة.
ففي العلل التي ينسبها إلى قوى خارجيّة، نرى المثقّف العربي يسترسل ويبدي ما استطاع من براعة وبيان في شرح الأدلّة على دورها، ويجهد في تحليل الصراع والمصالح والخطط التي تعتمدها هذه القوى. وتتوقّف جهوده عند هذا الحدّ معتبرًا أنّه حقّق من النضال ما يمكن تحقيقه وكأنّ مشيئة القوى الخارجية فينا قدر لا يمكن ردّه.
أمّا المخاطر والأضرار ذات المصدر الداخلي، والتي تستغلّ ببراعة من قبل القوى الخارجيّة لتنمية وتفعيل الهويّات والانتماءات الفرعية، كالطائفية والمذهبيّة والقبليّة وسواها، مّما يضمن تشظّي النسيج الاجتماعي ويذهب بوحدة المجتمع ومناعته، ومهما كانت المخاطر والأضرار الناتجة منها، فتبقى بمنأى عن أيّ جهد جدّي في مقاومتها والقضاء عليها. وتتوقف الجهود عند محاولة فهم أسباب ظهورها، دون التطرّق إلى بذل الجهود وحشد الطاقات وتنظيم وتحفيز القدرات لتقييم ضررها، والعمل الدؤوب على إضعافها والقضاء على مخاطرها على المجتمع.
وقوى الدمار التي تدفع إلى التفكك المجتمعي وتلحق بالمجتمعات العربية الوهن وغياب المناعة في الزمن الذي نعيش، لم تعد في الغالب قوىً وجيوشًا خارجية تصعب أو تسهل مواجهتها أو مقاومتها, إنّما هي قوى وغرائز كامنة في الذات العربية تدفع بالمجتمع نحو التدمير الذاتي، وكأنّ العدوّ قد نجح في عمليّة تنويم مغناطيسي تام بحيث أصبح المجتمع بلا وعي ولا إرادة ولا قدرة حتّى على مقاومة عمليّة التدمير الذاتي.
صحيح أنّ هناك قوىً خارجيّة تبذل جهودًا وتنفق أموالًا طائلة في صناعة الفتن في المجتمعات العربية، وتعمل على التعمّق في فهم الغرائز والدوافع وفعالية الأضاليل الإعلامية التي تحرّك الإنسان العربي، إلاّ أن هذه القوى أضحت تعيش حالة دهشة وذهول لفعالية السلاح الذي اكتشف في دفع العربي إلى التدمير الذاتي وعجزه عن إبطال فعالية هذا السلاح.
المعوقات الأساسيّة للتغيير والتطوّر
قبل تناول بعض العلل التي أعتبرها حاضرًا من أهمّ العقبات الحائلة دون وحدة المجتمع والذاهبة بمناعته، والتي تشكّل عقبات أساسيّة في سبيل تطوّره، أودّ أن أتناول ما أعتبره فجوات وموانع أساسيّة تعوق النجاح في عمليّة التغيير في العالم العربي.
حتّى بروز الثورة العلميّة وظهور معالم الدولة الحديثة، بعد اتفاقيّة وستفاليا التي أنهت الحروب الدينيّة، ووضعت حدًّا لنفوذ الكنيسة في شؤون الدولة، لا بل حتّى الفترة الزمنيّة التي شهدت نضوج الصراع الفكري فيما سمّي عصر التنوير في أوروبّا، في القرن الثامن عشر، كان العالم عامّة، يعيش ضمن نطاق منظومةٍ معرفيّةٍ ذات مصادر دينيّةٍ وموروثات تقاليد مجتمعاتٍ بدائيّة. ومع التطوّر الذي صاحب نضوج الثورة العلميّة، والمشاركة الشعبيّة في الحكم، ونضوج دور أساسي للإنسان في قدرته على التغيير وواجبه في ذلك، في مناخ سياسي توافرت فيه حريّات أساسيّة في القرن التاسع عشر وانطلاق العصر الحديث، أصبحت ثمار التجارب العلميّة والتفاعل الفكري، هي أساس المنظومة المعرفيّة التي يركن إليها الإنسان في تسيير أمور حياته وتقرير مصيره.
ففي حين انطلق الغرب، وبعدَه مجتمعاتٌ في معظم القارات، بالإفادة من منظومة معرفيّة أساسها العلم وثمار الجهد البشري في التفاعل مع ما تفرضه الحياة من تحدّيات، سهّلت له استغلال طاقاته الإبداعية والإنتاجيّة، بقيت المجتمعات العربيّة ترزح تحت سيطرة القوى والمعتقدات التقليديّة كأساس للمنظومة المعرفيّة التي تحكم سلوكها وتضمن تخلّفها.
فبالرغم من ثروات طبيعيّة طائلة، وتوافر رأس المال البشري عن طريق الاحتكاك بشعوب متطوّرة، والتخرّج من جامعات دول بلغت مراحل متقدّمة من التطوّر العلمي والمؤسساتي، بقي الإنتاج العلمي والتطوّر المؤسساتي في المجتمعات العربيّة ضحلًا وفي أدنى المستويات مقارنة بالدول والمجتمعات المشابهة فيما يتعلّق بتوافر رأس المال، بوجهيه المادي والبشري. ولم يتمكّن الإنسان العربي من وضع جذور صلبة للدولة القوميّة أي الحديثة ومؤسّساتها، وكذلك القيم الضروريّة لفعالية هذه المؤسسات، والضامنة لحقوق وحريّات أساسيّة هي المسهّل لتفعيل طاقات الإنسان الإبداعيّة والإنتاجيّة.
فالمشاركة الشعبيّة في الحكم، من خلال تفعيل مؤسسات تعكس إرادة المواطن في ترسيخ العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكمقياس للشرعيّة وضمان وحدة المجتمع ومناعته، كما التزم حكم القانون ومعظم مؤسسات الدولة الحديثة، بقيت جميعها بعيدة المنال في المجتمعات العربيّة. وربّما من أهمّ الفجوات التي هي وليدة هذا التردّي الذي يسم المجتمعات العربيّة عامة، هو غياب الوعي لأهمّية دور الحرّية في التغيير الاجتماعي وغياب الثقة بالنفس لدى الإنسان العربي وقدرته على التغيير في المجتمع ومسؤوليّته في ذلك. ويتجلّى ذلك بوضوح في مجالات عدّة.
لم يكتسب المواطن العربي الثقة بالنفس في مقاومة التحدّيات والقدرة على التغيير في مجتمعه وواجبه في ذلك، ولكنّه لم يفقُد إحساسه في التألّم من الظلم والأعباء التي تُفرض عليه دون وجه حقّ. فهو يشكو من ظلم الإسرائيلي المحتلّ، ومن تعسّف الحاكم وفساده، ومن مواريث تقليديّة أصبحت من معوقات تطوّره وضمان أمنه، ولكنّه لا يبدي تجاه ذلك كلِّه سوى الشكوى والاستسلام لواقع لا مبرّر لاستمراره. فتسود في المجتمع ثقافة الهزيمة والاستسلام للأمر الواقع.
فعندما يقوم المثقّف العربي ببحث أو دراسة لعلّة هي مصدر ضرر جسيم أو خطرٍ داهم على المجتمع، نراه يبذل جهدًا ملحوظًا للإحاطة بكل الأسباب، ويقدّم كلّ حجّة لتبرير الشكوى من العلّة وضرورة علاجها، لكنّه لا يبذل جهدًا موازيًا لبلوغ تصوّر لكيفيّة العلاج، ولا يبدي اهتمامًا مقنعًا لاشتراكه في تنفيذ هذا العلاج، إذا وُجد، مهما كانت الضرورة لذلك ملحّة. فيبقى في موقع من يراقب من كوكب آخر.
يبدو هذا التقصير بشكل بارز عندما نتفحّص ما يجري على الأرض من مظاهر النضال من أجل التغيير. فنادرًا ما نرى في سلوك النخب، أو المؤسسات التي تدّعي العمل على التغيير، وضوحًا في الهدف وفي الوسيلة الضامنة لبلوغه. وأكثر ندرة هو الالتزام في العمل باعتماد الوسيلة الأكثر ملاءمة، وربط الجهد بالنتيجة، حتّى بلوغ الهدف. إنّ مثل هذا السلوك، الضروري للنجاح في أي تغيير في المجتمع، يبدو غائبًا تمامًا عن الثقافة الاجتماعيّة السائدة في المجتمعات العربيّة.
في العلل الواجبة العلاج والمؤسسات الواجبة التغيير
العلل الواجب علاجُها، والأهداف الواجب بلوغُها، تكاد لا تحصى. ولكنّي سأقتصر على اثنين منها لما لهما من أهمّية للخروج ممّا نحن فيه، والتغلّب على أقسى ما نعاني في المجتمعات العربيّة.
لعلّ التمزّق في النسيج الاجتماعي، والشلل في المؤسسات العامة راهنًا، هما من أخطر العلل الواجبة العلاج في المجتمعات العربيّة. وبما أنّ نموّ وتفعيل الهويّات الفرعية، من طائفيّة ومذهبيّة وإتنية وسواها، هي السبب الأساس في هذا التشظّي وغياب الوحدة، وبالتالي المناعة، في معظم المجتمعات العربيّة، كما هي من موانع وضع أسسٍ صلبة لمؤسسات الدولة الضامنة لوحدة المجتمع، وهي كذلك السلاح الأفتك والأفعل الذي يحسن الأعداء تفعيله والإفادةَ منه، وعلى رأسهم الكيان الصهيوني ومناصروه، فسوف أتناول الطائفية (اختصارًا للهويّات الفرعية) كعلّة أولى واجب علاجها. وبالنظر لدور الفساد وغياب حكم القانون في القضاء على قيم أساسيّة في المجتمع وعلى فعاليّة مؤسساته، فضلًا عن القضاء على ثقة المواطن بمؤسسات الدولة، وعلى الثقة بين الحاكم والمحكوم، وحتّى بين المواطنين أنفسهم، فسأتناول الفساد وغياب حكم القانون كعلّة أخرى واجب علاجها.
الطائفيّة هي انعكاس اجتماعي لشعور بالانتماء إلى طائفة معيّنة يخلق لدى الفرد المعني ارتباطات وولاءات لها أثرها على نسيج المجتمع الذي ينتمي إليه. وعمق هذه الارتباطات والولاءات وحالة العصبيّة التي تصحبها، مرهونان بدرجة تطوّر المجتمع الذي يعيش فيه الفرد. فبقدر ما يكون المجتمع بدائيًا في تنظيمه وقيمه وروابطه، تشتدّ حالة العصبيّة الطائفيّة، وتصبح من معوقات الانصهار في مجتمع يغلب الولاء فيه لوطن جامع موحِّد لجميع أبنائه، على الولاء لروابط اجتماعيّة أخرى. ففي المجتمعات التي يغلب فيها الانتماء القبلي أو الديني، في بعده الاجتماعي، يتقدّم الانتماء إلى الطائفة أو المذهب، على الانتماء والولاء لوطن، بما يضمّ من قوانين ومؤسسات تعكس قيمًا اجتماعيّة مشتركة.
الطائفيّة كثقافة اجتماعيّة يمكن إضعافها لمصلحة قيم ومؤسسات وطنيّة أرقى، كما يمكن ترسيخها عن طريق اعتمادها كأساس للقوانين والمؤسسات المكوّنة للبنيان السياسي والقانوني في المجتمع. ولنا في لبنان، على سبيل المثال، الدليل الأوضح لمخاطر نموِّ الثقافة الطائفيّة والفشل في بناء وطن فيه من الوحدة والمناعة ما يمكّنه من الاستقرار والتغلّب على التحدّيات، داخليّة كانت أم خارجيّة. ومن أهمّ مخاطر الطائفيّة أنّها تدفع باتجاه التزام، أو الرضوخ لخطاب سياسي ذي مرجعيّة دينيّة أو مذهبيّة، تكون بذاتها عامل تفكّك اجتماعي كما أثبتت ذلك التجارب العربيّة. وقد شكّل ذلك ويشكّل نقيضًا لتبنّي خطاب سياسي مستنير ذي مرجعيّة مدنيّة، يحفظ وحدة المجتمع ويسهّل تبنّي نظام ديمقراطي يوفّر الضمانات اللازمة لتنمية الحرّيات العامة وحقوق الإنسان وحكم القانون ومحاربة الفساد. ثمّ إن ظاهرة التمزّق الاجتماعي العربي قد رافقت وكانت إلى حدّ بعيد من تداعيات نموّ الهويّات الفرعيّة ذات المرجعيّة الطائفيّة أو المذهبيّة والخطاب السياسي ذي المرجعيّة الدينيّة.
لم تشهد الدول العربيّة منذ استقلالها تشرذمًا وتردّيا يشبه الوضع الذي نحن فيه. فقد وجدت إسرائيل، وأصدقاؤها من دول غربيّة وإقليمية، ضالتهم في تنمية الخطاب الديني والمذهبي لتمزيق المجتمع العربي. وقد انعكس كلّ ذلك في تقلّص القدرة العربيّة على مواجهة التحدّيات الإسرائيليّة وغياب القضيّة الفلسطينيّة عن الهمّ العربي.
أنتقل إلى المعوّق الآخر لتطوّر المجتمع وهو استشراء الفساد وغياب حكم القانون.
ليس هناك إجماعٌ على تعريف شامل يطول أبعاد الفساد كافة، ويحظى بإجماع الباحثين فيه، وإن كان التعريف الأكثر رواجًا هو استغلال أو سوء استعمال الوظيفة العامّة من أجل مصلحة خاصة. فمكمن الضرر في الفساد هو أنّه يؤدّي إلى تفكّك وتلف تدريجي، وانحراف عن الصلاح لكلّ جسم يطوله، سَواءٌ كان هذا الجسم ماديًا أم قانونيًا، ويحرفه عن الهدف الذي من أجله وجد.
إنّ الفساد داء ينهش النسيج الاجتماعي من جوانبه الثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، وتعتبره منظمّة الشفافيّة العالميّة من أكبر التحديّات التي تواجه عالمنا الحديث. فهو يقوّض الحكم الصالح، ويشوّه السياسة العامة، ويدفع إلى إساءة توزيع الموارد، ويضرّ بالقطاع الخاص وتنميته، ويلحق أكبر الضرر بالفقراء.
الفساد لصيق بالطبع البشري، وهو موجود في كل المجتمعات. لكنّ بعضها كان أكثر نجاحًا في إدراك مخاطره والحدّ من انتشاره وفتكه. مع الأسف إنّ مجتمعنا، بمسؤوليه ونخبه، هو من أقلّ المجتمعات إدراكًا لمخاطر الفساد وأكثرها تقاعسًا في معالجته.
لعلّ الهوّة بين الحاكم والمحكوم هي من أهمّ سمات الحكم في غالبيّة إن لم يكن كل الدول العربيّة، ولا يضاهيها وضوحًا وانتشارًا سوى آفة الفساد. وربّما كانت العلّة، أي السبب الأساس، هي غياب حكم القانون وثقافة حكم القانون على الصعيدين الرسمي والشعبي، وخصوصًا فعاليّة القواعد القانونيّة الواجبة التطبيق في تقييم عمل الحاكم ومساءلته.
إنّ حكم القانون هو انعكاس للنضج السياسي في المجتمع وتعبيرٌ عن إرادة شعبه في الحكم الذاتي، ويسود في الدول التي بلغت مرحلةً متقدّمة من تنمية القيم والمؤسسات الديمقراطيّة والمشاركة الشعبيّة في الحكم.
غياب حكم القانون، لا بل جهل المسؤولين والنخب العربيّة لأهميّة القانون كمعبّر عن الإرادة والمصلحة الشعبية وحافظ للحقوق والواجبات في المجتمع، هو في رأيي من أهمّ معوقات التطوّر في العالم العربي. فالقانون هو وسيلة للهندسة الاجتماعيّة والطريق الأسلم والأرقى للتغيير في المجتمع. والقانون هو أداة توضيح وتعديل للعلاقة بين المواطن والدولة وبين المواطنين فيما بينهم، وهو وسيلة إنشاء المؤسسات وضمان فعاليتها، وهو الضامن لحقوق الشعب وأمنه ونموّه الاقتصادي والسياسي.
والجهل بأهمّية القانون، وغياب ثقافة حكم القانون في المجتمعات العربية، هما من موانع إقامة عقد اجتماعي في ظلّ دولة يكون هو الرابط القيمي فيها، والجاذب الأساسي في الانتماء الوطني، والمانع من نمو انتماءات وهويّات فرعيّة تعمل على تفكيك الروابط الاجتماعيّة، كما نشاهد في العديد من الأقطار العربيّة، مسهّلة بذلك نجاح من لا يريد سلامًا أو تقدّمًا في العالم العربي.
إنّ ديناميكيّة العلاقة بين الفساد وحكم القانون تفرض صراعًا وجوديًّا بين الاثنين. فالفساد يمنع من تبنّي قوانين تحدّ من مضارّه ومن نموّه، والفساد يعمل على تعطيل أو إضعاف المؤسسات المولجة بالتطبيق الفعّال للقوانين القائمة. أمّا ترسيخ حكم القانون، وتطبيق القوانين بفعالية، فهما أضمن الوسائل للقضاء على الفساد. وفضلًا عن دوره في إضعاف أو تغييب حكم القانون، يشكّل الفساد مانعًا أساسيّا من بناء نظام ديمقراطي ومشاركة شعبيّة في الحكم. فالشفافيّة والمساءلة التي هي من أهمّ مقوّمات الحكم الديمقراطي، هي كذلك عناصر أساسيّة في محاربة الفساد.
الربط بين الفساد وعدم الاستقرار السياسي والنزاع المسلح في المجتمع، قد أصبح من المواضيع التي تلقى اهتمامًا خاصًا لدى الباحثين في الآونة الأخيرة. أظهر تقرير مهمّ صدر عن البنك الدولي (العام 2011) وموضوعه “النزاعات المسلّحة والأمن والتنمية”، أنّ للفساد أثرًا بالغًا في تزايد مخاطر اللّجوء إلى العنف عن طريق إثارة الشعور بالظلم لدى شرائح شعبيّة واسعة وتدمير فعاليّة المؤسسات الوطنيّة والقيم الاجتماعيّة.
إنّ إحدى عشرة دولة من أصل الدول العشرين الأكثر معاناة من آفة الفساد، حسب مقاييس ومؤشرات منظّمة الشفافيّة العالميّة، عانت كذلك من نزاعات مسلّحة واضطراب أمني، وأنّ خمسًا من هذه الدول هي من الدول الأعضاء في جامعة الدول العربيّة.
دراسات قيّمة وعديدة صدرت عن دور الفساد في التسبّب بالنزاعات المسلّحة والحروب، وكذلك في إطالة عمر هذه الحروب وخلق العقبات في وجه إيجاد حلول لها. وتُقدِّم غالبيّة هذه الدراسات أدلّة متوافرة في حالات العنف المسلّح الذي يعاني منه العديد من الدول العربية، ومنها تهريب السلاح، وإضعاف المؤسسات الأمنيّة للدولة وإحلال عصابات مسلّحة محلّها تسيطر على موارد الدولة الاقتصاديّة ومقدّراتها، ناهيك عن أنّ الحروب بذاتها تخلق مناخًا ملائمًا لانتشار الفساد والكسب غير المشروع. كما يمكن الإفادة من أبحاث عن علاقة الفساد بالأعمال الإرهابيّة لفهم تعاظم دور الإرهاب في الاضطراب الأمني الذي يعاني منه العالم العربي.
إنّ المعاناة والشكوى من الفساد تعمّ المجتمعات العربيّة كافة، ولكنّ ذلك لا يرقى إلى وعي مخاطر الفساد الذي يدفع إلى رغبة جادّة للتخلّص منه. إذ إنّ إدراك الخطر من قبل عاقل لا بدّ أن يترجم عملًا هدفه إزالة الخطر أو درؤه. وليس هناك أيّ دليل على أنّ في المجتمعات العربيّة إدراكًا من قبل المسؤولين والنخب لأهمّية المخاطر والأضرار التي يلحقها الفساد بالمجتمع، وما يشكل من إعاقة في سبيل نموّه وتطوّره.
التغيير وشروط النجاح في تنفيذه
النجاح في تنفيذ خطّة لبلوغ هدف في الشأن العام يقتضي أن يحمل الهدف قيمة، وعيُها يدفع بأدوات التغيير والإصلاح، والقوى التي لها مصلحة في ذلك، إلى بذل الجهود اللّازمة لتنفيذه. ولأنّ التغيير (الهدف) لا يتحقّق سوى بتغلّب قوى التغيير على القوى المناهضة له، يجب أن تتضمّن الخطّة التي تعتمدها قوى التغيير توعية، وتنظيمًا، وتفعيلًا لجميع الطاقات الشعبيّة التي لها مصلحة في التغيير. وكذلك يجب أن تتضمّن الخطّة الحصول على معلومات دقيقة عن مكامن الضعف والقوّة لدى الفئات المناهضة للتغيير، والإفادة من هذه المعلومات في تنفيذ خطّتها لبلوغ أهدافها.
فعندما يكون القضاء على الطائفيّة وعلى الفساد في مجتمعاتنا العربيّة هما الهدف الرئيس لمن يعمل على التغيير والإصلاح، يمكننا أن نتصوّر نشاط وفعاليّة المستفيدين من الوضع القائم والمناهضين لتبديله، وشراستهم في الدفاع عن مصالحهم في استمراره. وعندما ننظر إلى الإمكانيات والوسائل المتوافرة لهذه القوى، كالتحكّم في توجيه سلوك السلطة وتعطيل مؤسسات الحكم، كما السيطرة على معظم وسائط الإعلام الصانعة للرأي العام، وصاحبة القدرة على توجيهه وتفعيله، ندرك مكامن القوّة لدى مناهضي الإصلاح، وندرك كذلك حجم التحديّ الذي يواجه العاملين على تنفيذه.
لكنّ نقاط الضعف لدى هذه القوى عديدة وأهمها أن مصالحها تتناقض ومصلحة الوطن والغالبيّة الساحقة من أبنائه، وهي في معظم الأحيان مخالفة للقانون ويمكن أن تؤدّي إلى مساءلة مكلفة جدًّا في حال تطبيقه.
القانون هو الوسيلة الأفعل والأرقى للتغيير وللهندسة الاجتماعيّة عامة، لكن قبل اعتماد القوانين والمؤسسات اللازمة لعمليّة التغيير يجب أن تصبح هذه القوانين والمؤسسات مطلبًا وتعبيرًا عن إرادة شعبيّة جازمة تضمن تبنّي القوانين الملائمة وفعاليّة تطبيقها.
خطوات عمليّة
أودّ أن أختتم كلمتي باقتراح بعض الخطوات العمليّة في طريق التغيير وبناء ثقافة اجتماعيّة تستند إلى منظومة معرفيّة أساسها العلم من أجل إقامة مجتمع نهضويّ متماسك قادر على مواجهة التحدّيات وتذليل الصعاب وعلاج العلل التي يعاني منها.
١- لذلك أرى ضرورة العمل على نشر بعض القيم الأساسيّة للنجاح في عمليّة الإصلاح والتطوّر، والتي تخلو منها المجتمعات العربيّة عامة، ومنها التأكيد على مسؤوليّة المواطن في القيام بما يجب للتغلّب على الصعوبات التي تواجهه ومعالجة العلل التي يعاني منها مجتمعه، وبتعزيز ثقة المواطن بنفسه وبقدرته على القيام بذلك. كما أرى ضرورة التركيز على أهميّة ربط الجهد بالنتيجة في الالتزام ببلوغ أهداف محدّدة وبواسطة أكثر الوسائل ملاءمة لتحقيق هذه الأهداف.
نشر مثل هذه القيم يمكن أن يحصل بوسائل عدّة، منها جعلها من المقرّرات في برامج التعليم وإدخالها، على سبيل المثال، مادة التربية المدنيّة أو مواد وبرامج تعليميّة أخرى. وبالنظر للدور الّذي يمكن للإعلام أن يلعبه في خلق وممارسة ثقافة اجتماعيّة نهضويّة، يمكن كذلك نشر هذه القيم من خلال تعاون أدوات التغيير الاجتماعي، خصوصًا تلك التي تتوخّى إزالة الطائفيّة ومكافحة الفساد، مع وسائط إعلاميّة نافذة ومن خلال برامج تلفزيونيّة وإذاعيّة مشوّقة.
٢- كما أرى ضرورة تضافر جهود أدوات التغيير، من سلطات رسميّة ومجتمع مدني، في العمل على واجب نشر العلوم، وخصوصًا المنهجيّة العلميّة، في المدارس ودور التعليم العالي، وتزويد هذه المؤسسات بالمختبرات اللازمة لتسهيل القيام بأبحاث علميّة. وكذلك تشجيع الطلّاب للاشتراك في أبحاث علميّة تتعلّق بمعالجة علل، وإيجاد حلول لإشكاليّات يعاني منها المجتمع. فاشتراك الطلّاب واعتمادهم منهجيّة علميّة في معرفة الواقع وإيجاد الحلول للإشكاليّات ومعالجة العلل، وتحت رقابة من لديهم الخبرة والمعرفة في البحث العلمي، سوف يساعد في انتشار التفاعل الفكري واعتماد العلم كأساس للتعاطي مع الواقع واعتماد مسار تغييره. وكذلك لإيجاد الحلول للصعوبات التي يعاني منها المجتمع. وانتشار المنهجيّة العلميّة في معرفة الواقع والتعامل معه، سوف يساعد على تكوين ثقافة عامة، ويساهم في إقامة منظومة معرفيّة أساسها العلم والجهد البشري العقلاني بديلًا من المنظومة المعرفيّة التقليديّة السائدة التي لها الدور الأكبر في حالة الشلل والتخلّف التي تعاني منها المجتمعات العربيّة.
٣- وأخيرًا، وانطلاقًا من يقين بأنّ القانون هو وسيلة هندسة اجتماعيّة، وهو الطريق الأكثر فعالية والأرقى للتغيير والتطوّر، وأنّ انتشار ثقافة حكم القانون في المجتمع هو الوسيلة الضامنة لفعاليّة عمل المؤسسات والحفاظ على الحقوق والحرّيات العامة. لذلك أرى ضرورة تحرّك منظمّات الحقوقيّين من نقابات محامين وكليّات حقوق وطلّاب جامعيّين من أجل وضع الخطط وتنظيم الطاقات وبذل الجهود، وبالتعاون مع مؤسسات إعلاميّة ناجحة وملتزمة مسألة الإصلاح والتطوّر الاجتماعي، العمل الدؤوب على نشر ثقافة حكم القانون لتصبح جزءًا أساسيًّا من الثقافة الاجتماعيّة السائدة.
ما من تغيير نتمنّاه أو تقدّم نطمح إليه، يمكن أن يرى النور سوى بنتيجة جهودنا، وخاصة النخب وأدوات التغيير في مجتمعنا، ولن نتمكّن من مواكبة التطوّر في العالم، ولن يكون لنا نهضةٌ، إن لم تكن من صنعنا نحن.