تأسس علم الأخلاق على يد السوريين تماما مثلما اهدوا للعالم الأبجدية الأولى، واللحن الأول، والملحمة الأولى، والمحراث الأول، والمركب الأول، ودورق الفخار الأول، والمرآة الأولى، والسباق الأولمبي الأول، وأطواق الغار الأولى ويعود الفضل في ذلك إلى زينون الرواقي الفينيقي مؤسس علم الأخلاق. المؤسس للمنطق الحديث الذي يعرف بالمنطق الرمزي أو منطق الرياضيات
نبدأ بشهادة الفيلسوف الأميركي المعاصر ألان دوناغان الذي أكّد بالحرف الواحد “أن الرواقيين، وليس أرسطو ولا أفلاطون، كان لهم الفضل بوضع أول تعريف واضح ومعقول للأخلاق بمبدأهم العالمي
فمن هو زينون الرواقي الفينيقي وما هو المبدأ العالمي الذي وضعه وحمله تلاميذه اللاحقون فيما بعد. وهل كان الفيلسوف الألماني الكبير كانط أحدهم في القرن الثامن عشر
زينون الرواقي الفينيقي فيلسوف عاش في القرن الرابع والقرن الثالث قبل الميلاد (335 – 264 ق.م.)، بعد فلاسفة اليونان المعروفين: سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس. وهو من كتيوم في قبرص وأصل عائلته من فينيقيا، من صور من لبنان القديم. بعد أن استقرت عائلته في قبرص، ذهب إلى أثينا ليعلّم شبانها حكمته الجديدة. وقد عرفت تلك الحكمة، في تاريخ الفلسفة، بالفلسفة الرواقية ذلك لأنه كان يعلمها لتلاميذه في رواق. والرواق، كان عبارة عن ممرّ مسقوف ومحاط بصفين متوازيين من الأعمدة.
كان زينون قد رفض لقب المواطن الأثيني آي من سكان أثينا و أصر على لقبه الفينيقي فاحترم الأثينيون إرادته بعد موته وكرموه بقبر وتاج من ذهب في أثينا، وبعد إطلاعه على مبادئ وتعاليم فلاسفة اليونان الأخلاقية وكشفه عن عيوبها ومحدوديّتها وانحصارها في نطاق المدينة polis
وضع زينون فلسفته الأخلاقية الجديدة على أساس جديد هو مبدأ العالميّة Cosmopolis
من الوجهة اللغويّة لفظة Cosmopolis
مركّبة من لفظين يونانيين قديمين ألا وهما
Cosmo ومعناها الكون
و polis
ومعناها المدينة فيكون حاصل جمعهما في لفظ جديد هو: المدينة الكونيّة أو العالم كله باعتباره مدينة واحدة
طبعاً، لم يكن زينون جاهلاً لحقيقة أن العالم ليس مدينة واحدة من الوجهة السياسيّة ولا من الوجهة الاقتصادية وغيرهما. لكنه قصد بالمدينة الكونيّة الناحية الأخلاقية. كأني به قائلاً: أيها البشر بالرغم من تفاوتكم واختلافاتكم السياسيّة وخلافها عاملوا بعضكم بعضاً سواء أكنتم مدناً أو جماعات أو شعوباً أو أفراداً كما لو أنكم مواطنون في مدينة كونية أخلاقية واحدة، إذ لا يليق بالمواطن أن لا يحترم ويحبّ ويعامل بالحسنى أخاه المواطن
في عقيدة زينون أن نزاعات البشر منطلقها الإنفعالات، فإذا كان الإنسان مدفوعاً بانفعال عنصري فهو لا محالة مفرّق بين عنصره والعناصر أو السلالات الأخرى. وإذا كان محكوماً بإنفعال قبلي، فهو معادٍ للقبائل الأخرى، وإذا كان مشحوناً بانفعال خصوصي فهو عدوّ الآخرين مطلقاً عليهم نيران فرديّته وأنانيّته، وقس على ذلك. من هنا قول زينون، إن الحكيم هو القادر على كبح انفعالاته ومنعها قبل سلوكه، إنه ضابط لانفعالاته وليس انفعالياً
غير أن بلوغ ذلك المستوى العالي من القدرة على التحكم بعواطفنا وانفعالاتنا الهوجاء غير ممكن بدون الارتقاء بوجودنا إلى مستوى آخر من النظر إلى الأمور ألا وهو المستوى العقلي. فالعقل في الإنسان الحاكم الوحيد القادر على لجم الانفعالات. العقل هو السائق الوحيد القادر على قيادة مسار جسدنا الذي يعجّ ويضج بوحوش الانفعالات، وهدايتها وتوجيهها سواء السبيل
من شرفة العقل نرى البشر أخوة تماماً كما قال زينون الرواقي: كل البشر أخوة. وهذا معناه: عليك أيها الإنسان، إذا كنت عاقلاً، أن تحب جارك وتحترم الآخر. أربعة مائة سنة قبل ميلاد المسيح، وجد فيلسوف اسمه زينون ينطق بحكمةٍ أكّدتها المسيحية، بعده، ألا وهي أحبّوا بعضكم بعضاً. وكذلك الإسلام بعد المسيحية
والجار في قاموس زينون، ليس الجار الجغرافي – المحلي حصراً ولا الجار السياسي ولا الجار اللغوي ولا الجار العنصري أو الطبقي أو الطائفي إنه الجار الأخلاقي – العقلي. إنه أي إنسان وكل إنسان
لذلك، نقول، إن فكرة الحب العالمي
Universal Love
هي في صميم فلسفة زينون الأخلاقية الجديدة التي شكّلت ثورة في تاريخ الفلسفة عموماً وفلسفة الأخلاق على وجه الخصوص والتي وضعت الأخلاق على الأساس الذي بدونه لا تكون الأخلاق أخلاقاً ألا وهو مبدأ الكونية أو العالمية الذي أتينا على ذكره في مطلع بحثنا
على مستوى الأخلاق الاجتماعية عرّف الرواقيون وجود الإنسان بأنه وجود غائيّ اجتماعي to be is to be For
هذا ما يقوله بالحرف الواحد Epictetus: "من أجل الكلّ (المجتمع الإنساني) عليك أن تتحمّل المرض أحياناً وتغترب وتخاطر أحياناً أخرى وتفتقر وتموت قبل الأوان إذا اقتضى الأمر." في نفس الاتجاه، اتجاه حمل المسؤولية الاجتماعية بالاهتمام بالآخرين كاهتمام الإنسان بذاته، ومعاملتهم كمعاملة الإنسان ذاته، يكتب الإمبراطور ماركوس أوريليوس ما يلي:
"هل تطالب العين تعويضاً على قيامها بوظيفة رؤية الأشياء أم القدم تطالب بنفعٍ على مَشْيها؟ ذلك لا يحصل من أيٍّ منهما لأنهما وجدتا لتلكماً الغايتين، وجودهما أن يفعلا ذلك. كذلك الإنسان عندما يعامل الناس بالحسنى ويعمل للمصلحة العامة، يكون محققاً وجوده ذاته."
عاملوا بعضكم بعضاً سواء أكنتم مدناً أو جماعات أو شعوباً أو أفراداً كما لو أنكم مواطنون في مدينة كونية أخلاقية واحدة
نتقدم الآن للكلام عن تأثير الفلسفة الرواقية الأخلاقية في القانون عموماً وفي القانون الروماني على وجه الخصوص. كنا قد جئنا على ذكر اعتناق الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس للعقيدة الأخلاقية الرواقية. نجم عن هذا الحادث أثر تاريخي عظيم ألا وهو أن ذلك الإمبراطور الذي آمن بأن كل البشر أخوة منح المواطنيّة الرومانية لجميع رعايا الإمبراطورية الممتدّة من بلدان الشرق الأوسط واليونان إلى بلدان أوروبا الغربيّة. قبل ذلك لم يكن يتمتع بحقوق تلك المواطنية سوى أبناء رومة.
إن الشهرة التي يتمتع بها التاريخ الروماني في ميدان الحضارة الإنسانية مردّها القانون الروماني المساوي بين البشر والذي جوهره كان في فلسفة زينون كما ذكرنا
والدستور الأميركي العصري (بالإضافة إلى دساتير بلدان أوروبا الغربية) منفعل بالقانون الروماني كما أراده الإمبراطور الرواقي أوريليوس هذا لجهة القانون في بعض البلدان
أما لجهة القانون بعامةٍ والمؤسسات القانونية عموماً، فنحن في هذه الأيام نتكلم عن القانون الدولي ومؤسسة الأمم المتحدة وقبلها مؤسسة عصبة الأمم. مثل هذه المؤسسات العالمية، إن هي، في نظرنا، إلا تطبيقاً قانونياً للفلسفة الرواقيّة العالمية. ولشرح فكرتنا، نذكر، أن الأخلاق اثنان: أخلاق تصدر من داخل الإنسان فمصدرها جوّاني حرّ، وأخلاق تحصل عن طريق الإكراه الخارجي. أخلاق الحرية هي أخلاق الفلسفة الرواقية وأخلاق الانصياع للقوة الخارجية (قوة القانون ومؤسساته) هي ما نراه ونختبره في حياتنا عندما نطيع قوانين الدولة ومؤسساتها الشرعية المتعدّدة المختلفة
ما أحوجنا بعد ٢٣٠٠ سنة الى مبادئ زينونا السوري
كلنا أخوة رغم من تفاوتنا واختلافاتنا يجب ان نعامل بعضنا بعضاً كما لو أننا مواطنون في مدينة أخلاقية واحدة، إذ لا يليق بالإنسان أن لا يحترم ويحبّ ويعامل بالحسنى أخاه الانسان. كل البشر أخوة، كل البشر مواطنون، حتى المجرم هو أخي *
إن الحكيم هو القادر على كبح انفعالاته الهوجاء ومنعها قبل سلوكه*
أن الحكيم هو الذي يكون منسجماً مع قانون الطبيعة الإنساني الذي هو العقل *
نقاء الروح من الاحكام الخاطئة لا يكون إلاّ بالاحتكام إلى العقل القادر وحده على التوجيه الصحيح والإرشاد المستقيم
على من يحمل المسؤولية الاجتماعية و السياسية الاهتمام بالآخرين كاهتمامه بذاته، ومعاملتهم كمعاملته لذاته، كذلك على الإنسان ان يعامل الناس بالحسنى ويعمل للمصلحة العامة، عندها يكون محققاً وجوده و ذاته.
ان سوريتنا صاغتها هذه المبادئ الأخلاقية لزينون وبابنيان ولوقيان وغيرهم من الرواد ولا معيار لهذا التوحد والانصهار في سوريتنا الا الاحتكام الى العقل الذي شكلته هذه المبادئ، من يحيد عنها لا يمكنه بأي شكل من الأشكال ان يكون سورياً.