في أكثر من موضع، يذكر سعاده أن عقيدة الحزب الاجتماعية مؤسسة على مبدأه الإصلاحي الرابع، وهو القائل بـ "إلغاء الإقطاع، وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج، وإنصاف العمل، وصيانة مصلحة الأمة والدولة". ومن الأمثلة على ذلك قوله في مجلة "الزوبعة" عام 1942، إن "المبدأ الإصلاحي الرابع من مبادئ الحزب السوري القومي... يتضمن العقيدة الاجتماعية للسوريين القوميين الاجتماعيين"[1]. وكذلك قوله في إحدى مقابلاته الصحافية عام 1947، إنه أضاف لفظة "الاجتماعي" إلى اسم الحزب للدلالة على مذهب الحزب الاجتماعي المنصوص عليه بالمبدأ الرابع من مبادئ الحزب الإصلاحية[2].
وقد يتساءل المرء كيف أن سعاده يعتبر هذا المبدأ بالذات، المختص بالإصلاح الاقتصادي، هو ما يدل على نظرة الحزب الاجتماعية، وهو ما يؤهل الحزب كي يحوي لفظة "الاجتماعي" في اسمه، وليس العقلية الأخلاقية التي يأتي بها ويعمل على تنميتها، والتي يعتبرها بالمقابل شيئاً أساسياً جداً في المجتمع[3]. بل حتى أنه يعتبر أن "نهضتنا هي نهضة أخلاق ومناقب في الحياة قبل كل شيء آخر"[4]، وأن " العقلية الأخلاقية الجديدة التي نؤسسها لحياتنا بمبادئنا، هي أثمن ما يقدمه الحزب السوري القومي الاجتماعي للأمة، لمقاصدها، ولأعمالها ولاتجاهها"[5].
الجواب على هذا نجده في كتاب "نشوء الأمم" حيث يعتبر أن "التّطوّر الاجتماعيّ هو دائماً على نسبة التّطوّر الاقتصاديّ [6]، وأن " العوامل الاقتصادية هي تحت كل مظهر من مظاهر الاجتماع"[7]. “"فالعمل ونظامه التعاونيّ مصدر نظام الاجتماع وأساس بناء المجتمع"[8]. فالمبدأ هذا هو ما سيوجد مجتمعاً جديداً في نظرته إلى القيم الاجتماعية[9]. وكما أن " النظام الاقتصادي السيئ الذي يجعل مئات وألوفاً من الفلاحين في حالةٍ من شظف العيش، في حالة من الجهل، في حالة من المرض والبؤس، لا يمكن لدولة عصرية من تثبيت نفسها في تنازع البقاء"[10]. كذلك فإن النظام الاقتصادي الذي يكون فيه أناس في السماء وأناس في الجحيم، لا يتمكن من إيجاد مجتمعٍ متجانسٍ. لذا لا بد لهذا النظام من أن يجعل الناس في بحبوحة، ويؤمن لهم أيضاً العدل الاجتماعي[11].
ليس الإصلاح الاقتصادي إذاً قضية ثانوية من قضايا الحزب، بل هو في صميمها، وفي أساس النظام الذي يعمل الحزب على إقامته في المجتمع. لكن الأهم من هذا كله، أنه نظام جديد، بكل ما في الكلمة من معنى، خالف فيه سعاده كلا النظامين الرأسمالي والشيوعي. يقول سعاده إنه "مع كل مظاهر التنافر بين الرأسمالية والشيوعية فالمذهبان يتفقان في اللاقومية (…) فعصبية الرأسمالي في رأسماله وعصبية الشيوعي في طبقته"[12]. يذكر سعاده كيف أن الشعوب في الغرب " كانت متخمة من الرأسمالية التي أصبحت كابوس العامل والفلاح"[13]. وبينما كانت بريطانيا تعيش في ظل الديموقراطية، " كانت شعوبها متعبة، رازحة، والعاطلون عن العمل بلغوا [فيها] وحدها، ما يزيد كثيراً على المليون، في بعض الأوقات"[14]. بالمقابل، ورغم أنه يوافق من ناحية على " أنّ النظريات الاجتماعية الاقتصادية، من كارل ماركس وأنغلز إلى الاجتماعيين الاقتصاديين الجدد، قد ألقت نوراً قوياً على مشاكل المجتمع الإنساني الاقتصادية"[15]، إلا أنه من ناحية أخرى يعتبر أن "الاشتراكية لم تتمكن من حل القضايا الإنسانية الاجتماعية المعقدة"[16]. فيذكر مثلاً أنه " في روسية، فقد أوجد العمل للسواعد البطالة، ولكن على طريقة أخرى من تنظيم المجتمع تنظيماً مادياً بحتاً، حسب النظرة الاشتراكية المتطرفة، تَحدد فيها الأفق الروحي تحديداً ضيقاً".
رغم هذه الأهمية التي أعطاها سعاده للشأن الاقتصادي، ورغم أن حزبه كما يقول كان " أول حزب نظر في وضع البلاد السورية الاجتماعي الاقتصادي"[17]، فقد بقي النظام الاقتصادي الذي يأتي به من أشد شؤون فكره غموضاً. هذا، رغم أنه منذ أن أسس الحزب وحتى استشهاده، قد كتب في شتى القضايا والمشاكل الاقتصادية التي كانت تواجه الأمة. فقد كتب في التبعات الاقتصادية لتقسيم سورية، وفصل الليرة اللبنانية عن الليرة السورية الشامية، وكذلك في قضايا العمل والعمال، والمهاجرة، والنقد والبنوك، ودور الرأسمال في الاقتصاد، وما شاكل. ومع أن هذه الكتابات كانت منسجمة فيما بينها على نحو لا يدع أي مجال للشك بأنها مؤسسة على نظرة واضحة للتنظيم الاقتصادي في المجتمع وللسياسة الاقتصادية في الدولة، إلا أنها لم تكن لتُعنى بشرح المبدأ الاقتصادي نفسه شرحاً مباشراً، مما يشير إلى أن سعاده قد شرحها شفوياً، لكنها غابت بغياب العناية بتدريس عقيدة الحزب[18]. الاستثناء الوحيد هو ما ورد في كتيب شرح المبادئ، وفي المحاضرة الثامنة من المحاضرات العشر. وهذه لم تكن لتفي بالغرض. فالشرح في كتيب المبادئ مقتضب جداً، والمحاضرة الثامنة المعنية بشرح نظامنا الاقتصادي، وصلتنا منقوصة نقصاَ ملحوظاً. فكما هو معروف، لقد ألقى الزعيم محاضراته العشر ارتجالاً في الندوة الثقافية حيث كان الأمين آنذاك جورج عبد المسيح يقوم بتدوين ما أمكنه منها. ولعل الخطة كانت أن يعود الزعيم إلى هذا التدوين لضبط النص وإتمام ما سهى عنه عبد المسيح. ويقال إن الزعيم قد دقق فعلاَ في المحاضرات الخمس الأول، ولم يتسنَ له المجال مع المحاضرات الأخرى لضيق وقته وكثرة الملاحقات الحكومية التي تعرّض لها آنذاك. لذا تم دفع نصوص المحاضرات الأخرى إلى النشر على ما هي عليه، خوفاً عليها من الضياع.
أما تلاميذ سعاده فلم يتمكنوا من إتمام هذا النقص، بل ترنحوا ذات اليمين وذات اليسار عند تفسير المبدأ. بعض التفسيرات افترض بكل طوباوية ساذجة أن نزاهة الدولة القومية الاجتماعية، وارتقاء مناقب وأخلاق المواطنين فيها، سوف يتكفلان برفع الإنتاج القومي وتحقيق العدالة في توزيعه، وما إلى هنالك. وبدهي أن هذا لا يخلو من خروج عقائدي، لأن الصحيح هو العكس تماماً. فكما ذكرنا فوق، أن العمل ونظامه التعاوني هما مصدر نظام الاجتماع. وبالتالي، فإن استقرار الدولة القومية، وارتقاء الأخلاق والمناقب هما حاصل النظام الاقتصادي أو موافقان له. لكن لا يمكن أن يكونا، أو يكون أي منهما، سبباً في نشوئه. على الأقل هكذا نفهم من قول سعاده: "والّذين لا يفهمون العوامل الاقتصاديّة الخطيرة العاملة تحت كلّ مظهر من مظاهر الاجتماع، وخصوصاً أولئك المناقبيّون الّذين يرون المناقب أساس كلّ شيء، يعدّون هذا التّحول الجديد، تفسّخاً من جرّاء الفساد"[19]. وكذلك قوله عن تخصص أهل مشغرة بدباغة الجلود، "إنّ هذا التّطوّر الاقتصاديّ قد طوّر مستوى مصالحهم وعدّل أخلاقهم"، وليس أن أخلاقهم هي التي دفعتهم للتخصص في دباغة الجلود.
لكن الترنح الأخطر كان ذاك الذي نحى بالعقيدة منحى ماركسياً - لينينياً، فمثَّل خروجاً عقائدياً فادحاً بل خطراً، وكان سبباً هاماً من الأسباب التي أدت إلى صدامات داخلية وانشقاقات في الحزب. والحقيقة أن الحزب لم يكن ليتخلص من هذه التوجهات لولا إفلاس الشيوعية نفسها وسقوطها، حيث أسكت هذا الانهيار الأصوات التي نادت بها في داخل الحزب. فأمام هذا العجز في تفسير نظامنا الاقتصادي، هناك الآن حالة أشبه ما تكون باليأس منه والتخلي عنه.
وحتى لا يقال بأني أبالغ في كلامي هذا، يكفي أن أشير إلى غياب الحزب (بكل فئاته وتنظيماته) عن المشاركة في أي من الفعاليات التي كان يمكن أن تمنحه فرصة طرح نظرتنا في القضايا والمشاكل الإقتصادية التي تواجه الأمة، واقتراح الحلول لها. ولا أعني هنا مسألة متقدمة كالتصدي للعولمة، أو حماية الرأسمال القومي والثروة القومية، أو العمل والحفاظ على أستقلال النقد واستقلالية المصرف المركزي، وما شاكل. لا، بل أبسط من هذه بكثير. فقد غبنا أو تغيبنا حتى عن القضايا الأساسية والابتدائية في الإصلاح الاقتصادي. نأخذ نموذج "ملتقى الحوار الاقتصادي" الذي دعت إليه وزارة الإقتصاد في الكيان الشامي سنة 2011، مع بداية الأحداث فيها. فمع أن المؤتمر كان معنياً ببحث مواضيع مثل هوية الاقتصاد القومي، ومسألة تدخُّل الدولة، ودور المصرف المركزي، وتوزيع الثروة والدخل، وما شاكل[20] ... وهذه كلها في صميم المبدأ الإصلاحي الرابع، فقد غاب الحزب كلياً عن الملتقى.
مما لا شك فيه أن سقوط الإتحاد السوفياتي عنى بالضرورة سقوط الفكرة الشيوعية كلها سقوطاً نهائياً لا قيام لها بعده. وأصبح فشلها حقيقة واضحة لا يتجاهلها إلا المتعنتون. وهنا لا بد لي من العودة إلى مقالة هامة للأمين أحمد أصفهاني بعنوان "سعاده معاصرنا" يعرض فيها للتطورات التي حدثت بعد ذلك، حيث يقول:
"... وقد دفع هذا الواقع الجديد منظري القطبية الأحادية إلى اعتبار أن التاريخ قد انتهى، وأن المعسكر الرأسمالي حقق انتصاره النهائي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. وكذلك ترافقت نشوة النصر تلك مع الترويج لمبدأ العولمة المتجاوزة للهويات القومية، مع ما يتفرع عنها من التعددية داخل المجتمع الواحد، و"حق" التدخل الخارجي على كل المستويات في أي مكان من العالم.
"غير أن هذه العولمة المنفلتة من أي قيود لم تعمّر سوى عقدين من الزمن تقريباً. إذ سرعان ما برزت قوى عالمية راحت تنافس القطبية الأحادية، وفي الوقت نفسه تتحدى النموذج الرأسمالي في الاقتصاد والاجتماع (الصين مثال واضح). ولم يقتصر التحدي الذي واجهه العالم الرأسمالي على الخارج، بل سرعان ما لاحظنا بروز النزعات الشعبوية العنصرية داخل الغرب الأميركي ـ الأوروبي الذي هو قمة النموذج الرأسمالي "الناجح" منذ ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وهكذا أُجبر المنظرون الرأسماليون مرّة أخرى على إعادة النظر جذرياً في المسلمات التي ركنوا إليها بعد هزيمة المعسكر الشيوعي"[21].
ورغم أننا لا نقلل مطلقاً، بل نثمّن النهضة التاريخية التي تشهدها الصين حالياً، إلا أننا لا نعتبر أن الصينين نجحوا في إيجاد نظام اقتصادي جديد، إذ أن جل النمو الباهر لاقتصادهم مرده التحول من اقتصاد قروي زراعي إلى اقتصاد صناعي تجاري حديث. صحيح أنهم نجحوا في إيجاد القوة المادية والسياسية التي تحمي حقهم الإنترنسيوني، إلا أن المشكلة الاقتصادية الداخلية تبقى مستعصية. فهم قد حلَّوا مشاكل البطالة والعمل بفعل تدخل الدولة واعتماد سياسة تصدير مرنة إلى أبعد الحدود، لكن مشكلة الفوارق الاجتماعية أخذت تظهر على نحو خطير في المجتمع، مما سيؤدي إلى تقلبات وقلائل سياسية [22]. علماً بأن الطبقية كانت شبه معدومة في زمن الشيوعية.
في خضم هذا الإفلاس الثقافي، يبقى الفكر السوري القومي الاجتماعي المالك الوحيد لمفتاح حل القضية كلها. وأعني نظامه الاقتصادي الجديد، الذي يعود غموضه إلى أننا لم نعطه بعد ما يستحق من الدرس والتفكير. أقول هذا وأنا مدرك أنه منذ استشهاد سعاده وحتى الآن، تطورت النظم الاقتصادية، وخصوصاً النظام الرأسمالي العالمي، تطوراً هائلاً. وكما سيتبين معنا، فإن تطبيق نظام سعاده الاقتصادي هو الخطوة التي لا بد منها في سبيل التصدي للتحديات العظيمة التي يضعها أمامنا الاستعمار الاقتصادي الحديث، والتي لا مناص لنا من الانتصار عليها، كي ننال استقلالنا الحقيقي ونحافظ عليه.
ومهما يكن من أمر، فزبدة القول إن الحاجة تبقى ماسة لإيضاح نظرتنا الى النظام الاقتصادي. وهو ما أسعى بهذه الدراسة للمساهمة فيه، من خلال شرح بنود المبدأ الاقتصادي التي لم يكن ما وصلنا من شرح الزعيم في المحاضرة الثامنة وافياً، وأعني تنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج، وإنصاف العمل، وصيانة مصلحة الأمة والدولة. أما بالنسبة إلى بند إلغاء الإقطاع، فأعتقد بأن ما ورد في تلك المحاضرة كان واضحاً ووافياً.
لكن لا بد لي من التمهيد أولاً بأن أشرح، ولو بإيجاز، وجهة نظر سعاده في أسباب المشكلة الأساسية بالنظام الاقتصادي، والتي يعتبرها مشكلة بل معضلة المجتمع الداخلية، حيث يسهل بعدها فهم بنود المبدأ والغاية من كلٍ منها.
في العدد الأول من سلسلة "النظام الجديد" يلقي سعاده أضواءً أولية على رؤيته للمشكلة الاقتصادية. ففي مقدمة ذلك العدد يذكر كيف أنه مع "ظهور الآلة العصرية وحصول الثورة الصناعية، أحدثت الإضطرابات والإنقلابات الاجتماعية التي تلتها، شعوراً بالحاجة إلى نظام اجتماعي - سياسي جديد". ثم يعرض كيف أن الاستمرار بتطبيق نظام العمل نفسه القائم على الحرية الفردية، في ظل هذا التطور، قد قضى على النظام الاجتماعي القديم أي النظام الإقطاعي، وأقام مكانه نظام الطبقات الرأسمالي. ثم يعلن فساد هذا النظام وأن "الحركة القومية الاجتماعية تدخل في معالجة هذه المعضلة الاجتماعية، المادية – الروحية، وأنها تنشئ بمبادئها وتعاليمها نظاماً جديداً ومجتمعاً جديداً".
أما في المحاضرة الثامنة فهو يعيِّن لنا ماهية هذه المشكلة، ويشير إلى مواضع الخلل الأساسية فيها. بدايةً، هو يميّز بين حالتين مختلفتين للاقتصاد: الأولى، ويدعوها حالة الاقتصاد الفردي، حيث "يبقى فيها الإنتاج ضمن المجتمع عينه ولا يخرج خارج المجتمع إلا بتصرفٍ يقوم به الفرد صدفة". أي أنها حالة اقتصادٍ مغلق (Closed Economy)، يقول سعاده عنها بأنها قد زالت من المجتمعات اللهم إلا تلك غير المتمدنة منها. أما الثانية، ويدعوها حالة الاقتصاد القومي الاجتماعي التي يكون الإنتاج فيها واسعاً يُقصد به الإتجار والتبادل الخارجي[23]، أي أنه اقتصاد مفتوح (Open Economy)، متفاعلٌ مع محيطه. وهو يعني بها حالة المجتمعات العصرية المتمدنة التي نشأت بعد ظهور الآلة وسببت ما يسمونه الثورة الصناعية.
بعدها يعلن أنه في الحالة الأولى لم تكن هنالك حاجة إلى نظر الدولة، ولكن الحالة الثانية توجب تدخلها[24]. صحيح أن هذا القول هو تكرار أو تأكيد لما كان قد ذكره في مجلة "النظام الجديد"، إلا أن فيه توضيحاً هاماً وهو قوله بأنه في الحالة السابقة "لم تكن هنالك حاجة إلى نظر الدولة"! وبدهي أن هذه شهادة براءة ذمة يعطيها سعاده لنظام الحرية الفردية عند تطبيقه في حالة الاقتصاد الفردي، إذ أنها تعني أن هذا النظام كان مناسباً للحالة الاقتصادية السابقة، لكنه غير مناسب فقط للحالة الراهنة. وبالتالي فهي تسمح لنا بتعيين المتغيِّر الذي أحدث الخلل، ألا وهو تمكُّن الإنتاج من الإفلات من نطاق المجتمع وإباحة تبادله مع إنتاج آخر في الخارج. كذلك هي تسمح لنا بمقارنة عمل نظام الحرية الفردية في نطاق مغلق حيث كانت الأمور تسير فيه على نحوٍ سليم وإن بإنتاج قليل، مع عمله في نطاق مباح للتفاعل مع المحيط، لنتبين التبعات السلبية من استخدام هذا النظام الذي تطور هنا ليصبح نظاماً رأسمالياً فاسداً.
علاوة على ذلك، فإننا لو تتبعنا هدف سعاده من تدخل الدولة والمهام التي يطلبها منها حينها، نجده قد حدد بدقة مواقع الخلل الأساسية التي أحدثها استمرار العمل بنظام الحرية الفردية. فها هو يعلن، وبيقينٍ مدهش أن الطريقة الوحيدة لإيجاد التوازن الصحي بين تقسيم العمل وتوزيع الإنتاج هي بتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج. وكذلك أنه في ظل الدولة القومية، يكون من حق الدولة أن تنظم وتسن القوانين بهدف ضبط الإنتاج وتقسيم العمل وتوزيع الإنتاج[25]. وهذا يعني أنه في الحالة السابقة، أي في حالة الاقتصاد الفردي، كان التوازن بين العمل والإنتاج قائماً، لكنه فُقِد في الحالة الثانية، لذا اقتضى العمل على إحداثه مجدداً. كذلك نستنتج أن نظام الحرية الفردية كان في حالة الاقتصاد الفردي يقوم بمهمتي تقسيم العمل وتوزيع الإنتاج، لكنه فشل فيهما في حالة الاقتصاد الاجتماعي، فاقتضى أيضاً تدخل الدولة لتحقيق هاتين المهمتين. كذلك يعلن أنه "إذا تُرك للفرد الرسمالي حرية مطلقة في التصرف بالعمل والإنتاج، كان لا بد من وقوع إجحاف بحق العمل وكثير من العمال"[26] ، وهذا يفيدنا أيضاً أن الفرد لم يكن يملك هذه الحرية في حالة الاقتصاد الفردي، ولا بد للدولة من إعادة ضبط حريته هذه.
وبدهي، أن هذا الكلام له تبعاته العلمية ولا يمكن أن يكون سعاده قد ألقاه جزافاً أو على عواهنه، خصوصاً أنه كلامٌ واضح لا يقبل التأويلات، ويمكن البت في صحة نظريته أو عدمها. ورغم أن تحقيقاً علمياً من هذا النوع هو خارج نطاق بحثنا، لكن يمكننا التوسع ولو قليلاً في تحليل أقوال سعاده هذه كي نتمكن من فهمٍ أفضل لنظرته في أسباب المشكلة الأساسية بالنظام الاقتصادي، فيسهل بعدها فهم بنود المبدأ الإصلاحي والغاية من كلٍ منها.
رغم أن سعاده قد أوضح ما يعنيه بالاقتصاد القومي والاقتصاد الاجتماعي والاقتصاد الفردي في كل من "نشوء الأمم" و"المحاضرات العشر"، تبقى التفسيرات الخاطئة والمبهمة لهذه المفاهيم في أدبنا الحزبي كثيرة[27]. الرفيق يوسف المسمار يعرِّف الاقتصاد القومي بأنه المعبر عن وحدة الأمة بتعاقب أجيالها[28]، ثم يعود ويعرِّف الاقتصاد الاجتماعي تعريفاً مشابهاً فيقول إنه يتناول وحدة حياة المجتمع بدورته الاقتصادية الاجتماعية الواحدة[29]. وعلى هذا يُبقي القارئَ حائراً في الفرق بين معنى هذا وذاك، بل في معنى أيٍ منهما. أما الصحيح الذي نعنيه بالاقتصاد القومي فهو أنه ذاك الذي "يتناول تنظيم العمل للإنتاج الواسع بقصد الاتّجار مع الأمم وتموينها بما تحتاج إليه، عن طريق أفرادها وجماعاتها"[30].
أما عندما نتحدث عن إقتصاد فردي أو إقتصاد إجتماعي، فنكون عندها قد وجّهنا نظرنا نحو النطاق الذي تتم فيه دورة تقسيم العمل وتوزيع الإنتاج. ففي الاقتصاد الفردي أو العائلي تنتج العائلة منفردة جميع حاجاتها باقتسام العمل فيما بين أفرادها. أما في الاقتصاد الاجتماعي فلا تعود هذه كياناً قائماً بأود نفسه، بل نجد بالمقابل جمعيات ومنظمات اقتصادية هي عبارة عن شركات ومعامل ومصانع كبيرة تضم المئات والألوف من العمال في كل منها. وهكذا يكون نطاق تقسيم العمل قد شمل المجتمع كله، ويكون الإنتاج الحاصل بالتالي إنتاجاً مشتركاً أو تعاونيٌاً عاماً.
والترابط بين الاقتصاد القومي والاقتصاد الاجتماعي وثيقٌ جداً. تاريخياً، أدى نشوءُ الأول إلى نشوءِ الثاني، وإن كان هذا قد أتى متأخراً عدة قرون. في كتاب "نشوء الأمم" يذكر سعاده كيف أن التجارة الإنترنسيونية التي ابتدعها واتقن فنونها السوريون، وكانت أساس نشوء الاقتصاد القومي، لم تكن مقتصرة على نقل بضائع بين مكان وآخر، بل كانت تقوم على نشوء ونموِّ صناعات عديدة كالنّسيج والصّبغ وصنع الزّجاج وما شاكل[31]، وأنها نظمت العمل في وحدات مشتركة[32]. مع هذا، لم تتمكن هذه التغييرات التنظيمية من إحداث تغييرات جذرية في النظام الطبقي الاقطاعي، فبقيت العائلة هي أساس النّظام العمليّ وإن كان على نحوٍ أضعف، وبقيت ""القرابة الدموية الفاعل الأقوى في النّظام الاجتماعيّ الاقتصاديّ إذ كانت الحرفة تبقى في العائلة يعطيها الأب لابنه وللأقربين إليه من بعده وكذلك إرث الثّروة"[33].
ولا شك في أن السبب الذي حال دون تمكن التبادل الخارجي من إحداث تغييرات داخلية ذات شأن في المجتمع، هو أن العمل اليدوي قد حد من كمية الزيادة في الانتاج التي تطلَّبتها التجارة الخارجية، فبقي حجمها ضعيفاً نسبياً إذا ما قارنّاه بحجم الانتاج القومي العام. صحيح أن هذه المتطلبات قد أكسبت الحاجة لإيجاد الآلة، لكن كان لا بد من ظهورها فعلاً، وتبوأها مركز الصدارة في التجارة الإنترنسيونية كي يرتقي التفاعل إلى الدرجة العالية التي يتمكن معها من زلزلة النظام الاجتماعي وإقامة آخر. أما قول سعاده بأن الثورة الصناعية قد سلبت العائلة صناعاتها وأخرجت الصناع من المصانع بالمئات والألوف ووضعت الاجتماع على أساس جديد [34]، فيعطينا فكرة عن مدى الزيادة الهائلة في الإنتاج التي أحدثها ظهور الآلة.
ولهذا السبب يعتبر سعاده أن الثّورة الصّناعيّة هي بداءة ظهور الاقتصاد الاجتماعيّ المعاصر[35]. وهو السبب أيضاً الذي يدفع سعاده للقول بأن الآلة، أو الثورة الصناعية، وليست التجارة الإنترنسيونية، هي المسؤولة عن القلائل والتشنجات وتغيير النظام الاجتماعي علماً بأن تبادل الإنتاج كان قد بدأ قبل الثورة الصناعية بعدة قرون.
والحقيقة أن هذه التوأمة بين الاقتصاد القومي والاقتصاد الاجتماعي، نجدها قد فرضت نفسها مجدداً في النهضة الحالية للاقتصاد الصيني، إذ تنبه باكراً رجال الدولة هناك إلى أنه لا مناص لهم من تنظيم وتطوير شبكات تجارتهم الدولية، كي يتمكنوا من السير قدماً في تنفيذ خطتهم بإنهاض صناعاتهم واقتصادهم وإقامة مجتمع متمدن حديث [36]. في الحالة الصينية كان العكس هو المطلوب إذ كان لا بد للاقتصاد القومي من مرافقة نشوء الاقتصاد الاجتماعي. كذلك نلاحظ أن التبعات السلبية التي يحدثها هذا التطور في المجتمع الصيني كحدوث الفوارق الاجتماعية التي بدورها أدت إلى حدوث قلاقل سياسية[37]، والتي كنا أشرنا إليها في القسم السابق من هذا البحث، قد بدأت بالحدوث هناك أيضاً وإن بوتيرة أسرع بعامل أن الآلة في الحالة هذه حقيقة فاعلة.
من المعروف أن مسألة تدخل الدولة لتنظيم الاقتصاد، هي موضوع جدلٍ قديم بين علماء الاقتصاد يدور حتى فيما بين الرأسماليين أنفسهم، وليس فقط بين هؤلاء ومخالفينهم. أما الذريعة الأساسية التي يستخدمها أصحاب الدعوة إلى إبعاد الدولة عن التدخل، كي يبرِّروا دعوتهم ومناداتهم بمبدأ "حرية الفرد في التصرف" (Laissez-faire)، هي أن المنافسة الحرة تعمل بطبيعتها على إقامة "التوازن المثالي" فيه، فلا تكون بطالة في العمالة، ولا يكون كساد في البضائع، لأن قوانين العرض والطلب تعمل دائماً على موافقة بعضها بعضاً. ويستند هؤلاء في ذريعتهم على مقولة آدم سميث[38]، عن "اليد الخفية" التي تعمل على إقامة التوازن في السوق. ورغم أن آدم سميث نشر كتابه في العام 1776، أي قبيل الثورة الصناعية، فقد بقيت مقولته منذ ذاك الوقت، موضع جدل كبير، بين موافق معه ومناقضٌ له. لكن الواقع ناقض مقولة آدم سميث، إذ بقيت مشاكل البطالة وسوء حالة العمال بازدياد مُطَّرِد. كذلك فشلت جميع محاولات علماء الاقتصاد لإثبات صحة مقولته أو إثبات أي وجود لتلك "اليد الخفية". في مقالة نُشرت منذ بضع سنوات، ذكرت مجلة "هارفارد بيزنس ريفيو"Harvard business review، أن عدم وجود أي حجة "لليد الخفية"، أو إلى توازن مثالي، أو حتى أي توازن على الإطلاق، هو من أفضل الأسرار المحفوظة في علم الاقتصاد[39].
لكن التفكير ملياً في أقوال سعاده التي ذكرناها فوق، عن موقفه من عمل نظام الحرية الفردية في حالتي الاقتصاد الفردي والاقتصاد الاجتماعي، يظهر أنه بدعوته لنا كي نميّز بين هاتين الحالتين اللتين طبَّق فيهما هذا النظام، هو عملياً يوالف بين مقولتين متناقضتين إذ يقدم المخرج النظري (synthesis) لهما. فآدم سميث على صواب، لأنه بنى نظريته في زمن كانت حالة الاقتصاد اقتصاداً فردياً، ولم تكن تبعات الثورة الصناعية قد فعلت فعلها بعد. آنئذٍ، كانت فعلاً حركة السوق ما زالت تحقق التوازن بين العمل والإنتاج. بالمقابل، فإن معارضي مقولة آدم سميث هم أيضاً على صواب لأن الحالة الاقتصادية التي امتحنوا ويمتحنون فيها مقولته، هي حالة اقتصادٌ اجتماعيٌ متفاعل مع الخارج، لا يتوازن فيها العمل والإنتاج.
والحقيقة أنه في واقع اقتصادي مغلق، يبقى فيه الانتاج في المجتمع، لا نحتاج لا إلى "يدٍ خفية" ولا إلى ألعاب سحرية كي يتوازن العمل والإنتاج، فهما بالضرورة كذلك. ما يتحقق من عمل في ذاك النطاق هو عينه ما يوزَّع من إنتاج، وقيمة هذا هي عينها قيمة العمل الذي حققه. لنقل إن العمل والإنتاج فيه يكونان وجهين لعملة واحدة. كذلك تكون حركة تغيُّر أسعار السلع وأجور العمال هي البوصلة التي توفق بين كمية ما ينتج من أصناف ومقدار ما يبذل من الأعمال. فهذه تتوجه نحو السلع التي يكون سعرها أعلى، بعامل أن الحاجة إلى سدها تكون أشد، فينجم عن هذا إنتاج كميات أكبر منها. والعكس بالعكس.
لكن الفصام يحدث ويختل التوازن عندما يصبح بإمكان الإنتاج مغادرة المجتمع ومبادلته مع إنتاج خارجي، حيث يصبح للإنتاج قيمة أخرى مردها تفاعلات الأسواق الخارجية، ومستقلة إلى حدٍ بعيد عن قيمته في السوق الداخلية التي هي قيمة العمل المبذول فيه. وهذا يحدث لمعظم أصناف الإنتاج وليس فقط لتلك المصدرة أو المستوردة فعلاً. والسبب في هذا هو أن الرأسمالي، وهو رب العمل ومالك الإنتاج معاً، لم يعد مقيداً ببيع إنتاجه في السوق الداخلية حصراً، بل أصبح حراً في بيعه أيضاً في السوق الخارجية. كذلك هو مخير في أن يعمل إما على تصنيع المنتوجات التي يريد تسويقها، وإما على استيرادها من الخارج. وقوته في هذا الاختيار تمكنه ليس فقط من رفع قيمة ما يصدره فعلاً من إنتاج، لكنه يرفع أيضاً من قيمة الإنتاج الذي يبيعه في السوق الداخلية. وكذلك الأمر بالنسبة للعمال الذين يستأجرهم، حيث أن مجرد قدرته على التخلي عن عملهم واستبداله بانتاجٍ مستورد يكون كافياً لإخضاعهم وإرغامهم على قبول أجورٍ أدنى. وهكذا نجد أن اختلال توازن العمل والإنتاج يكون دائماً لصالح رفع قيمة الإنتاج وخفض قيمة العمل. فيقع الإجحاف في توزيع الثروة إذ يُمنح الرأسمالي حصة الأسد، ويُسلب العمال معظم أجورهم، بل ويُفقدهم عملهم في أحيانٍ كثيرة.
وبدهي أن هذا يعطي الرأسمالي قوةً ماديةً عظمى، بدون أي جهد يقوم به أو كلفة يتكلفها. بل إن سعاده يقول عنها إن الرأسمالي لم يكن حتى يحلم بها، وإنها قد فاقت أية قوة مناقبية أو مادية أخرى في المجتمع، فقضت بالتالي على النظام الاجتماعي القديم، وأقامت نظاماً طبقياً جديداً [40]. لذلك لن يكون لنا مفرٌ من إيجاد التوازن بين العمل والإنتاج إذا ما أردنا أن نعمل على وحدة المجتمع وعلى إزالة الفوارق الاجتماعية فيه "فلا يكون أناس في السماء وأناس في الجحيم"[41].
إضافةً إلى العواقب الاجتماعية، هناك أيضاً تبعات اقتصادية بحت لا تقل سوءاً عنها، تقتضي أيضاً منّا العمل على إيجاد التوازن بين العمل والإنتاج. في مقدمة هذه التبعات الحاجة إلى إيجاد آلية تمكننا ليس فقط من موازنة القيمة العامة للعمل بالقيمة العامة للإنتاج، بل نوفِّق بها بين تأمين حق العمال بمختلف ميادين مهنهم، في إيجاد أعمال لهم، وبين سد الحاجة لمختلف أصناف الإنتاج. لأنه إذا كانت كل المذاهب الفلسفية في الاقتصاد، بما فيها الرأسمالية، قد أقرّتَ بانتفاء وجود أي توازن بين العمل والإنتاج، بل أي توازنٍ بالمطلق، فلا بد لها جميعها أن تقر أيضاً بالحاجة إلى إيجاد الآلية البديلة لتقسيم العمل على نحو يوفق بين مختلف الأصناف المنتجة وحاجة الأسواق لهذه الأصناف. مع هذا فإننا نجد الأنظمة الرأسمالية ما زالت تهمل هذه الناحية إلى حدٍ بعيد، بينما مبدأ الشيوعيين بأنه "لكل حسب حاجته ومن كلٍ قدر استطاعته"، قد فشل فشلاً ذريعاً.
بعد كل ما ذكرناه فوق عن السلبيات الناتجة من الاستيراد والتصدير، قد يتبادر للقارئ أننا ندعو إلى منع حركة التجارة الخارجية هذه، وإلى ضرب طوق حديدي تُغلَق به حدود المجتمع مثلاً، فيبقى الإنتاج القومي في الداخل ويمنع الإنتاج الغريب من الدخول. ظاهرياً، عملٌ كهذا سيعيد المجتمع إلى حالة الاقتصاد المغلق حيث يتمكن عندها نظام الاقتصاد من إعادة التوازن بين العمل والإنتاج، ولا تعود هناك حاجة لتدخل الدولة. أساساً، لا تعود هناك حاجة لاستخدام الآلة، وكذلك تضعف كثيراً الحاجة إلى الرأسمال. لكننا حتماً لا نريد شيئاً جنونياً كهذا، لأن التوازن بهذه الطريقة هو توازن سقيم.
إن فوائد التجارة الإنترنسيونية، بل وضرورتها، أمر ثابت علمياً لا جدال فيه، ولا يمكننا تصور أي مجتمعٍ من المجتمعات المتمدنة يقدر على تأمين مقومات بقائه بدونها. وفي هذا الصدد، يقول سعاده إن طور الثقافة الزراعية الصناعية القائمة على الاقتصاد الفردي لم يتمكن من اضطراد تقدم المجتمع، لأن موارد هذه الثّقافة اقتصرت على بيئتها بينما موادّ كلّ بيئة محدودة بذاتها[42]. لكنه بالمقابل يعتبر أن التبادل الخارجي بعد ظهور الآلة قد رقّى التفاعل الاجتماعي في داخل المجتمع إلى درجة عالية جداً[43]. كذلك هو يلحظ أن التجارة الخارجية تنتج ربحاً قومياً ينمي الثروة القومية[44]. وهذه مبدئياً عامل هام جداً يؤدي إلى تنمية الإنتاج القومي وتعميم الخير والرخاء على المجتمع كله. لهذا فهو يقول إننا "نسير نحو نظام جديد لا نهرب فيه من الآلة بل نتقدم إليها"[45]. ولهذا أيضاً ما نريده هو تحقيق توازن صحي بين العمل والإنتاج بحيث نبقي على الخير الذي تجلبه الآلة والتجارة الإنترنسيونية.
خلاصة القول أن ثقافة التجارة الإنترنسيونية والتفاعل الاقتصادي بين الأمم، مثلما يكون لها فوائد عظيمة، لها أيضاً تبعات سيئةٌ جداً لا بد لنا من التنبه لها والتعامل معها كي نتفادى العواقب الوخيمة التي نعاني وتعاني كل المجتمعات منها. ولهذا يطلق سعاده تعبير المعضلة الاقتصادية على هذه المشكلة. فدافع الثروة واستدرار الموارد يؤديان إلى اختلال التوازن بعواقبه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. أما إذا عدنا إلى حالة التوازن القديم كي نهرب من السيئات التي جلبتها الآلة، فسيؤدي بنا ذلك إلى حالة الفقر ويكون توازناً سقيماً. لذلك فإن ما نريده هو تحقيق توازن صحي بين العمل والإنتاج، لكنه في الوقت ذاته يبقي على الخير الذي يجلبه الانفتاح والتفاعل مع بقية الأمم.
في ندائه إلى منتجي الأمة بمناسبة الأول من أيار قبيل استشهاده، قدم سعاده شرحاً وافياً لمعنى حق العمل. منه قوله إن "حق العمل يعني حقنا في مواردنا"، وإن ""أول حق من (حقوقنا) الطبيعية والاجتماعية هو حق العمل والإنتاج. وبدون (وصولنا) إلى هذا الحق تبقى مسألة الأجور وقوانين العمل وقوانين الضمانة الاجتماعية مسألة وهمية، فقوانين العمل والضمانة الاجتماعية لا تحل مشكلة البطالة ولا مشكلة الفقر العام"[46].
رغم وضوح هذا الشرح بما المقصود بحق العمل، نجد تلاميذ سعاده مصرّين على التغاضي عنه وتحويره كي يعني أنه حق العمال في العمل، وتأمين وظائف لهم، وهذا غير صحيح. الرفيق يوسف المسمار يقتبس في دراسته جزءاً غير قليل من نداء سعاده هذا، بما فيه الأقوال المذكورة فوق، لكنه يهمل كل معاني كلماته ولا يعطيه أية قيمة. فما أن يفرغ من اقتباسه، يردف قائلاً "إن انصاف العمل يعني انصاف العمال. يعني تأمين حق العمل لهم. يعني القضاء على البطالة"، وإن "إنصاف العمل والعمال (يكون) بتأمين العمل لهم"[47]. ولا ريب في أن الرفيق المسمار قد ضلَّ في هذا ضلالاً بعيداً، فحق العمل أعمق كثيراً من حق العمال، وكذلك إنصاف العمل أعمق كثيراً من إنصاف العمال، كما سيجيء في القسم الرابع من هذه الدراسة.
أما الدكتور إدمون ملحم فيفعل في دراسته ما هو أدهى، إذ يحوِّر نفس قول سعاده المذكور فوق ليصبح أن "الخطوة الأولى لزيادة الإنتاجية هي منح كل مواطن الحق في العمل والإنتاج"[48]. ويتحول بحثه بعدها لا لشرح معنى حق العمل، بل معنى حق العمال في العمل الذي - برأيه هو - جعل فرص العمل متاحة بسهولة لكل مواطن قادر. كذلك هو يحوِّر كلام سعاده بأن حق العمل يعني حقنا في مواردنا، ليصبح أنه للعمال الحق في موارد الأمة الطبيعية[49]. والحقيقة أننا لا ندري تماماً قصد الدكتور ملحم في هذا القول، وما إذا كان يعني به أن موارد الأمة تصبح مشاعاً يتصرف العمال بها كيفما شاؤوا؟
خلافاً لما فهمه الرفيقان المسمار وملحم، فإن حق العمل ليس حق الحصول على وظيفة، بل يعتبر سعاده هذا الأخير حقاً وهمياً إن لم يكن قد حصلنا قبله على حق العمل، والذي يعني تسخير موارد الأمة لمطالب العمل. والرسمال هو في مقدمة هذه الموارد، إذ أن سعاده أطلق صفّارة الإنذار على الرسمالي تحديدأ، معيِّناً بدقة عمل التعدي الذي يقوم به على حق العمل. يقول سعاده: " إذا ترك للفرد الرسمالي حرية مطلقة في التصرف بالعمل والإنتاج، كان لا بد من وقوع إجحاف بحق العمل وكثير من العمال"[50].
الرسمال هو حاجة العمل الأولى، وهو ضمانة استمراره، وهو في الأول وفي الأخير حاصل العمل. بالمقابل فإننا نجد أنه "ما من عمل أو إنتاج في المجتمع إلا وهو عمل أو إنتاج مشترك أو تعاوني". وهذا يسوغ لنا تسخير الرسمال لخدمة العمل ومتطلباته، لأن في هذا التسخير مصلحة قومية عامة. لكن هذا لا يعني مطلقاً أن الرسمال أو أي مورد من موارد الأمة يصبح متاحاً لعبث العمال، بصرف النظر عن الذرائع التي يمكن لهم أن يبتكروها. سعاده كان واضحاً ودقيقاً جداً في قوله إن ""ثروة الأمة العامة يجب أن تخضع لمصلحة الأمة العامة وضبط الدولة القومية"[51].
أما ما يشير إليه سعاده في قوله عن الإجحاف بحق العمل، فهو أمرٌ يمارسه الرأسمالي أمام أعيننا يومياً، لكننا ألفناه وقبلناه بل بتنا نعتبره من المسلمات. فالمعروف أن المصانع، ومن خلفها مالكوها الرأسماليون، لن تدع إنتاجها يتكدس في مخازنها بعضها فوق بعض ويكسد إذا ما قلَّ الطلب على البضائع التي تنتجها، بل ستعمد إلى تجنب خسائرها بخفض العمل وربما حتى إلى إيقافه كلياً إلى أن تنفِّق بضاعتها. والمعروف أيضاً أن المصانع تعمد إلى تسويق بضائعها ليس وِفقاً للأسعار التي تمكِّنها من تصريف إنتاج طاقتها القصوى، بل تصريف الكمية التي تحقق لها الربح الأعظم. وفي هذا أيضاً تعطيل لطاقة العمل الإنتاجية.
لكن أقوال سعاده تدفعنا للتساؤل عن السبب الذي يجعلنا نرضى أن تكون مصلحة المصنع/ الرأسمالي، هي المقياس الذي على أساسه تدور عجلة العمل أو تتوقف؟ فمصلحة الأمة تقتضي بأن لا تتوقف عجلة العمل عن الدوران، بل لا بد لها من أن تدور بسرعتها القصوى، وتفعَّل كل طاقاتها دوماً. فالمصنع وما يحويه من منشآت وآلات ومعدات، وما يملك من سيولة نقدية، هو جزءٌ من ثروة الأمة العامة، وبالتالي فمن حق الأمة أن تسخَّره وفقاً لمصلحتها هي لا وفقاً لمصلحة الرأسمالي. ولا نعني بهذا أنه على المصنع أن يواظب على الإنتاج حتى وإن لم تعد في الأسواق حاجة لبضائعه، لكننا نقول إن هذه الطاقة الإنتاجية الفائضة يجب صرفها في أعمالٍ أخرى لا أن نعطلها.
كذلك نجد أن الرأسمالي لا يدخل في حساباته خسائر العمال في أجورهم وحقوقهم الناجمة عن تعطيلهم عن العمل، لذلك سيفعل ما تمليه عليه مصلحته في تعظيم أرباحه، بصرف النظر عن الخسائر الناجمة للعمال المشتركين معه في الإنتاج.
في القسم التالي سيكون لنا عودة مفصلة إلى هذه المسألة حيث نبحث في خطة سعاده لحلها بالمداورة، بمعنى أنه يبقي على الملكية الشخصية كملكية عملية لكنه يضع حداً لتصرف الرأسمالي المطلق في العمل والإنتاج.
أعتقد أن ما مهدنا له في القسم السابق من هذه الدراسة عن وجهة نظر سعاده في المعضلة الاقتصادية، يكفي لتمكيننا من فهمٍ واضح للمبدأ الإصلاحي الرابع. فنتقدم هنا لبحث البند القائل بـ "تنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج".
لكني أود الإشارة بدايةً إلى أننا لا ندَّعي أن الحكومات في النظم الرأسمالية تهمل علاج هذه المعضلة؛ بل على العكس تماماً. كتب علم الاقتصاد مشبعةٌ بالنظريات المتنافسة في تقديم الحلول للمشاكل الاقتصادية مثل البطالة والركود الاقتصادي والتضخم المالي، وغيرها. كذلك نجد أن هذه الحكومات لا تتوانى عن انتهاج سياسات مالية أو اقتصادية للتعامل مع هذه المشاكل، مثل إدارة معدلات الضرائب، والفائدة المصرفية، وكمية النقد المتداولَة وسياسة تشجيع الاستثمار، وتسليف القروض، إلخ. يُضاف إلى هذا أنها كثيراً ما تقوم بمشاريع استثمارية من أموال تخلقها هي نفسها بغية تفعيل حركة الاقتصاد، وخلق فرص عملٍ جديدة. لكن نجاحاتها تبقى محدودة طالما أنها لا تتصدى للأسباب الأساسية التي أشار إليها سعاده، وبحثناها في القسم السابق من هذه الدراسة. خصوصاً السببين الرئيسيَّن منهما؛ أعني مسألة اختلال التوازن بين العمل والإنتاج، وحرية الرأسمالي المطلقة بالتصرف بهما معاً.
إذا كنا نعمل في ما امتهنَّا من الأعمال ثم نسعى إلى تسويق ما أمكننا إنتاجه، نكون من ذوي الاقتصاد المؤسس على العمل. في نظام من هذا النوع، يكون فيه مثلاً كذا مصنع للسيارات، وللأدوات المنزلية، وللأدوية، وما شاكل، لها طاقات إنتاجية غير محددة، قد تزيد أو تنقص عن حاجات الأسواق لها. في هذه المصانع، يقوم خبراء التسويق، كلٌ على حدة، بل وفي تنافسٍ وتضاربٍ فيما بينهم، بالعمل على إيجاد الأسواق المحتاجة لمنتوجات مصانعهم كي يتمكنوا من تصريفها والمحافظة على استمرارية العمل فيها. وواضحٌ، أن الحالة هذه، هي عينها التي نشهدها فعلاً في كل الأنظمة الرأسمالية، فهي بالتالي أنظمةٌ تفرز بطبيعتها اقتصادات مؤسسة على العمل.
لكن في اقتصادٍ مؤسسٍ على الإنتاج، تنقلب الأمور رأساً على عقب، إذ يكون عملنا وفقاً لمطالب الأسواق من الإنتاج. في هذه الحالة، نحن نتبين أصناف السلع والخدمات المطلوبة، ونختار منها ما يمكننا تحقيقه بأقل مجهودٍ وأسرع وأكبر نتيجة، ثم نقسِّم العمل المتوجب فيما بيننا، ونعمل عليه. إن جزءاً هاماً من التبادل الخارجي يقوم على أساس اتفاقات تعقدها الدولة مع دولٍ أخرى، حليفة أو صديقة. لذا فمقدرتنا على تصريف الإنتاج تتوقف على قدرتنا في الاستجابة لاحتياجات هذه الدول. نحن ننظر إلى العالم العربي مثلاً ونكيّف صناعاتنا لإنتاج ما تحتاجه أسواق هذه البلدان، لا أن ننتج ما أمكننا، ثم ندور نستعطي هذه الدول لشراء سلعٍ حاجتها لها أقل من حاجتنا لتصريفها.
كذلك نجد فرقاً في كيفية توزيع الثروة الناجمة عن الإنتاج بين النظامين. ففي الاقتصاد المؤسس على العمل، يكون الرأسمالي هو مالك الإنتاج الوحيد، إذ قلما يكون لسواه أي حق في نصيب منه. هو يشتري وقت عمل العمال، ويصبح بعدها حراً في التصرف به وفق ما تمليه مصلحته الفردية. وكذلك حاله مع صاحب الأرض التي يستأجرها منه. أما في الإقتصاد المؤسس على الإنتاج، فلكل الشركاء في العمل حقٌ في نصيب من الإنتاج، لأنهم هم الشركاء الوحيدون فيه. بل يذهب سعاده بعيداً في اعتماد الإنتاج مقياساً لتوزيع الثروة كما في قوله: "على أساس الإنتاج فقط يمكن النظر في إيجاد العدل الاجتماعي الحقوقي بين الذين يشتركون في الإنتاج"[52].
وهذا باعتقادي يظهر سبباً إضافياً وراء إعلان سعاده بأننا " لا نقول بالنقابات نظاماً ولكن نقول بالتصنيف الفني للإنتاج"[53]. فنظام النقابات هو تحسين الأجور والمرتبات، إذ تحدد إدارة النقابة السعر الذي على أساسه يبيع أعضاؤها وقت عملهم. ونظام كهذا لا مكان له في اقتصاد مؤسس على الإنتاج. أما التصنيف الفني فيرتب السلع ذات الصنف الواحد بحسب جودتها ومواصفاتها، ويسمح بالتالي بتمييز قيمها وفاقاً لترتيبها. بأية حال، سوف نعود إلى مسألة توزيع الثروة، بما فيها موقفنا من النقابات في القسم الخامس من هذا الدراسة، عند بحثنا لبند صيانة مصلحة الأمة والدولة.
الحقيقة أن حركة الاقتصاد بطبيعتها مؤسسةٌ على الإنتاج. أما أن تكون على غير ذلك، في النظم الرأسمالية، فليس إلا خروجاً لها عن محورها. فالاقتصاد مصلحة أساسية في المجتمع، بل هي في أساس كل مصالحه لأنها تخدمها جميعها[54]. لذا فحركة التفاعل الاقتصادي في المجتمع، كأية مصلحة أخرى، تدور رحاها على قطبين: واحدهما سلبي لأنه المصلحة من التفاعل، وهو قطب الإنتاج. والآخر إيجابي، لأنه المعبّر عن الإرادات المتعاونة على تحقيق الغرض من التفاعل، وهو قطب العمل[55]. فالإنتاج إذاً هو الأساس لأنه هو المقرر للعلاقة، والمولِّد للعمل؛ أما هذا فهو التابع للإنتاج أو الدال عليه. يقول سعاده "المصلحة هي التي تقرّر العلاقات جميعها والإرادة هي التي تحقّقها"[56].
فحتى لو عدنا إلى حالة الاقتصاد الفردي السابقة، سنجد الاقتصاد مؤسساً على الإنتاج مبدئياً. فالعائلة القائمة بأود نفسها، كان عليها تقرير حاجاتها أولاً، ثم تختار أنواع الأعمال لتحقيقها وتقسِّمها فيما بينها. ولعل الأمور أخذت تخرج عن محورها، في البدء، مع التبادل الداخلي بالفائض من الإنتاج عن حاجات العائلة. ثم لاحقاً، في العهود الأولى للتجارة الخارجية بالصناعات البيتية؛ حيث في الحالتين كانت البضائع المتاجَر بها داخل المجتمع، تُقيَّم وِفق قيم الأعمال المبذولة فيها. فانقلبت الأمور رأساً على عقب، وأصبح العمل هو المتغير المستقل (The Independent Variable)، والإنتاج هو المتغير التابع له (Dependent Variable The).
وكما أوضحنا في القسم السابق، لم تكن المشكلة في تلك الحالة ذات بال طالما بقي العمل والإنتاج متوازنين، بعامل بقاء الإنتاج في المجتمع. لكن قدوم الثورة الصناعية، غيَّر هذا الوضع ولم يعد هناك من مجال للعودة إلى الوراء. لقد انفلت الإنتاج من تبعيته للعمل، وأصبحت قيمته، كما قلنا، حاصل تفاعلات الأسواق الخارجية، ومستقلة إلى حدٍ بعيد عن قيمة العمل التي يحققها في السوق الداخلية. فأنَّى لقيمتي العمل والإنتاج أن تتوازنا، في وضع كهذا، وكل واحدة منهما هي حاصل تفاعلات آلاف، بل ملايين، العوامل المختلفة؟ لذلك فالطريقة الوحيدة التي أمامنا لتحقيق التوازن مجدداً ومعادلة قيمتيهما، هي أن نقلب الأمور رأساً على عقب مرةً أخرى؛ فنجعل من قيمة العمل هي التي تتبع لتعادل قيمة الإنتاج، الذي يعود ويصبح هو الأساس في العلاقة. وهذا يعني أن ما يجب فعله عملياً، كي تتساوى القيمتان، هو أن نعتبر المشتركين في العمل، هم الشركاء في الإنتاج حيث يجب أن يشملهم جميعاً توزيع الثروة الناتجة عنه. ومن هنا نفهم قول سعاده " وإن الاشتراك في الإنتاج اشتراكاً فعليًّا شرط للاشتراك في الحق العام"[57].
ولا يُخفى على أحد التبعات الروحية العميقة والبعيدة لهذا المبدأ. فرد فعل العمال على تطبيقه لن يكون مجرد أخذ الأموال التي كان يستولي عليها الرأسمالي منهم، ووضعها في جيوبهم هم بدلاً من جيبته، ثم يتابعون عملهم بنفس الحماس السابق. لا، بل سيزداد هذا أضعاف أضعاف، إذ عندها ستكون لهم مصلحة بزيادة الإنتاج، و""الإرادة على قدر المصلحة"، كما يقول سعاده[58]. وسيكون لنا عودة إلى هذه النقطة في القسم الخامس.
لكن الدورة الاقتصادية مؤلفة من مرحلتين: الأولى تقسيم العمل، والثانية توزيع الثروة أو الإنتاج. ولا يكفي أن نعتمد الإنتاج كأساسٍ لقيمة العمل في المرحلة الثانية فقط، دون اعتماده أيضاً في المرحلة الأولى. فالتوازن الذي يتحقق في حالة كهذه يكون توازناً لا ضمانة فيه باشتراك الكل في العمل. وكم هو عظيمٌ مبلغ الرّضى والاقتناع عند العامل إن قلنا له "سنحسبك شريكاً بالإنتاج، إن وجدت لنفسك عملاً". ولعل هذا ما يدفع سعاده للقول بأن " كل عضو في الدولة يجب أن يكون منتجاً بطريقة من الطرق"[59]. ونحن لو عدنا إلى الشرح، كما ورد أساساً في كتاب تعاليم المبادئ، لوجدنا أن الأفكار هذه مربوطة كلها بجملة واحدة، حيث يجب قراءتها كاملةً لاكتمال المعنى: "أما تنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج فهو الطريقة الوحيدة لإيجاد التوازن الصحي بين توزيع العمل وتوزيع الثروة، كل عضو في الدولة يجب أن يكون منتجاً بطريقة من الطرق"[60].
إذا لم نعتمد الإنتاج أساساً لتقسيم العمل، لما أمكننا تحقيق التعاون على أوسع قياس، لسدِّ كل حاجات الأسواق التي لدينا استعداد لسدها، واستنفاد كل طاقاتنا للعمل. فالإنتاج هو مزيجٌ يمكن أن يُركَّب بأكثر من طريقة أو معادلة أو نوع من أنواع الأعمال. والأعمال قادرة كذلك على إنتاج أصناف مختلفة، ويمكنها التحول من العمل على صنف ما إلى آخر. وهذا يعطينا ليونةً في الحركة والتخطيط لإشراك الجميع في تعاون العمل. لكن لا بد لنا من امتلاك النظرة الكلية الشاملة لما هو مطلوب، ولما نحن على استعدادٍ لتقديمه. فإذا أبقينا الاقتصاد مؤسساً على العمل، وتركنا للأفراد حرية تركيب هذه المعادلات عشوائياً، أو وفاقاً لما تمليه مصلحة الرأسمالي، دون النظر إليها من الوجهة المجتمعية الكلية، كان لا بد من وقوع الهدر؛ يبقى عمالٌ عاطلين عن العمل، أو ننتج بضاعةً لا سوق لها. فقط في حالة العمالة التامة والإنتاج وِفق الطلب، يمكننا تحقيق التوازن بين العمل والإنتاج.
إذن، نحن حتماً لا نرمي إلى شيءٍ شبيهٍ بما كان يحدث في الدول الاشتراكية. تحضرني هنا مقالة للأمين الطيب الذكر محمود غزالي يذكر فيها " تجربة إنتاج الدواجن في الجمهورية السورية التي وصل إنتاجها في السبعينات إلى ضعفي حاجة السوق المحلية، لكن علاج تصريف الضعف الفائض لم يكن في محاولات فتح أسواق خارجية له، ولا تخفيف القدرات الإنتاجية، بل كان في "إعدام" أجل إعدام نصف الإنتاج عن طريق طمره في الأرض بقصد التخلص منه"[61]. ويتابع الأمين غزالي قائلاً إن هذا المثل ينسحب على معظم إنتاج المؤسسات المماثلة على غرار ما كان يحدث في اقتصاد دول الكتلة الاشتراكية. بعدها يخلص إلى أن نموذج الانهيار الكبير للاتحاد السوفياتي ومعه الكتلة الشرقية كان نتيجة الخلل الكبير الذي أحدثته سياسة القبض على مواقع الإنتاج والتسويق والتوظيف من جانب السلطة من جهة، وغياب الدوافع والحوافز والمغريات من جهة أخرى[62].
أما حل سعاده فهو في الجملة التي تتبع تلك التي أوردناها فوق، إذ يقول إنه "... يتوجب تصنيف الإنتاج والمنتجين بحيث يمكن ضبط التعاون والاشتراك في العمل على أوسع قياس ممكن وضبط نوال النصيب العادل من النتاج، وتأمين الحق في العمل والحق في نصيبه"[63]. وسوف نشرح في الفقرة التالية ما نعنيه بتصنيف الإنتاج والمنتجين.
كنا قد ذكرنا في القسم السابق أنه مع فشل قوانين العرض والطلب في إحداث التوازن بين العمل والإنتاج، نحن بحاجة إلى إيجاد الآلية البديلة لتقسيم العمل على نحوٍ يوفق بين مختلف الأصناف المنتَجة وحاجة الأسواق لهذه الأصناف. ووِفقاً لما ذكرناه فوق، يمكننا الإضافة أن هذا التقسيم لا بد وأن يشمل كل أعضاء الدولة كي نؤمِّن حق كل واحدٍ منهم في العمل، وحقَه في النصيب. والحقيقة أن تحقيق هذه الحاجة هي أقل المهام المطلوبة من نظامنا الإقتصادي، إذ أن سعاده يذهب بعيداً أكثر بكثيرٍ منها، بإعلانه أن إنتاجنا القومي سيكون قادراً على التفاعل مع إنتاجات الأمم الأخرى، واتخاذ مواقفٍ موحدةٍ تجاهها[64]. وهذا يقتضي تكوين نظام جديد تتمكن فيه قوى العمل، ليس فقط من الإستجابة لمقتضيات الإنتاج، بل التفاعل فيما بينها لرد الفعل على فرص وتهديدات العوامل الخارجية، وصيانة وحدة الأمة، ورفد الدولة بالقوة، وتحقيق الخير والرفاهية لعامة الناس.
صحيح أنه لم يصلنا من سعاده شرح مباشر حول كيفية تحقيق نظامه للتعاون في العمل والذي تُطبَّق فيه مبادئه في تنظيم الاقتصاد القومي. إلا أن إشارته بوجوب تصنيف الإنتاج والمنتجين، هي بحد ذاتها المفتاح لحل لغز قضية استحداثه كلها. وبدهي أن الدعوة هذه لا تعني إعداد لوائح عنهم وعن صفاتهم، فأنَّى لمعلومات كهذه أن تفيدنا بشيءٍ عملي؛ ناهيك عن تمكيننا من التوفيق بين إشراك الكل في العمل، وخصوصاً أنها معلومات تحتاج متابعةً ومواظبةً في التحديث لأنها سرعان ما تفقد صلاحيتها.
وبحسب المعجم فإن تصنيف الأشياء يعني ترتيبها، وتمييز بعضها عن بعض حسب علاقاتها. فإذا كانت غايتنا من التصنيف هي توثيق علاقات هذه الأصناف والتوفيق فيما بينها لضبط تعاونها، فوسيلتنا لذلك هي أن يشمل التصنيف استحداث المؤسسات. يقول سعاده، إن "التنظيم ORGANIZATION .. قد أوجد ليعطي التوافق والتعاون وليوثق المصالح"[65]. والمصلحة كما ذكرنا فوق هي التي تقرر العلاقات جميعها[66].
في كتاب "نشوء الأمم" المقتضَب جداً، يسهب سعاده البحث في مصالح المجتمعات الراقية، وإعطاء صورة عنها وعن علاقاتها وترتيبها فيما بينها. ويظهِر كيف أنها تتنوَّع وتتعيَّن وتتمايز وتتعاون وتتحد، على نحوٍ يجعل وحدة هذه المجتمعات أتم وأوضح. ويشدد على أنها " تؤدّي إلى إنشاء جمعيات من كلّ نوع منها، تجمع كلّ جمعيّة الأفراد العاملين لمصلحتها"[67]. لكن ما يثير اهتمامنا هنا أن هذه المجتمعات، بعامل أن نظام اقتصادها قد بقي اقتصاداً فردياً، لم تشعر أن لها مصلحة أساسية بتنظيم تقسيم العمل، وتنظيم توزيع الإنتاج على صعيد المجتمع، فلم توِّلد الجمعيات المختصة للعمل على هاتين المصلحتين الأساسيتين فيه؛ فلا نجد بالتالي في هذين الميدانين غير الفوضى. في حالةٍ مثلى، يتوجب إيجاد الوسائل التي تمكن المجتمع من التفاعل مع إرتدادات متغيرات حركتي العمل والإنتاج، سواءً تلك التي تحدث داخل الجمعيات، أم في المحيط. إذا كانت غايتنا تنظيم الإقتصاد على أساس قومي اجتماعي، فلنا مصلحة أساسية في ترتيب علاقات كل صنف من أصناف الإنتاج والمنتجين، ولا بد لنا من توليد المؤسسات التي تجعل من هذه المصلحة غرضها الأولي.
صحيح أننا قد نجد جمعية أو أكثر عاملةً على مصلحة صنف ما من أصناف الإنتاج. إلا أن الغرض الخصوصي لهاتيك الجمعيات، وغالباً ما يكون الربح، يبقى الغرض الأولي لها، ومقرر كل اعتباراتها. أما المصلحة الاقتصادية العامة لها - أي تأمين سد حاجة الصنف المعني بأقل مجهود وأسرع وأكبر نتيجة ممكنين - فتأتي في المرتبة الثانوية. لقد ميَّز سعاده بين صنفين أساسيين من المصالح، منوهاً بألاَّ يصير خلطٌ بينهما، وهما: المصالح الشكلية الخصوصية، والمصالح العامة المشتركة. والالتباس يحدث بعامل أنه كثيراً ما تكون المصلحة الشخصية هي الدافع للعمل على المصلحة العامة، حيث يجب في الحالة هذه التمييز بين كونها مصلحةً مركّبةً وثانوية بالنّسبة إلى الشّخص المعني، رغم بقائها مصلحةً عامةً وأولية للعموم[68]. وبدهي أن أي تضاربٍ بين المصلحتين، في حالة من هذا النوع، يكون التفوق فيه للمصلحة الخصوصية للشخص المعني على حساب المصلحة العامة.
لذا لا بد من أن تنشئ الدولة لكل صنفٍ من أصنافِ الإنتاج مؤسسةً تضع المصلحة العامة لذاك الصنف فوق المصالح الشخصية للأفراد والفئات العاملة عليه، فتعمل على ضبط الإنتاج والتوفيق بين الطلب والعرض لذاك الصنف؛ عن طريق التوفيق بين مصالح المنتجين مصنعي الصنف، ومصالح مسوِّقيه. والضبط والتوفيق لا يعنيان أن هذه المؤسسات ستقرر عن الأفراد ما عليهم فعله، فهي نادراً ما ستحتم ذلك. لكنها تعمل على إيجاد الأسس التي يتم بموجبها تقييم المنتوجات المختلفة للصنف الواحد، فتمكِّن المؤسسات العامة لتصنيف المنتجين من تقرير شروط منح حقوق استثمار بيعه في الأسواق، وإجازات تصنيعه. مسوقو الصنف يدخلون مباريات الحصول على حقوق توزيع الصنف في الأسواق، عارضين أفضل الشروط التي يقدرون عليها. وكذلك مصنعوه الذين يدخلون مناقصات تصنيعه بأفضل الشروط التي تعني هنا الأقل كلفة وجهد. وتجدر الإشارة إلى أن الفصل بين حق التصنيع وحق التسويق يضع حداً لتصرف الأفراد الرأسماليين بالعمل والإنتاج معاً، ويجعل من مصلحة كل واحدٍ منهم، زيادة الإنتاج إلى الحد الأقصى، حيث تكون في هذا أيضاً مصلحة الأمة والدولة.
وهكذا، بينما يمكّن هذا التنظيم المؤسسة العامة المختصة بصنف الإنتاج المعني من التعامل مع أي زيادة أو نقصان في الصنف المسؤولة عنه، وتوجيه المصنعين والتجار وِفقاً لذلك، تتمكن الدوائر المختصة في الدولة من تعيين أماكن القوة والضعف في أصناف الإنتاج القومي وأجتراح السياسات بناءً على مقتضاها.
وكما حالة الفوضى التي نجد مصالح الإنتاج عليها في المجتمع، كذلك هي حالة المنتجين. ما نجده هو أن كل جمعية تعمل على حدة في تنظيم وتصنيف فريق عملِها هي، وِفق أنواع الجهود التي تحتاجها. وتجري تعديلاتها زيادةً ونقصاناً، وِفاقاً لتبدل هذه الحاجات، في نظامٍ داخليٍ واضحٍ لها. أما على صعيد المجتمع، فعبثاً تحاول أن تجد مثل هذا التنظيم. كل مدرسةٍ، مثلاً، تعرف كم مدرس تحتاج، وكم منهم لتدريس اللغة وكم للرياضيات، وما مؤهلات هذا أو ذاك. وهي تزيد أو تنقص أعدادهم حسب تبدل حاجاتها. وقس على هذا المستشفيات، وشركات البناء، والمصانع وغيرها. أما المجتمع، أو بالأحرى وزارات الدولة، فهي مغيَّبة كلياً عن هذه المعلومات، لا تشعر بمتغيراتها، ولا تتفاعل معها، اللهم إلا عند حدوث شغب واحتجاجات. جل ما تجده أحياناً هو مكاتبٌ لمساعدة العاطلين عن العمل مادياً أو في البحث عن عملٍ آخر لهم، وهذا شيءً مختلف كلياً. لذا لا بد للدولة من أن تقوم بذات الإجراءات التي قامت بها مع أصناف الإنتاج، فتبادر إلى إنشاء مؤسسة عامة لكل صنف من أصناف المنتجين تعمل على تنظيمهم وترتيبهم وإيجاد الأسس الصحيحة لتقسيم العمل على أعضائها.
يميز سعاده بين نوعين من التعاون: بسيط ومركب. البسيط هو ما أشتمل على نوع واحد من الأعمال، والمركب ما اشتمل على نوعين أو أكثر. والتعاون البسيط تنتظم أشكاله في صفوف، أما المركب ففي دوائر. وعلى هذا، يبدأ سياق تنظيم أصناف المنتجين بالتحاق هؤلاء أولاً بصفوف مهنهم وحرفهم، حيث يعمل عندها على إلحاقهم بدوائر العمل التي تحتاج خدماتهم. وبما أن تصنيف المنتجين سيشمل كل أعضاء الدولة الذين بلغوا مرتبة الإستعداد للعمل، في كل بقاع الوطن، فيمكن تقسيم هذه جغرافياً أيضاً لتشكل صفوفاً صغرى ضمن صفوفٍ كبرى. واعتقادي أن هذا يفيد في أن تختص كلٌ منها بالمصالح المحليَّة للمهنة، إضافةً إلى إشتراكها مع باقي مؤسسات مهنتها في المصالح المشتركة للجميع.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه وِفقاً لمبدأ "كل عضو في الدولة يجب أن يكون منتجاً بطريقة من الطرق"[69]، فكل واحد من هؤلاء الأعضاء، يكون في الآن ذاته أيضاً إما ممارساً لعملٍ حرٍ أو ملتحقاً بدائرةٍ ما من دوائر العمل مشاركاً فيها الإنتاج مع آخرين. هذا ويتم نقل الأعضاء من إحدى الدوائر إلى غيرها، إذا ما استغني عن خدماتهم فيها، أو اقتضت مصلحةٌ عُليا بهذا، أو عملاً بمصلحة الشخص المعني. بهذا التنظيم يصبح من السهل تبين أصناف المنتجين التي تعاني من البطالة وأماكنها، كذلك يسهل تعيين الكفاءات النادرة أو المطلوبة وما شاكل.
وكما هي الحال مع الأفراد، كذلك يشمل التصنيف دوائر العمل، حيث بالإمكان تصنيف الجمعيات على اختلاف أنواعها، من شراكات ومنظمات وما شاكل، وفاقاً لنوع العمل الذي تزاوله. ولكن لا بد لنا من تقسيمها إلى قسمين أساسيّيَن: سلبي وإيجابي. فالأصناف السلبية هي التي تعنى بتوزيع وتسويق الإنتاج، كالشركات التجارية والخدماتية. أما الأصناف الإيجابية فهي التي تعنى بتحقيق الإنتاج كالشركات الزراعية والصناعية. ويمكننا إضافة قسم ثالث ويشمل الجمعيات التي تشترك مع جمعيات أخرى لإنشاء جمعية كبرى، أي دوائر عمل صغرى تنتظم في دائرة عمل كبرى، قادرة على تنفيذ المشاريع الضخمة، كبناء المجمعات السكنية، واستخراج الطاقة، وبناء السفن، وغيرها. وقد تشمل الجمعيات الكبرى هذه جمعيات من القسمين، السلبي والإيجابي، أو تقتصر على واحدة منها.
نصل هنا إلى ختام بحثنا في نظام سعاده لتعاون العمل، والذي يُعنى بتنظيم حركة الدورة المادية في التفاعل الاقتصادي، أو ما يسمى بالاقتصاد الجزئي (microeconomics) في علم الاقتصاد. وهذا يعني بالضرورة أنه نظام شكل، فالمادة كما يقول سعاده تعيّن الشكل[70]. وآمل أن أكون قد وُفِقت في نقل صورة صادقة وواضحة عنه، فيوافق القارئ معي على بهاء هيئة هذا النظام الذي يقدمه سعاده للإنسانية جمعاء، لمجتمعاتها الراقية، وليس فقط للمجتمع السوري. نظامٌ يرفع البشرية كلها إلى درجة أعلى من الرقي الاجتماعي، حيث تنتظم فيه المصالح وتجتمع على اتجاه واحد هو المصلحة العامة المشتركة. وبأية حال، عسى أن تكون هذه المحاولةُ، فاتحةَ نقاشٍ وتفاعلٍ فكري في هذا النظام.
وسوف نبحث نظام حركة الدورة الروحية في التفاعل الاقتصادي، والذي يعيِّن مدى زخم واتجاه حركة الاقتصاد، في القسم التالي حيث نتناول فيه بند "إنصاف العمل". وهناك ستكون مناسبةً لنا لبحث نظرة سعاده إلى الرسمال القومي، ولموقف النهضة السورية القومية الاجتماعية الواجب اتخاذه من الرأسمالية العالمية الحديثة ومخاطرها التي تهدد وجودنا.
في القسم الثاني من هذا البحث تحدثنا عن حق العمل، وذكرنا أنه ليس حق حصول العمال على وظيفة. بل إن هذا، بعرف سعاده، لا يكون إلا حقاً وهمياً إن لم يكن قد حصلنا قبله على حق العمل. فللعمل مطالبٌ في موارد الأمة وثرواتها لا يجري بدونها، ولا بد لنا من الاستجابة لها وتقديم ما تقتضيه. المصلحة من العمل هي مصلحة قومية عامة. يقول سعاده إنه "ما من عمل أو إنتاج في المجتمع إلا وهو عمل أو إنتاج مشترك أو تعاوني". وبالتالي فإن "ثروة الأمة العامة يجب أن تخضع لمصلحة الأمة العامة وضبط الدولة القومية"[71]. وعلى أساس هذا المبدأ الفلسفي المطلق بُني بند إنصاف العمل، أي إيفاؤه ما أُجحِف من حقوقه.
ولعل أول ما يتبادر إلى ذهننا هنا هو الأرض ومواردها الطبيعية، والتي يبقى تسخيرها للمصلحة العامة أمراً مفروغاً منه لا جدال فيه. بل إن بند إلغاء الإقطاع في المبدأ الإصلاحي الرابع، مشتقٌ أيضاً من مبدأ وجوب إخضاع ثروة الأمة العامة لمصلحة الأمة العامة. ونحن وإن كنا قد أسقطنا من بحثنا شرح هذا البند فليس لقلة أهميته، بل لوضوح شرح سعاده له. ففي محاضرته تلك، يقول سعاده إن الحزب لا يمكن أن يسكت عن حالة تكون فيها مساحات شاسعة من الأرض بعهدة "بكوات" إقطاعيين يتصرفون بها أو يهملونها كما شاؤوا؛ فحالة كهذه لها أبعادٌ ليست فقط اقتصادية عامة، إذ تُحال حياة ألوف من الفلاحين إلى عيشة زرية في حالة من الرق يرثى لها، بل أيضاً في أنها تهدد السيادة القومية. أما في مقالة "البترول سلاح أنترنسيوني" فنجد أن ضبط استخدام موارد الأمة ليس فقط لأجل صيانة مصالحها الاقتصادية، بل لأن هذه الموارد كثيراً ما تُرقَّى لتكون سلاحاً هاماً في معترك الأمم، إن لم نحسن استخدامه فلا أمل لنا في أن نربح ""الجولات المقبلة في حرب الموت والحياة مع الغزاة الصهيونيين".
لكن أقوى هذه الموارد والثروات على الإطلاق، بل الأقوى منها كلها مجتمعة، هو الرأسمال المعبَّر عنه بالكتلة النقدية المتداولة في المجتمع. والسبب في هذا هو القوة الشرائية للعملة! هذا التعبير الذي كثيراً ما نسمعه ونردده، لكن قلما نفكر في حقيقة ما يعني رغم أنه يشير إلى قوة عظيمة تجعلنا _ لأجل الحصول عليها _ نُسقط طوعاً حقنا في ما نملك، ونلتزم القيام بواجب لا مصلحةً لنا فيه! أما حاجة العمل لهذه القوة – القوة الشرائية، فهي مطلقةٌ شاملة لكل نوع من أنواعه لا يجري بدونها؛ قل هي الروح المفعّلة لحركة كل عمل اجتماعي. وإذا كان حق العمل يعني حقه في تأمين مطالبه من الموارد وتسخيرها له، فأول ما يعنيه هذا الحق هو تسخير الرأسمال لخدمة مطالبه.
ما يعرفه جيداً خبراء المال بل ورجال الإدارة عموماً أنهم يحتاجون السيولة النقدية لمؤسساتهم الاقتصادية مثل حاجتهم للرأسمال لشراء الآلات والمعدات الثقيلة والعقارات وما شاكل. بل إن حاجتهم للسيولة أشد، لأنها الوقود المحرك لكل نشاط من أنشطة العمل كبيراً كان أم صغيراً. فهم يحتاجونها دوماً، وعلى نحوٍ متواترٍ لا ينفك، لشراء المواد الخام ودفع رواتب الموظفين والإنفاق على الخدمات، وتمويل البيع بالدين، وإلى ما هنالك. زد على هذا، أنه حتى المهمات والمأموريات البسيطة لا يمكن تنفيذها بدون المال، حيث يخصص لهذا الغرض ما يسمى بصندوق النثرية (petty cash). أما تسمية الجزء من الرأسمال الذي يُرصد لتمويل أعمال المؤسسة بالرأسمال العامل (working capital)، فليس إلا الدلالة لنا على العلاقة الوثيقة والحيوية بين العمل والرأسمال.
فإذا كانت حاجة كل جمعية إلى الرأسمال أساسية، فبدهي أن تكون حاجة حركة العمل في كل المجتمع للرأسمال حاجة عامة وأساسية أيضاً. مع هذا، فإننا نجد هذا المورد الرئيسي والهام، والمُقدَّر له أن يزداد نمواً وسيطرة، بعهدة أفراد رأسماليين يتصرفون به وفقاً لرغباتهم ومصالحهم الفردية، وبصرف النظر عن مصلحة الأمة والدولة. فإذا كان الحزب لا يمكنه السكوت على الحالة الإقطاعية التي تسمح للأفراد بإساءة استخدام مساحات شاسعة من الأرض، فهو أيضاً لا يمكنه السكوت على حالة مثيلةٍ لها في التصرف بالرأسمال. يقول سعاده إن "الرسمال الذي هو ضمان استمرار الإنتاج وزيادته هو، بالتالي، وبما أنه حاصل الإنتاج، ملك قومي عام مبدئياً وإن كان الأفراد يقومون على تصريف شؤونه بصفة مؤتمنين عليه وعلى تسخيره للإنتاج"[72].
لكن هذا القول يجب ألاّ يحملنا على إعطائه تفسيرات غريبة عن نظام فكرنا ونهجنا. فللرأسمال خصوصية تفرض علينا أن نحتاط لها فلا نعالج الاستبداد به مثلما نعالج الاستبداد الإقطاعي، ونعمل على إلغائه. يقول سعاده إنه " لا يمكن أن نعني إلغاء الرسمال بالمرة"، وإن " الأمة الناهضة لا يمكن أن تفكر أبداً بمسألة جنونية كإلغاء الرسمال مثلاً "[73]. لذا نجد سعاده قد حرص على شرح معنى قوله فوق شرحاً وافياً ودقيقاً إذ تابع قائلاً بأننا " لا نرمي إلى إبادة الملكية الشخصية كملكية عملية ولا إلى أخذ الرسمال من أيدي الأفراد رأساً ونزع حق التصرف من أيديهم، ولكن يعني أن الأفراد الذين يتصرفون الآن بالرسمال تصرفاً فردياً يتصرفون به تحت إشراف الدولة لضبطه وتوفيقه لأنهم مبدئياً مؤتمنون عليه ائتماناً من قبل المجتمع يبقي لهم قوة الاستنباط والتفنن لإنتاج ما يشعرون بأنفسهم الكفاية لإنتاجه، ويتصرفون بحرية ضمن شروط تضعها الدولة. ولكن يكون من حق الدولة أن تنظم للأفراد وتحدد لهم وتسن القوانين اللازمة لضبط الإنتاج وتقسيم العمل وتوزيع الإنتاج الحاصل من العمل" [74].
ورغم هذا التحديد الواضح لدور الأفراد ولدور الدولة في التصرف بالرأسمال، فقد كان غريباً جداً أن نجد القيادات الحزبية في زمن الإنحراف العقائدي خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، قد حوَّرت هذا المعنى وحولته إلى فكرة غريبة بالمرة عن عقيدتنا ومبادئها الفلسفية. لا، ليس صحيحاً قول رئيس الحزب آنذاك، الأمين إنعام رعد، أن سعاده، واستناداً إلى ما اقتبسناه عنه فوق، كان يدعو إلى إلغاء الملكيات الفردية التي يزيد حجمها على حجم دكاكين الحِرَف والمؤسسات الصغيرة، والتي يتعدى ربحها نسبة الربح الفردي، أو أنه كان يدعو إلى إلغاء حق الوراثة [75]، وأنه وإن أجاز للأفراد التصرف بالرأسمال في مرحلة ما، فهذا لا يُعَدُّ إلا "استثناءٌ للقاعدة يمكن إلغاؤه في أية لحظة"[76]!
فها هو سعاده في مقالته "قضية حصر الثروة"، يدعو متمولي الأمة وأغنياءها إلى " أن يقلعوا عن حصر ثروتهم في الصناديق الحديدية، وليخرجوها إلى نور الشمس لتشغيلها واستثمارها بواسطة إنشاء مصرف تعاوني Cooperative برسمال قومي، وإنشاء مؤسسات إقتصادية قومية منظمة ترفع زراعة البلاد وتجارتها وصناعتها، وتعود أيضاً على أصحاب هذه المؤسسات بالفائدة الكبرى والربح الطائل". كذلك هو يدعو المصارف الوطنية، وقد كانت صغيرة وضعيفة، كي " تتحد لتأسيس مصرف سوري كبير كمصرف "بنك مصر" مثلاً، [فتكون] الفائدة التي تجنيها البلاد في شتى نواحي إقتصادياتها، فائدة كبيرة تعود على إبنائها بالرخاء والانتعاش" [77].
جُلَّ ما تحققه مثل هذه الدعوات التي كان يقول بها الأمين رعد ومَن وافقه، لو قدّر لها أن تُطبَّق، هو أنها تؤدي إلى هروب الرأسمال إلى خارج الدولة وإبادته! أجل إبادته، لأن التهريب لن يشمل فقط ثروة الرأسمال التي تكون موجودة حين استلام الحزب للسلطة، بل أيضاً كل حفنة رأسمال يمكن لها أن تتكون لاحقاً. عملٌ كهذا يكون بلا شك مناقضاً لفكر سعاده، وينطبق عليه القول الذي ذكرناه فوق بأنه عملٌ جنوني.
إذن هناك تحديد واضح وحاسم للأدوار التي سوف يقوم بها كل طرفٍ من الطرفين. الدولة سوف تمنع الاستبداد بالرسمال من قبل فرد ضد مصلحة المجموع، ليس بمصادرته بل بتنظيمه وضبطه. وأول خاصة من خصائص التنظيم هي تعيين اتجاهه وغايته. لكنها لن تصادر حق التصرف بالرأسمال الذي يبقى من حق الأفراد حيث أنهم مَنْ سيتصرف به "بحرية، (لكن) ضمن شروط تضعها الدولة". وهكذا لن يُباد الرأسمال وإنما يتحول من حالة إلى حالة.
أما قول سعاده بأننا لا نرمي إلى " أخذ الرسمال من أيدي الأفراد رأسًا"، فيشير إلى أن هناك طرقاً مداورة لأخذ الرأسمال من الأفراد غير تلك التي تأخذه منهم رأساً أو مباشرةً. وهذا ما سنبحثه في الفقرة التالية.
تجدر الإشارة إلى أن الفكرة الجوهرية لمقالة سعاده "حصر الثروة" التي ذكرناها فوق، هي معالجة الإجحاف الذي يلحق بحق العمل عندما يقفل الناس على أموالهم داخل صناديقهم الخاصة عوضاً عن دفعها إلى عجلة العمل والإنتاج، وبدلاً من أن ينشئوا المؤسسات الاقتصادية القومية التي تعود عليهم وعلى الأمة بالخير. وبدهي أن قدرة الأموال على إطلاق المشاريع ليست قوة كامنة في ذاتها، فهي من هذه الوجهة ليست إلا أوراقاً، أو بالأحرى قيديات في سجلات المصارف. أما القوة الفعلية فهي في ما يملكه المجتمع من ثروة قومية (National Wealth) [أنظر الشرح في 78]. رغم هذا تبقى العلاقة وثيقة جداً بين كمية الكتلة النقدية المتداولة وبين الثروة القومية. ويمكننا بشكلٍ عام القول، بأنه لا بد من إبقاء النسبة بين الاثنتين ثابتة للمحافظة على مستوى الأسعار، وعلى زخم حركة العمل والإنتاج. فزيادة نسبة كمية الأوراق النقدية مثلاً، ستؤدَّي إلى تضخم الأسعار. بينما يؤدي إنقاصها، كما يحدث إن تعوَّد الناس على حصر ثرواتهم في الصناديق، إلى ركود اقتصادي وخفض في الإنتاج نتيجة التشنجات التي تحدث، فتجحف العمل حقه في الحصول على الرأسمال، وتتعطل حركته.
والحقيقة أن زيادة أو إنقاص كمية النقد المتداولة في المجتمع ليست العامل الوحيد في إنقاص النسبة بينها وبين الثروة القومية، إذ أن هذه الأخيرة قابلة أيضاً للتغيُّر. فالحروب والكوارث الطبيعية مثلاً تؤدي إلى دمار أو إنقاص الثروة، مما يزيد من نسبة الأوراق النقدية المتداولة، فتفقد هذه من قوتها الشرائية وينجم عنها تباعاً ظواهر التضخم المالي عينها. أما في حالات السلم والازدهار الاقتصادي فتجنح الثروة القومية إلى النمو بعامل ما تحققه المؤسسات الاقتصادية من أرباح أو ما يوفره الأفراد من مداخيلهم. لذلك في مثل هذه الحالات لا بد للدولة، وتحديداً المصرف المركزي فيها، من زيادة كمية النقد المتداولة للحفاظ على ثبات الأسعار. ولقد بقيت هذه الخاصة مجهولة على الحكومات حتى النصف الثاني من ثلاثينات القرن الماضي، حين قدم العالِم البريطاني الاقتصادي جون كينز[79] نظريته الاقتصادية، مشيراً على الحكومتين البريطانية والأميركية بزيادة السيولة في عجلة اقتصاد بلادهما. ولن ندخل هنا في مناقشة أو تقييم نظرية كينز، فنبتعد عن مسار بحثنا. يكفينا القول إن مشورته أنقذت الوضع الاقتصادي المنهار في بلاده وفي الولايات المتحدة. قبل ذلك، كثيراً ما كان جهل حاجة الاقتصاد إلى زيادة كمية الأوراق النقدية يؤدي إلى تشنجات خطيرة في حركة الاقتصاد مثلما حدث في حالة الكساد الاقتصادي الكبير عام 1930، والذي يُعد أسوأ تراجع اقتصادي في تاريخ العالم الصناعي.
في كتاب “نشوء الأمم”، وفي معرض بحثه في الثقافة التجارية، يذكر سعاده أن إتجار الفينيقيين مع الأمم وتموينها بما تحتاج إليه كان يعطي الرسمال "ربحاً ينمي الثروة القومية"[80]. وهذه اللفتة هامة جداً لأن نوع هذا الربح - ولنسمِه الربح القومي - هو غير نوع الأرباح الأخرى التي يحققها الأفراد في تجاراتهم الداخلية. والسبب هو أن الربح القومي هذا هو قيمة عينيَّة تتمثل في تفوُّق قيمة البضائع المستوردة على قيمة البضائع المصدَّرة، دون أن يكون هناك أي كمية من نقد العملة المحلية تغطي الفارق بين القيمتين. إنها أشبه ما تكون بثروة قومية قد أقفل أصحابها على أوراق النقد التي تمثِّلها في صناديقهم الحديدية؛ بل حتى كأنهم قد أحرقوا هذه الأوراق. وبناءً على ما بحثناه فوق، فإن هذا، إذا حدث اليوم، سيؤدي إلى إجحافٍ بحق العمل، يقتضي لإنصافه زيادة كمية النقد المتداولة بما يناسب قيمة الربح! وبدهي أن هذه الزيادة هي زيادة حقيقية في الرسمال، وسوف تشكِّل بحبوبةً يشعر بها كل أبناء المجتمع؛ وليس فقط من اشترك منهم في التجارة الخارجية، والذين تبقى أرباحهم الفردية التي حققوها شيئاً مستقلاً عن الربح القومي.
لكن هذا كان يمكن أن يحدث اليوم فعلاً، لولا النظام الاقتصادي السيِّئ. فمن الوجهة المبدأية، لا بد لكل دولة من معادلة ميزانها التجاري مع الدول الأخرى. وهذا يعني أن ما تحصَّله دولة ما من عملة أجنبية لقاء ما تصدَّره من بضائع لا بد لها من إعادة رد تلك العملة إلى دولها المعنية باستيراد بضائعٍ منها بما يوازي قيمة العملة التي جنتها منها. فالربح القومي ليس كربح الأفراد، يحدث بأن يحصَّل بلدٌ ما من الدولارات مثلاً أكثر مما ينفق. لا، بل يحدث في أن تتفوق قيمة البضائع التي يستوردها على قيمة البضائع التي يصدَّرها، رغم أن قيمة الدولارات التي صدَّر واستورد بها هي واحدة. نظرياً إذاً، كل ربح قومي ناتج عن التجارة الخارجية هو عامل منمِّي للثروة القومية تقتضي حكمة إنصاف العمل إضافة كمية مناسبة إلى النقد المتداول، أي زيادة الرسمال وتنميته! لكن ما يعكِّر صفو تحقق هذه الوجهة المبدأية، على فرض أن الأمور الأخرى تبقى متساوية، هو ما كنا ذكرناه في القسم الثاني، أن البضائع المستوردة كثيراً ما تؤدي إلى زيادة في البطالة إذ تحل مكان اليد العاملة المحلية. في حالة من هذا النوع لا يعود الربح القومي عاملاً على إنماء الثروة القومية، لكن جُلَّ ما يساهم به هو تعويض النقص في الإنتاج جرَّاء إزدياد معدلات البطالة.
أما في حالة تمكَّن النظامُ الاقتصادي من حل مشكلة البطالة، وتحقيق العمالة التامة، فسوف يكون الربح القومي الناتج عن التجارة الخارجية، آنئذٍ، عاملاً منمِّياً للثروة القومية، تقتضي مصلحة إنصاف العمل بموجبه زيادة الرسمال القومي بكمية من النقد مناسبة لقيمة النمو في الثروة. بل حتى أن هذه الخطوة تكون فرضَ واجبٍ لا بد منه، لأن السيولة النقدية المتداولة لا تعود كافيةً لتصريف كل الإنتاج، وتفعيل كل حركة العمل؛ وبالتالي في هذه الحالة، لا يعود النظام الاقتصادي قادراً على تحقيق العمالة التامة. ومن هنا نفهم العلاقة الوثيقة بين بند “تنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج"، والقائل بأن " كل عضو في الدولة يجب أن يكون منتجاً بطريقة من الطرق"، وبين بند "إنصاف العمل". فبدون هذا لا يستوي ذاك، وبدون ذاك لا حاجة لنا لهذا.
بنمو الثروة القومية إذن، سواءً كان بعامل التجارة الخارجية أم بالعوامل الداخلية الأخرى، ينمو أيضاً الرسمال القومي على نحوٍ مستقلٍ عن نمو الرسمال الفردي، ومرافقٍ له. وبدهي أن هذا الرسمال هو من حق العمل حصراً. حتى الدولة لا يجوز لها أن تصرفه على شؤونها الخاصة أو تستهلكه، كما قال كينز مثلاً. كلما ارتقى التفاعل، ازداد العمل المداور، وازدادت الحاجة إلى الرسمال، حيث من الهام أن يكون مكونه الأساسي رأسمالاً قومياً لا فردياً. هذا رغم أنه من الوجهة العملية يكون هذا الرأسمال بعهدة "أفراد يقومون على تصريف شؤونه بصفة مؤتمنين عليه وعلى تسخيره للإنتاج"، لقاء فائدة يدفعونها للمصارف التي استدانوها منها.
تجدر الإشارة إلى أن السبب الذي دفع سعاده لوضع هذا البند الإصلاحي لم يكن لأجل معالجة معاناةٍ كان آنئذٍ يعانيها أي من اقتصادات الدول السورية. بل كان استشرافاً لما سيحدث في المجتمع السوري في المستقبل، وعلى ضوء درسه لمعاناة المجتمعات الصناعية من هذه المشكلة آنذاك. فها هو، في محاضرته الثامنة، يقول صراحة بأننا " نتكلَّم عن حق العمل وكثير من العمال. ونحن لم ندخل الطور الرسمالي الصحيح والصناعات الكبرى. إن أساس الاقتصاد لا يزال ضمن الحالة الزراعية". و"إن سورية لم تحول حتى الآن إلى بلاد صناعية يتركز فيها رسمال ضخم ويزداد تضخمه مع الوقت" . فإذا كان هذا هو الحال في العام 1948 زمن إلقاء المحاضرة، فكيف بالحري كان الوضع في العام 1932 أي زمن وضعه للمبدأ الإصلاحي، عندما كانت البلاد كلها ما زالت إما تحت الإنتداب الفرنسي أو الإنتداب البريطاني.
أجل، لقد نما الرأسمال القومي في معظم دول الأمة نمواً كبيراً منذ ذلك الوقت، ومع هذا لم تتقدم حال المواطنين فيها كثيراً. بل على العكس من ذلك، إذ أننا ما زلنا نشهد في بقاع كثيرة منها حالات مزرية من شظف العيش والجهل وسوء الرعاية الصحية والبؤس. وإذا كانت الحروب والاستعمار وسوء النظم السياسية هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن هذا الويل، فسوء النظام المصرفي لا يقل سوءاً عنها، بل هو وسيلتها في التهام خيرات الشعب ونهب ثرواته. وللأسف، وكما توقع سعاده وحذّر، لقد نما الرأسمال على النحو الذي تابع فيه تواطؤه مع الرأسمال الأجنبي[81]. أما في النظام المصرفي بمعظم دول الأمة، فقد تابعت المصارف المحلية تطورها على النحو الذي لم تكن فيه سوى واجهة للمصارف الأجنبية[82]. ولا شك أن المصارف المحلية والأجنبية، بعد كل هذه العقود الطويلة من التمرس على اللصوصية، قد استفحل شأنها فطورت شتى الأساليب والوسائل لتموِّه بها ممارساتها وتحمي نفسها. مع ذلك، تبقى وسيلتها الأساسية واحدة، ألا وهي قوة خلق العملة. ورغم أنه لا سلطة شرعية لها بذلك، وأن مالكي هذه المصارف هم بضعة أفرادٍ فقط، إلا أنه بالتلاعب على القانون والمواربة به، تصبح هذه المصارف مثل الدولة قادرةً على إصدار العملة. بل إن ما تصدره هذه يساوي أضعاف ما تصدره الدولة، لكن دون حسيب أو رقيب، أو بالأحرى تحت أعين المصرف المركزي. وهذا يعني أن جزءاً كبيراً من الرأسمال القومي الذي يظهر في سجلات المصارف، على أنه دين للمصارف على المؤسسات والأفراد، هو ليس ملكاً لها، ولا هي قد إئتمنت عليه، ولا بد من استرجاعه وإخضاعه لضبط الدولة.
ولن ندخل هنا في شرح تفاصيل لعبة التزوير هذه والتي تمارسها المصارف لخلق العملة، فهي بأية حال أضحت معروفة لأصحاب الاختصاص وطلبة علم الاقتصاد والمال. يكفي أن نذكر أن ما يسمى بالإحتياطي الإلزامي الذي يفرضه القانون على المصارف ويلزمها بموجبه إيداع نسبة مئوية من التزاماتها لدى المصرف المركزي (في لبنان 13%)، ليس إلا لذر الرماد في العيون، إذ أنه لا يلغي الطبيعة اللصوصية لهذه اللعبة، ولا يعيق أو يحد من قدرة المصارف على ممارستها، ولا يحمي المجتمع من تبعاتها السلبية. ولقد حدا هذا الأمر العديد من الدول إلى إلغائه بالمرة مثل كندا التي كانت السباقة باتخاذ هذه الخطوة، ثم تبعتها دول أخرى مثل سويسرا ونيوزيلندا وبلجيكا وأستراليا والسويد والدنمارك وبريطانيا والمكسيك. أما في الاتحاد الأوروبي فهي 2% للعقود الإئتمانية التي يقل أمدها عن سنتين وصفر لما يزيد عن ذلك[83].
لذلك ليس غريباً في نظام مصرفي سيِّء أن نجد الرأسمالي صاحب المصرف، وقد فاقت قوته أضعاف أضعاف قوة الرأسمالي صاحب المصنع. وأصبحت حرية الثاني في التصرف بالعمل والإنتاج رهن مشيئة الأول. والأرجح أنه في النظام المصرفي السيء سرعان ما يقع كلا الصنفين من الرأسماليين ومعهما الرأسمال القومي كله فريسة الرأسمال الأجنبي. فمثلما أدى اتباع الإنسان لنظام اقتصادي سيء بعد الثورة الصناعية إلى إبادة النظام الاقطاعي وإقامة نظام طبقي جديد مكانه يتبوأه الرأسماليون التقليديون، أي أرباب الجمعيات الصناعية والتجارية، كذلك نجد أن مجتمعات الدول التي تتبع نظاماً مصرفياً سيئاً، خصوصاً بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، قد أفرزت طبقة جديدة من الرأسماليين المصرفيين فوق كل طبقات المجتمع الأخرى وتسلطت عليها جميعاً بما فيها طبقة الرأسماليين الصناعيين التقليديين أنفسهم. وفي أغلب الحالات، يفقد هذا الصنف من الرأسماليين أي شأن يذكر في الاقتصاد والسياسة، إذ تصبح مقدرات الدولة كلها بعهدة طبقة الرأسماليين المصرفيين، التي كثيراً ما تكون متحالفة مع الرأسمال الأجنبي، بل حتى صنيعته.
ولعل الصراع الذي دار بين الرأسمالي الصناعي هنري فورد، وهو صاحب مصنع السيارات المعروفة باسمه، واليهود، هو أبهى مثالٍ للصراع الخفي الذي دار بين طبقتي الرأسمالية: الرأسمالية الصناعية والرأسمالية المصرفية. هذا المهندس الفذ أحدث ثورة في صناعة السيارات، ليس فقط في ناحية التقدم التكنولوجي، بل أيضاً في تطوير نظام التشغيل والعمل على نحو أصبح بمقدور عامة الناس شراؤها. مع ذلك وجد نفسه في صراعٍ مريرٍ وعلى مدى عشر سنوات مع اليهود، وهم أصحاب المصارف في "وول ستريت" حيث عمل بلا هوادة لفضح أفعالهم، وأفعال المصرف الاحتياطي المركزي الأميركي (Federal Reserve Bank)، وهو ليس إلا مؤسسة خاصة بهم، لا حكومية كما يوحي أسمه ويعتقد معظم الناس. ويذهب عالم الاقتصاد الروسي كاتاسونوف إلى القول إنه ينصح من يريد معرفة ما هو الاقتصاد الرأسمالي بقراءة هنري فورد بدل أن يقرأ كارل ماركس[84].
بناءً على ما تقدم، يصبح من الهام جداً عند بحثنا موضوع إنصاف العمل أن نميِّز بين الإجحاف الحاصل جرَّاء النظام المصرفي السيء، وذاك الحاصل بعامل تفاعل الإنتاج القومي مع إنتاجات الأمم الأخرى، وبصرف النظر عن النظام المصرفي المتبَّع. وغني عن القول أنه لا بد لنا من التصدي لكليهما، حتى لا يكون جُلَّ ما نفعله هو إلغاء أحدهما لقاء تثبيت الآخر.
ولن يسعنا هنا الحديث عن الرأسمالية المصرفية، لا المحلية ولا العالمية. فلهذه شؤون وشجون تعود رحلة سيطرتها على أوروبا أولاً ثم أميركا ثم العالم بأسره، قروناً عديدة إلى الوراء، والحديث عن قصتها تطول! لذا سنكتفي بما قدَّمناه هنا، ونبقى ضمن النطاق الذي حددناه لهذه الدراسة، ألا وهو شرح المبدأ الإصلاحي الرابع، على أمل أن نعود إلى ذلك الموضوع في المستقبل.
نصل هنا إلى القسم الخامس والأخير من الدراسة، ونشرح فيه البند القائل بصيانة مصلحة الأمة والدولة. ونبيّن ما نعنيه بتحقيق العدل الاقتصادي الحقوقي والعدل الاجتماعي الحقوقي، اللذين يقول سعاده بأنهما أمران ضروريان لفلاح النهضة السورية القومية الاجتماعية. فبعرفه، وكما أن الوحدة القومية لا يمكن أن تحصل ضمن نظام اقتصادي سيِّئ، كذلك هي لا يمكن أن تحصل ضمن نظام اجتماعي سيِّئ[85]. البنود الثلاثة الأولى من المبدأ الإصلاحي الرابع أرست القواعد الأساسية لإقامة العدل الاقتصادي الحقوقي، بإخضاعها ثروات الأمة العامة لمصلحة الأمة العامة، وبتنظيمها الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج، حيث يكون كل أبناءِ الأمة شركاءً فيه. أما الآن، فسوف نبحث في كيفية إقامة العدل الاقتصادي والعدل الاجتماعي من الوجهة الحقوقية، في نظام سعاده.
مرّ معنا في الأقسام السابقة عددٌ من الخطوات التي يحققها نظامنا في سبيل إقامة العدل الاقتصادي الحقوقي، نذكر منها على وجه الخصوص: إلغاءَ الإقطاع، وكفَّ يد الرأسماليين المصرفيين عن التلاعب بالنظام النقدي والتحايل لإصدار النقد، ووضعَ حد للتصرف الفردي المطلق في العمل والإنتاج معاً. كذلك تبيَّن معنا أنه في هذا النظام، سوف يرتقي مستوى الحياة بالإجمال في المجتمع، بعامل تفعيل حركة الاقتصاد بإنصاف العمل، والتخلص من البطالة، وبإنشاء الهيئات والمؤسسات المعبِّرة عن مصالح مختلَف أصناف الإنتاج وأصناف المنتجين.
لكننا لم ندقق بعد في الطريقة التي سوف تُتَبع لتحصيص الثروة الناتجة عن العمل على الأفراد. صحيح أننا كنا قد ذكرنا في القسم الثالث أن التصنيف الفني سوف يرتِّب السلع ذات الصنف الواحد بحسب جودتها ومواصفاتها، ويسمح بالتالي بتمييز قيمها وِفاقاً. لكنَّ هذا يفيدنا في الطريقة التي سيُعَيَّن فيها المدخول الإجمالي لكلُ دائرةٍ من دوائر العمل، لا إلى مداخيل الأفراد الذين اشتركوا في تحقيق الإنتاج فيها. كذلك لم ندقق في ما ذكرناه في القسم الرابع عن الطريقة التي يرمي إليها سعاده لتنظيم وضبط الرأسمال الفردي؛ وما هي تلك الحالة التي يريد نقلَ الرأسمالِ إليها من حالته الحاضرة، حيث يُعطى اتجاهاً جديداً يحرر الناس في نفوسها، إضافة إلى تأمين مقومات حياتهم المادية، كما يقول. ورغم أن ما وصلنا من سعاده عن هذه المسائل بالإجمال، قليلٌ جداً أو حتى معدومٌ بالمرة، إلا أنه لن يُستعصى علينا الاستدلال عليها بالاستناد إلى قواعد نظام فكرنا ونهجنا.
بدايةً، تجدر الإشارة إلى أن الدولة هي شريك فعلي في الإنتاج؛ إنتاج كل دائرة من دوائر العمل. هي تقيم العلاقات الدولية، وتسعى لعقد الاتفاقات الإنترناسيونية، وتعمل على حماية الرأسمال القومي، وغير ذلك من الأعمال في سبيل تسهيل حركة العمل وتصريف الإنتاج. وكل هذا ينطوي على جهدٍ ونفقات تتطلّب تغطيتها، مما يمثل حقاً للدولة على الإنتاج القومي يخوِّلها اقتطاع حصتها منه عند التوزيع. إضافةً إلى ذلك، فللدولة مطالب محددة في أصنافٍ معينةٍ من الإنتاج، تطلبها تأميناً لتحقيق مصالح عامة عديدة، كمصالح السيادة والأمن القوميين، والصحة العامة، وحماية البيئة والعديد غيرها مما لا مجال لتعداده هنا. وهذا يخولها أيضاً حق توجيه هذه الأصناف من الإنتاج توجيها مباشراً إلى حيث ترى ذلك واجباً.
فوق ذلك كله، بل وقبل أي أمرٍ آخر، الدولة القومية هي الإرادة المعبرة عن مصلحة الأمة. لذا فهي معنيةٌ أولاً بسن القوانين التي تُوَجَّه بها حركة الاقتصاد نحو المصالح العامة للأمة على نحو لا تبرح عنها. أما مصلحة الأمة الأساسية في الإنتاج فهي أن يحافظ نظام توزيع الإنتاج على وِحدة المجتمع. إن إساءة التوزيع لا تؤدي فقط إلى معاناة الأفراد مادياً ونفسياً، بل تهدّد أيضاً وحدة جسم الأمة بنشوء الطبقات فيه. ولذلك فمطلبنا ألا يكون "أناس في السماء وأناس في الجحيم"[86]، ليس مطلباً رومانسياً، أو دعوة سياسية في موسمٍ انتخابي، وإنما مصلحة أساسية من مصالح الأمة، ألا وهي وحدة المجتمع، والتي هي كذلك المبدأ السادس من مبادئ الحزب الأساسية.
يقول سعاده إن "النظام الاقتصادي السيئ الذي يجعل مئات وألوفاً من الفلاحين في حالة من شظف العيش، في حالة من الجهل، في حالة من المرض والبؤس، لا يمكِّن لدولة عصرية من تثبيت نفسها في تنازع البقاء". ثم يسهب شارحاً ما يعنيه: " إذا احتاجت الدولة إلى هؤلاء الألوف في حالة حرب مثلاً، وجدت أنها لا يمكنها أن تستند إليهم في الحرب، فكيف تستند إلى رجل خمدت في نفسه عوامل الحياة وشوهته الأمراض وأقعده الذل ليكون بطلاً يحارب بكل قلبه وكل نفسه من أجل وطنه وأمته اللذين يجد فيهما تحقيقاً للحياة المثلى التي يريد ويطمئن أن يحياها"[87].
لكن وحدة المجتمع تحتاج إلى أكثر من عدالة التوزيع في الإنتاج. فارتقاء مستوى المعيشة المادية للناس يجب أن يرافقه تحرير النفوس أيضاً كي تتمكن من طلب الحياة الكريمة الراقية بكل ما فيها من حق وخير وجمال. وهنا نصل إلى بيت القصيد في ما يعنيه سعاده بالعدل الاجتماعي الحقوقي. فنحن لو نظرنا إلى ظروف تشغيل الناس وتوظيفهم، ليس فقط في مجتمعات الدول السورية، بل في عموم المجتمعات الرأسمالية التي تعم العالم، نجد أن الرأسمالي في أي شركة أو مصنع أو مؤسسة وما شاكلها من الجمعيات، قد أمسك بزمام كل أمور الجمعية التي يمتلكها واستبد بها. فهو القوة السائدة فيها، والقصد هو قصده، وتصريف شؤونها ومصيرها منوطٌ حصراً به أو بمن يخولهم النيابة عنه. أما باقي العمال والموظفين فليس لهم سوى الطاعة، ونادراً ما يكون لهم شأنٌ يُذكر في القضايا المصيرية والقرارت الاستراتيجية للمنظمات التي يعملون فيها. مثال على ذلك ما نشاهده مراراً وتكراراً في النظم الرأسمالية، إذ يبيع مالكو شركةٌ ما كل أسهمهم لصالح شركة أخرى، غير آبهين بتبعات عملهم على حياة ومصير الموظفين فيها. ولا شك في أن عملاً كهذا يُفقد العديدُ من الموظفين وظائفهم دون أن يكون لهم فيه حول ولا قوة،ـ بينما يُصاب الباقون بصدمات ثقافية جرَّاء الأهداف ونظام العمل والسياسات التي استحدثتها الشركة الجديدة فور أن قبضت فجأةً على مقدرات الأمور.
في معرض حديثنا عن تحديد سعاده لدور كل من الأفراد والدولة في التصرف بالرأسمال، ذكرنا في القسم السابق قوله إنه سيكون من حق الدولة أن تنظِّم للأفراد وتسن القوانين لهم. ونضيف هنا قوله إن هذا التنظيم سوف يكون على نحوٍ " "لا يعود الرأسمالي الفردي، من جهة حقوقية، حراً في أن يتصرف تجاه العمال وتجاه الذين يستأجرهم أو يستأجر منهم الأرض أو ما شاكل ويفعل ما تمليه مصلحته الفردية بصرف النظر عن مصالح المشتركين معه في الإنتاج والذين يجب أن يكون لهم حق في نصيب من الإنتا[88]. وبدهي أنه من الهام جداً لنا أن نتبيّن ولو بالخطوط العريضة ملامح هذا التنظيم الذي أراد سعاده أن يرشدنا إليه، والذي يجب أن ترتِّبه الدولة لدوائر عمل الأفراد. فهذا، بالتعاضد مع نظام تعاون العمل الذي كنا قد بحثناه في القسم الثالث، هما مصدر نظام الاجتماع وأساس بناء المجتمع، وفقاً لقول سعاده [89]، الذي رددناه مراراً في سياق أقسام هذه الدراسة!
من الأمثلة التي تظهر لنا مدى الترابط الوثيق بين تحقيق العدل الاجتماعي وتحقيق العدل الاقتصادي، أننا لو أبقينا الأمور على حالها كما هي الآن لبقي حقُ العمال بنيل نصيب من الانتاج حقاً وهمياً. عندها، لن يحتاج الرأسمالي لجهدٍ يُذكر كي يخسف هذا الحق، ويجعله حقاً صورياً مزيفاً لا يشكِّل، في أفضل الأحوال، أكثر من قيمة رمزية يعود بها العامل إلى بيته مرةً كل عام، دون أن تبدِّل من أحوال معيشته شيئاً! أما وسائل الرأسمالي في هذه الحالة فكثيرة، أسهلها التلاعب بالسجلات وبالتقارير المالية، بهدف التقليل من قيمة الأرباح المعلنة للمنظمة التي يملكها. أوليس هذا ما يفعله العديد من الشركات الآن كي تتهرب من الضرائب؟ كذلك لن يُعدَم الرأسمالي من الوسائل ما يمكّنه من اتخاذ القرارات التي تحرف مسار الشركة عن مصالحها لكي تتعزز مصالحه.
وتشير الدراسات الحديثة إلى أنه في المنظمات التي يتم فيها الفصل بين مالكي الأسهم والمدراء المسيطرين على أعمالها والمتحكمين بقراراتها، تصبح المصالح الفردية الخاصة لهؤلاء، ورفاهية معيشتهم، مهمة مثل مصلحة المنظمة نفسها ومصلحة المساهمين فيها. بل غالباً ما تكون لمصالح المدراء الأسبقية على مصالح المنظمة والمساهمين معاً. وفي محاولة لضبط سلوك هؤلاء المدراء وجعلهم يتماشون مع مصالح المساهمين، يتم عادة وضع تدابير متقدمة من حيث اللوائح الداخلية وهيئات المراقبة ومدونات قواعد السلوك، والتي تُسمى مجتمعة ﺑ "حوكمة الشركات" (corporate governance). صحيح أن هذه قد توفر بعض أشكال الحماية لمصالح المساهمين، لكنها لا تستطيع بأي حال إجبار المدراء على اتخاذ قرارات تكون بالضرورة من مصلحة الشركة أو المساهمين[90]. فإذا كان هذا هو حال المساهمين مع المدراء، فكيف بالحري سيكون حال الموظفين والعمال إذ يتحالف عليهم المساهمون بالرأسمال مع المدراء؟
من المحاولات الجادة للتغلب على مثل هذه التحديات، ما أبلغني به أحد الرفقاء عن اشتراكه مع رفقاءٍ آخرين، يعملون حالياً على تأسيس تعاونية اقتصادية، تُستخدم فيها تقنيات صناعية وفنية عالية، ويكون لها فروع في الوطن وعبر الحدود. أما فكرتها الأساسية فهي أن يكون نظامها الداخلي قومياً اجتماعياً، يُطبَّق فيه مبدأ تقسيم الثروة من الإنتاج وفاقاً لتقسيم العمل. والخطة هي أنه بدلاً من المرتبات، التي ستقتصر على الحد الأدنى من الأجور الذي تفرضه الدولة المضيفة، يُمنح موظفو الشركة عدداً من أسهمها، تُقدر في البدء على نحوٍ تعادل قيمتها قيمة مرتبات ما يقابلها من الكفاءات في سوق العمل. هذا، على أن تُعدّل هذه الحصص لاحقاً بناءً على الخبرة المكتسبة.
لا مشاحة في أن ما يقْدِم عليه هؤلاء الرفقاء، عدا عن كونه خطوة مقدامة يُشكَرون عليها إذ يغامرون فيها بالجهد والمال في سبيل فكرة نؤمن بها كلنا؛ هو أيضاً نقلةٌ نوعية على ما كنا ذكرناه فوق. والسبب هو أن منح الموظفين أسهماً سيعطيهم أيضاً - إضافةً إلى منحهم حق الاشتراك في اقتسام صافي الثروة الناتجة - حقوقاً سياسية لا نجدها في أي جمعية أو منظمة أخرى. ونظراً للتزايد المُطرَد في عدد الأسهم المتوقَع امتلاكها من قبل الموظفين، فمما لا شك فيه أن الحقوق هذه ستكون ذات شأنٍ في تقرير مجرى حياة التعاونية ومصيرها.
رغم كل هذه الإيجابيات، بل رغم أننا نعتقد أن هذه الخطوة هي أقصى ما يمكن تحقيقه في ظل نظام رأسمالي له قوانينه المرعية الإجراء المحابية لمصالح الرأسماليين، ولطريقة انتخاب أعضاء مجالس إدارة الشركات وتحديد صلاحياتهم، ستبقى هناك تحديات جمة. أما الانتصار على هذه فيقتضي احتفاظ الأعضاء في التعاونية بالأخلاق والمناقب العالية، والحرص على غربلة العناصر الفاسدة بينهم، ومنح بعضهم بعضاً الثقة والأمانة مطلقتين. ولا نقول إن الجمعيات والمنظمات في النظام القومي الاجتماعي ستشترط أيضاً مثل هذا المستوى الراقي من الأخلاق، إذ أنها سوف تعمل في ظل ضمانة وضبط الدولة القومية الاجتماعية، والتنظيم الجديد الذي ستقدمه لدوائر العمل. لكن مع التحفظ طبعاً أن " كل نظام يحتاج إلى الأخلاق. بل إن الأخلاق هي في صميم كل نظام يمكن أن يكتب له أن يبقى" [91]، كما يقول سعاده.
الحقيقة أن المعضلة الأساسية التي سوف تلاحقنا دائماً تكمن في إيجاد الهيئة الإدارية المعبِّرة عن المصلحة العامة للمجموع الذي تديره، سواءً كنا بصدد التعاونية التي أمامنا هنا أم بصدد الجمعيات والمنظمات التي سوف تعمل في ظل الدولة القومية الاجتماعية. والسبب أن طريقة الانتخاب المتَّبعة حالياً في النظم الرأسمالية لانبثاق مجالس إدارات المنظمات ومدرائها التنفيذيين، ترث من الديمقراطية التمثيلية كلَّ السلبيات التي كان قد حذَّرَنا منها سعاده. بل المرجَّح أن يزداد الأمر سوءاً فيما لو مُنِح الموظفون حقوقاً سياسية، دون أن تتبدل طريقة انبثاق الهيئات الإدارية؛ لأن البلبلة والتنافر الناتجين عن الموظفين سوف يضافان إلى البلبلة والتنافر الموجودين حالياً في جموع المساهمين بالرأسمال.
وفي ما يلي شرحٌ لأسباب عدم صلاحية طريقة الانتخاب هذه، ونوجزها بثلاثة:
في مقالته الهامة جداً، والمعنونة "الرأي العام"، يشرح سعاده نظرته إلى هذا المفهوم، ومن جملة ما يقول: "أنه مهما تضاربت الآراء حول هذه الظاهرة الروحية العظيمة الأثر في السياسة والاجتماع، تبقى الحقيقة الراهنة ... أن الرأي العام قوة اجتماعية سياسية خطيرة الشأن، ... [ وأنه ] موجودٌ دائماً في كل مجتمع متمدن. ... [ لكن ] متى تضاربت الاتجاهات الأساسية في أمة من الأمم، واختلفت العقائد والعوامل الثقافية، ولد هذا التضارب وهذا الاختلاف رأياً عاماً مبَلبلاً متفسخاً لا يتمكن من الإجماع على قضية عامة أو مصلحة عامة، وزعزعا الوجدان القومي الصحيح ومنعا تولد ما يسمى في العلوم السياسية << الإرادة العامة >>". ثم يضيف بأن هذا هو "حال الرأي العام في هذا الوطن السيئ الطالع"[92].
بدهي أنه إذا كان هذا هو حال "الرأي العام" في الأمة الآن، فهكذا أيضاً سوف يكون حاله مع بدء تطبيق النظام القومي الاجتماعي، بل هكذا سوف يبقى حتى زمنٍ ليس بقليل بعده؛ إذ لا يمكن التعويل على أن الوحدة الاجتماعية والنظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفن ستعمَّان المجتمع متزامنتين مع يوم انتصار الحركة القومية الاجتماعية. وبالتالي، فإن هذا لا ريب سينعكس على "الرأي العام" الداخلي لكل منظمة من المنظمات، حيث سيختلف الأعضاء فيما بينهم على فَهم الأوضاع التي يواجهونها، ويتضاربون في ما يريدون من كل منها، وبالتالي يتبلبل الرأي العام فيهم، ويجهضون أية إرادة عامة محتملة كان يمكن لهم أن يولِّدوها. هذا بالإضافة إلى عامل آخر هام ودائم من شأنه إضعاف توليد الإرادة العامة الموحدة في المنظمات، ألا وهو ما ذكرناه في القسم الثالث من الدراسة عن تمييز سعاده بين صنفين أساسيين من المصالح، يجب عدم الخلط بينهما مطلقاً، هما: المصالح الشكلية الخصوصية للأفراد، والمصالح العامة المشتركة. وأنه كثيراً ما تكون المصلحة الشخصية هي الدافع للعمل على المصلحة المشتركة، حيث يجب في الحالة هذه التمييز بين كونها مصلحةً مركّبةً وثانوية بالنّسبة إلى الشّخص المعني، رغم بقائها مصلحةً عامةً وأولية للعموم. في هذا الصدد يفيدنا أن نذكر قول سعاده بأن " الشّركة وسيلة مصالح خصوصيّة متماثلة"، وبأن مصلحتها " تقوم على أساس المصلحة الشّخصيّة البحت، وكلّ اعتباراتها العامّة مقرّرة بالمصلحة الشّكليّة لكلّ شخص فهي خصوصيّة قبل كلّ شيء، لأنّ غرضها خصوصيّ، معيّن ومحدّد"[93].
صحيح أن حالة التفكك هذه نشاهدها الآن في جموع المساهمين بالشركات في النظم الرأسمالية، بل إن التفكك هذا هو ما يمكِّن القوى المسيطرة فيها من الإستئثار بمجالس إداراتها، والتسلط بالتالي على قراراتها، بمجرد ما أن تمتلك نسبة قليلة من الأسهم. والمعروف أن هذه القوى تحرص دائماً على امتلاك أسهم بأقل نسبة تمكنها من السيطرة على الشركة والاستبداد بها؛ وفي الغالب لا تزيد عن 25%. والحقيقة أن هذا ما ينقذ عمل الشركات من التشتت، بل وينقذ النظام الرأسمالي كلُّه. لكن موازين القوى هذه سوف تتغير حتماً، وعلى نحو لا يمكن توقع نتائج تذبذباته، فيما لو منحنا الموظفين حقوق الانتخاب والترشح لمجالس الإدارات؛ خصوصاً أن الأسهم التي سوف يحصل الموظفون عليها لا يمكن الاستهانة بنسبتها، أو توقع تأرجح تكتلاتها. أضف إلى ذلك ما كنا بحثناه في القسم الثالث، بأنه وِفقاً لنظام تأسيس الاقتصاد على أساس الإنتاج، وتفادياً لتعطيل طاقة العمل، سيكون التحاق نسبة لا بأس بها من العمال والموظفين بالمؤسسات التي يعملون فيها التحاقاً مؤقتاً، حيث يفرزون بعدها إلى مؤسسة أخرى تكون الحاجة فيها إلى خدماتهم أشد. وهذا يعني مبدأياً تبدل الأفراد بعينهم مع كل دورة انتخابية.
في أحوال من هذا النوع، سوف يكون من السهل جداً على المنافقين والمداهنين التسلُّل للحصول على مقعد أو أكثر في مجالس إدارة المنظمات التي يعملون فيها. فيظهرون حرصهم وغيرتهم على مصالحها وقضاياها، لكنهم في الحقيقة لا يضمرون إلا مصالحهم الخصوصية حتى ولو تضاربت مع ما يعلنونه. والشواهد الراهنة على ذلك كثيرة، حيث نرى العديد من ممثلي نقابات الموظفين يسعون لا للمطالبة بحقوق زملائهم الموظفين الذين انتخبوهم، أو الدفاع عن قضاياهم، ولكن للحصول على امتيازات شخصية، ولتحقيق أغراض خصوصية لهم. وهناك أقوال عديدة لسعاده يحذر فيها من أمثال هؤلاء.
ولا نحتاج الكثير لندرك، بناءً على ما ذكرناه فوق، أن ما ستنتجه الديمقراطية التمثيلية من مجالس إدارية ومدراء تنفيذيين سيكون على شاكلة هذه المجاميع المبلبلة والمفككة والمتضاربة الموجودة في المنظمات. وبدهي أن مجالس من هذا النوع تبقى عديمة الفعالية. وكما يذكِّرنا سعاده بأنه " من الدروس الفيزيائية الأولية أن كل قوتين متدافعتين أو متجاذبتين وتتوفر الأسباب لإيجاد توازن بينهما تبطل فاعليتهما"[94]، كذلك نقرأ له في مقالة أخرى قوله بأنه " لا موجب لوجود مجلس من الأفراد، المتنافرين في الأذواق والمشارب والمتباينين في النظرات السياسية الخصوصية، والذين لا يمثلون الشعب تمثيلاً صحيحاً"[95]. واضحٌ طبعاً أن كلام سعاده هنا هو في سياق الحديث عن مجالس النواب، لكنَّ المبدأ يبقى صحيحاً حتى عندما نطبَّقه على مجالس الإدارة في دوائر العمل. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن هذا سوف يحدث في كل جمعية عاملة في المجتمع، عَلِمنا هول الورطة بل المصيبة التي سيقع فيها النظام الاقتصادي كله.
ما يزيد الطين بلة أن من مستلزمات الديمقراطية التمثيلية ضرورة اجراء عملية التصويت دورياً لاستفتاء الثقة بالهيئة الإدارية القائمة أو لانتخاب هيئة جديدة. وهذا سيفٌ ذو حدَّين، لكن الحد السلبي فيه أمضى. صحيح أن عملية التصويت الدورية تسمح من ناحية بالتخلص من الإدارات الفاشلة أو الطاغية، لكنها بالمقابل قد تطيح بالصالحة أيضاً. وهذا يعني أنه حتى ولو بقدرة قادر، تمكنت هذه الجموع المشوشة من إفراز إدارة صالحة، إلا أنها سرعان ما سوف تفقدها إذ تُدعى في الدورة التالية للإنتخاب مرةً أخرى. ولما كانت إدارة فاشلة قادرة، في دورة واحدة، على تحطيم كل ما بنته الإدارات السابقة، فنحن إذن بالديمقراطية التمثيلية أمام نظامٍ سيئ يحكم على المنظمات العاملة فيه بالموت المحتم. والأدهى أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل إن تطبيق الديمقراطية التمثيلية قد يحبط الأفراد الرأسماليين عن المبادأة والمبادرة إلى إنشاء مشاريع جديدة؛ إذ ما نفع بذل المال والجهد والتفكير للتفنن والاستنباط، إن لم يكن لديهم ضمانة الاحتفاظ بالقدرة على تنفيذ مخططاتهم، واستمرارهم في القيادة لتحقيق أهدافهم من المشروع الذي عزموا على إنشائه.
لعل القارئ قد تنبَّه إلى أن ما نرمي إليه في بحثنا لمؤسسة الديمقراطية في دوائر العمل هو أن نتَّتبع ما يسمِّيه سعاده " فكرة التعبير عن الإرادة العامة" بدلاً من" فكرة تمثيل الإرادة العامة. وهذا إلى حدٍ بعيدٍ صحيح. أولم يقل بأن هذه هي الطريقة التي ستُتَبع في الأعمال الأساسية لحياتنا الجديدة[96]، والتي تهديها عبقرية النبوغ السوري إلى العالم؟[97] وهذا يوحي بأن اتباعها لن يكون فقط في تنظيم الدولة، بل هي فكرة فلسفية تُطبق في مناحٍ شتَّى؟ ورغم أن كلا الفكرتين تستندان بالضرورة على ثقة الشعب، إلا أننا نجد الثانية وقد أستندت إلى إرادة الشعب كما هو في واقع الحال. بينما نجد الأولى لا ترضى بكل واقعٍ مفروض، لأن اجتماع العامة على أمرٍ قد لا يعني بالضرورة أنه الحق، ﻓ "الباطل لا يظهر بلباس الباطل بل بلباس الحق"[98]. لذلك فهي تعكف على توليد الإرادة التي يجب أن تكون! بحسب قاموس محيط المحيط، " المعبِّر يفسِّر ماهو مستور[99]. وعليه، فالتعبير عن الإرادة هو تفسير إرادة مستورة أو كامنة وغير فاعلة. وبالتالي، فهي إرادة غير موجودة بالفعل، ولكنها موجودة بالقوة! ولهذا يقول سعاده إن " التمثيل هو دائماً أهون من التعبير، لأن التمثيل شيء جامد يتعلق بما قد حصل، أما التعبير فغرضه الإنشاء وإدراك شيء جديد"[100]. ومع أنّ التسلسل المنطقي للبحث يرغّبنا في الاسترسال بالشرح، نظراً لاختلاف التفسيرات حول هذه الفكرة الجديدة، فإنّنا نخشى أن يقودنا هذا إلى الابتعاد كثيراً عن النّطاق المحدّد لهذه الدراسة. لذلك سنقصر الكلام على ما نحتاج معرفته في بحثنا هنا، والذي هو تحديداً العلاقة بين القيادة والمجموع، أو سمِّها إن شئت بين الرأس والجسم.
ولا أخال أني أبالغ في قولي إنه لو نظرنا إلى هذه العلاقة في حالة الحزب، خلال فترة إدارة سعاده المباشرة له، لوجدناها علاقة تفاعلية بامتياز. من ناحية أولى نجد أن الإجماع على القيادة، من الوجهة الحقوقية على الأقل، إجماع فاعل وليس مطاوعاً، أي أنه إجماع سلبي لا يخضع لكل أمر تفرضه القيادة، بل مقيد بشروط التعاقد الفردي الذي تقيمه القيادة مع كل واحد من الأعضاء. صحيح أن " تغيير العقيدة أو الأهداف أو الـمبادىء العقائدية أو النظامية في الـحزب، [هي] الأسباب الوحيدة التي يـمكن أن يُطلَب بالاستناد إليها انسحاب أحد الأعضاء"[101]، كما يقول سعاده، إلا أنه بالمقابل يعلن أن القيادة العليا ملزمة أيضاً بهذه الشروط، إذ يقول أن "كل عقيدة عظيمة تضع على أتباعها المهمة الأساسية الطبيعية الأولى التي هي، انتصار حقيقتها وتحقيق غايتها. كل ما دون ذلك باطل. وكل عقيدة يصيبها الإخفاق في هذه المهمة تزول ويتبدد أتباعها"[102]". وكذلك، نجده أيضاً قد اعتبر قبولَ القوميين بالخروج العقائدي لقيادة نعمة ثابت، يكوِّن مسألة من المسائل الخطيرة في الحزب. وهذا يعني أن التعاقد لا يلزم الأعضاء فقط بتقديم الثقة والطاعة، ولكنه أيضاً يفرض على القيادة الالتزام بالغاية من التعاقد وخطته. والأمانة على العقيدة والأهداف والمبادئ هي أول ما يقسم عليه علناً كلُ مسؤولٍ في الحزب بمن فيهم الزعيم.
ولكن من ناحية ثانية، نجد أن القيادة أيضاً تتخذ مواقف سلبيةً من مجموع الأعضاء، وتحرص على ألاَّ تقع في ورطة استبدادهم. لذلك تصرُّ على أن تختار هي بنفسها من الأعضاء من تراهم أمناء على نظام فكرها ونهجها، ليكونوا اللبنات التي تبني منها ذاتها على نحوٍ تحافظ فيه على بقاء وثبات خصائصها واستمرار نهجها. يقول سعاده "إن المدينة السّورية ظلّت محافظة على الفرق بين السيّاسة والاجتماع واضحاً. وهذا الفرق هو ما مكّن الدّولة من اطّراد "تقدّمها"[103]. وهو باستحداثه نظام رتبة الأمانة في تكوين الدولة، أو الإدارة، يأخذ هذا المبدأ إلى أبعاده القصوى، ويطبِّقه بامتياز.
أرجو معذرة القارئ على هذه الإطالة، إلا أنها كانت ضرورية لإزالة أية أوهامٍ قد تلتبس على البعض أنه بالانتخاب، وبإشراك العمال والموظفين إشراكاً فعلياً في إدارة مؤسسات أعمالهم، ينشأ عملٌ رائع، وهي الطريقة الأمثل لإقامة العدل الاجتماعي الحقوقي وتحرير النفوس. يقول سعاده عن "نشوء الأمم" إنه كتاب علمي تجنَّب فيه التأويلات الفلسفية، ما وجد إلى ذلك سبيلاً. وهو فعلاً قلَّما فعل ذلك؛ ومع هذا لم يستطع هنا تجنَّب إبداء رأيه فقال إنَّه " لخيال بديع في نظر [غيره]، وخيال سخيف في [ رأيه ] أن يكون كلّ فرد من أفراد المدينة المعترف بهم [شريكاً] فعليّاً في إدارة الدّولة"[104]. وهذا يدلَّنا على مدى تشديده بألاّ نسير نحو هذا السراب! ولجبران خليل جبران قصة مشهورة عن العين التي أخبرت رفيقاتها أنها رأت جبلاً! لكنهن، إذ لم تُتحْ المواهب الخاصة لأيٍّ منهنَّ الشعور بالجبل، فلم تسمع أو تلمس أو تشم أيٌ منهنَّ الجبل، قررَّن بالإجماع أن لا وجود له، وأن العينَ على ضلال! وبالقياس، أعتقد واثقاً أن الأمر ينطبق أيضاً على إدارة الجمعيات باختلاف أنواعها.
أعتقد أنه بإمكاننا الآن إدراك أن الديمقراطية التمثيلية ليست هي االطريقة التي ستمنع الرأسمالي من التصرف وفق ما تمليه مصلحته الفردية، بصرف النظر عن مصالح المشتركين معه في الإنتاج. فكل واحدٍ من هؤلاء مدفوع بمصلحته الشكلية الخصوصية، التي وإن تماثلت مع آخرين، تبقى في أفضل الأحوال فئوية، تناسب بعضاً وتناقض بعضاً آخر. وهذا يعني أنه إذا ما جعلنا من بين هؤلاء ممثلين في مجالس الإدارات، فلا ريب أنهم سوف يعطِّلون هذه المجالس بالتضارب الداخلي الذي سيحدثونه، جرَّاء ترويجهم للسياسات المتناقضة. وبدهي أنه لا الدولة، ولا أية مؤسسةٍ من مؤسساتها أو قاضٍ من قضاتها، يمكنه التقرير أو التصرُّف في أي أمر من الأمور نيابة عن أية جمعية أو دائرة من دوائر العمل. فكيف السبيل إذن؟
ذكرنا فوق أن الشركة، أو دائرة العمل، هي وسيلة مصالح خصوصيّة متماثلة. فإذا كانت مصلحة المساهمين الإثراء، فإن مصلحة العمال ومؤجِّري الأرض كذلك هي الحصول على بدلٍ يؤمِّنون به مقوِّمات حياتهم؛ أي أن الغرض في النتيجة واحد لجميع الشركاء. أما الوسيلة، والتي هي إنتاج أو تسويق شكل أو أكثر من أشكال الإنتاج، وبالتالي هي بالضرورة مصلحة معيَّنة من مصالح المجتمع، تكون المصلحة المشتركة التي تشملهم جميعاً، والتي يحقق فيها كلُ شريكٍ مصلحته الخاصة، بالمداورة. والحقيقة أن هذا هو أساس العلاقة كلها فيما بينهم، لكونها العامل الفاصل والمقرر لاشتراك أيٍ منهم في العمل، ومداه. لذلك يصبح من الضروري أن تحل المصلحة المشتركة هذه، ليس فقط فوق مصلحة الرأسمالي، بل فوق أية مصلحة فردية أو جزئية أخرى لأي شريكٍ من الشركاء. أما تحقيق هذا المبدأ، فله وجهتان: إحداهما ذاتية تقوم على تعهد الشركاء بالإلتزام به عند التعاقد، والثانية تستند إلى ضبط الدولة القومية.
ولا يسعنا هنا سوى أن نقصر الحديث على العمل المنظَّم المستقلِّ عن الأفراد، أي المنظمات تحديداً. وهي، كما نفهم من تعريف سعاده لها، الجمعيات التي تشكِّل الإدارات وتسجِّل الحقوق والواجبات[105]. وهذا يقتضي بطبيعةالحال، وجود دستور يعيّنها وفقاً لغاية وخطة عمل تكونان موضحتين فيه وضوحاً لا لبس فيه. والحقيقة أن هذا يحدث حالياً، إذ أن مؤسسي المشاريع يعدُّون فعلاً وعلى نحوٍ مفصل وموثَّق مثل هذه الخطة؛ إذ غالباً ما تشكِّل المستنَد الذي يتم على أساسه الحصول على التمويل من المصارف وصناديق الاستثمار. ومع أن هؤلاء الممولين قد لا يكونون بالضرورة شركاء في المشروع، فإن المؤسسين يتعهدون لهم بالتتنفيذ وفقاً لما جاء في الخطة. وبالمقابل، فنحن لا نجد أي التزام من هذا القبيل يُقدَّم للعمال والموظفين، بأستثناء قِيم محددة من الرواتب والأجور والفوائد الصحية والاجتماعية، والتي قلما تزيد كثيراً عما تفرضه الدولة. وبدهي إذن وجوب إعطاء وجهة جديدة لهذا الإلتزام، ليصبح بين المؤسسين أصحاب الدعوة إلى المشروع من جهة، وبين كل فرد من الأفراد المقبلين عليها من جهة أخرى؛ حيث يتعهّد المؤسسون، وقد باتوا الآن الهيئة الإدارية للمشروع، بالأمانة في تحقيق الغاية منه وتنفيذ خطة العمل المرسومة، بتقديم النظام والوسائل الموافقة. بينما يلتزم المقبلون، الذين هم العمال والموظفون ومؤجِّرو الأراضي والعقارات، بتقديم الواجب المطلوب منهم، أي الطاعة لتقديم العمل الذي هم مؤهلون له. في هذه العلاقة التفاعلية، تحصل الإدارة على قوة الإنتاج التي تطلبها من الأفراد، لقاء حصول كل واحدٍ منهم على حقه النسبي منها، والمتفق عليه؛ أي النسبة التي يكون لها فيها الحرية في التصرُّف.
نقطة الضعف في حركة العمل هذه تكمن في ما ذكرناه من أن الإعتبارات العامّة لدوائر العمل هذه مقرّرة كلها بالمصلحة الشّكليّة الخصوصيّة لكلّ عضوٍ فيها، قبل كلّ شيء. لهذا يصبح من الضروري الاستناد إلى تدخُّل الدولة لتصحيح هذا الخلل ووضع المصلحة المشتركة للشركاء فوق مصالحهم الفردية. وعلى هذا نفهم قول سعاده في شرحه لهذا البند:
"التوجيه من الدولة وسن القوانين إلى أقصى حد ينمي حيوية الشعب ويعطي الخير العام، مهما تذمر بعض الخصوصيين لما يحرمون منه، هو أمر لا مفر منه، وهو أمر لا يمكن الاستغناء عن تقريره في حالة إنشاء الدولة القومية التي نريد إنشاءها"[106].
بهذا التوجُّه لا يعود الرأسمالي، أو الإدارة حسبما يتفق، حرةً بالتصرف بالقوة المتمثلة بالموارد والجهود التي يأتمنها شركاؤها على قيادتها. بل تصبح هذه ملزمة ببنود الدستور الذي تتعاقد عليه مع كل شريك، سواءً كان عاملاً أو موظفاً أو مؤجِّراً لأرض، أو ما شاكل.
ومن خلال ضبط مصالح وإرادات الشركاء ومصلحة وإرادة الهيئة الإدارية في العلاقة التفاعلية التي ذكرناها فوق، والتوفيق بين عناصرها من حرية وواجب ونظام وقوة، وتوجيه حركة العمل وجهة مصلحة المؤسسة أو الدائرة التي تجمعهم جميعاً. تولد روح المؤسسة أو ما يسمى ﺑ [e'spirit de corp]، التي تواظب على حفز الأعضاء أكثر فأكثر إلى الدفاع عن مصالحها والعمل على نجاحها، لأن كل واحد منهم يدرك تماماً أنه بقيامه بواجبه، بل وبالتفاني فيه، إنما يحقق أيضاً مصلحته التي فيها الخير والتقدم لحياته، وحياة عائلته!
أكتفي بهذا القدر، إذ أن هذا القسم قد فاق ما هو مقررٌ له، على أن يكون لنا عودة أخرى، نبحث فيها على نحوٍ أوفى خصائص تطبيق الفكرة التعبيرية في المنظمات الاقتصادية، وليس فقط في منظمة الدولة. حسبنا هنا أننا لفتنا الانتباه إلى هذا الأمر.
أعتقد أننا لو عدنا الآن إلى ما كنا ذكرناه في القسم الأول من هذه الدراسة عن السبب الذي دفع سعاده لإضافة لفظة "الاجتماعي" إلى اسم الحزب، وإلى قوله بأن المبدأ الإصلاحي الرابع يتضمن عقيدة الحزب الاجتماعية، سنجد القارىء وقد أحاط بالأسباب التي مكَّنت سعاده من هذه الخطوة. فنحن بهذا المبدأ لسنا أمام مجرد سياسة مالية أو نقدية أو حتى اقتصادية سوف تنتهجها حكومات الدولة القومية الاجتماعية المتعاقبة، بل أمام نظامٍ يفعل عميقاً في المجتمع إذ يضعه على أساس جديد ويعطيه وجهة جديدة ويولد فيه زخماً حيوياً فَيّاضاً يمكن الأمة من انتزاع مكانتها بين الأمم في تنازع البقاء وصراع التقدم. نحن أمام نظام سوف يبيد طبقية الإقطاعي، وكذلك طبقية الرأسمالي بشتى أشكالها وأنواعها، ويعيد بناء المجتمع في وحدةٍ متينة، بِدءاً من إعادة تنظيم وحدات العمل، مروراً برصِّ صفوف المنتجين، ثم تمكين أشكال الإنتاج القومي من اتخاذ موقفٍ موحدٍ في تفاعلها مع إنتاجات الأمم الأخرى. بعرف سعاده " إن الاقتصاد يجب أن يعني الازدهار وليس البقاء على الاستمرار في الحياة. إن الاقتصاد يجب أن يعني توفير إمكانيات التقدم والتمتع ورفع مستوى المصالح المادية والفنية والنفسية للشعب الواحد[107]. واعتقادي أن القارئ يجاريني القول إن نظام سعاده، الذي بيَّنَّا خطوطه العريضة في هذه الدراسة، قادر على تحقيق تلك الغاية بهذا التنظيم، وبضبط موارد الأمة لتعمل في سبيل خيرها وعزها.
عسى أن تفي هذه الدراسة بالغرض منها، فتعوِّض بعضاً مما فاتنا من شرح سعاده للمبدأ الإصلاحي الرابع، وتوضِّح الخصائص الأساسية لنظامه. لكني أطمح إلى أن تكون فاتحةً لدراسات وأبحاث أخرى تدقق في تفاصيلها، وتبني عليها، كي تخرج بالحلول الناجعة للتحديات الاقتصادية والمالية التي تواجهها الأمة في وقتنا الحاضر.
ولتحي سورية وليحي سعاده
حق العمل والإنتاج في النهضة القومية الإجتماعية هو حق طبيعي.
[1] العقيدة السورية القومية الاجتماعية وبحث الديمقراطية عن عقيدة. الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 46 ، 15 / 6 / 1942 .
[2] جريدة "كل شيء" رقم 20 في 31 يوليو 1947
[3] لمحاضرة العاشرة
[4] سعادة، المجموعة الكاملة، المجلد السابع، 1944 ، "إعلان وإيضاح العلاقة مع جبران مسوح"،
[5] المحاضرة العاشرة.
[6] نشوء الأمم، الفصل الخامس، الضرورة الاقتصادية
[7] نشوء الأمم، ص 66 .
[8] نشوء الأمم، ص 57 .
[9] مقالة "العقيدة السورية القومية الاجتماعية وبحث الديموقراطيين عن عقيدة"، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 46 ، 15 / 6 / 1942 .
[10] "المحاضرات العشر"، المحاضرة الثامنة، ص 130 .
[11] " لمحاضرات العشر"، المحاضرة الثامنة، ص 132 .
[12] مقالة "شق الطريق لتحي سورية"، نشر هذا المقال في مجلة "الجمهور" تاريخ 12 تموز 1937 .
[13] مقالة "العقيدة السورية القومية الاجتماعية وبحث الديموقراطيين عن عقيدة"، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 46 ، 15 / 6 / 1942 .
[14] المرجع السابق.
[15] المرجع السابق..
[16] المرجع السابق..
[17] مقالة "قضية العمال"، النهضة، بيروت، العدد 24 ، 10 / 11 / 9371 .
[18] "المحاضرات العشر"، المحاضرة الأولى، ص 15
[19] نشوء الأمم، الفصل الخامس، ص 85 .
[20] جريدة الوطن تاريخ 1 نوفمبر 2011 .
[21] أحمد أصفهاني، مجلة الفينيق، العدد 30 ، آب 2019 ،"سعاده معاصرنا".
[22] China's 40 Years of Reform 1978 - 2018, The decadal crises, Page 39.
[23] "المحاضرات العشر"، المحاضرة الثامنة، ص 122.
[24] المرجع السابق، ص 122.
[25] المرجع السابق، ص 129.
[26] المرجع السابق، ص 126.
[27] سعاده، نشوء الأمم، آخر فقرة من تطور الثقافة العمرانية، وأول فقرة من الثورة الصناعية، ص 83-84.
[28] يوسف المسمار، مفهوم الاقتصاد القومي الاجتماعي، قومية الاقتصاد، ص 36.
[29] المرجع السابق، ص 38.
[30] سعاده، نشوء الأمم، آخر فقرة من تطور الثقافة العمرانية، ص 83.
[31] المرجع السابق، ص 82.
[32] المرجع السابق، ص 83.
[33] المرجع السابق، ص 83.
[34] المرجع السابق، ص 84.
[35] المرجع السابق، ص 74.
[36] China's 40 Years of Reform 1978 - 2018, China and the global trading system: Then and now, Page 549.
[37] China's 40 Years of Reform 1978 - 2018, The decadal crises, Page 39.
[38] ا آدم سميث ،(1723 - 1790) عالم اقتصاد اسكتلندي، ملقب خطأً بأبي الإقتصاد. وأقول خطأً لأن جلَّ ما كتبه آدم سميث كان قد ورد في مقدمة إبن خلدون، بما فيها تلك التي تعنى بقوانين العرض والطلب في السوق. حتى مثل صناعة الدبابيس الذي يعطيه سميث عن كيفية تقسيم العمل وتحقيق التعاون، كان إبن خلدون قد أعطى مثله في صناعة الخبز ابتداء من زراعة القمح. وأنا ممن يذهبون إلى أن هذا التشابه الشديد والعديد بالأفكار ليس مجرد تناص، بل سرقة أدبية بكل معنى الكلمة، والمعروف أن مقدمة إبن خلدون قد ترجمت إلى عدة لغات أوروبية.
[39] https://hbr.org/2012/04/there-is-no-invisible-hand
[40] سعاده، نشوء الأمم، تطور الثقافة العمرانية، ص 85.
[41] "المحاضرات العشر"، المحاضرة الثامنة، ص 116.
[42] "نشوء الأمم"، تطور الثقافة العمرانية، ص 83.
[43] المرجع السابق، ص 85.
[44] المرجع السابق، ص 83.
[45] "المحاضرات العشر"، المحاضرة الثامنة، ص 128.
[46] سعاده، "نداء الزعيم إلى منتجي ثروة الأمة وبنّائي مجدها"،المجموعة الكاملة، المجلد الثامن، 1949.
[47] يوسف المسمار، مفهوم الاقتصاد القومي الاجتماعي، قومية الاقتصاد، ص 36.
[48] Dr. Edmond Melhem, The Social National Economy, The Right to Work, Episode 9, Twitter: http://bit.ly/2mfCxQ5
[49]Ibid.
[50] سعاده، "المحاضرات العشر"، المحاضرة الثامنة، ص 121.
[51] المرجع السابق، ص 121.
[52] المحاضرات العشر، المحاضرة الثامنة، ص 117.
[53] المرجع السابق، ص 126.
[54] نشوء الأمم، الفصل السابع، الإثم الكنعاني، ص 144.
[55] نشوء الأمم، الفصل الثالث، الأرض وجغرافيتها، ص 46.
[56] نشوء الأمم، الفصل السابع، الإثم الكنعاني، ص 142.
[57] كتاب التعاليم السورية القومية الاجتماعية، المبدأ الإصلاحي الرابع.
[58] نشوء الأمم، الفصل السابع، الإثم الكنعاني، ص 146.
[59] المرجع السابق.
[60] المرجع السابق.
[61] محمود غزالي، الاقتصاد على أساس الإنتاج وصيانة الثروة، مجلة فكر، العدد 88، حزيران، 2005.، ص 142.
[62] المرجع السابق، ص 142-143.
[63] المحاضرات العشر، المحاضرة الثامنة، ص 117.
[64] المرجع السابق، ص 124.
[65] سعادة، "النظام"، المجموعة الكاملة، المجلد الثاني، 1936.
[66] نشوء الأمم، الفصل السابع، الإثم الكنعاني، ص 142.
[67] المرجع السابق، ص 144-145.
[68] المرجع السابق، ص142- 143.
[69] المرجع السابق.
[70] نشوء الأمم، الفصل الثالث، الأرض وجغرافيتها، ص 46.
[71] سعاده، "المحاضرات العشر"، المحاضرة الثامنة، ص 121.
[72] المحاضرات العشر، المحاضرة الثامنة، ص 125.
[73] المحاضرات العشر، المحاضرة الثامنة، ص 127.
[74] المحاضرات العشر، المحاضرة الثامنة، ص 127.
[75] إنعام رعد، "محاولة في إيضاح قواعد الاقتصاد القومي الاجتماعي"، منشورات عمدة الإذاعة، الطبعة الأولى، نيسان 1976، ص 25-29.
[76] نفس المرجع ص 8.
[77] سعاده، الآثار الكاملة، قضية حصر الثروة، الجزء الرابع، ص 130. ملاحظة: إن هذه المقالة منشورة بخطأ مطبعي تحت عنوان "حصر الثورة". كذلك هي ليست منشورة في المجموعة الكاملة.
[78] رغم أن الأبحاث الإقتصادية قد اعتمدت في كل الفترة الممتدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على إحصائيات إجمالي الناتج المحلي أو القومي (GDP)، في دراساتها وتقاريرها، إلا أن معهد السياسة العامة بجامعة كامبريدج قد أصدر مؤخراً تقريرًا يهدف إلى توفير أداة بديلة لهذا المقياس، ألا وهي: الثروة القومية. وتعليقًا على التقرير، قالت الأستاذة ديان كويل وهي المشرفة على إعداده، إنه "لا يمكن قياس تقدم القرن الحادي والعشرين بإحصائيات القرن العشرين. ويُعد التمييز بين المقياسين أمرًا مهمًا. فإجمالي الناتج المحلي هو مقياس (وهو مقياس خام إلى حد ما) لقياس مقدار النشاط الاقتصادي الذي حدث في غضون عام. أما الثروة القومية ، من ناحية أخرى ، فهي مقياس لمقدار الاستعداد الذي يمتلكه بلد ما والذي يمكن تحويله إلى إنتاج ذي مغزى. أنظر:
[79] جون ماينارد كينز(1883-1946)، عالم اقتصادي انكليزي،وصاحب نظرية تقوم على عدة مرتكزات أهمها أن الركود الاقتصادي يحصل إذا ما تجاوز الادخار الاستثمار.
[80] نشوء الأمم، الفصل الخامس، المجتمع وتطوره، تطور الثقافة العمرانية، ص 83.
[81] المحاضرات العشر، المحاضرة الثامنة، ص 122.
[82] سعاده، الآثار الكاملة، الجزء الرابع، قضية حصر الثروة، ص 130.
[83] فالنتين كاتاسونوف، ترجمة د. ابراهيم استنبولي، استعباد العالم، نهب على الطريقة اليهودية، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، 2018، ص 476.
[84] نفس المرجع ص 609.
[85] المحاضرات العشر، المحاضرة الثامنة، ص 124.
[86] المصدر السابق، ص 127.
[87] المصدر السابق، ص 125.
[88] المصدر السابق، ص 125.
[89] نشوء الأمم، الفصل الخامس: المجتمع وتطوره، ص 75.
[90] H. Sheety, A Materialistic - Spiritual Approach To Organization Theory, Manchester Business School Library, 2005, P 77.
[91] المحاضرات العشر، المحاضرة العاشرة، ص149.
[92] الآثار الكاملة، الجزء الثالث، 1937، "الرأي العام"، ص 222. منقول عن جريدة النهضة العدد 27، في 13 نوفمبر 1937.
[93] نشوء الأمم، الفصل السابع، الإثم الكنعاني، ص 143.
[94] الآثار الكاملة، الجزء الثالث، 1937، "الرأي العام"، ص 223. منقول عن جريدة النهضة العدد 27، في 13 نوفمبر 1937.
[95] الآثار الكاملة، الجزء الرابع، 1938، "عودة أخرى إلى النظام البرلماني"، ص 170. منقول عن جريدة النهضة العدد 120، في 19 مارس 1938.
[96] الأعمال الكاملة – المجلد الرابع –إ الزعيم في سانتياغو، إصدار مؤسسة سعاده للثقافة 2005، صفحة 38.
[97] المصدر السابق.
[98] المعلم بطرس البستاني، محيط المحيط، مكتبة لبنان، طبعة 1987، ص 571، أعلى العامود الثالث.
[99] الأعمال الكاملة – المجلد السابع – الحق والحرية – مؤسسة سعاده للثقافة 2005، صفحة 391.
[100] الأعمال الكاملة – المجلد الرابع –إ الزعيم في سانتياغو، إصدار مؤسسة سعاده للثقافة 2005، صفحة 38.
[101] الأعمال الكاملة – المجلد العاشر – الرسائل، إلى يوسف الغريب 15 / 1 / 1942، إصدار مؤسسة سعاده للثقافة 2005، صفحة 224.
[102] المحاضرات العشر، المحاضرة الأولى، ص 23.
[103] نشوء الأمم، الفصل السادس نشوء الدولة وتطورها، الدولة المدنية والأمبراطورية البحرية، ص 114.
[104] المصدر السابق.
[105] نشوء الأمم، الفصل السادس نشوء الدولة وتطورها ، إدارة الدولة، ص 103.
[106] المحاضرات العشر، المحاضرة الثامنة، ص 127.
[107] المصدر السابق، ص 124.