نشر الباحث العراقي علاء اللامي قبل أيام (جريدة "الأخبار" في 5 تشرين الثاني 2021) مقالة بعنوان "هل كانت بلاد الرافدين جزءاً من "سوريا الكبرى" أم العكس؟" عرض فيها وناقش مجموعة من المسائل التاريخية والجغرافية والبشرية. وبعض هذه المسائل له مدلولات سياسية، نجد أنفسنا معنيين بإبداء الرأي فيها من موقعنا كمؤمنين بالفكر السوري القومي الاجتماعي، وإطاره الجغرافي الأمة السورية. وقبل أي شيء آخر، لا بد لنا من تقديم الشكر للباحث اللامي لأنه فتح أبواب الحوار الرصين على مسألة شديدة الأهمية بما يخص مستقبل المنطقة. ونحن سنركز أساساً على التفاعل الحضاري بين المكونات السكانية على مدى قرون موغلة في القدم.
منذ السطر الأول، يحدد اللامي وجهة نظره بالقول: "يثير هذا السؤال تحفّظات تاريخية وجغرافية وأناسية كثيرة، فهو من جهة يدخل في دائرة المناكفات والخطابات السياسية الانفعالية وخصوصاً على مواقع الإعلام الرقمي والتواصل الاجتماعي، وهو من جهة أخرى يكتسب شرعية الطرح والمناقشة من منظور التحقّق المنهجي العلمي الأناسي...". ثم يعطينا الجواب الحاسم: "لا وجود لشيء اسمه "سوريا الكبرى" عهد ذاك (يقصد عصر الأمبراطوريات في بلاد الرافدين) بل كانت هناك "بلاد الشام"، وقبلها "بلاد آرام"...".
وحتى لا يكون هناك أي مجال للمناكفات، نجد من الضروري طرح بعض الآراء التي نعتقد بأنها تغني الحوار الساعي إلى أقرب ما يكون من الحقيقة.
ضمّن الكاتب مقالته مسائل متنوعة، بعضها وثيق الصلة بالسؤال المطروح أعلاه وبعضها الآخر يلامسه من بعيد... لكنها جميعها تسعى إلى بلورة النتيجة التي يصل إليها: "خلاصة القول هي أن أسماء "آسوريا" و"سوريا" - وإلى درجة ما "سريان" - لم تَشِعْ وتطَّرد وتتكرس كعلم جغرافي للجزء الغربي من بلاد آشور إلا جزئياً وبعد زوال تأثير مملكة آشور من المشهد التاريخي، وهو لهذا السبب يكون "سوريا" مجرد اسم لا يحمل أية دلالات أناسية أو لغوية ذات علاقة بأصله إلا على سبيل الذكرى التاريخية والجوار الجغرافي...".
سنركز حوارنا على ثلاث نقاط أساسية، نعتقد بأنها مفيدة في السياق العام الذي عمل عليه الباحث اللامي:
النقطة الأولى ـ من الأمور المتعارف عليها إجمالاً أنه لا توجد حقائق نهائية مطلقة في مجال العلوم الإنسانية. إن دراسة التطور البشري ونشوء المجتمعات ستظل مشرّعة للمكتشفات والعلوم الحديثة التي قد تثبت أو تناقض ما كان العلماء السابقون قد توصلوا إليه. ولذلك فإن تباين النتائج في مسألة تاريخية أو اجتماعية لا يعني أن هذا على صواب وذاك على خطأ. وإذا كان القرآن "حمّال أوجه"، حسب تعبير علي بن أبي طالب، فماذا نقول عن الدراسات والأبحاث المختلفة التي تتناول الجماعات البشرية منذ فجر التاريخ حتى اليوم! ولذلك نحن ننطلق من المنظور الاجتماعي الذي يشكل العنصر الحيوي في قيام المتحدات، لنطرح سؤالاً يحظى بالأولوية وهو: هل قام الدليل على تفاعل حياتي اقتصادي ثقافي بين سوريا الشرقية وسوريا الغربية على مرّ العصور؟ (نحن نؤمن بالأمة السورية في بيئتها الطبيعية).
النقطة الثانية ـ أن أسماء الدول والشعوب والمناطق غير ثابتة بالمطلق. وهي قد تتغيّر حسب الظروف المرتبطة بالفتوحات والغزوات والهجرات البشرية. لكن الأكيد أن الأسماء الأولى جاءت من ملاحظة المظاهر الجغرافية الطبيعية: بلاد الرافدين، ما بين النهرين، الشام (شمال)، اليمن (يمين)، الهلال الخصيب، المغرب، المشرق، الجزيرة... وهكذا. ومع نشوء المجتمعات وقيام علاقات بين الجماعات المختلفة، تظهر أسماء أخرى تعبّر عن مزايا أو صفات، (من الأمثلة أن الإغريق أطلقوا اسم الفينيقيين على كنعانيي الساحل). وفي أحيان كثيرة تغيب في طيات التاريخ أصول الأسماء، فيحاول بعض المهتمين العثور على جذور لها بطريقة إصطناعية، (حسب التوراة جاء اسم بابل لأن الله بلبل ألسنة السكان)... وغير ذلك كثير!
فالأسماء ثانوية من حيث المبدأ، ولا ينتقص من قيمتها المعنوية أن تكون مجهولة المصدر أو أجنبية الابتكار. إن اسم سوريا تخفيف يوناني لكلمة أشوريا، وبلاد الرافدين ترجمة لكلمة يونانية تعني بين النهرين (لها جذر آرامي أيضاً). أما اسم العراق العربي فهو مبهم بين من يرجعه إلى مدينة أوروك السومرية وبين من يقول إنه فارسي ويعني الأرض المنخفضة. ولنسأل أنفسنا: هل كانت معرفة أصل كلمة "العراق" ستغيّر شيئاً في مشاعر بدر شاكر السياب وهو يتشوق إلى موطنه: "الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام... حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق"؟ أو ما أنشده أدونيس في قصيدته "قالت الأرض": "ها بلادي، كأن بغداد صارت / من ذرى الشام أو غدت لبنانا"!نشده أا
النقطة الثالثة ـ أن علم الآثار لم يقل كلمته النهائية بعد، خصوصاً في بلادنا. وهذا ما يشير إليه اللامي في مقالته: "نعلم من وثائق ومعطيات التاريخ والأركيولوجيا الحاضرة بقوة هنا، أن هذا الجزء من سوريا الحالية، وعلى امتداد نهر الفرات، كان جزءاً وامتداداً لدول بلاد الرافدين منذ بداية ظهور هذه الدول المركزية المتعاقبة، ومنها الدولة الآشورية (...). وقد ظلت مدن الفرات الأخرى على الشريط الفراتي بين مملكة مدينة ماري القريبة من بلدة البوكمال السورية القريبة من الحدود العراقية بمسافة 11 كم، وحتى ما بعد مدينة قرقميش وحران شمالاً، ظلت جزءاً من حضارة بلاد الرافدين ودولها تارة، أو أنها شهدت قيام دويلات المدن ذات اللغة والثقافة والحضارة الرافدانية تارة أخرى...".
ونحن نرى أن الصورة أشمل من تلك المذكورة أعلاه. فقد أثبتت التنقيبات الآثارية خلال السنوات الخمسين الماضية أن الوحدة الحضارية والاجتماعية والاقتصادية لمنطقة الهلال الخصيب كانت أمراً واقعاً خصوصاً عبر بادية الشام التي كان يُعتقد أنها فصلت بين بلاد الرافدين وبلاد الشام في عصر الأمبراطوريات الآكادية والبابلية والأشورية. في مطلع العام 1993، أعلن الدكتور توماس هولاند الذي كان يرأس فريقاً للتنقيب في المناطق الشمالية الشرقية من الكيان الشامي، عن اكتشاف تمثال لحصان مدجن عمره 4300 سنة، ما يثبت أن تدجين الخيل في الهلال الخصيب أقدم بكثير مما كان يُظن سابقاً. إذ كان المتعارف عليه حتى ذلك الوقت أن تدجين الخيل حصل قبل 3800 سنة في حين أن الكشف الجديد أرجعه إلى الوراء 500 سنة على الأقل.
لكن أهم ما صرّح به هولاند (جريدة "الحياة"، 5 كانون الثاني 1993) أن تل السويحات الذي كانت تجري فيه التنقيبات، وهو يقع إلى الشمال الشرقي من البلاد، "كان على ما يبدو مركزاً مهماً للتبادل التجاري بين الأمبراطورية الآكادية في الشرق ومدينة أيبلا الواقعة في الغرب".
وفي تشرين الثاني سنة 1993، أعلن علماء الآثار (جريدة "إندبندنت" البريطانية، 23 كانون الأول 1993) عن كشف مهم هو عبارة عن مدينة مجهولة تم العثور عليها في تل البيدر الذي يبعد عن دمشق بحوالي 500 كلم إلى الشمال الشرقي. وقدّر العلماء عمر المدينة بحوالي 4400 سنة. وعثروا فيها على أرشيف إداري ضخم يوضح العلاقات القديمة بين بلاد الرافدين وشرقي حوض البحر الأبيض المتوسط في تلك المرحلة الموغلة في القدم.
وأظهرت الألواح الطينية أن ثقافة هذه المدينة هي مزيج بين الثقافة السومرية من جنوب وادي الرافدين وثقافة مناطق شرقي المتوسط. وكانت الألواح منقوشة بالحرف المسماري، وهي تغطي الشؤون الإدارية والتجارية وتتضمن إشارات إلى العلاقات مع المدن الأخرى. كما كشفت الألواح عن أسماء مدن جديدة لم تكن معروفة لدى علماء التاريخ القديم والآثار من قبل. وبيّنت دراسة محتويات الألواح أن سكان هذه المدينة استخدموا تقويماً خاصاً بهم يختلف عن تقويم السومريين والمتوسطيين. وقال المنقب الدكتور مارك ليبو Marc Lebeau إن المدينة يمكن أن تعتبر "الحلقة المفقودة" بين الحضارة السومرية ـ الآكادية في جنوب ما بين النهرين (الجنوب الشرقي) وحضارة أيبلا وشرقي المتوسط إلى الغرب.
ولا يختلف الباحث اللامي معنا في هذه الناحية، حيث يقول: "غير أن هناك دون ريب تداخلاً وتمازجاً عميقَين بين تاريخ وجغرافيا وإثنوغرافيا البلدين والشعبين الشقيقين (سوريا والعراق) ضمن الصيرورة الأناسية والحضارية الكبرى لجغرافيا المشرق الجزيري "السامي" في عصور ما قبل الميلاد". وبعد أن يؤكد "وحدة النسيج الحضاري والأناسي" لسكان بلاد الشام مع الشعوب الرافدانية القديمة، يكشف لنا عن المعضلة التي تؤرقه: "فكيف يستقيم - والحالة هذه - أن يجعل البعضُ بلادَ الرافدين امتداداً أو تابعاً جغرافياً وحضارياً لـ "سوريا الكبرى" التي لم يكن لها وجود كياني أو حتى اصطلاحي عهد ذاك. ويحكم بعضهم بجرّة قلم وبعيداً عن العلم ومعطياته بأن هذه المناطق والمدن وبلاد الرافدين كلها هي جزء من "الحضارة السورية القديمة"...".
وبغض النظر عن الجذور اللغوية لأسماء سوريا والعراق ولبنان وفلسطين، ناهيك عن مصر وليبيا والجزائر وقطر والجزيرة العربية... فإن شيوع الاستعمال هو الذي يرسخ الإسم في نهاية المطاف. وسيكون من الخطأ الاستناد فقط إلى ما صارت عليه "الدول" منذ مطلع القرن الماضي. فعندما يقول اللامي إن بعض الأقاليم "بقي كما هو تقريباً، إقليماً قديماً موحّداً قامت عليه دولة حديثة واحدة كما هي الحال في العراق ومصر واليمن"، فهو لا يذكر أن العراق كان يشمل في زمن ليس ببعيد المحمرة (الأحواز) والكويت... وهذا يعني أن دولة العراق الحالية لم "تبقَ كما هي تقريباً"، تماماً كما أن الدولة السورية الحالية لم "تبقَ كما هي" بعد فقدان كيليكيا والإسكندرون!
قد تكون عبارة "سوريا الكبرى" مستحدثة، كما يذكر اللامي، أو "ذات منحى ترويجي سياسي وإيديولوجي". ورأيه مصيب إذا تعاملنا معه من النواحي السياسية فقط. إلا أن الأسم السوري متداول بأشكال عدة منذ آلاف السنين. ولا يُغيّر في هذه الحقيقة كون المؤرخين الإغريق والرومان هم الذين "ابتكروا اسم سوريا". ويبدو لنا أن اعتراض الباحث اللامي ينصب على مطلقي الإسم "الرومان أو الإغريق فهم غزاة وغرباء عن المنطقة"! لكنه يضيف قائلاً: "هناك باحثون يستعملون عبارة "سوريا الطبيعية أي بلاد الشام"، وهي عبارة لا مأخذ عليها رغم أنها لا تضيف جديداً إلى "بلاد الشام" كإسم لإقليم شائع ومُطّرد الاستعمال". ويعني هذا أن اللامي يتحفظ تجاه الجهة التي "ابتكرت" اسم سوريا، ويفضّل في المقابل الإسم العربي "بلاد الشام". وهو رأي خاضع للبحث من وجهات نظر متعددة.
أخيراً نعود إلى عنوان المقالة: "هل كانت بلاد الرافدين جزءاً من "سوريا الكبرى" أم العكس؟" نحن نظن بأن صيغة السؤال وُضعت بهدف الرد على بعض "المناكفات". والمسألة برأينا ليست من هو الجزء ومن هو الأصل، وإنما هي التفاعل التاريخي بين الجماعات والدويلات في حيز جغرافي محدد. والذين يختارون هذا على ذاك، ستكون أحكامهم ناقصة أو خاطئة تجاه معرفة نواميس نشوء الأمم.