الهُوِيّة" (بضم الهاء) ليست الهَويّة (بفتح الهاء) التي راج استعمالها الخاطئ للدلالة على الشخص. والتي يفيد معناها الحقيقي البئر البعيدة القعر.
الهُويّة (بضم الهاء) مِن هُو. فهُويّة الإنسان الفرد تفيد: ما هو؟ ومَن هو؟ ومعناها القاموسي هو: "حقيقة الشيء أو الشخص التي تميّزه عن غيره"[1]. والبطاقة التي يحملها الإنسان في تنقّلاته، سواء أكانت بطاقة عاديّة، تعرف باسم بطاقة الهُويّة، أو كانت البطاقة التي تعرف باسم جواز سفر. هما، كلتاهما، قصد منهما التعريف بهُوية حاملها. وأول التعريف، بل أهم عناصره، بعد اسم صاحب البطاقة، هو الدولة التي هو مواطن فيها، والمجتمع الذي أسس تلك الدولة.
ولما كان العصر الذي نحيا فيه هو عصر الأمم والقوميات، فإن الهويّة العصرية هي، وبامتياز، الهُويّة القومية. لذلك يُقال، في تعريف الإنسان ويكتب ذلك في بطاقته، إنّه بريطاني أو أميركاني أو فرنسي أو سوري.. وغير ذلك مما قارن.
من هنا أهمية البحث في القومية، التي هي أساس تعريف كلّ إنسان في هذا الزمان.
وتجدر الإشارة إلى أن بحثنا، سيتناول، وجهات نظر متعارضة في القومية، وذلك تحقيقاً للموضوعية، ثم لأهمية القضية ذاتها، بخاصة في هذه الأيّام، التي فيها أفكار عن العولمة Globalization منها أن ظاهرة العولمة قد زعزعت الفكر وأضعفت سيادة الدولة القومية وحوّلت حدودها إلى حدود رخوة، كما قال!
العداوة للقومية
بعد الحرب العالمية الثانية والدّمار الذي سببته في أوروبا بصورة خاصة نشأت نزعة عند أكثرية الأوروبيين ضد القومية. لقد فهموا القومية مذهباً أصحابه ميّالون إلى القتال ومولعون بالعداوة والتوسع والعنصرية. وكان مثلهم الصارخ، طبعاً، النازية والفاشية العنصريتين التوسعيتين. وجاء التعبير عن الاتجاه الأوروبي الجديد قوياً في عدد لا يُحصى من الكتب والمقالات والسياسات على المستوى الأوروبي والعالم. نذكر من ذلك الأدب المعادي للقومية نموذجين، أحدهما من غولانكز Victor Gollancz والثاني من كريستيفا Julia Kristeva. ، أما غولانكز الذي كان صاحب دار نشر بريطانية فقد أصدر كتاباً (1952) عن سيرة حياته على صورة رسالة موجّهة إلى حفيده تيموثي حمل عنوان: عزيزي تيموثي، يقول فيه:
"من بين جميع الشرور التي أكرهها، أفكر بأني أكره القومية الكراهية الأعظم". ويتابع ليقول:
"القومية - الأنانية القومية، تفكير الإنسان بلغة أمته لا بلغة الإنسانية - هذه القومية هي شر لأنها تركز على أمور غير جوهرية بالمقارنة مع غيرها، (من مثل وطن الإنسان، نوع لغته، نمط ثقافته، وصنف "دمه") مهملة الجوهر الذي هو، ببساطة، أنه إنسان... القومية جماعة من البشر يكرهون جماعة أخرى بدون سبب للكراهية، ولو كان أصغر الأسباب: إنها تؤدي إلى الحسد، التوسّع، الاضطهاد، النـزاع وفي الأخير، الحرب."[2]
النموذج الثاني للموقف السلبي من القومية نجده عند كريستيفا Kristeva البلغارية الأصل والفرنسية حالياً والمختصة بالتحليل النفسي psychoanalysis، ففي كتابها الصادر العام 1993: أمم بلا قومية، تدعو الكاتبة الأمم بصراحة إلى نبذ القومية. لماذا؟ لأن القومية هي عبادة الأصل. وعبادة الأصول هي ردّ فعل كاره لأولئك الآخرين الذين لا يشاركونني في أصولي ويعتدون عليّ شخصياً بالاحتقار والإهانة ويعتدون عليّ اقتصادياً وثقافياً."[3]
أما الأصول فتعدّد الكاتبة منها: الهوية البيولوجية، اللغة، الدين والمكان الاجتماعي، السياسي، التاريخي.[4]
واضح مما تقدم أن غولانكز، بعد الحروب الأوروبية، رأى أسبابها في القومية العنصرية التي مثلتها النازية الألمانية والفاشية الإيطالية. وهذا الرأي مفهوم وواقعي. لكن الأغلوطة تتكشّف عندما نجده مطابقاً مطابقة تامة بين القومية والعنصرية. فهو، مع تقديرنا لمعاناته ومعاناة شعوب قارته الأوروبية، لم يتجشّم عناء النظر في نظريات في القومية مغايرة وغير عدوانية، بل متناقضة ورافضة للعنصرية. نعني، تحديداً، القومية الاجتماعية التي وضع فكرتها أنطون سعاده والتي سنأتي على شرحها فيما بعد.
نقدنا لغولانكز ينسحب على كريستيفا التي ساوت مساواة تامة ما بين القومية وعقيدة الأصل. فالقومية هي عقيدة الأصل وعبادة الأصل. وعقيدة الأصل وعبادته هي القومية. بهذا التحديد الجامع المانع للقومية أخرجت من حسابها (النظري على الأقل) إمكان وجود أفكار قومية مختلفة غير كارهة للآخرين.
مع ذلك، وإنصافاً، نذكر للكاتبة قبولها الواضح بواقع الأمم، وتبنّيها فكرة مونتيسكيو Montesquieu عن الكونية cosmopolitanism التي تنافح عن حقوق الإنسان، حيث هو الإنسان المتجاوزة حقوق الإنسان كمواطن. وتسمي هذا التوجه بالرواقية المحدثة neoStoicism [5] وهو التوجه الذي سنعود إلى شرحه فيما بعد، عندما نتحدث عن العولمة المناقبيّة عند زينون الرواقي.
هايز: القومية دين ضد الدين!
إن تعبير "القومية" أول ما ورد في كتابات الفيلسوف الألماني هيردر Johann Gottfried Herder في عام 1774 ولم يبدأ الإستعمال العام له حتى منتصف القرن التاسع عشر.[6]
والمؤرخ كون Hans Kohn (الذي يعتبر هو وهايز Carlton Hayes عميدي درسها الحديث) يصفها بالقول، "إنها مجرد شعور جمعي نباتي vegetative".[7]
أما المؤرخ الأميركاني هايز Hayes الذي يعتبر أبرز الدارسين المؤرخين للقومية، فيلفت إلى حقيقة أن الأمثلة التاريخية كلها تقريباً صيغت بمفردات دينية.[8] ويذكر هايز، مما يذكر، حول عقيدة القومية المشابهة للعقيدة الدينية ما يلي:
1- "القومية صارت، حقاً، ديناً مع الثوار الفرنسيين". فقد اعتبر "إعلان حقوق الإنسان والمواطن"، منذئذٍ، بمثابة "الكتاب التعليمي القومي" The National catechism وإعلان الإيمان به نصّ عليه دستور 1791."[9]
2- وفي حزيران من العام 1792 أعلن المجلس التشريعي أنه يجب على كل كوميونة (بلدية) أن تقيم مذبحاً لوطن الآباء يحفر عليه "إعلان الحقوق"، بالإضافة إلى كتابة مفادها أن "المواطن يولد، ويعيش، ويموت من أجل الوطن La Patrie".[10]
3- وقبل ذلك بعامين في ستراسبورغ Strasbourg أدخلت طقوس "العمادة المدنية". أما "الزواج المدني" و"الجنازات المدنية" فقد أدخلا إلى الحياة القومية فيما بعد. وهكذا... حتى صار للدين الجديد تسبيحه الوطني (نشيد) وصلاته وصومه وأعياده.[11]
ويذكر هايز، فيما يذكر، أن ماري - جوزيف شينييه Marie-Joseph Chenier اقترح في "المؤتمر القومي" في 5 نوفمبر من العام 1793 تأسيس دين علماني (لا غيره) بصورة رسمية، دين الوطن، يكون المشرعون وعّاظه والقضاة أساقفته، والأسرة لا تحرق بخورها إلاّ على مذبح الوطن الذي هو أم الجميع وربّ الجميع.[12]
وتجدر الإشارة إلى أنه، بعد يومين، أعلن للمؤتمر مطران باريس الدستوري اعتزاله من منصبه، كما أعلن أنه، بعد اليوم، يجب أن لا تكون صلاة عامة غير صلاة الحرية والمساواة المقدسة.[13] وبعد ذلك بثلاثة أيام توِّجت عبادة العقل تتويجاً احتفالياً في كاتدرائية نوتردام.[14]
طبعاً، ما يقصده هايز من هذا المثل وسواه هو التدليل على أن المناخ العام كان كأنما دين جديد قد ولد مع الثورة الفرنسية، مبدؤه الإنسان وليس سواه في الأرض والسماء.
ويعتقد هايز أن القومية، من حيث هي دين لها وجوه شبه كثيرة مع أديان الماضي العظمى، بخاصة المسيحية.[15] فهي:[16]
1- القومية، مثل أي دين، لا توفر دوراً للإرادة وحدها، بل للذكاء والخيال والعواطف أيضاً.
2- ولأنها أول ما ظهرت في الشعوب المسيحية، لذلك تبنت تقاليد وعادات المسيحية. الدولة القومية تشبه الكنيسة المسيحية التي وجدت في القرون الوسطى. من ذلك:
أ- مثل تلك الكنيسة، ينسب للدولة القومية الحديثة مثال أعلى ideal ورسالة mission. أما الرسالة فهي رسالة خلاص salvation. وأما المثال الأعلى فهو الخلود.
ب- الأمة أبدية (لا تموت) وما موت أبنائها المخلصين (الأبرار) إلا إضافة وتعزيز لشهرتها وعظمتها.
ج- وكما يولد الإنسان تابعاً لكنيسة، فهو الآن يولد تابعاً لدولة قومية. والدولة القومية هي الآن التي تتعهّده وتربّيه في مؤسساتها.
د- والعضوية في الدولة القومية إلزامية لا مهرب منها. فلا سبيل للإنسان لأن ينفصل عن دولته إلا سبيل الموت أو سبيل الهجرة. وفي الحالة الأخيرة سوف تنتهي به الهجرة إلى الوقوع في شباك دولة قومية أخرى.
ه- وللدولة القومية الحديثة رموزها كما كان للكنيسة رموزها. يذكر هايز من رموز الدولة القومية التي يجب الإيمان بها وتقديسها: العلم والنشيد. فعلى جميع مؤسسات الدولة أن ترفع العلم في أعلى أبنيتها. وعلى المواطنين عموماً في المناسبات القومية أن يتلوا النشيد. وعلى الطلاب خصوصاً أن يردّدوه يومياً في مدارسهم. ويذكر هايز أن الصغار في الولايات المتحدة الأميركية ينشدون: "أقطع عهداً على نفسي بالولاء لعلمنا وللبلاد التي يمثلها، (نحن) أمة واحدة، لا تتجزأ (ونؤمن) بالحرية والعدالة للجميع".[17]
و- ومن طقوس الدولة القومية: الاستعراضات الرسمية (العسكرية وخلافها) والمواكب والحجّ إلى مراكز محددة. كما لها أعيادها التي تحتفل فيها الأمة كلها في أيام معينة من كل عام. فهناك عيد الاستقلال وعيد الحرية وعيد التحرير وعيد الشهداء وعيد العمال وغير ذلك. ويذكر هايز، فيما يذكر، يوم الرابع من تموز في الولايات المتحدة الأميركية كمناسبة لعيد الاستقلال. ويرى أنه بمثابة عيد ميلاد قومي a nationalist Christmas.[18]
ز- ويرى أن لكل دولة قومية "لاهوتاً" theology (أو ما هو بمثابة اللاهوت)، يعتمده الأفراد المواطنون في سلوكهم، بل عليهم الالتزام به. وهذا "اللاهوت" مؤلف من حكمة الآباء المؤسسين وخطبهم وكتاباتهم ومبادئهم. ففي الولايات المتحدة الأميركية يشمل "لاهوت" الدولة "الإعلان عن الاستقلال" The Declaration of Independence، والدستور The Constitution، وخطاب واشنطن الوداعي Washington Farewell Address، وعقيدة مونرو The Monroe Doctrine وخطب لنكولن Lincoln's addresses.[19]
بعد هذا العرض الذي قدّمه هايز Hayes والذي يشمل مقارنة مقاربة ما بين القومية (والدولة القومية) والدين (المسيحي بخاصة) والكنيسة، ينهي الفصل الذي عقده لذلك، الفصل الذي حمل عنوان: "القومية كدين"، بمشابهة بين القومية والقبلية، يقول: "بالرغم من عمومية المفهوم العام للقومية، فإن عبادتها مبنيّة على فكرة قبليّة". ويتابع قائلاً: "إن غايتها خير أمة الإنسان وليس جميع الناس (البشرية كلها)". ويزيد قائلاً: "القومية، كدين، تمثل رد فعل ضد المسيحية التاريخية، ضد الرسالة العالمية للمسيح. القومية تكتنـز الرسالة القبلية الأولى، رسالة الشعب المختار..."[20] ويقصد بالشعب المختار، طبعاً، الشعب اليهودي.
أكثر من ذلك، يعتقد هايز أن القومية، من حيث هي دين، لا تلقّن الإحسان والعدالة. إنها متعجرفة لا متواضعة وهي مخفقة في تعميم أهداف إنسانية. وهي تعلن مجدداً العقيدة البدائية، عقيدة أن العالم يتألّف، بصورة جوهرية أكثر من الماضي، من يهود ويونان. وهي عقيدة تفريقية جوهرها الأنانية القبلية والعظمة الفارغة، وبخاصة عدم التسامح الجاهل الطغياني والحرب.[21]
مع ذلك، وبالرغم من نقده اللاذع للقومية ودولتها، على النحو الذي تقدم وصفنا له، فإن هايز Hayes وجد حلاً لهذه المشكلة وذلك في خاتمة كتابه.
أما الحل فهو يضعه في دعوته إلى قومية مخففة، ملطفة لا تتناقض مع العالمية (internationalism) وتحديداً، هو يرى أن "الحضّ على تلطيف (النعرة) القومية ونشر (فكرة) العالمية لا يقللان من تقدير الوطنية (patriotism) ويقول، إن هذا (الاتجاه) يعني تنقية "للوطنية الحقة ورفعاً لشأنها".[22]
وقد فهم هايز من "الوطنية" حبّ الإنسان لوطنه، واعتبر هذا الحب الوطني طبيعياً في الإنسان وتعبيراً نبيلاً عن شعوره البدائي بالولاء. أما القومية فهي، جزئياً، حب للوطن. لكنّها في جانبها الآخر لعنة لأنها تعبر عن عقلية متعجرفة ومعادية. الوطنية عكس ذلك تماماً إذ هي تواضع. لذلك، يرى أن "القومية، عندما تصير مرادفة بمعناها للوطنية الصافية، ستثبت أنها نعمة "فريدة للإنسانية وللعالم".[23] وفي هذا يكمن الحل.
سعاده وهايز
الآن، استناداً إلى مبدأ مقارنة الكبير بالكبير أمر كبير، لننظر، فيما يمكن أن يكون عليه رأي سعاده في أفكار هايز التي ذكرناها. ولنبدأ من حيث انتهى.
بالنسبة للحل الذي قدّمه هايز نرى سعاده موافقاً على جانب منه ومختلفاً فيما عدا ذلك. أما الجانب الذي يوافق عليه سعاده فهو اعتبار هايز للوطنية بأنها جزء من القومية. سعاده، من جهته، وفي خاتمة كتابه: نشوء الأمم، يقول بالحرف الواحد:
"إن الوطن وبرّيته، حيث فتح المرء عينيه للنور وورث مزاج الطبيعة وتعلقت حياته بأسبابها، هما أقوى عناصر هذه الظاهرة النفسية الاجتماعية التي هي القومية". ثم يمضي مباشرة ومتسائلاً: "ماذا تعني القومية للسويسري إذا زالت جبال الألب وبحيراتها؟ وماذا تعني القومية للفرنسي إذا اختفت سهول فرنسا وتحوّلت أنهرها عن مجاريها؟" ويتابع قائلاً: "والسوري، هل يخفق قلبه لجبال الألب أو لصحارى بلاد العرب على ما فيها من مشاهد جميلة؟ أليست سورية هي التي ترتاح إليها نفسه ويحنّ إليها فؤاده إذا غاب عنها؟"[24]
ويعتقد سعاده، وفقاً لدراساته التاريخية، أن الظاهرة الوطنية باعتبارها ظاهرة قومية كانت بدايتها مع الكنعانيين فيما عرف "بالأثم الكنعاني". وهو يقول، بهذا الخصوص، ما يلي:
"إن الكنعانيين من جميع شعوب التاريخ القديم كانوا أول شعب تمشى على قاعدة محبة الوطن والارتباط الاجتماعي وفاقاً للوجدان القومي، للشعور بوحدة الحياة ووحدة المصير". ويذكر أيضاً، أن الفينيقيين هم كنعانيون نزلوا الساحل اللبناني. وهم أول من أسس دولة ديمقراطية هي دولة قومية بفضل نظام الملكية الانتخابية، حيث كان الملك ينتخب لمدة الحياة. هذا بالنسبة لعلاقة الوطنية بالقومية والقومية بالوطنية.[25]
بالنسبة إلى نظرة هايز Hayes إلى القومية واعتباره إيّاها ديناً ضد الدين وشراً، استناداً إلى التجارب القومية التاريخية المعاصرة في أوروبا بخاصة، يمكن أن يجيب سعاده بالقول، إن قومية هايز ليست كل القومية ولا كل قومية. فهناك قومية ليست أصولية وليست أصلية مستمدّة من أصل واحد، من دين واحد أو لغة واحدة أو سلالة واحدة وغير ذلك من ادعاءات الأصل الواحد. القومية، عند سعاده، هي قومية اجتماعية. هي دين ليس ضد الدين. هي دين ليس ضد الدين. وإلى شرح ذلك نتقدّم الآن.
سعاده: القومية الاجتماعية دين ليس ضد الدين
في خاتمة الفصل السادس من كتاب "نشوء الأمم"، يقول سعاده: إنّ القومية هي الدين الاجتماعي الجديد الذي أصبح أساس الدولة الحديثة. هذا بالضبط قول سعاده:
"عند هذا الحدّ نقف في استعراضنا نشوء الدولة وتطورها لننتقل إلى درس الأمة والقومية لنعرف حقيقة هذا المتّحد الاجتماعي وأهميته التي أصبحت دين البشرية في العصور الحديثة وغطّت شخصيتها القوية الفعّالة على شخصية الدولة."[26] وفي موضعٍ آخر من المصدر نفسه يصف "الوجدان القومي" الذي يعتبره أبرز الظواهر الاجتماعية العامة العصرية بأنه "الدين الاجتماعي الخصوصي."[27]
السؤال الذي ينشأ الآن هو التالي: هل يقصد سعاده بالدين الجديد أن يكون بديلاً عن الأديان السماوية؟ بصورة أكثر تحديداً، هل يرمي سعاده إلى إلغاء الأديان السماوية من حياة الناس؟ الجواب هو النفي. أولاً، لأن المعنى اللغوي للدين، لا يفيد الأديان السماوية حصراً. فالدين في اللغة يطلق على العادة والسيرة والحساب والقهر والقضاء والحكم والطاعة والحال والرأي.[28]
ثانياً، لأن سعاده يوضح قصده عندما، بكل شفافيّة، يحدد الدين جوهرياً بأغراض ثلاث هي:
المعنى الواضح لهذا التحديد للدين هو إخراجه من دائرة الاجتماع والسياسة. الدين في قراءة سعاده له هو صفة الفرد وليس صفة الدولة أو الأمة. والفكرة عن الدين التي يبدو فيها الدين شأناً فردياً خصوصياً يؤكدها سعاده في رسالته الثانية إلى غسان تويني. يقول، وهو كان في معرض مناقشة وضع فخري معلوف الذي انقلب كاثوليكياً متعصباً، ما يلي:
"فلم يَرُقْ لي أن تفرض عليّ المواقف والنظريات فرضاً، ولا رأيت الفرصة مناسبة لترك متابعة قضايا نهضتنا القومية الاجتماعية ومسائل حركتنا السياسية والاقتصادية والحقوقية والإدارية وغيرها والخوض في قضايا لاهوتية قررنا أنّها من شؤون الوجدان الفردي الخاص التي يجب أن لا تثير وأن لا نسمح بأن تثير قضية اجتماعية سياسية."[30] ثم يضيف محدّداً نهجاً جديداً في النظر إلى الأمور. فيقول: "لا يمكننا ونحن نبغي الصحيح أن ننظر إلى الدين بمنظار سياسي ولا إلى السياسة بمنظار ديني… يحسن أن يكون الإنسان مؤمناً في الدين ولا يحسن أن يكون مؤمناً في السياسة."[31]
وبالنسبة إلى حرية الاعتقاد تكون المسألة واضحة كالبلّور عندما يذكر سعاده لغسان تويني، في رسالته نفسها إلى تويني، مقطعاً من رسالة جوابية كان قد أرسلها (سعادة) إلى فخري معلوف أكّد فيها على مبدأ حرية الإعتقاد الديني وحرية التعبير عنها بالكتابة والنشر، يقول:
"ولا تنسَوا أيضاً أنّ الحزب لم يمنع أحداً قط إظهار معتقداته الفلسفية من أي نوع كانت في كتاباته، فيمكنكم أن تنشروا أفكاركم واستنتاجاتكم في الخلق والنشر والحشر والحساب وليوافقكم على ذلك مَن يشاء وليخالفكم مَن يشاء."[32]
خلاصة استقرائنا هي في أن سعاده حصر الدين في المسائل الغيبية فدائرته هناك ويجب أن تبقى هناك. أمّا الشؤون الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحقوقية والقضائية للدولة القومية الاجتماعية فهي من اختصاص هذه الدولة لا غيرها. يقول في هذا الصدد:
"ضمنت العقيدة القومية الاجتماعية لجميع أفراد المتّحد وأعضاء الدولة القومية الاجتماعية حرية الإعتقاد الخارج عن حدّ العقيدة القومية الاجتماعية وحرية الضمير والجهر بالمعتقدات بشرط المحافظة على وحدة الأمة والدولة وعلى النظام الذي تتمّ به إرادة الأمة وغرض الدولة، وحرية العمل الاجتماعي لممارسة طقوس المعتقدات المتعلقة بما وراء المادة بشرط أن تلزم هذه الأعمال حدودها ولا يكون غبار على أنّها لا تتعدّى تلك الحدود إلى ما هو من شؤون الدولة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحقوقية والقضائية وإلى القول بحرمان أعضاء الدولة وأفراد المجتمع الذين هم من معتقد مخالِف من حقوقهم المدنية والسياسية، وإلى محاولة فرض أشكال سياسية خصوصية للدولة وشروط خصوصية لنظامها السياسي."[33]
ويعود سعاده إلى تحديد الدين تحديداً مقارناً لتحديده له في كتاب "الإسلام في رسالتيه" فيقول في الرسالة الثانية نفسها لغسان تويني:
"القصد من كل هذا التوسّع أن يرى فخري معلوف أنّه يسير ضد مبادئ القومية الاجتماعية وضد قواعد دينية مقررة بإثارته خلافاً لا مبرر له ولا داعي إليه بين العقيدة القومية الاجتماعية التي لم تتعرّض للدين وعقائده، والعقائد الدينية التي غرضها خلود النفس بعد ارتحالها عن هذه الدنيا في مقامين مختلفين: مقام النعيم ومقام الجحيم."[34] هذا بالنسبة لرأي سعاده في الدين.
سعاده والدولة الدينية:
بالنسبة للدولة الدينية عموماً، نقول، منذ البداية، إن سعاده يعتبرها "أعظم عقبة في سبيل تحقيق وحدتنا القومية". فالمجتمع المتعدّد المذاهب كمجتمعنا سيكون مصيره التمزق... فالانهيار، إذا ما اعتمد مبدأ الدولة الدينية. فلا القومية ولا الدولة القومية تتأسسان على الدين.[35]
بالنسبة للدولة الدينية الإسلامية المحمدية على وجه الخصوص، يحدّد سعاده موقفه منها بقوله، إنّها كانت واسطة الدين وليست غايته وأنّ دورها انتهى بتحقيق الدين، يقول:
"ولما كان قصْد رسالة محمد الدين وليس السياسة أو فلسفة الاجتماع التي ترتقي بالعلوم الاجتماعية، فلا بدّ من التسليم بأنّ الدولة هي الواسطة للدين الذي هو الغاية. وأنّ قيمتها لا يمكن أن تكون، من الوجهة الدينية، أكثر من قيمة واسطة وبناءً عليه تكون الدولة الشيء الثانوي القابل للزوال عندما لا تبقى حاجة إليه شأن كلّ آلةٍ وواسطةٍ أدّت الغرض من وجودها."[36]
وربّ سائل: ما دام سعاده يقرُّ بوجود دولة إسلامية محمدية، أليس يعني ذلك إقراراً منه بوجود دستور قرآني لها؟ الجواب هو النفي، ففي كتاب "نشوء الأمم"، يقول سعاده الكلام التالي الواضح الذي لا جمجمة فيه:
"لم يترك محمد دستوراً للدولة، فهو قد أتمّ الدين ولكنّه ترك الدولة تهتم بمصيرها".[37] لذلك فإنّ دولة محمد لم تكن دولة بالمعنى السياسي الدستوري الدقيق، وإنّما بمعنى بسيط هو معنى القوة القادرة. وسعاده يكمل وجهة النظر هذه في المصدر نفسه عندما يقول: "إنّ الفضل في إيجاد الاتجاه السياسي الدنيوي في الدولة الإسلامية يعود إلى الدولة الإسلامية السورية الأموية."[38]
وفي تقسيمه للدولة في الفصل السادس من الكتاب ذاته (نشوء الأمم) يشير إلى دولة أولية تقوم على مبدأ القوة الفيزيائية وإلى دولة تاريخية أساسها الملك والدين... بالإضافة إلى القوة الفيزيائية. ثم إلى دولة حديثة قائمة على مبدأي القومية والديمقراطية المتجانسين. ولا يدخل سعاده الدولة القبائلية في دائرة الدولة التاريخية لأنّه اعتبرها دولة أوليّة.
نخلص مما تقدم إلى القول بأن سعاده يرفض إقامة دولة دينية لأنّ وظيفتها، في رأيه، انتهت ولم يبقَ لها سوى القيمة المتحفية للدرس ومعرفة تطور الاجتماع البشري ولأنّ تطبيقها في زماننا معناه الإنقسام فالموت الاجتماعي.
سعاده والدولة القومية الاجتماعية:
ما هو تصوّر سعاده للدولة العصرية؟
إنّ نظرية سعاده في الدولة العصرية نقع عليها في كتاب المبادئ وعلى وجه التحديد في المبادئ الإصلاحية الخمسة والتي تشكل المادة الثالثة من دستور الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أسّسه وهي:[39]
مبدأ "فصل الدين عن الدولة"، وجوهره فكرة دنيوية الدولة القومية الاجتماعية، أي أنّ مركزها الإنسان وليس اللّه. والإنسان عند سعاده هو الإنسان - المجتمع القومي أو الأمة.
ومبدأ "منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين"، وجوهره اعتماد علمَي السياسة والقضاء لمصلحة الأمة.
و"إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب" الذي جوهره المساواة بين المواطنين والمواطنات، وهو علاقته بعلم الحقوق.
"إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة". وجوهره العدل الاجتماعي - الاقتصادي. وعلاقته بعلم الاقتصاد وعلم الإحصاء.
"إعداد جيشٍ قويّ يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن". وجوهره الأمن القومي والسلام الاجتماعي وصوْن السيادة القومية. وهو له علاقة بعلم الستراتيجيا والدفاع.
خلاصة رأي سعاده في الدولة القومية بالمعنى الصحيح هي في أنها لا تتأسس على الدين. وهو يذكر أن أكبر جامعتين دينيتين في العالم، المسيحية والمحمدية لم تنجحا سياسياً كما نجحتا روحياً. ويقول، "إن الجامعة الدينية الروحية لا خطر فيها ولا خوف عليها."[40]
ويضيف قائلاً: "إن الوحدة القومية لا يمكن أن تتمّ على أساس جعل الدولة الدينية دولة قومية"[41] والخطر على المجتمع يكون أقتل إذا كان مؤلفاً من جماعات دينية متعدّدة ومختلفة.
مع ذلك، لقد أساء بعض القارئين لكتابات سعاده فهم نظرته إلى الدين التي كانت نظرة محددة، كما أسلفنا، بخاصة بعدما وجدوا أن سعاده، في خطابه في أميون الكورة في العام 1937، قال: "إن العالم قد شهد في هذه البلاد أدياناً تهبط إلى الأرض من السماء، أما اليوم فيرى ديناً جديداً من الأرض رافعاً النفوس بزوبعة حمراء إلى السماء". ويعلّق سعاده نفسه على هذا المقطع من خطابه الذي استشهد به في محاضرته السابعة في الندوة الثقافية المركزية في العام 1948، قائلاً: "نحن في هذا المعنى لنا نظرة دينية يجب أن نفهمها."[42]
ما هو المعنى الذي رمى إليه سعاده، في محاضرته تلك؟ الجواب نقع عليه في صلب المحاضرة ذاتها، عندما استشهد بكلام والده الدكتور خليل سعاده الذي وصف الإنسان الشرقي الذي يحسب الحياة لتشريف الدين لا الدين لتشريف الحياة والسموّ بها.[43] على هذا الكلام يعلّق سعاده مستفيداً، قائلاً: "في نظرتنا إلى الدين من حيث ناحيته الروحية لا السياسية، نحن نقول، إن الدين للحياة ولتشريف الحياة وليست الحياة للدين ولتشريف الدين."[44]
[1] المنجد في اللغة العربية المعاصرة. الطبعة الثانية، دار المشرق بيروت، 2001، ص 1493.
[2] Gollancz, Victor. My Dear Timothy. An Autobiographical Letter to his Grandson, Harmondsworth, 1952, pp. 294-295.
[3] Kristeva, Julia. Nations Without Nationalism, trans. Leon S. Roudiez, Columbia University Press, New York, p.p. 2-3.
[4] المرجع السابق، ص 16.
[5] المرجع السابق، ص 27-28.
[6] Shafer, Boyd C. Faces of Nationalism: New Realities and Old Myths, New York, 1972, p. 16.
[7] Kohn, Hans. The Idea of Nationalism: A Study in its Origins and Background, New York, 1961, p. 120
[8] Hayes, C. J. H. Essays on Nationalism, The Macmillan Company, New York, 1937, Essay IV: "Nationalism as a Religion", pp. 93-125
[9] المرجع السابق، ص 102.
[10] المرجع السابق، ص 10.
[12] المرجع السابق، ص 103.
[13] المرجع السابق، ص 104.
[14] المرجع السابق، ص 104.
[15] المرجع السابق، ص 104.
[16] المرجع السابق، ص 105-106.
[17] المرجع السابق، ص 108-109.
[18] المرجع السابق، ص 108.
[19] المرجع السابق، ص 109.
[20] المرجع السابق، ص 124
[21] المرجع السابق، ص 125
[22] المرجع السابق، ص 274
[23] المرجع السابق، ص 275
[24] أنطون سعادة، نشوء الأمم، الآثار الكاملة، 1، ص 168
[25] المرجع السابق، ص 166
[26] أنطون سعادة، نشوء الأمم، الآثار الكاملة، 1، ص 131
[27] المرجع السابق، ص 166
[28] التهانوي، محمد الفاروقي (متوفىً في القرن 12 هـ). كشاف إصطلاحات الفنون، الجزء 2، حققه الدكتور لطفي عبد البديع، ترجم النصوص عن الفارسية الدكتور عبد النعيم محمد حسنين، راجعه الأستاذ أمين الخولي، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، 1963، ص 305.
[29] أنطون سعاده، سلسلة النظام الجديد، 5، الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية، ص 111، ص 168.
[30] أنطون سعاده، شروح في العقيدة، رسالة سعاده الثانية إلى غسان تويني، ص 38.
[31] المرجع السابق، ص 39
[32] المرجع السابق، ص 38
[33] المرجع السابق، ص 47
[34] المرجع السابق، ص 49
[35] أنطون سعاده، كتاب مبادئ وتعاليم الحزب السوري القومي الاجتماعي، المبدأ الإصلاحي الأول، "فصل الدين عن الدولة".
[36] الإسلام في رسالتيه، ص 196
[37] نشوء الأمم، ص 126
[38] المرجع السابق، ص 127
[39] أنطون سعاده، دستور الحزب السوري القومي الاجتماعي، المادة الثالثة.
[40] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، سلسلة النظام الجديد، 2، منشورات عمدة الثقافة في الحزب السوري القومي الاجتماعي، المحاضرة 7، ص 124.
[41] المرجع السابق، ص 125
[42] المرجع السابق، ص 135
[43] المرجع السابق، ص 127
[44] المرجع السابق، ص 127. تجدر الإشارة إلى أن سعادة في مكان آخر يذكر مايلي: القومية السورية هي "دين الدنيا للسوريين". وهذا الدين القومي "يجعل السوريين عصبة واحدة لا تفرق بينهم فكرة محلّها في الآخرة". سلسلة النظام الجديد 5، الإسلام في رسالتيه: المسيحية والمحمدية، الخلاصة، ص 243.