للأمين الراحل هنري حاماتي كل الحب والاحترام والتسليم بتفوقه وإدراكه العالي، بل وفضله على كثيرين منا، وأنا ضمنهم، بتوضيح الكثير من مبدئيات سعاده ومنهجه المميز الفريد. لكن هذا لا يمنع من التباين والإختلاف معه في فهم وشرح بعض التفاصيل والمسائل الفرعية. الفرق بين السلطة من جهة، ومصدرها من جهة أخرى، هو واحد من هذه المسائل التي أريد أن أخالفه فيها.
في كتابه "أفكار- تجربة ناقصة- الجزء الثالث"،[1] يقدّم حاماتي مطالعة ممتازة عن أن السلطة يجب أن تعطى للمؤهلين لها فقط. وهذه خاصّة من خصائص النظرة القومية الإجتماعية الى مسألة إنبثاق السلطة السياسية في المجتمع، وهي أكثر ما يميّز "الديمقراطية التعبيرية" التي تطلب مؤهلات وليس فقط أصوات، عن "الديمقراطية التمثيلية" التي تطلب فقط أصوات وليس مؤهلات. وأستطيع القول أن حاماتي قد توّج فكرته واختصرها في هذا القول الصائب:
"مساهمة سعاده، في ديمقراطيته التعبيرية، هي أنه نقل العمل بشرط الأهلية من مستوى المصالح الإجتماعية في قلب المجتمع الى مستوى المؤسسات السياسية العليا في الدولة، حيث هي أكثر وجوباً وأكثر لزوماً".[2]
لكن الأمين الراحل حاماتي لم يكتف بالتدليل على أهمية ووجوب حصر السلطة، والحق بها، في المؤهلين لها عِلماً وأخلاقاً، بل ذهب أكثر من ذلك وجعل "شرط الأهلية" يشمل مصدر السلطة أيضاً، أي الشعب كله.
وأعتقد أن حاماتي كان متردداً وحائراً، فهو من جهة يقرّ بالمبدأ الديمقراطي القومي الذي يقول بأن الشعب كله هو مصدر السلطات، ومن جهة ثانية يقول "بحصر إنتخاب قيادة الحزب باصحاب الأهلية من دون سائر الأعضاء". وهذا يعني أن الذين يحق لهم الإنتخاب هم أصحاب الأهلية دون سائر الأعضاء. فهو يقول في الصفحة 40 من كتابه المذكور ما يلي:
"وإذا كان من سائل يسأل: كيف توفقون بين مبدأ أن مصدر السلطات هم أعضاء الحزب، وأن هذا حق طبيعي لهم غير قابل للتصرف، ومبدأ حصر إنتخاب قيادة الحزب بأصحاب الأهلية، ممن تدعونهم الأمناء، من دون سائر أعضاء الحزب؟ ... فإننا نجيب على هذا السؤال بأمثلة حيّة من الحياة الواقعية وقوانينها، أي من الحيّز نفسه الذي شاهدنا فيه مبدأ العمل بالأهلية مقرراً أو معمولاً به ومقبولاً".[3]
ويخلص حاماتي الى القول بأن الدستور يجب أن ينصّ على التالي:
"القوميون الإجتماعيون هم مصدر السلطات ويعبِّر عن إرادتهم الأمناء".[4] ويعني أن الأمناء ينتخِبون بالنيابة عن القوميين الإجتماعيين!
ثم يسوق حاماتي بعض هذه الأمثلة الحيّة من الحياة الواقعية في كيف أنه لا يحق لك أن تبني بيتك بنفسك إذا لم تكن مهندساً ولا يحق لك أن تقود سيارتك إذا لم تكن تحمل شهادة سوق...الخ. وكل هذه الأمثلة التي يسوقها تؤدي الى البرهان بحصر الحق في "السلطة" في المؤهلين لها، لكنها لا تؤدّي الى البرهان بحصر الحق بإختيار هذه السلطة بمن يعتبرهم مؤهلين للإختيار دون من يعتبرهم غير مؤهلين للإختيار! حاماتي يبرهن أن بيتك لا يحق لك أن تبنيه بنفسك بل يجب أن يبنيه لك مهندس، لكنه لا ينتبه أن الحق هو كله لك أنت بأن تختار المهندس الذي تريده أنت، ولا حق لأحد غيرك أن يختار لك المهندس الذي سيبني لك بيتك!
الخلاصة هي إن حاماتي استطاع أن يبرهن أن الحق في السلطة يجب أن يكون للمؤهلين لها، حصراً، لكنه لم يستطع أن يبرهن أن الحق في إختيار هذه السلطة المؤهَّلة هو ليس للجميع!
هذا ما أريد أن أخالف حاماتي فيه وأقول: إن السلطة شيء ومصدرها شيء آخر، والمؤهلات يجب أن تتوفر في أصحاب السلطة، نعم، ولكنها ليست ضرورية في مصدرها الذي هو الشعب كله.
على صعيد الحزب، وحيث الأمناء هم الجسم المؤهّل لتولّي المهمات التي تتطلب "صفات ممتازة"، حسب ما ينص عليه دستور الحزب في المرسوم الدستوري عدد سبعة، أريد أن أوضِح الخلاف مع حاماتي عبر طرح الأسئلة التالية:
الأمناء هم ليَنتَخِبوا وحدهم (بكسر الخاء) أم هم ليُنتَخَبوا وحدهم (بفتح الخاء)؟ الأمناء هم لتولي السلطة السياسية العليا أم ليكونوا مصدرها أيضاً؟ الأمين هنري وكثيرون غيره يقولون أن الأمناء هم ليُنتَخَبوا وحدهم ويَنتخِبوا وحدهم بنفس الوقت، أي هم أصحاب السلطة وهم مصدرها بنفس الوقت. أما أنا وكثيرون غيري فنقول أن الأمناء هم أصحاب السلطة وليسوا مصدرها، إن مصدر السلطة هو الشعب كله في الأنظمة الديمقراطية كلها، ومنها الديمقراطية القومية الاجتماعية، أي الديمقراطية التعبيرية.
فلنناقش في هذه المسألة المحددة ولنحصر مناقشتنا فيها.
أولاً: الأمناء هم المؤهلون ليكونوا أصحاب السلطة، وليس ليكونوا مصدرها.
إن وضع السلطة بين أيدي هواة مبتدئين لا شك أنه خطر جداً. ولسعاده قول صريح فصيح في ذلك نجده في رسالته الى رئيس المجلس الأعلى تاريخ 9-7-1938 حيث يقول: "إن ضربات كثيرة حلّت بنا من جراء بلوغ غير المؤهلين الى المراكز العالية في الحزب".[5]
أما وضع إنبثاق السلطة، أي مصدر السلطة، بين أيدي الشعب كله، المؤهلين منه وغير المؤهلين، المبتدئين منه والعتاق المجربين، فهو مبدأ ديمقراطي قال به سعاده ونجده على لسانه وقلمه في أماكن عديدة.
إن حصر مصدر السلطة بفئة واحدة، مهما كانت مؤهلاتها، يناقض عقيدة سعاده القومية الاجتماعية التي تقول بالديمقراطية، والديمقراطية معناها أن مصدر السلطة هو الشعب كله وليس أي فئة واحدة منه مهما كانت مؤهلاتها. سعاده يحصر حق ممارسة السلطة بالمؤهلين ولكنه لا يحصر مصدر إنبثاق السلطة بهم أبداً. لا يمكن لأحد أن يجد في كل ما قاله وكتبه سعاده أنه يقول بحصر مصدر إنبثاق السلطة بالمؤهلين وحدهم. إن مصدر إنبثاق السلطة هو غير السلطة نفسها. إن شرط الأهلية هو شرط يجب أن يتوفر في أصحاب السلطة وليس في مصدر إنبثاقها.
إن سعاده نفسه في مقدمة الدستور كما في قسَم الإنتماء قد احتاج لتأييد الأعضاء جميعم، دون تمييز بين كبيرهم وصغيرهم، عالي الإدراك منهم أو متوسطه أو قليله، وقال أن سلطته الفردية المطلقة هي سلطة ديمقراطية لأنها تستند الى ثقة الأعضاء المطلقة جميعهم، وليس المؤهلين منهم فقط، وقال أن الثقة المطلقة هي أساس ديمقراطي.[6]
إن سعاده لم يُشهِر شرط الأهلية بوجه أحد من الأعضاء الذين بايعوه ومنحوه ثقتهم وأيدوا سلطته عندما أدّوا قسم الإنتماء الى الحزب جهاراً ووقعوا عليه. وهذا القسم هو نفسه الذي أدّاه المؤهلون وغير المؤهلين، وسعاده طلبه وقبِله من الجميع دون تمييز بين مؤهل وغير مؤهل.
ولماذا الخوف من الانتخابات العامة!! لماذا هذا الإصرار على حجب حق الأعضاء في أن يكونوا جميعهم مصدراً للسلطة كما تقتضي الديمقراطية وكما قال بها ومارسها سعاده!! هل هو الخوف من وصول غير المؤهلين الى مراكز السلطة؟ لا مبرر لهذا الخوف طالما أن الأمناء وحدهم هم من يحق لهم الترشح لتولي السلطة. إن نظام سعاده قد حمى السلطة من تسلق غير المستحقين بأن أنشأ رتبة الأمانة وحصر حق عضوية المجلس الأعلى بالأمناء. إن اشتراك جميع أعضاء الحزب بإنتخاب سلطاتهم التشريعية العليا لا يشكل أدنى خطر على أهلية هذه السلطات وتمتُع رجالها ونسائها بالمؤهلات والصفات والمزايا الممتازة المطلوبة، طالما أن الذي يتم انتخابه سيكون أميناً.
إن أحقية الأمناء بالتداول بمسائل الأمة السياسية العليا ومناقشتها، لما يملكون من مؤهلات تمكنهم من هذا التداول وهذه المناقشة، مما ليس متوفراً لدى عامة الرفقاء، وبالتالي اختيار من منهم جدير أكثر من غيره بتنكب مهمة تولّي السلطة، هي أحقية لا جدال فيها. فيمكن للأمناء أن يفعلوا ذلك ولا أحد يمكنه أن يمنعهم. يمكنهم أن يتوافقوا ويختاروا عشرين أو خمسين أميناً من بينهم مستعدين لتولّي السلطة. لكن يجب حفظ حق الأعضاء جميعهم بإنتخاب أعضاء السلطة التشريعية من بين هؤلاء العشرين أو الخمسين. إن مرسوم الزعيم الذي وعدنا أنه سيضعه "على حدة" والذي كان سيحدد طريقة إنتقاء أعضاء المجلس الأعلى، لم يبصر النور. لكن يمكننا أن نتصوّر طريقة تحفظ حق الأمناء بإنتقاء العدد المستعد والصالح لمهمة تولّي السلطة التشريعية، وحق الرفقاء جميعهم بإنتخاب أعضاء المجلس الأعلى من بين هؤلاء المستعدّين، لمعرفة من منهم هو الأكثر قبولاً وحيازةً على ثقة مجموع أعضاء الحزب.
ثانياً: الإنتخاب هو إبداء رأي وليس تعبيراً عن إرادة عامة.
عندما نقول بأن الإنتخاب هو إبداء رأي، وبالتالي هو حق للجميع بالتساوي، حسب نص الدستور في مادته الثامنة، فإننا لا نقول ذلك استبداداً بل استناداً الى ما قاله سعاده نفسه. إقرأه في مقالة "تشبيه" كتبها في 24-10-1937 يقول:
"اليوم هو اليوم المفروض أن يقف فيه عضو الدولة اللبنانية أمام صندوق الإنتخاب ليتمتع بحريته الإنتخابية ويمارس حقوقه المدنية فيشترك في إعطاء الرجال الذين يجمع عليهم الرأي القوة الأساسية لرعاية مصلحة الشعب".[7]
أما في خطاب سانتياغو فقد قال:
"الديمقراطية التي يفتخر بها العالم اليوم هي من صنع سوري ايضاً، لأن أول فكرة ديمقراطية تعطي الشعب حقه في إبداء الرأي في سائر شؤونه ظهرت في سورية".[8]
الإنتخاب هو للتعبير عن آراء الأعضاء المتعددة والمختلفة والمتباينة في من يفضلون أن يتولى قيادتهم، وليس الإنتخاب هو للتعبير عن إرادة عامة واحدة لهم جميعهم. أنت عندما تنتخب فلاناً فلأن رأيك أنه هو أفضل وأصلح من غيره فتمنحه ثقتك وصوتك، وقد يكون رأيك مخالف لرأي غيرك. عندما تنتخب تكون تبدي رأياً، تكون تعبِّر عن رأي ولا تكون تعبِّر عن إرادة. إن الإرادة هي لتحقيق مصلحة[9]، أمّا الإنتخاب فليس لتحقيق مصالح الذين ينتخِبون بل هو للإدلاء بآرائهم. إن التعبير عن الإرادة العامة لا يتولّاها المقترِعون بل المقترَع لهم. هي من مهمة أهل السلطة وليس من مهمة من أنتخبها. أصحاب السلطة المؤهلون لها هم الذين يعبِّرون عن "الإرادة العامة" للأعضاء، لأن أصحاب السلطة هم من يتولّى تنفيذ الإرادة العامة وتحقيق المصلحة العامة التي تولِّدها. فالإرادة العامة للأعضاء وراءها مصلحة عامة لهم، ومصلحتهم العامة هي، تحديدأ، تحقيق مبادئ الحزب وغايته، وليست الإرادة العامة للأعضاء هي مجموع آراء الأعضاء المتعددة والمختلفة والمتباينة في من يفضل كل واحد منهم لتولي السلطات العليا في الحزب. إن الخلط بين الإرادة والرأي هو الذي أدّى للقول الخطأ بأن الإنتخاب هو للتعبير عن إرادة عامة. لا، إن الإنتخاب ليس لإظهار إرادة عامة للمنتخِبين، فالإنتخاب يُظهِر آراء مختلفة ومتباينة، أي "إرادات" متعددة ومتباينة وليس إرادة عامة واحدة (إذا تجاوزنا رأينا بأن الإنتخاب هو للتعبير عن رأي وليس عن إرادة). التعبير عن الإرادة العامة معناه تنفيذها وتحقيق المصلحة الدافعة لها[10]. إن أصحاب السلطة الأمناء المُنتخَبون هم الذين يعبّرون عن الإرادة العامة، بمعنى أنهم هم الذين يتولّون التحقيق والإنجاز والعمل بنجاح لغاية الحزب، فهم يملكون المؤهلات لهذه المهمة، ولقد تم إنتخابهم خصوصاً لهذه المهمّة. إن الأمناء القادة يعبِّرون عن الإرادة العامة بمعنى تنفيذها وتحقيق المصلحة العامة التي ولّدتها، وليس بمعنى الإنتخاب بالنيابة عن الرفقاء. لذلك فإن الأمناء لا يحق لهم الانتخاب بالنيابة عن الأعضاء لأن الأمناء لا يحق لهم التعبير عن رأي الأعضاء، فكل عضو له الحق بالتعبير عن رأيه باستقلال وحرية. الأمناء هم للتعبير عن الإرادة العامة الواحدة من موقع السلطة، وليسوا للتعبير عن آراء الأعضاء المتعددة والمتباينة من موقع الهيئة الناخِبة. لسعاده نصوص واضحة جداً تشير أن التعبير عن الإرادة العامة تتولّاه القيادة المنتَخَبة، بما تملك من مؤهلات، ولا تتولاه الهيئة الناخبة. وهذه بعض النصوص:
"إن الأمم كلها تريد الخير والفلاح ولكن المشكل هو في إيجاد التعبير الصالح عن هذه الإرادة. فالإرادة العامة إذا لم تجد التعبير الصحيح في فكرة واضحة وقيادة صالحة تصبح عرضة للمطامح والمآرب التمثيلية".[11]
"التعبير عن الإرادة العامة غرضه الإنشاء وإدراك شيء جديد".
"هذا هو الخلل الإجتماعي الذي يريد التفكير السوري الحديث أن يصلحه، تفهّم إرادة الشعب وإعطاؤها وسائل التنفيذ الموافقة".[12]
هذه النصوص تشير بوضوح أن القيادة الصالحة هي التي تعبّر عن الإرادة العامة. وأن الإنشاء وإدراك الشيء الجديد، أي الوصول الى الشيء الجديد، هو ما تتولاه القيادة المنتَخَبة وليس الهيئة الناخِبة. وأن القيادة هي التي من واجبها تفهّم إرادة الشعب، وهي التي تملك وسائل التنفيذ الموافقة".
كل ذلك معناه أن "التعبير عن الإرادة العامة" تتولّاه القيادات لأنه من مهماتها ومسؤولياتها، ولا تتولّاه الهيئة الناخِبة عندما تنتخِب قياداتها. فالإنتخاب ليس للتعبير عن الإرادة العامة، بل لإعطاء الثقة للقيادات التي تتمتّع بالمؤهلات للتعبير عن الإرادة العامة- لتنفيذ هذه الإرادة العامة وتحقيق المصلحة العامة المولِّدة لها.
ثالثاً: الفرق الواضح بين السياسة والإجتماع.
لسعاده مطالعة امتدت على صفحتين من كتابه "نشوء الأمم" حول عقم وخطأ تدخُّل جميع أفراد الشعب في إدارة الدولة. ففي الفصل السادس "نشوء الدولة وتطورها"، وفي سياق شرحه وتحليله للدولة المدينية والإمبراطورية البحرية، يقول:
"... ولكن الحقوق السياسية في المدينة السورية البحرية لم تقع قط في ورطة استبداد الجمهور بواسطة تدخّل الأفراد، كما حدث في أثينة المدينة الإغريقية لعهد بركلس الذهبي (توفّي 429 ق. م) ... إن العقل السوري العملي لم يكن يميل الى تخيلات فاسدة من الوجهة العملية. ولذلك فهو قد اكتفى من التجربة الإغريقية للحكم الشعبي، بواسطة الشعب أجمع، بالمشاهدة. إنه لخيال بديع، في نظر غيري، وخيال سخيف في رأيي، أن يكون كل فرد من أفراد المدينة المعترف بهم شريكاً فعلياً في إدارة الدولة. إن المدينة السورية ظلت محافظة على الفرق بين السياسة والإجتماع واضحاً. وهذا الفرق هو ما مكّن الدولة من إطّراد تقدمها".[13]
ويضيف سعاده بعد عدة فقرات ويقول:
"إن الإسلوب الذي جرت عليه الدولة في تقدمها وارتقائها كان الإسلوب السوري الذي ارتقى في قرطاجة الى الديمقراطية ووضوح الحقوق المدنية والحقوق الشخصية، مع بقاء الدولة شيئاً متميِّزاً عن الشعب، مؤسسة لا يمكن أن تُعرَّض لعبث الجمهور".[14]
إنه لواضح وضوحاً كافياً أن سعاده كان ينتقد ويعارض تدخّل "الشعب أجمع" في إدارة الدولة، أي كان ينتقد ويعارض أن يكون الشعب، بجميع أفراده، "شريكاً فعلياً في إدارة الدولة"، ولم يكن سعاده ينتقد أو يعارض حق الشعب في إختيار إدارة الدولة، عملاً بالديمقراطية التي تعني حق الشعب في اختيار السلطات في الدولة.
إن الإشتراك الفعلي "للشعب أجمع" في الإدارة هو غير الإشتراك في اختيار هذه الإدارة. الأول يعارضه سعاده، أما الثاني فيدعو إليه.
لكن الأمين حاماتي فهِم من كلام سعاده أنه يعارض وينتقد كِلا الأمرين معاً: الإشتراك في الإدارة والإشتراك في اختيارها!
وهذا خطأ كبير في تأويل كلام سعاده، لأنه إذا لم يشترك الشعب في اختيار إدارة دولته فلن تكون دولته دولة ديمقراطية. سعاده يدعو للديمقراطية ولا يمكن أن يقول بحجب حق الشعب في اختيار قياداته.
لا يجوز تحميل كلام سعاده ما ليس منه، ولا يجوز تصوير سعاده كأنه يدعو لحرمان الشعب، بجميع أفراده، من حقه في أن يكون مصدراً لإنبثاق السلطة، كما هو المعنى الجوهري للديمقراطية.
إن قول حاماتي في كتابه "إن نظامنا، بمقارنته بالأنظمة الديمقراطية في العالم المتمدن، يفرق عنها بقاعدة واحدة فقط هي قاعدة إبقاء الفرق واضحاً بين الإجتماع السياسة، ويتبنّى سائر قواعد النظم الديمقراطية الراقية الأخرى..."[15] هو قول يسيء فهم معنى الفرق الواضح بين الإجتماع والسياسة. إن هذا الفرق قد شرحه سعاده بوضوح كلّي، وهو الفرق بين الإشتراك الفعلي في الإدارة السياسية الذي يجب أن يتولّاه المؤهلون فقط، وبين الإشتراك في اختيار هذه الإدارة الذي يجب أن يكون حقاً لأفراد المجتمع كلهم على اختلاف مؤهلاتهم من صغيرها الى كبيرها. فالسلطة هي شيء، ومصدرها هو شيء آخر.
أمّا الذين يدعون لحرمان الشعب كله، كونه الإجتماع، من حق إختيار سلطات دولته، كونها السياسة، بحجّة قول سعاده بالفرق الذي يجب أن يبقى واضحاً بين السياسة والإجتماع، فهم بذلك لا يؤيدون سعاده بل يخالفونه. ذلك أن الفرق الواضح بين السياسة والإجتماع يعني أن ما ينطبق على السياسة، من وجوب وجود شرط الأهلية، لا ينطبق على الإجتماع. الفرق الواضح هو أن السلطة السياسية هي غير مصدرها- المجتمع. إنهم يؤولون كلام سعاده عكس ما يعنيه. إنهم يظلمون سعاده ويسيئون الى عقيدته القومية التي لا يمكن أن تكون إلّا ديمقراطية، فالقومية والديمقراطية هما مبدآن متجانسان.[16]
رابعاً: الحق ليس عددياً.
وإن الذين يميلون الى عدم وجوب الإنتخابات العامة في الحزب يستندون أحياناً الى قول سعاده بأن الحق ليس عددياً. أي أن الحق لا يقرره العدد. ويؤولون قول سعاده تأويلاً غريباً ويقولون أن الحق بتولّي السلطة لا يقرره عدد أصوات المقترعين.
إن القراءة الخاطئة لقول سعاده بأن الحق لا يكون عددياً، لا الكثرة ولا القلة تقرر الحق، وأن مسألة الحق ليست مسألة عددية بل مسألة إنسانية مجتمعية... (راجع مقالة المجموع والمجتمع 1-12-47)، قد أدت لميل جامح في بعض الأوساط القومية لمنع وتحريم قيام القوميين الاجتماعيين بإنتخاب المجلس الأعلى والرئيس، بل وتحريم الإنتخاب بشكل عام. لكن يفوت هؤلاء أن مسألة الحق والباطل لا علاقة لها أبداً بمسألة الديموقراطية وإنبثاق السلطة ومصدر السلطة. إن سعاده في مقالته "المجموع والمجتمع" التي يقول فيها أنه "لا الكثرة ولا القلّة تقرر الحق وتفرضه فرضاً...إن مسألة الحق ليست مسألة عددية بل مسألة إنسانية إجتماعية... وشرط الحق في الإنسانية، ليكون حقاً، أن لا يختزنه العدد الفردي أو المجموعي في نطاقه الخاص فيفنى فيه، أن لا يكون حقاً عددياً بل حقاً إجتماعياً لا ينفرد فيه الفرد ولا يستقل به العدد بل يمتد في المجتمع بلا حدود..."[17] وإن سعاده في مقالته الخالدة "الحق والحرية" والتي يقول فيها "إن الحق إنتصار على الباطل في معركة إنسانية تجري ضمن المجتمع، وأن الباطل هو إنخذال في هذه المعركة، ولولا انتصار الحق وانخذال الباطل لما عُرِف ما هو الحق وما هو الباطل..."[18] إن سعاده في هاتين المقالتين كان يتكلم على القيم الإنسانية ومعناها ليقول أنها إجتماعية وليست فردية، ولم يكن يتكلم عن "الحق في السلطة". إنه كان يتكلم عن مسألة تختلف كلياً عن موضوع الديموقراطية ومصدر السلطة. إن الإنتخابات لا علاقة لها بالحق والباطل، الإنتخابات ليست لتقرير الحق والباطل، بل هي لتقرير من هو الأكثر قبولاً وتأييداً من الشعب. إن من ينجح في إنتخابات عامة لا يعني أنه على حق، وإن من يرسب لا يعني أنه على باطل، بل إن الإنتخاب يعني أن من ينجح هو الأكثر قبولاً وتأييداً من الشعب، ومن يرسب هو أقل قبولاً وتأييداً من الشعب، ولا علاقة لهذا الأمر بالحق والباطل. إن من ينجح ومن يرسب كلاهما لهما الحق في تولّي السلطة بمجرد أنهما أمينان مؤهلان، لكن هذا الحق لا يُترجَم ويُمارَس ويُعطى إلّا للأكثر قبولاً وتأييداً من الشعب.
إن قول سعاده بأن لا الكثرة ولا القلّة تقرر الحق، لا يجب أن يأخذنا الى فلسفة إحتقار الكثرة وإهمال قيمتها وقوتها. فالكثرة والوفرة هي ضرورية ومطلوبة في السياسة كما في الإقتصاد كما في جميع المصالح العامة في المجتمع. والإنتخاب ما هو إلّا وسيلة لمعرفة إتجاه أكثرية الشعب وإحترامها عملاً بالديمقراطية والقومية اللذين هما مبدأين متجانسين. ولنا من سعاده في هذا المجال نصوصاً عديدة يطلب فيها الكثرة ويؤيدها ويحترمها.
إن الميل الجامح لدى البعض لحصر حق الإنتخاب بالأمناء، أو لمنع الانتخاب بالمرة، هو ميل غير مبرر إطلاقاً ولا سند له ولا حجة ولا دليل من سعاده، ومن يرى غير ذلك فليدلي بحجته.
ِ
إن حرمان أعضاء الحزب جميعهم من حقهم في أن يكونوا هم مصدر السلطة، وحصر هذا الحق بالأمناء فقط، هو إرستقراطية مخالفة لنظام الحزب الديموقراطي الذي وضعه سعاده مخالفة فاضحة. الإستقراطية هي من أنظمة القرون الوسطى، ولا يجوز في عصر النهضة القومية أن نُعجَب بها وأن نتعلّق بأذيالها. الإرستقراطية هي نظام يحصر كل من السلطة ومصدرها بفئة مغلقة ومختارة من الشعب، نبلاء أو عائلة أو سلالة أو طائفة دينية، أو غيرها، ويعتبر أنها وحدها مؤهلة للحكم وممارسة السلطة، ومنها وحدها تنبثق السلطة. أما نظامنا القومي الإجتماعي الجديد فإنه إذ يحصر الحق في ممارسة السلطة بالأمناء نخبة المؤهلين لها علماً وأخلاقاً، يبقي جسم الأمناء مفتوحاً للجميع وليس مغلقاً، حيث كل عضو من أعضاء الحزب يُفسح له المجال حسب مواهبه ومؤهلاته لأن يصبح أميناً. فضلاً عن ذلك فإن نظامنا لا يحصر مصدر السلطة بالأمناء بل يعطيه للشعب كله عملاً بالديموقراطية القومية.
[1] هنري حاماتي، أفكار، تجربة ناقصة، الجزء الثالث، الطبعة الثانية، بيروت 2008.
[2] نفس المصدر، صفحة 40.
[3] نفس المصدر.
[4] نفس المصدر، صفحة 41.
[5] الأعمال الكاملة، الجزء التاسع، صفحة 51.
[6] الأعمال الكاملة، الجزء الثالث، صفحة 208
[7] الأعمال الكاملة، الجزء الثاني، صفحة 193.
[8] الأعمال الكاملة، الجزء الرابع، صفحة 41.
[9] الأعمال الكاملة، الجزء الثالث، صفحة 125.
[10] نفس المصدر.
[11] الأعمال الكاملة، الجزء الرابع، صفحة 38.
[12] نفس المصدر.
[13] الأعمال الكاملة، الجزء الثالث، صفحة 96.
[14] نفس المصدر، صفحة 97.
[15] حاماتي، أفكار، الجزء الثالث، صفحة 38.
[16] الأعمال الكاملة، الجزء الثالث، صفحة 105.
[17] الأعمال الكاملة، الجزء السابع، صفحة 386.
[18] نفس المصدر، صفحة 391.