تستحيل القوة في اكتمالها الى نصب مقدس ينقل وظيفته كخادم لسيده الافتراضي، فيضحي وهو الخادم أساساً، رمزاً مقدساً متعالياً ومكرساً ليُخدمَ وتحفظ عليه مكانته القدسية. يحدث هذا في لحظة حاسمة من عمر الصراع بين الجماعات المتناحرة التي تسعى أطرافها الأضعف من جهة إلى التمسك بجذر الوجود فيما تسعى الأقوى إلى التخندق في شرنقة القوة المطلقة و/ أو حمل الجماعة المستضعفة إلى سرير الفناء.
هذه المقدمة السوسيوفلسفية هي استخلاص نافذ ناتج عن استقراء الكاتب لصراعات وقعت وتقع بين الجماعات البشرية. لكننا لو دققنا النظر في تاريخ الامبراطوريات الكبرى لوجدنا أنها تهدف غالباً إلى إخضاع/إدماج الجماعات البشرية المختلفة ضمن بوتقة صممتها قبلاً وفق رؤيتها الحضارية، من هيلينية ورومانية وبيزنطية وإسلامية الخ… حتى أن بيزنطة التي أحاطت نفسها بالأسوار من جهة اليابسة وسلاح النار الإغريقية من جهة سواحلها، إنما فعلت ذلك حماية لوجودها “المقدس” المهدد من جهات كثيرة، وليس “عبادة” لقوتها القادرة المهددة للآخر.
التاريخ حافل بالأسانيد المتضادة، وهو منهل غامض وملتبس ويشبه جراب الحاوي، في كثير من الأحيان، منه نستحضر أسانيدنا ومنه يفعل الخصم الشيء ذاته.
شمشون ودليلة
من اللافت أن تبني “اليهودية” دينا/تأريخاً (بطبعاتها الثلاثة) قد أدخل شعوب وأفراد هذه البلاد الغنية بأعراقها المختلفة والمتشابهة في آن معاً، ومن بينها اليهود بالطبع (باستثناء الخزر) فهم بلا شكّ واحد من عديد المكونات، ذلك التبني أدخل شعوب المنطقة في تناقض سافر مع هوياتها، فعلى المصري ليس أن يتعاطف وحسب مع موسى وقومه الكارهين لأجداد المصري وبلاده، بل عليه أن يتبنّى كل الترّهات والخزعبلات “المقدسة” وعليه أن يقبل ما تمليه عليه الرواية التوراتية من ثنائيات: الرحمن/الشيطان، المبارك/الملعون، الطاهر/الدنس، حيث لا يتورع عن قبول أن تكون الثانية في هذه القسمة الجائرة من نصيب أهله الأولين، الذين لن يكف عن لعنهم وتقديس أعدائهم ليثبت أنه صالح، لا على صعيد الرمز الديني وحده، بل على الصعيد التاريخي الواقعي.
لنجرّب فقط أن نسأل فلسطينياً مشرداً عن موقفه من شمشون ودليلة أو من داود وجوليات لنراه ينبري لإدانة دليلة وجوليات ويقدّس الآخرين رافعاً إياهما إلى مصاف الأنبياء والأولياء…!!
ومن الطريف فعلاً أن لشمشون في مدينة غزة، ضريح بقي مغلقاً، إلى أن سمحت السلطات قبل وقت قريب، بفتحه أمام أحد الصحفيين، ليتبين له أن هذا لم يكن سوى ضريح رجل مغربي صالح اسمه الشيخ محمد أبو العزم وقد بُني بأمر من السلطان قنصوه الغوري عام 908 للهجرة، وليس ثمة من يفسر لنا كيف ولماذا تحوّل هذا المقام من بعد إغلاقه إلى مقام لشمشون الجبار الذي يقدّسه الغزيّون أحفاد آلاف من الأجداد الذين فتك بهم شمشون بتحريض من ربّه العبراني حسب الرواية التوراتية…!!
تقول الرواية التوراتية أن شمشون تزوج امرأة فلسطينية وضاجع بغياً من غزة قبل أن يقع في غرام الفلسطينية الثالثة دليلة وهي من وادي سورق تمكنت بحيلتها وجمالها من الوصول إلى أسراره الإلهية التي منحته القوة والقدرة المخيفة على البطش. فرح الفلسطينيون بذلك لأنه كان مصدر خراب لهم. ونزلوا به إلى غزة وهناك أودعوه السجن. وَلَمَّا رَآهُ الشَّعْبُ مَجَّدُوا إِلهَهُمْ، لأَنَّهُمْ قَالُوا: «قَدْ دَفَعَ إِلهُنَا لِيَدِنَا عَدُوَّنَا الَّذِي خَرَّبَ أَرْضَنَا وَكَثَّرَ قَتْلاَنَا» (سفر القضاة 16).
يقول نزار، ولا أوافقه في شيء قدر موافقتي له في قوله هذا:
[تنتمي دليلة، عمقياً، إلى ذلك النسل: الثقافي / الحضاري التي تُشَكِّل فيه عشتار / الإلهة إحدى أهم منابعه المفتوحة والموصولة مع نظام (صناعة الإنسان). ذلك لأن الحضور العشتاري في سياق الانتقال الحاسم لـ (البشرية) إلى (الإنسانية) طاغٍ في المجال الذي نتحدث فيه تماماً، المجال الذي يمكن فيه رؤية (القوة) وقد اندرجت في إطار النظام الجديد للبشر الذي هو وعيهم لأنفسهم كنوع وكذات واحدة قابضة على هذه (القوة) ومتحكمة بها وموجهة لاستخداماتها واستثماراتها…]
إن مقاربة نزار لهذه “الأسطورة المجهضة” هي مقاربة فريدة، يقول نزار: [يمكن رؤية دليلة في نسختها الأصلية في … المشهد الذي يُرى فيه أنكيدو في أحضان شامات (خادمة المعبد المقدسة)، حيث تجري عملية المبادلة الاستثنائية ما بين صفات القوة الجسدية وصفات القوة النفسية والعقلية.]
لقد حاول الكاتب نفض ما شان دليلة وران على اسمها من غبار التدين العرقي البغيض ورد عليها اعتبارها وعمقها الإنساني، ولو قيض لنزار أن يعيد صياغة هذه الحكاية الدرامية التي عبثت بها يد الكاتب الكهنوتي، لربما رأيناها تصير أسطورة غنية بالرمز والعمق الإنساني الملحمي.
ثمة مفارقة هنا هي أن الفلسطينيون كانوا في تلك الأيام أقوياء، متسلطين على شمشون وقومه، حتى أن شمشون الجبار ذاك، قد لاذ “بشق صخرة عيطم” هرباً من الفلسطينيين وفقاً للتوراة.
وأما الآن، فقد صارت حال الفلسطينيين عكس ما كانت عليه في زمن شمشون ودليلة، فها هو شمشون المعاصر يتسلط عليهم بعد أن طالت جدائله (نووية وغير نووية) برعاية الغرب الاستعماري وتوابعه من الأعراب.
(في التمظهرات المعاصرة)
هذا القسم من المقالة له أهمية كبيرة وينطوي على حساسية خاصة. حيث يحاول الكاتب أن يتلمس حدود التشابه بين لحظة ماضية (من فمها (الواحد) خرجت الحكاية)، وبين لحظة راهنة تستميت وتميت كل ما تطاله لتقلب الأمر رأساً على عقب، ولتثبت أن الحكاية أو الأسطورة هي الرحم الذي ينبثق منه التاريخ، وليس العكس. ويؤكد نزار بحق عدم امكانية التكرار الساذج للتاريخ وكأن (اسرائيل) ليست سوى شمشون، ودليلة ليست سوى فلسطين.
ويرى في الخيار: دليلة، خيار الاندماج، أنسنة الوحش، “فإن دليلة تحاول أن تنزع مرة ثانية (خصلات شعره) ولكن من دون أن يتمكن مرة ثانية من استعادتها.” وهذا لا يتحقق بأقل من تفكيك هذا البناء المختل.
تبدو هذه الرؤية التي ينتهي الكاتب إليها مخرجاً وحيداً للخلاص مما يسميه بـ (النص القاتل)، الذي خلق واقعاً يماثله ضراوة وإغراقاً في نكران الآخر، توطئة لاجتثاثه الكامل وقتله قتلاً لا عودة منه.
هذه الرؤية هي يد الملاك الرحيمة، التي تقف دونها أظافر الشيطان. دولة الرؤيا الشمشونية المعاصرة هذه، لا أظنها ترغب أو تسمح لدليلة بذلك. إنَّ هذه الدولة على المستوى الرمزي هي روح أسطورية ممزقة، لا ترى في أرض دليلة سوى جسد بلا روح، أو بروح ضعيفة يتحتم طردها وقتلها تماماً، للحلول محلها مرة واحدة وإلى الأبد.
لكم تبدو الكوة شديدة الضيق، لا ينفذ منها الآن، ما يكفي من الضوء، لخلق فسحة أمل ضروري لتحقيق الخيار: دليلة، في المدى المنظور. إذ كلما أمد الله في عمر هذه الدولة كلما أمعنت في التوحش والانغلاق الروحي والمادي، متخذة من حيث الجوهر، صورة كائن ثنائي الجنس، “خنثى” مكتفية بذاتها داخل معزلها الذي تعود إليه إثر غزواتها، محملة بالسلب والغنائم المنهوبة من بيوت الأغيار وحقولهم.
إنَّها حرب خاصة صعبة وطويلة… لكن لا خيار سوى: دليلة. يقول نزار والحق في ما يقول.
——————————————————