شيع الحزب ومدينة طرابلس الأمين هنري حاماتي بمأتم مهيب، في كنيسة مار جرجس للروم الارثوذوكس - الميناء، وشارك في التشييع إلى جانب عائلة الراحل، نائب رئيس الحزب، عضو الكتلة القومية الأمين سليم سعاده، الرئيس الأسبق للحزب الأمين مسعد حجل، وعدد من المسؤولين المركزيين والمنفذون العامون وهيئات المنفذيات، وشخصيات اجتماعية وفاعليات ووفود حزبية شعبية.
وكان موكب التشييع انطلق من أمام مستشفى أبو جودة في جل الديب، بعد أن أدى له القوميون الاجتماعيون التحية الحزبية، وتوجه الموكب الى طرابلس وهناك حمل النعش ملفوفاً بعلم الحزب على اكف القوميين.
ترأس الصلاة لراحة نفس الراحل المتقدم في الكهنة الأب غريغوريوس موسى يعاونه لفيف من الكهنة، وبعد عظة تحدث فيها الأب موسى عن صفات الراحل ومناقبيته.
كلمة الأصدقاء
وألقى الدكتورعلي حمية كلمة أصدقاء الراحل، وجاء فيها:
أحتار عن أي هنري حاماتي أحدثكم، ومن أين أبدا حديثي عنه، انا الذي واكبته في أعماله وكتاباته ومواقفه منذ سبعينات القرن المنصرم؟
هل أحدثكم عن هنري حاماتي المربي في مدرسة البشارة في بيروت، ام المدرس بالساعة لمادة الرياضيات في أول شبابه.
أم أحدثكم عن هنري حاماتي الأديب والناقد وكاتب المسرح والسينما.
ام الباحث في الفكر السياسي، رجل دولة ارتقت بها أحلامنا، حيث سياستنا هي عين عقيدتنا، أم احدثكم عن المنظر الايديولوجي الذي لم يبلغ شأوه احد في التنظير للأمة، في راهنية صراعها، وفي القومية وصراع الأفكاروالعقائد؟ أم المحاضر والمناظر في الجامعات والأندية التي شهدت وثبة افكاره، وسحر فطنته، وإتساع معرفته ورياضيات عقله، في الندوات الحوارية بين احزاب اليمين واليسار والوسط.
ام احدثكم عن الثائر المحاور في ذلك الزمن الجميل- المرّ. ذلك الزمن الذي استجمع السنابل والهزائم ممتدا من أواسط ستينيات القرن الماضي حتى نهاية السبعينيات زمن استجمع مثقفين وابطالاّ، اخترقوا زمن الهزيمة، بما قبلها وما بعدها، حيث السنابل أثمرت والهزائم ولت!
أم أحدثكم عن هنري حاماتي، القيادي الفذ في الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي انتمى اليه وهو في السادسة عشرة من عمره، وتدرج في مسوؤلياته الحزبية من مذيع، وهو اللقب الأحب الى قلبه، الى ناظر للإذاعة، فإلى عميد للإذاعة والثقافة، الى رئيس للندوة الثقافية، ورئيسا للمكتب السياسي المركزي.
هنري حاماتي هو هذه العناوين كلها، وهذه الأسماء كلها، وهذه الإبداعات كلها!
في ألأول من اذار عام 1962 أي بعد شهرين تماما من المحاولة الإنقلابية الفاشلة التي قام بها الحزب بهدف تغيير النظام السياسي الطائفي في لبنان، ينشر مقالاّ في جريدة "النهار" بعنوان" اليوم ولد حبيبي" ومهره بإسم مستعار فينتشر المقال كالنار في الهشيم ويهب القوميون في كل مكان، ويعيدون تنظيم صفوفهم.
في هذه الفترة من فترة الستينات، دخل السجن عشرات المرات فما أن يخرج منه حتى يعود اليه، حتى ان السجان كان يفرد له مكاناّ في سجن الرمل معّدا دائما لإستقباله. "ضيفا وفيا للسجن" مكابداّ عنيداّ في وقفاته وفي مواجهاته الباطل، سوريا قوميا اجتماعيا ثابتاّ، واستمر على وفائه للسجن حتى ضّج منه السجن والسجّان!
في أواخر الستينات وبعد سنة على حرب حزيران 1967 ينشر كتابه الأول "جماهير وكوارث" يفضح فيه عجز الأنظمة السياسية الحاكمة عن تحقيق النصر. او منع الهزيمة في أفضل الأحوال، داعيا الى إعادة النظر في كل المسلمات الفكربة والوجدانية التي إستقطبت اهتمام شعبنا وعواطفه والى تبيان دور كل منها في تقرير مصير الحرب- الهزيمة، على النحو الذي الت اليه.
وتابع دراساته السياسية النقدية في كتابه الثاني و"كيف نتجه"؟ الذي كان سيحمل اسم "دولنا المكشوفة" وصدر في طبعته الأولى عام 1969 ويهديه الى سعاده، ويقول في مقدمته "نحن مهزومون قبل الخامس من حزيران، ونحن اليوم نحيا هزيمتنا التاريخية، وما يهمنا من هذا الخامس من حزيران هو كونه بعضاّ من انحدارنا التاريخي الثقافي الاقتصادي المناقبي ونتيجة له"
في السنة نفسها، يكتب مسرحية "مجدلون" داعيا الى الكفاح طريقا وحيداّ لدحر الإحتلال "الإسرائيلي"، ويقدمها محترف بيروت المسرحي وتداهمها الدولة، ويحصل إصطدام مع قوات الشرطة، داخل قاعة المسرح وينتقل الكاتب والممثلون الى شارع الحمرا عند مقهى "الهورس شو" حيث يتابع العرض في الهواء الطلق أمام الناس والمارة، والدولة وأجهزتها الأمنية. وهكذا تؤسس "مجدلون" هنري حاماتي، من يومها المسرح السياسي في العالم العربي.
في الفترة نفسها ايضا يصدر مجلة "فكر" التي لعبت دورا كبيرا في الصراع الفكري والعقائدي الذي خاضه المثقفون القوميون في مواجهة زهق التيارات العروبية الإانفلاشية والتيارات الماركسية الجامحة التي كادت تغطي المشهد الثقافي في منطقتنا، وقد نشرت "فكر" دراسات لعدد من كتاب الحزب الذين كانوا ما يزالون في الإعتقال، من سبع بولس حمدان، الى قيس الجردي، مرورا بشوقي خيرالله، وعبدالله فرج.
مع بداية الحرب الأهلية في لبنان، وتحت ضغط قوى الأمر الواقع، يختار باريس بديل ويكتب في المجلات العربية الصادرة فيها وينتقل بعدها الى الكويت وينشر هناك كتابين: الأول حمل عنوان "التضامن العربي الإسرائيلي على لبنان وفلسطين"، 1979 يكشف فيه إرتباط بعض الأنظمة العربية بـ "إسرائيل" وعن طبيعة هذا الإرتباط وهذا التضامن وضررها الكبير على المصلحة القومية.
بعد سنة اي عام 1980 ينشر كتابه الثاني في الكويت تحت عنوان "سقوط الإمبراطورية الإيرانية" ويترك هذا الكتاب وكسابقه أصداء فكرية واسعة في الأوساط الفكرية والسياسية.
بعد الكويت يعود الى باريس ويتفرغ للكتابة الفلسطينية فينشر على امتداد عشرة اعوام كتاب"افكار" في خمسة أ جزاء.
هو النهر
آخر دفقاته كانت "كلمات للعاصي" كتابه الأخير الذي يبدأ من حيث انتهى "الإسلام في رسالتيه" لسعاده. انه قراءة جديدة للتراث الديني تحرره من الإدخالات والتسللات التوراتية اليهودية التي تحولت مع الوقت الى مرتكزات تراثية كاذبة وخطيرة.
في 4 آب الماضي، وفي حفل توقيع "كلماته للعاصي" كنا نجلس معا على ضفاف ذلك العاصي الممتد شمالا صوب الإسكندورن السليب، أسر لي قائلا: أشتاق الى انطاكية.
نعم لقد اشتاق الى انطاكية! فهي المدينة السليبة التي أبصر فيها نور الحياة بين أبوين حرّين لكأنه اشتاق عناقها الحرّ الذي لا يمكن ان يكون اليوم إلا هذا الرحيل.
أمين هنري... ها انت تعود بروحك الى انطاكية التي اشتقت. فهنيئا لك ولها لقاؤكما الأخير في وحدة التراب! وهنيئا بطرابلس الشام بك، ممتدا عنفوانك بروح انطاكية فيها.
كلمة رئيس الحزب القاها نائب رئيس الحزب ومما جاء فيها:
يا صديقي ورفيقي هنري، حضرة الأمين الجزيل الإحترام.
أتينا اليوم عائلتك وأنا ورفقاؤك ومحبيك لوداعك الوداع الأخير.
وما عهدناك هادئاً، صامتاً دون حراك.
عهدناك صاخبا متفجراً نابضاً بالحياة.
عهدناك واقفاً على المنابر تتفجر الأفكار والكلمات كينبوع من فمك وعلى لسانك.
عهدناك جالساً تلقي محاضرة أو تشترك في ندوة أو تطرح فكرة أو تجيب على سائل.
فقم الآن من سريرك هذا الذي لا يليق بك، فلست أنت الذي ينام دون حراك.
قم وقل لنا كيف نتجه. إقرأ لنا من كتابك الذي بهذا العنوان، الذي قرأه وتعلم منه آلاف الطلبة وآلاف الرجال وآلاف الرفقاء في ذلك الزمان الصاخب من ستينات القرن الماضي. فحددت لأجيالنا الإتجاه الذي حدده زعيمنا الخالد، ووجهت بوصلتنا الى فلسطين، الى القتال من أجل فلسطين، والى وحدتنا كشعب لا تفرقه المذاهب والطوائف، بل توحده المعرفة والعقل والوعي والعلم.
قم إقرأ علينا من كتابك جماهير وكوارث وضع يدك على الجرح النازف في مجتمعنا الذي تتألب جماهيره دون وعي وراء من يلهب عواطفها وأهواءها وغرائزها، فتهرول دون تخطيط مبني على العلم، ودون معرفة بالظروف والأحكام وبلعبة الأمم، ودون دراسة للنتائج، فتقع الكوارث. وقد ألمّت منذ كتابك الذي وضعته في ستينات القرن الماضي كوارث كثيرة صنعتها الجماهير التي لا تعلم من أين تبدأ، وكيف تسير، والى أين الوصول. ولا يزال الكثير من تلك الجماهير إياها، تتحرك بأيدي سحرة الطوائف ومهرجي المصالح الخصوصية فيخلقون لها معارك وهمية، ويغدقون عليها الوعود بتحقيق بعض مطالبها وينقلونها من إستحقاق الى آخر، ولا يتحقق من مطالبها سوى الوعود.
ثم قم حدثنا عن مسرحيتك مجدلون التي تمردّت فيها مع رفقائك على النظام الطائفي المتنمّر، الذي طغى وتجبّر وقتل رفقاءك تحت التعذيب ونكّل بهم. وأذكرعندما مُنع عرضها على المسرح، لم تهابوا، ولم تخشوا حرابهم، ولم ترضخوا، بل تابعتم عرضها في الهورس شو وعلى شارع الحمرا، لتقولوا لنظام الأتباع والمتسلطين والمتسلقين أن الطغيان والتجبر والتهديد والوعيد لا يمكن أن ينال من إرادة الأحرار وطالبي الحرية والعاملين للحق والحقيقة.
وتمضي السنون، ويموت بعضنا، ويستشهد بعضنا، ويشيخ بعضنا، وتأتي الأجيال التي كانت في حينها لم تولد بعد. ويبقى الحال على حاله. إلا أن هذه الأجيال لا تزال تحمل الشعلة وتنقلها من قرية الى أخرى ومن مدينة الى مدينة في كل أمتنا السورية. وننتظر منها ان تحقق الكثير.
قال لنا سعاده، الذي آمنت به، كزعيم وكمعلّم وكقائد:
"إن القوة النظامية مهما كانت صغيرة أفعل بكثير من الجماهير، لأن الجماهير لا تجمعها إرادة واحدة في الحياة، ونفسية واحدة، وبناء مناقبي واحد".
الجماهير يجمعها الهوى، وتشتتها المصالح، وتنتقل بها من هزيمة الى أخرى ولا يمكن أن تُهزم قوة نظامية إلا بقوة نظامية أفضل منها.
قالها سعاده منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ولم يأبه لها من رجال السلطة أحد. كانوا يريدون نصراً سهلاً في فلسطين. إستهانوا بقوة النظام والتنظيم، وبقوة الوعي والإرادة والتصميم والتخطيط، فتحققت لهم الهزائم والكوارث. فانتقلوا من هزيمة الى أخرى، ومن تنازل الى آخر أمام عدو مغتصب، مدجج بالسلاح وبقوة نظامية، فانتصر باطله على حقهم، ولكن الى حين، لأن كل باطل الى زوال إذا أدرك الحق كيف ينتزعه من جذوره. وها هو شعبنا قد أدرك قوة النظام والتنظيم وجبروت إرادة القتال وانتزاع الحق وإعداد العدة لمقاتلة العدو بالسلاح الذي يفهمه، يحقق الإنتصار تلو الإنتصار بفضل المقاومة الباسلة في فلسطين وفي لبنان وفي الشام. وها هو الإنتصار في الجمهورية العربية السورية الذي يعترف به العدو قبل الصديق، للقائد الذي عرف أن يصمد كالطود في وجه جيوش الإرهاب والظلام لينقذ شرف وكرامة شعبه. وللجيش السوري البطل الذي قاتل بشجاعة واحتراف وصمود، وانتصر رغم التضحيات الجسام. وكذلك في لبنان، فقد تمكن جيشه البطل من تحقيق الإنتصار وطرد فلول الإرهاب من أرضه، بفضل تحقق المعادلة الرائدة: الجيش والشعب والمقاومة.
قال لنا سعاده:
"لبنان يهلك بالطائفية ويحيا بالإخاء القومي".
وقد شاهدنا كيف أهلكت الطائفية لبنان. فهبطت به بخط تنازلي، فكان ينتقل من أزمة الى أزمة، ومن قتال طائفي عبثي، الى قتال طائفي عبثي آخر. ومن إقتصاد متدهور، إلى غرق في الديون تستهلك خدمتها جزءاً كبيراً من دخله القومي.
وإذ نأمل بعد أن تشكلت الحكومة اللبنانية، بعد مخاض طويل إستغرق تسعة أشهر، أن تقدم لشعبنا في لبنان بعض الحلول التي طال إنتظارها، رغم تراكم الوعود وتوالي الحكومات. وإذا كنا لا نريد أن نفقد الأمل مسبقاً بحكومة رسّخت حكم الطوائف في لبنان، وابتعدت عن المعايير الوطنية في تشكيلها، لينتقل الصراع الطائفي المقيت الى داخلها. إلا أننا ولا نزال نحمل بعد بارقة أملٍ، فإننا نقول لهذه الحكومة أنه آن الأوان للوقوف بتصميم وثبات لتطبيق أحكام الدستور، والخروج من نظام الطوائف والمحاصصة الطائفية، التي تلبس لباس الهلع الميثاقي، الى نظام العلمنة الكاملة حيث تتحقق قيمة الإنسان، وحمايته، ليس تحت مظلة طائفية، بل تحت مظلة القانون، وليس تحت راية التفرقة التمييز الطائفي، بل تحت راية الوحدة والمساواة.
وحتى لا نذهب بعيداً، فإننا نقول لقد آن الأوان لتطبيق أحكام الدستور والعمل على الأقل لإلغاء الطائفية، التي كان على المجلس النيابي الأول بعد الطائف العمل على إلغائها عن طريق تعيين الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفية السياسية.
آن الأوان للعمل بموجب أحكام الدستور لسن قانون الإنتخاب النسبي على قاعدة لبنان دائرة إنتخابية واحدة وخارج القيد الطائفي. وأن يترافق ذلك مع التشريع لإنشاء وانتخاب مجلس شيوخ تتمثل فيه كافة الطوائف اللبنانية.
آن الأوان لتكون الأهلية والعلم والأخلاق هي المقياس لتعيين المسؤولين في دوائر الدولة ومرافقها، وأن تفعّل الرقابة الفعلية على أدائهم من المجالس الرقابية، دون هيمنة من أحد.
آن الأوان لنقل لبنان من الدرجات الأدنى في ترتيب دول العالم من حيث نظافة البيئة واستشراء الفساد، الى لبنان البيئة النظيفة والأيادي النظيفة والضمائر النظيفة. من لبنان المحاباة والواسطة والتمييز، الى لبنان العدالة والأهلية والمساواة. من لبنان الذي يرزح أكثر من نصف شعبه تحت خط الفقر، الى لبنان الذي يوزع البحبوحة والكفاية على شعبه، وذلك باعتماد الاقتصاد المنتج، وليس اقتصاد الإستهلاك. وبفتح الأسواق خارج لبنان للإنتاج اللبناني الزراعي والصناعي.
آن الأوان لنقل لبنان من بلد الصفقات والتصفيق، الى بلد المناقصات والتعهدات المراقبة، والى الإمتناع عن التصفيق للفاسدين والمفسدين.
آن الأوان لنقل لبنان من بلد النأي بالنفس، وكأنه جزيرة معلقة في الهواء لا تتأثر ولا تؤثر، الى بلد الإخاء القومي، فينفتح على بيئته الطبيعية، ويتأثر بها وتؤثر به، ويشارك في حل أزماتها ويمنع عنها الإعتداءات كما فعلت سوريا عندما ساعدت في إخماد الفتنة الطائفية في لبنان، وأنقذته من أشداق العدو الصهيوني. ولا يخشينّ أحد من اللبنانيين من الذوبان عند قولنا وهتافنا " تحيا سوريا " لأننا نشعر أن لبنان هو في ذرى سوريا كما قال سعاده.
يا أخي ويا رفيقي، لقد أديت قسطك للعلى فنمِ. نم قرير العين والفؤاد، لقد آمنت بوحدة سوريا، وبسلّم القيم والمناقب، وبأن العقل هو الشرع الأعلى، ناضلت طيلة حياتك وأنشأت عائلة قومية، وعلّمت وقدت لتنصر ما آمنت به، وتابعت الطريق التي شقها لنا سعاده، وسيتابع على الدرب عينها رفقاؤك الأبطال المؤمنون المقاتلون في كل ساح سواء في سوريا أو في المغتربات، لعزّة سوريا ووحدتها وانتصارها، لتحيا سوريا.