يتحدّثون عن أزمةٍ في الحزب السوري القومي الاجتماعي، بينما ليس هناك اختلافٌ بين القوميين، لا على المبائ الأساسية، ولا على المبادئ الإصلاحية، وراهنيّة هذه المبادئ مُثبتة في أنحاء الهلال الخصيب. ولكنّ أداء المؤسسات الحديثة، الحكومية والخاصة، بحاجة إلى تقييمٍ، وبالتالي إلى تقويمٍ إذا اقتضى الأمر، عملاً بنظرية إرنست أموري كادمان Ernest Amory Codman، في العقد الأول من القرن العشرين، التي قالت بأنّ العمل، أيّ عمل، يُقيَّمُ بنتائجه النهائية. وقد أصبحت هذه النظرية شعار اليوم بعد مرور قرنٍ من السنين عليها. ليس من الضروري النظر إلى ما يحصل في الحزب على أنّه أزمة، بل عملية ارتياب إيجابية، ودعوة إلى تقييم عملِ القيادات السياسية التي تناوبت على السلطة، بغضِّ النظرِ عن الأشخاص، ومنذ جريمة تغييب أنطون سعادة إلى الآن. ثمّ إنّ القيادة، بالإضافة إلى ما سنتحدّث عنه، عانت من حالتَين: الشيخوخة في بعضِ أفرادها، والذكورية الموبوءة بالعنجهية وشبق السلطة.
تقييمُ المؤسّسات في المجتمعات الحضارية لا يحصلُ بشكل اعتباطي وبناء على رأيٍ شخصي، بل يُبنى على دراسةِ مسارٍ يُسمى «دائرة المعرفة»، يُرمز إليه بأربعة حروفٍ إنكليزية PDSA، كلٌّ منها رمزٌ لفعلٍ: برنامج عمل (Plan) يُطرَح للممارسة (Do)، تتبعه دراسة أو عملية تقييم للنتائج (Study)، سواء كانت سلبية أو إيجابية. وبناءً على هذه النتائج، يتبع فعل التصحيح أو التقويم (Act)، وحصيلة الدورة، سلبية أم إيجابيّة، تنتج عنها معلومة (معرفة) مكتسبة. وبهذا الفعلِ تزداد المعرفة فيُتبنّى الإيجابي ويُجَنَّب السلبي. وتنمو المعرفة، لا بشكل دائري، وإنما بشكل كُرَوي (فضائي).
إنّ الذين يتحاورون «خارج المؤسّسة»، هم من صميم النهضة التي جاءت بها رؤية سعادة، لا سيوف لهم، بل كلمات من منطق العقل، ومن روحانية الأمّة. هؤلاء لا يرفعون سيوفاً، وإنما يُبدون آراءً، وقد قال الزعيم: «الرأي رأيٌ وليس حكماً». وهؤلاء، مدعوّون إلى أن يُمارسوا النقد والتقييم ضمن المؤسسة، ويتكاتفوا داخليّاً، وإلّا سيصبح تصرّفهم مظهراً آخر للصراعِ على السلطة.
حول نتائج انتخابات أعضاء المجلس الأعلى في الحزب الأخيرة، كتبت الصحافية في «الأخبار» ليا القزّي، في 14 أيلول/ سبتمبر 2020، تقول: «فمرّةً جديدة، يُقدِّم الحزب القومي نموذجاً في العمل الحزبي، ويُظهر حيويّةً واندفاعاً وقدرةً مؤسّساتية على إعادة إنتاج القيادة بطريقةٍ يفتقدها معظم الأحزاب العاملة في لبنان». بعضُ الوجوه غير معروفة، إلّا في النطاق المحلّي، ولكن من المفروض أن تُمنَحَ الفرصة للقيادة الجديدة للعمل، آملين، في أدائها، أن تجمع الشمل. ومن المفروض، أيضاً، أن نتجنّبَ أخطاء الماضي، وأن نتبنّى لغة سعادة ــــــ لغة الحوار والعقل. وهنا، في لمحة عن الماضي لا بدّ من عبرة. العودة إلى فكر سعادة، لا توصفُ بالسلفيّة كما يحلو للبعض، ولا بعودةٍ إلى الوراء، فهذا احتقار لكلّ إنجازٍ فكري إنساني سابق. وقد أثبت فكر سعادة، اليوم، راهنيّته بشموليّته وبتفاصيله، ومن خلال الحوادث والكوارث التي حذّر منها والتي حلّت بالأمّة. الأمم تفتخرُ بإنجازاتها الفكريّة والعلمية، ومنها قد تستشرفُ المستقبل. وعلى هذا الأساس، «لا يوجد عصرٌ حزبيٌ ذهبيٌّ»، بحسب قول الأمين أحمد أصفهاني بل رؤية دائمة تجاه المستقبل، ورغبةٌ في الإنتاج والبناء، مُعتمدين «على جسرٍ معرفيٍّ ما بين الماضي والحاضر... ومنهما إلى المستقبل». المجتمعات الراقية، في أدائها اليوم، لا تتوقّفُ عند «العلامة المرجعية» (Benchmark) كأُفُقٍ ثابت، وإنّما كقاعدة انطلاقٍ تتجاوز الحالة الراهنة. في سورة «العلق» التي أوحِيَت إلى الرسولِ العربي: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» (العلق: 1 – 5). أوَلم تكن هذه السورة دعوةً إلى المعرفة، بإغناء العقل بتجارب الماضي، ليس بقراءتها فقط ولكن بتحليلها عقلياً، بسلبيّاتها وإيجابيّاتها والانطلاق بمزيدٍ من المعرفة؟
آمن أنطون سعادة بسيادة العقل، «العقلُ هو الشرعُ الأعلى»، وبقوة المعرفة، «المجتمع معرفة، والمعرفة قوة»، وتَحدّث بلغاتٍ عدّة: تحدّث في البيئة وعلومها وأثلامِ محراثها في الأرض وفي تكوُّن الإنسان والاجتماعِ، وفي كلِّ أنواع الحياة الأخرى من حيوانٍ ونبات. وبلغة العقل والمنطق، تحدّث في الاقتصاد، وفي الدولة وإصلاحها، وفي التاريخِ المزروع على هذه الأرض، وتحدّث حتى في الأدب وإبداعه، وفي مسيرة المجتمعات نحو المستقبل. فلم يُؤمن بالأمر الواقع، بل دعا إلى التعبِئة نحو الأفضل والالتزام بالممارسة، «فالمعرفة التي لا تنفع كالجهالة التي لا تضر».
هذه اللغة، اليوم، وفي كلّ المجالات الحياتيّة، هي ما افتقده «القوميّون الاجتماعيون» في بعض قياداتِهم المتعاقبة التي جعلت من السلطة وآلية الوصولِ إليها هدفاً لها. الرؤية الإبداعية هي التي «تتجاوز الزمان والمكان»، وهي «نظرة تخترق الواقع»، و«تكتشف عمّا يعتبره العقل محالاً» كما قال أدونيس.
«تطيير» النُخب الفكرية
هناك حديثٌ يدور عن «تطيير» واضطهاد القيادات الحزبية للنخب الفكرية، مستعينةً بسلطتها الإدارية. فتَغَرّبت النخبة الفكرية، حين أبعِدَت عن ورشة الإبداع. والحقيقة أنّ هذه القيادات لم تكن عندها اللغة والقدرة الفكرية لاستيعابها، وبالتالي شطّت النخبة عن محورية العمل الجماعي. هذا المنطق العسكريتاري السلطوي، جلب الكوارث على «القوميين»، فضُرِبَت مؤسّساتهم، ولوحِقَ مفكّروهم، وشُرِّدت عائلاتهم، حَصَلَ هذا بعد عمليّة مقتل عدنان المالكي الغريبة، عام 1955، وبعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في لبنان، ليلة 1961 ــــــ 1962. ولم يقتصر عداؤها على النُخب الفكرية في الحزب، وإنّما شمَل النُخب الفكرية الأخرى في الوطن، إذ لم تكن لهذه القيادات أية لغة في التعامل مع حركة الحداثة التي انطلقت من بيروت خلال الأعوام 1950 ــــــ 1975، وعمّت العالم العربي كلّه، شاملةً كلّ مجالات النهضة من شعرٍ وأدبٍ وموسيقى وغناءٍ ورسمٍ وصحافةٍ ومسرح... بعدما كان للنخبة القومية دورُها الفاعل في عصر بيروت الذهبي.
أمّا اللغة الأخرى التي افتقدناها في القيادة الحزبية فهي في تعاملنا مع الحركات النضالية في العالم العربي. مثلاً، حين قامت الثورة المصرية في 23 تموز/ يوليو عام 1952، كان فاروق ملكاً على كلّ وادي النيل، وقد هلّل لها «السوريون القوميون الاجتماعيون»، واستقبلوها بالحبورِ والترحيب، لأنّهم اعتبروها بتطلّعاتها ثورة قومية مصرية اجتماعية، تلتقي منطقيّاً بالحركة «السورية القومية الاجتماعية».
في مقدّمته لكتاب رفيقا أحمد شومان «أيّامٌ مَضَتْ» (ص: 24 ــــ 25)، يذكر الأمين عصام المحايري الزيارات العديدة التي قام بها إلى القاهرة كصحافي، عام 1954، والجهود التي بذلها في حواره مع رجال الثورة المصرية: «وكانت جريدة الحزب (الجيل الجديد)، من الصحف التي وقفت بقوة إلى جانب الثورة المصرية، وهي تشقُّ طريقها بعناءٍ، للتعريف عن نفسها، في مواجهة الحملات التي، كان أهلُ اليمينِ، كما أهلُ اليسار، يشنّونها عليها، بلا هوادة». ويذكر رفيقنا الراحل أحمد شومان، في كتابه ذاته (ص: 110 ـــــ 115): «ما قام به هو نفسه، بتشجيعٍ من الأمين أديب قدورة وما قام به الرفيق الصحافي جبران حايك، من جهودٍ تجاه عبد الناصر ورجال الثورة المصرية، في الوقت الذي كانت بعض القيادات الحزبية تهاجم عبد الناصر وتتّهمه بالشيوعية». وكيف كانَ الأمين أديب قدورة قد أَصرّ على المجلس الأعلى في الحزب، لتكليف الرفيق أحمد شومان مهمّة إعادة الاتصال بالرئيس جمال عبد الناصر، رغم معارضة المسؤولين الكبار الذين كانوا يوجّهون سياسة الحزب. وبالفعل، فقد جرى اللقاء، وبترتيبٍ من عبد القادر حاتم وزير الإرشاد القومي. وأصغى عبد الناصر بإمعان إلى شروحات رفيقنا عن فلسفة الحزب وموقفه المسانِد للحركات الثورية في العالم العربي، وطلب نُسَخاً من مؤلّفات أنطون سعادة. وكان «السوريون القوميون الاجتماعيون»، كلّهم، يحلمون بأن تكون هاتان الحركتان ـــــــ مشرقية خصيبية ومغربيّة نيلية (جنوبية ــــــ غربية) ــــــ سيفَين متعانقَين للَمّ شمل العالم العربي والدفاعِ عن حياضِه. إلّا أنّ كلّاً من القيادة الحزبية، والقيادة المصرية، كانت له طموحاته الخاصة؛ فالقيادة الحزبية لم تكن جادّةً في هذا المسعى، فانغمست كما سنرى في صراعٍ سلطوي مع التحالف الشيوعي ــــــ الناصري ــــــ البعثي. ومع أنّ الحزب القومي الاجتماعي لم يكن له ولاءٌ لأيّة دولة أجنبية، ولا اتصالٌ بأيّ منها، إلّا أنّ قيادته، وجدت نفسها في معسكر الغرب، ووقعت فريسةً في أفخاخ الاستخبارات الفاسدة، أوّلُها غربيّة، وثانيها مصرية. فهذه كانت مخترقة من العدو والاستخبارات الأجنبية، وكانت لها أفخاخها التي قضت على القيادة المصرية نفسها. وهذه الاستخبارات أقنعت القيادة المصرية بشفافية الرؤوس العسكرية الحامية التي أتى بها الانتهازي أكرم الحوراني والتي كانت نيّتُها الحلول مكان عبد الناصر نفسه يوماً ما. النتيجة كانت تخلّي الثورة المصرية عن الأهداف الوطنية المصرية، فأهملت السودان كمكمّل لاتحاد وادي النيل، واتّجهت نحو المشرق مدفوعة بالشعبويّة. وتحت هذه الضغوط تخلّى الرئيسان، جمال عبد الناصر وشكري القوتلي، عن مسؤوليّتهما كرئيسَي دولة، ووقّعا على صكّ الوحدة، من دون اعتبارٍ للعوامل العلمية والجغرافية والاقتصادية الفارضة نفسها على الواقع آنذاك. الوحدة المصرية ـــــ السورية انهارت، واليوم مصر في علاقاتٍ مفتوحة مع العدو. وما أدراك ما حلّ بالهلال الخصيب من مآسٍ وكوارث، فالعراق عراقاتٌ عرقيّة وطائفيّة، وسوريا محتلّة، والأعداء يقضمُون أطرافها، ولبنان محاصرٌ وبيروت مدمَّرة، وفلسطين أشلاء ممضوغة، والأردن متسوّل.
حزب البعث العربي الاشتراكي
اللغة التي افتقدناها أيضاً، كانت مع طلائع «حزب البعث العربي الاشتراكي». كان الكواكبي أباً للفكر الثوري بتطلُّعاته القومية والإصلاحية والعلمانية. هاجم الاستبداد والسلطة المطلقة، ودعا لحرية الرأي، وطالب بنشر العلوم، وبمسؤولية وطنية، وحارب الطائفية والتعصّب الديني، مسيحياً كان أم محمّدياً. كما دعا إلى تحديد الملكية الزراعية، وتأميم المرافق، ونحو ذلك. والحق أنّ فكر الكواكبي الوطني والعروبي، كان رافِداً غزيراً للفكر القومي الإصلاحي والعلماني الذي دعا إليه أنطون سعادة، كما تأثّر به كلّ النُخَب الفكرية العلمانية، مهما كان انتماؤها الحزبي والسياسي، ومن ضمن هؤلاء، طلائِعُ «البعث» الأُوَّلية التي انضَوَت في عصبة العمل القومي: «اقترحت نخبة الجيل الثلاثيني على الجماعة البشرية المشرقية (لاحظ المشرقية) نمطاً آخر من التعاضدات الإنسانية، هو نمط التعاضد الحزبي... مع انغراس الجسم الجديد في صفوف الجماعة الوطنية... جاء هذا الفكر ليشدّد على بناء القاعدة. وكان هدفه الأساسي رفض التجزئة... لم تحتمل الجماعة البشرية في الدولة السورية كيانها السياسي إلا بصفته مرحلة عابرة، أو كشرّ تاريخي سيُصار حتماً إلى تصحيحه بسرعة تتناسب مع حجم الخلل الكبير». وكان هذا الفكر قد بدأ يعبئ النفوس للثورة والتغيير السريع... و«إنّ الطريق إلى التغيير القادم يمرّ بالضرورة أولاً بالتعبئة الواسعة ضد المحتل، وبإنجاز الاستقلال وبناء الدولة الوطنية...» (محمد حافظ يعقوب: جيل أكرم الحوراني، «الحياة» 3 ـــــ 7 أيلول/ سبتمبر 1996).
ويؤكّد زهير مارديني على انتماء «البعث» إلى طلائع عصبة العمل القومي: «كانت بداية الحزب مع الأساتذة ميشيل عفلق، جلال السيد، صلاح الدين البيطار، الثلاثي القيادي لمرحلة البداية». «ومهما يكن الرأي حيال هذا، فإنّ ممّا لا شك فيه أنّ البعث، هو إرث «عصبة العمل القومي» إلى حدّ بعيد، نواة تنظيمَي الأستاذين الأرسوزي وعفلق الأولى من هذا الحزب» (زهير المارديني: الأستاذ. ص 121). لقد كان هناك الكثير من التقاطع في الفكر الإصلاحي، ما بين نُخَب الأحزاب الوطنية الأربع (السوري القومي، الناصري، البعثي والشيوعي) وما بين فكر الكواكبي، وللأسف الشديد، لم تكن هذه النخبة واعية لما يجري من طموحات سياسية في فكر ذلك الانتهازي أكرم الحوراني، والضابط المخابراتي الطموح عبد الحميد السراج، وفي الرؤوس العسكرية الحامية التي كان أكرم الحوراني يحشوها بالحقد في الخفاء. لم يكن للحوراني دورٌ فكري بارز في حزب «البعث»، وكان بوصوليّته من أكبر الذين دمّروا حزب «البعث العربي الاشتراكي»، بعدما كان قد دمّر الحزب «السوري القومي الاجتماعي»، وهو الذي أبطل الحياة الديموقراطية (كفكرة وكنهج)، وطلب بحلّ الأحزاب السوريّة، ومن بينها «البعث»، وكان قد حلّ الحزب «القومي»، قبل ذلك بثلاث سنوات، رغم أنّ رجُلَه، قاضي الاستئناف بدر الدين علّوش، كان قد خيَّب أمَلَه حين حكم ببراءة الحزب «القومي الاجتماعي» من مقتل عدنان المالكي. وحدث حلّ الحزب «القومي»، بتواطؤ مع المستشارين المحيطين بعبد الناصر، ومن بينهم عبد الحميد السراج نفسه الذي كان في مهمّةٍ للقضاء على هذه الأحزاب، هو الآخر، لغايةٍ في نفسه، لا تختلف عن تلك التي كانت في نفس أكرم الحوراني... وحتّى جلال السيّد، لم يتحمّل بهلوانيات الحوراني طويلاً.
الحزب الشيوعي
اللغة العدائية شملت الحزب الشيوعي والاتحاد السوفياتي. صحيحٌ أنّ القيادات الشيوعية، في منتصف القرن الماضي، تجاهلت الفكرة القومية ووجّهت معتنقيها إلى الأممية، بتوجيهاتٍ عقائدية من قادةٍ لهاٍ ذوي أصولٍ غير قومية، كخالد بكداش. ولكن، كان للشيوعيين اهتمامٌ بالحياة اليومية للمواطن. أمّا القيادات «القومية الاجتماعية»، فقد تجاهلت الحاجات اليومية للمواطن، وتصرّفت بفوقية عدائية في دعوتها القومية، بدلاً من وضعِها في مشروعٍ عقلي نهضوي مرتبطٍ بحياتنا اليومية المعيشية، وذلك ضمن حوار منطقي رزين ومتّزن، مدعومٍ بالصبر والمثابرة. وجعلت هذه القيادات من الشيوعيين، ومن الاتحاد السوفياتي آنذاك، هاجِساً يُحذَّر منه. والهاجس كان دائماً مرتبطاً بشبق السلطة عند هذه القيادات. وهكذا، وضعوا الحزب «السوري القومي الاجتماعي» في معسكرٍ لا ينتمي إليه، وضدّ معسكر سوفياتي لا عداوة لنا معه، بل كان داعماً للتحرّر الوطني. اليوم، غالبية الشيوعيين ابتعدوا عن شعارات الأممية، ولهم وعيٌ عميقٌ بمخطّطات العدو، وبأخطار الدول الداعمة له والمحيطة بنا كأمّة، وأمام هذه الأخطار، غالبية الشيوعيين يدعون إلى الكفاح الوطني والقومي، وإلى تكاتف القوى الوطنية للدفاع عن سلامة هذا الوطن (سعد الله مزرعاني. جريدة «الأخبار» 8 شباط/ فبراير 2020)، ضدّ العدو والقوى التي تُهدِّد وجودنا (إبراهيم الأمين، جريدة «الأخبار»، 27 كانون الثاني/ يناير 2020)، ومنهم من أشاد بنضال «الحزب القومي الاجتماعي» ضد العدو (أسعد أبو خليل، جريدة «الأخبار» 20 حزيران/ يونيو 2020)، كما أنّ جريدة «الأخبار» نفسها مفتوحة لكتابات «السوريين القوميين الاجتماعيين» بروحيّة التعاطف النضالي.
جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمّول)
أثناء الحرب الطائفية اللبنانية (1975 ـــــ 1990)، كان الحزب «السوري القومي الاجتماعي» رائداً في مقاومته لمشاريع العدو وعملائه، كما أنّ للقوميين تضحيات في ذلك المجال، إلّا أنّ لغة القيادة تجاه الكثير من المواطنين ساهمت في دفع الكثير منهم إلى الاحتماء في كنتونات «القوّات اللبنانية»، لا محبةً بهم أو بمشاريعهم المدعومة من العدو، وإنّما بسبب الخوف والرعب. فقد تمادت قياداتنا في الانحياز نحو بهلوانيات ياسر عرفات، وهو الذي لاحقاً كان أول من وقّع على التطبيع مع العدو في أوسلو، في 13 أيلول/ سبتمبر 1993، كذلك تمادت هذه القيادات مع طموحات كمال جنبلاط في السلطة. هذا الموقف (نتَجَ عنهُ شهداء)، ساهم في تصدّعات المجتمع، وأدّى إلى تضخيم قوى الطائفيين بأنواعها.
آنَ الأوان لأن تستعيدَ النهضة مسيرتها، ولأن يتوقّف اللهاث إلى السلطة! وآن الأوان للقوى الوطنية أن تلتقي، ولحزب سعادة مسؤولية كبيرة في ذلك. وإن لم تفعل، فقد لا يكون هناك وطنٌ ولا شعبٌ ولا سلطة ولا من يحزنون.
يقولٍ الشاعر أدونيس: «إنّ الهويّة التي هي قوام الإنسان، ذاتاً وإبداعاً، ليست في مجرّد اختلافه عن الآخر، وإنما هي في حَرَكيَّة اختلافه، داخل ذاته ـــــ بين ما هو وما يكون. الهويّة في الحالة الأولى انفصالٌ وانكفاءٌ، وفي الحالة الثانية، اتّصالٌ وتوثُّب». (ها أنت أيّها الوقت. ص: 20).
قدرُنا ليس الانفصال والانكفاء، بل الاتصال، ومع الكلّ وبالتوثب، أليس هذا ما كان في لغة سعادة؟