أسمع كثيراً هذه الأيام، خاصة على ألسنة بعض السياسيين ورجال الدين ومؤخراً على لسان الممثّل وسام حنا في حفل توزيع جوائز الموركس، بأنّ اسم لبنان ورد سبعين مرة في الكتاب المقدّس، وهم بذلك طبعاً يشيرون إلى أمرين: الأول أنّ لبنان قديم قدِم الإنسان، والثاني أنّه لا يمكن أن يزول لبنان من الوجود طالما أنّه مذكور في الكتاب المقدّس عشرات المرات. يغيب عن بال هؤلاء أنّه عليهم قبل الإستشهاد بالكتاب المقدّس أن يقرأوا بدقة ما جاء فيه عن لبنان أولاً، والعودة إلى تاريخ الكنيسة مع التوراة ثانياً.
أمّا بخصوص النقطة الأولى، أي ورود أسم لبنان في العهد القديم، فما علينا إلاّ أن نعود إلى بعض نصوص هذا العهد، أي توراة اليهود، لكي نعلم ماذا كان يعني لبنان لهم. تبدأ القصة منذ أن ظهر الإله يهوه، وليس الربّ بالمطلق، لإبراهيم قائلاً له: " لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر الى النهر الكبير نهر الفرات" تكوين – 18:15. وهذا يعني أنّ هذا الإله أراد وبكلّ بساطة أن يقضي على كلّ من كان يسكن في هذه البقعة من الأرض والتي تشمل كلّ أرض كنعان، ومن ضمنها لبنان، وأرض بلاد الرافدين أي العراق اليوم، ومن لم يستطع القضاء عليهم يهجّرهم من أرضهم ومساكنهم كرمى لعيني إبراهيم وذرّيته التي لم تكن قد وُجدت بعد لأنّ سارة زوجة إبراهيم كانت عاقراً حتى ذلك الوقت. ولقد أكدّ هذا الإله كلامه ليعقوب، والذي بدّل اسمه لإسرائيل، إذ قال له: "والأرض التي اعطيت إبراهيم وإسحق لك أعطيها" تكوين : 12:35 واستمرّ بتأكيد وعده مع موسى حيث قال له : اذهب أصعد من هنا (اي من مصر) أنت والشعب الذي أصعدته من أرض مصر إلى الأرض التي حلفت لإبراهيم وإسحق ويعقوب قائلاً لنسلك أعطيها. وأنا أرسل أمامك ملاكاً وأطرد الكنعانيين والأموريين والحثيين والفرزيين والحوثيين واليبوسيين. إلى أرض تفيض لبناً وعسلاً". خروج 33: 1-2-3. وكيف يمكننا أن نصدّق بأنّ الربّ، أي يهوه، قد حلف لإيراهيم، ألا يعني هذا أنّ إبراهيم كان يشكك في نوايا وأقوال هذا الإله، هذا إن نحن صدّقنا بداية أنّ هذا الإله تكلّم مواجهة مع إبراهيم وإسحق ويعقوب وموسى، وهذا ما حدا بعض الباحثين إلى التأكيد بأن هذا الإله ليس سوى شيخ قبيلة بني إسرائيل وأنهّم كانوا يؤلهونّه. وهذا يعني أيضاً أنّ هذا الإله: " لم يكن كائناً أعلى، بل كان إلهاً محلياً محدوداً وشرساً، عنيفاً ودموياً. وكان قد وعد أتباعه بأن يهبهم أرضاً، تفيض لبناً وعسلاً، وحثّهم على إخلاء هذه الأرض من جميع سكّانها بــ حدّ السيف" سيغموند فرويد في كتابه: موسى والتوحيد. وها هو هذا " الربّ " الإله يكلّم أيضاً الناس العاديين ويحدّد هذه المرة بدقة الأرض التي سيجعلهم يستولون عليها بقدرته العظيمة غير آبه بمن يموت من أهلها ومن يهجّر، فهو حلف لإبراهيم ويجب أن يفي بوعده، فقال ليشوع: " فالآن قم اعبر هذا الأردنّ أنت وكلّ هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم أي لبني إسرائيل. كلّ موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلّمت موسى. من البريّة ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات جميع أرض الحثيين وإلى البحر الكبير نحو مغرب الشمس يكون تخمكم " يشوع 1: 2-3-4. فلبنان هذا، وللذين يعتقدون أنهّم من ذرية لبنانيي ذلك الزمن، هو جزء من إسرائيل الكبرى. كما يعتقد اليهود، وبالتالي فإنّ قولكم بأنّ اسم لبنان وارد في ما تسمّونه الكتاب المقدّس، هو لبنان التوراتي الذي وُعد به إبراهيم ومن بعده بأن يكون لذريته مع باقي الأرض من البحر الغربي، أي المتوسط، وصولاً إلى الفرات. وهذا الوعد، إن صحّ أنّه إلهي، فهو لم يتحقق، وبالتالي هذا يعني أنّ هذا الإله لم يف ِ بوعده، وهذا الكلام موجه لمن يعتقد حتى هذه الساعة أنّ ما ورد في التوراة هو كلام إلهي، وهو واقعياً ليس سوى كلام بعض الكهنة الذين غلّفوه بالألوهية، على قول إبن رشد، لغايتين: الأولى: لكي يلاقي قبولاً عند الناس، والثانية لكي يمتنع الناس عن مناقشته من منطلقات عقلانية لا ما ورائية.
وعندما تقدّم يشوع بالسن حثّه " الربّ" أن يستكمل فتوحاته "المباركة" مذكرّاً إياه أنّه لم يزل أمامه مناطق شاسعة عليه ان يستكمل احتلالها، فقال له: " وأرض الجبلييّن وكلّ لبنان نحو شروق الشمس من بعل جاد تحت جبل حرمون إلى مدخل حماة. جميع سكان الجبل من لبنان إلى سرفوت مايم جميع الصيدونيين. أنا أطردهم من أمام بني إسرائيل " يشوع 13: 5-6. طبعاً هذا لم يحصل ولم يصدق هذا " الربّ بوعده كما قلنا. ولقد حاول اليهود في عصرنا أن يحققوا الوعد بأنفسهم وليس بواسطة ملاك يهوه، ولم ينجحوا، لكنّ عينهم باقية عليه، وللذين يهرولون للتطبيع ويكرزون به عبر بعض الوسائل الإعلامية نقول: إن نجحتم بذلك، ولن تنجحوا، فمصيركم لن يكون أفضل من مصير قائد جيش لبنان الجنوبي أنطوان لحد.
أمّا إذا تابعنا تقسيم الأرض بين أبناء يعقوب لقرأنا ما يلي عن حصة سبط بني أشير والتي ضمت: " قانة الى صيدون العظيمة. ورجع التخمم إلى الرامة وإلى المدينة المحصّنة صور" يشوع 19: 28-29. وطبعاً هذا لم يرد في أية وثيقة تاريخية تؤكدّ ما جاء في العهد القديم، وهذا ما دفع بالمؤرخ توماس طومسون للقول بأنّ العهد القديم ليس تاريخاً تحوّل إلى خيال، بل هو خيال تحوّل إلى تاريخ. وطبعاً لم يذكر الكاتب أنّ قانه وصيدون وصور هي مدن لبنانية، لأنّ لبنان كان فقط الجبل، ولم يكن حتى تابعاً لفينيقية، لأنّ فينيقية هي المدن الكنعانية الساحلية من أنطاكيا إلى صفد في فلسطين المحتلّة. والفينيقيوّن لمن لم يقرأ التاريخ لم ينزلوا الى الساحل من المرّيخ بل هم كنعانيون سكنوا الساحل، وعندما شقوا عباب البحر ووصلوا إلى اليونان بزوارقهم ذات الأشرعة الأرجوانية، أطلق عليهم اليونانيون لقب الفينيقيين المشتق من لفظة فينيكس. وهنا نقول لغلاة اللبنانيين، المصرّين على أصلهم الفينيقي، بأنّ شعوباً عديدة احتلّت بلادنا بدءاً من اليونانيين وصولاً إلى الفرنسيين، فتمّ الإختلاط، ولم يعد من الجائز علمياً القول بالعرق الفينيقي. ونلاقي تأكيداً لما نقول في الإصحاح الأول من سفر القضاة إذ نقرأ: " فسكن الأشيريون في وسط الكنعانيين سكان الأرض لأنهم لم يطردوهم " قضاة 1: 2 . فهذا الكلام يؤكدّ أنّ بني أشير لم يستطيعوا قتل وطرد سكّان الأرض التي كانت من حصّتهم، ولا هم أصبحوا أسياد هذه الأرض بدليل قوله "سكنوا وسط الكنعانيين"، وبأنّ قانه وصيدا وصور هي مدن كنعانية. وبرّر كاتب التوراة عدم وفاء إلههم بوعده فيقول: " فهؤلاء هم الأمم الذين تركهم الربّ ليمتحن بهم إسرائيل كلّ الذين لم يعرفوا جميع حروب كنعان إنمّا لمعرفة أجيال بني إسرائيل لتعليمهم الحرب. الذين لم يعرفوها قط. أقطاب الفلسطينيين الخمسة وجميع الكنعانيين والصيدونيين والحويّين سكان جبل لبنان من جبل بعل حرمون إلى مدخل حماة" قضاة 3: 1-2-3. صحيح أنّ وصيّة إله اليهود كانت بأنّ لا يتزوج رجال بني إسرائيل من بناة كنعان، ولا بنات إسرائيل من رجال كنعان، ولكن ماذا نقول عن بقية الشعوب التي نزلت ببلادنا غازية؟ ألم يحصل تزاوج بل اغتصاب، فكيف يبقى أي عرق صافياً؟
سأكتفي بهذه الأمثلة التي ورد فيها اسم لبنان في العهد القديم باعتباره جزءاً من أرض إسرائيل أمّا الأهم من ذلك هو حقد أنبياء إسرائيل على لبنان وعلى مدن كنعان – فينيقية الساحلية والذي تمثّل بالأدعية لإنزال الدمار بها وإحراق الأرز، وهاكم بعض الأمثلة.
بداية تأمّلوا وصف ناحوم لله، يقول: الربّ إله غيور ومنتقم. الربّ منتقم وذو سخط. الربّ منتقم من مبغضه وحافظ غضبه على أعدائه. الربّ بطيء الغضب وعظيم القدرة ولكنّه لا يبرّىء البتة" ناحوم 1: 2-3. فأي إله هذا؟ وأيّ نبي يرى الربّ على هذه الصورة؟ وكيف نؤمن، مسيحيين ومسلمين، بهذه الأقوال ونترك اقوال يسوع عن الله المحبّة والتسامح والغفران وأقوال الرسول التي تتماهى مع أقوال يسوع؟ وإلى المؤمنين الذين ما زالوا يعتبرون أنّ الديانات السماوية ثلاث ويقدّمون اليهودية على المسيحية والإسلام بالتوحيد والقداسة والألوهية أقول: إقرأوا التوراة بعقلكم لا بتفكيركم الإيماني النمطي فلن تجدوا غير الإجرام والأمر بالكذب والسرقة والزنى، هذا ما أشار إليه دارسون كثر لهذا الكتاب الذي أدخل اليهود في عقول الناس بأنّه كتاب الإنسانية الخالد، وهو ليس سوى كتاب يجب أن يخجل المؤمنون من قراءته فكيف بالإيمان به.
لنبدأ مع النبي حزقيال الذي أراد دمار صور العظيمة، فنقرأ: " وكان في السنة الحادية عشرة في أول الشهر أنّ كلام الربّ كان إليّ قائلاً يا ابن آدم من أجل أنّ صور قالت على أورشليم هه قد انكسرت مصاريع الشعوب". لذلك هكذا قال السيّد الربّ: هأنذا عليك يا صور فأصعد عليك أمماً كثيرة كما يُعلي البحر أمواجه. فيخربون أسوار صور ويهدمون أبراجها وأسحّي ترابها عنها وأصيّرها ضحّ الصخر... لا تبنين بعد لأنّي أنا الربّ تكلّمت يقول السيّد الربّ" حزقيال، 2: 1-2-3-4-14. فأيّ حقد هذا يصدر عن نبي؟ وما هو السبب؟ الأنّ صور قالت هة على أورشليم؟ وما معنى هذا الكلام؟ ألا يدلّ على حسد مقيت لا يليق لا " بالربّ" ولا "بنبي"؟
ومن حزقيال أيضاً نقرأ: " وكان إليّ كلام الربّ قائلاً يا ابن آدم أجعل وجهك نحو صيدون وتنبأ عليها وقل. هكذا قال السيّد الربّ. هأنذا عليك يا صيدون وسأتمجّد في وسطك فيعلمون أنّي أنا الربّ حين أجري فيها أحكاماً وأتقدس فيها. وأرسل عليها وبأّ ودماً إلى أزفّتها ويسقط الجرحى في وسطها بالسيف الذي عليها من كلّ جانب فيعلمون أنّي أنا الربّ" حزقيال 28: 20-21-22-23. فمن صور ينتقل حزقيال إلى صيدون ليُعمل في سكانها القتل فقط ليعلم أهلها قدرة الربّ (يهوة)، فأي ربّ يفعل ذلك، ألا يمكنه أن يُظهر للناس قدرته إلاّ بالقتل والتخريب؟
وها هو إشعيا النبي أيضاً يأتيه الوحي من جهة صور، وبعد أن يعتبرها متوّجة على بقيّة المدن وتجّارها رؤساء يقول بأنّ " الربّ" أمر من جهة كنعان أن تُخرب حصونها" إشعيا 23: 8-11.
وهذا الربّ (يهوه) لم يكتف بالدعاء على مدن فينيقية، بل هو لم يترك مدينة مشهورة في أرض كنعان أو بلاد الرافدين إلاّ وأطلق أدعية الشر عليها على ألسنة أنبيائه، من بابل الى دمشق وغزّة وصفد وصولاً إلى مصر التي كان قد أذاقها على يد موسى كل أنواع البلية.
ونصل مع النبي زكريا إلى قمة الحقد حيث يقول، ودون أية مقدّمات توضح سبب هذا الحقد، بأنّه ربّ الجنود أي الإله يهوه، قد تعهّد قطيعه بيت يهوذا، وبيت يوسف وأفرايم ليزرعهم "بين الشعوب"، ويرجعهم "من أرض مصر وأجمعهم من أشور وآتي بهم الى أرض جلعاد ولبنان ولا يوجد لهم مكان"، وصولاً إلى قوله، ودون أي تبرير، "افتح أبوابك يا لبنان فتأكل النار أرزك" زكريا 11: 1. فبماذا يا هذا أساء إليك أرز لبنان؟ ألم يرد في أيام الملوك أنّ سليمان قد بنى هيكل "الربّ" من خشب أرز لبنان؟ فأية إساءة اقترفها لبنان وأرزه بحق هذا الإله البربري دعته لكلّ هذا الغضب، وهو غضوب ومنتقم، لينزل هذا العقاب بأرز لبنان؟ الحقيقة أنّ هذا الكلام، وإن ادّعى الكتبة أنّه كلام الأنبياء، ليس سوى كلام الكتبة الذين ملأ قلوبهم الحقد على شعبنا وحضارته فكالوا له الأدعية بالخراب والدمار والدماء، ولم تقم أدلّة أبداً على أنّ هذا الكلام قد تحقّق فعلاً، وهذا يعني أنّه مجرّد أمنيات لا تنبوءات.
هذه أمثلة من العهد القديم تدلّ بوضوح على نوايا بني إسرائيل تجاه لبنان وهي برأيهم، ومع الأسف برأي معظم المؤمنين، أوامر إلهية يجب التقيّد بها وإلاّ ينزل على من يخالفها غضب عظيم من "الربّ"، وهذا الكلام لا يمت الى الربوبية بأية صلة. أولاّ أصبح من المعروف لكل من يقرأ التوراة بشكل عقلاني أنّ "الربّ" الذي جاء ذكره في العهد القديم ليس سوى يهوه إله بني إسرائيل الخاص الذي أختارهم شعباً خاصاً به، وليس الله الكوني الذي يؤمن به بقية البشر. هذا الكلام ليس تجنياً على بني إسرائيل بل إنّه مثبت في التوراة ذاتها حيث يركّز هذا الإله في مخاطباته للآباء الأولين على بني إسرائيل فقط، ويعلّمهم أنّ بقية البشر ليسوا سوى حيوانات وُجدوا لخدمتهم وليكونوا عبيدا لهم. وهنا ننتقل إلى علاقة الكنيسة بالتوراة وكيف تطوّرت إلى أنّ تم دمج التوراة بالأناجيل في كتاب واحد أطلقوا عليه اسم الكتاب المقدّس لكي يمنعوا المؤمنين المسيحيين بداية ومن ثم المسلمين من مناقشة ما جاء فيه منسوباً إلى الله.
لقد حوّر اليهود بعض ما جاء في الأناجيل لكي يثبتوا أنّ جذور المسيحية ضاربة في الديانة اليهودية، وبالتالي المسيحية تُعتبر امتداداً لليهودية، وهذا لكي يُخفوا التناقض بين الديانتين أولاً، ولكي يقنعوا العالم بأنّ ديانتهم هي الديانة التوحيدية الأولى التي عرفها الإنسان. فأتت الإكتشافات الأثرية الحديثة لكي تكشف زيف ما يدّعون إذ عرف السوريون القدماء وبعدهم المصريون على يد أخناتون التوحيد قبل ظهور بني إسرائيل على مسرح الوجود. ولمن يرغب الإطلاع على تحوير اليهود لبعض ما جاء في الأناجيل عليه قراءة ما كتبه الأب الدكتور سهيل قاشا في هذا المجال، وقراءة كتب الدكتور خزعل الماجدي حول الأديان لمعرفة من أطلق فكرة التوحيد. وما عليّ في هذه العجالة إلاّ أن أعود الى الأناجيل، وتحديداً إلى موعظة الجبل، التي نقض فيها يسوع وصايا موسى العشر المخصصّة لبني إسرائيل تحديداً. ومن يتمعّن بقراءة هذه الوصايا في التوراة يدرك تماماً أنهّا مخصّصة ليتعامل بها بنو إسرائيل فيما بينهم. فموسى على سبيل المثال يقول لا تقتل قريبك، لا تسرق من قريبك، وفي الوقت نفسه يأمر بني إسرائيل أن يقتلوا كلّ الشعوب بعد دخولهم إلى المدن الآهلة دون التفرقة بين رجل مقاتل وشيخ مسنّ، بين امرأة وطفل، وهو كذلك، أي موسى، أمر قومه بسرقة المصريين قبل خروجهم الأسطوري من مصر إلى أرض كنعان، إذن وصاياه، المأخوذة من شريعة حمورابي، هي وصايا خاصة بهذا الشعب الخاص الذي أختاره إله خاص ليكون شعبه، وهي ظاهرة فريدة من نوعها في التاريخ البشري كما يقول سيغموند فرويد في كتابه موسى والتوحيد. أمّا إذا قرأنا ما قاله يسوع لأدركنا أنّ تعاليمه تخص الإنسانية جمعاء دون تمييز أو تفرقة، لأنّ تركيز يسوع كان على خلاص الإنسان بشكل عام، أمّا موسى فكان همه خلاص بني إسرائيل دون غيرهم. اليهود اختلقوا نسباً ليسوع يعود إلى داود، ويسوع نفسه رفض هذا النسب، فلماذا ما يزال المؤمنون المسيحيون متمسّكون به، ألا يدلّ هذا على رضوخهم للمؤامرة اليهودية عليهم والتي تحدّثت عنها بوضوح بروتوكولات حكماء صهيون؟ نقرأ من رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس ما يلي “: فإني إذ كنت حرّاً من الجميع استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين. فصرت لليهود كيهودي لأربح اليهود. وللذين تحت الناموس كأنّي تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس. وللذين بلا ناموس كأنّي بلا ناموس مع أنّي لست بلا ناموس لله. بل تحت ناموس للمسيح" بولس 9: 19-20-21. هذا الرسول تبع يسوع بتصرفاته التي أراد منها أن يتواصل مع جميع الناس لكي يدلّهم على طريق الخلاص الحقيقي للجميع وليس لنفر من الناس، وهذا يدلّ على كونية رسالة يسوع وخصوصية وصايا موسى وشريعته. ومن رسالة بولس إلى تيطس نقرأ: "فلهذا السبب وبّخهم بصرامة لكي يكونوا أصحّاء في الإيمان لا يُصغون إلى خرافات يهودية ووصايا أناس مرتدّين عن الحق ". 1: 13-14.
ولا وجوب أن أستفيض بسرد التناقضات التي تؤكدّ بطلان الإدعاء بأن المسيحيين ملزمون بالإيمان بما جاء في التوراة لأنهّم آمنوا بيسوع وليس بموسى وشريعته، ويسوع نقض شريعة موسى فلماذا عليهم الإيمان بها ولديهم ما هو أفضل منها؟ ألم يقل يسوع إنّ مزج الخمرة الجديدة بالخمرة العتيقة يفسدها؟ وهل عنى بالخمرة ما تعنيه حرفياً أم التعاليم الجديدة المحيية والمخلّصة للإنسان ليس فقط من الخطيئة بل أيضاً من أثقال تعاليم الشريعة الموسوية المميتة والمقيتة؟ ألم يقل بأنّ ترقيع الثوب العتيق لا يعيده جديداً؟ وماذا عنى بذلك سوى التخلّي عن الشريعة الموسوية لصالح تعاليمه الإنسانية؟
وإذا ما تركنا جوهر التناقض بين الديانتين وذهبنا نتتبّع تاريخ العلاقة بين اليهود والمسيحيين لوقفنا على المؤامرات المستمرّة، منذ صلب يسوع ولغاية اليوم، على المسيحية .وليس علينا سوى مراجعة كتب التاريخ التي تتحدّث عن اليهود في أوروبا في القرون الوسطى، وكيف كانت الكنيسة بذاتها تأمر بتجميع كتاب التوراة وحرقه في الساحات العامة، ليس كرهاً باليهود وممارساتهم اللاأخلاقية فقط، بل لقناعة الكنيسة أنّ هذا الكتاب لا يحتوي على درس اخلاقي واحد للعامة، وعبّر أحد آباء الكنيسة عن ذلك بقوله: من المخجل لكلّ ربّ عائلة أن يقرأ شيئاً من هذا الكتاب على مسامع أولاده.
فما الذي تغيّر حتى انقلب موقف الكنيسة بشكل جذري من اليهود وكتابهم. يقول وليام غاي كار في كتابه: أحجار على رقعة الشطرنج، ما يلي: " بعد طرد اليهود من بلدان أوروبا (في القرون الوسطى) أرسل شيمور حاخام مقاطعة أرس إلى الحاخام الأكبر في الآستانة يستنصحه، وجاءه الرد في تشرين الأول من عام 1489 بإمضاء أمير اليهود وفيه ينصح الحاخام الأكبر رعاياه باتباع وسيلة "حصان طروادة"، وينصح اليهود بجعل أولادهم قساوسة وكهنة ومعلمين ومحامين وأطباء حيث سيتمكّنون من الدخول إلى عالم المسيحية وتقويضه من الداخل". وهذا بالفعل ما حدث، إذ أخذ يهود أوروبا بنصيحة الحاخام الأكبر، ويقال إنّ أحدهم تسلّم سدّة البابوية في الفاتيكان وعمل على ضم التوراة إلى الأناجيل في كتاب واحد وعُرف منذ ذلك الوقت بالكتاب المقدّس، وحرّم على المؤمنين مناقشة ما ورد في متنه، وعرفت التوراة بالعهد القديم والأناجيل بالعهد الجديد. ومن يمعن الفكر بهذه التسمية يجب عليه تلقائياً، واستناداً إلى قول يسوع، أن يترك القديم ويتبع الجديد، إذ لا يمكن الخلط بينهما لأنّ ذلك سيكون مدعاة لإفساد الجديد ولا خوف على القديم فالفساد ميزة ظاهرة فيه.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ اسم لبنان لم يرد في الأناجيل، فهل تساءلنا لماذا؟ والجواب بسيط جداً وهو لأنّ لبنان كجبل وفلسطين كانا جغرافياً وسياسياً جزءاً من سوريا، وها هو مرقس في الإصحاح السابع يقول: " وكانت الإمرأة أممية وفي جنسها فينيقية سورية" 7: 26، وهذا دليل تاريخي أنّ فينيقية لم تكن قائمة بذاتها، بل كانت جزءاً من سوريا. ويقول مرقس أيضاً: " ثم قام من هناك ومضى الى تخوم صور وصيدا". 7: 24، ولم يقل توجّه إلى لبنان، لأنّ المدينتين لم تكن في ذلك الوقت تابعتين لجبل لبنان سياسياً.
يبقى أن أشير إلى أنّ دراسات عديدة ظهرت، ومنها لكمال الصليبي وفاضل الربيعي، وفرج الله صالح ديب، تؤكد أنّ جغرافية التوراة والأحداث الواردة فيها وأسماء الأماكن بما فيها مصر ولبنان موجودة في الجزيرة العربية واليمن تحديداُ، وبأنّ اليهود حوّروا الأسماء لتتناسب مع جغرافية فلسطين ولا بدّ أيضاً من الإشارة إلى كلمة " القداسة" والتي أصبحت مبتذلة بعد كلّ الذي نراه من أفعال ومواقف باسمها. فلا شيء مقدّس بنظري إلأّ العقل، تمشياً مع قول أبي الغلاء المعرّي: " لا إمام سوى العقل"، هذا العقل وحده يمسك بايدينا، إن نحن أطلقنا له حريّة التفكير ويسير بنا في الطريق الصحيح لتلمّس حقيقتنا الإنسانية بعيداً عن الأساطير والخرافات. فإذا ثبتت هذه النظريات علمياً وكان لبنان التوراتي في اليمن وليس في بلاد الشام، فأيّة قيمة تبقى لهذا الإستشهاد؟
وكلمة أخيرة أقولها لكلّ المؤمنين بوجود لبنان منذ الأزل واستمراريته إلى الأبد، بغض النظر إن كان اسمه قد ورد في التوراة أم لم يرد. هذا قول أتبناه ليس فقط بالنسبة للبنان، فسكان كلّ بلد يعتزّون بأرضهم، ويتمسكون بها وطناً دائماً لهم نتيجة وجودهم في هذه الأرض والأجيال التي سبقتهم وقدمت التضحيات للمحافظة عليها. فجغرافياً ومنذ أن بدأ الإنسان يدرك أهمية التجمع في بيئة معينة، أكسبه تفاعله مع هذه البيئة من جهة، ومع من تواجد معهم منذ فجر التاريخ المعروف، ومن أتى غازياً بعد ذلك، تاريخاً مشتركاً، وقيماً حضارية واحدة، وعادات وتقاليد ميّزت هذه البيئات بعضها عن بعض. فمن هذه الناحية لبنان، وليس الكيان السياسي اللبناني، موجود منذ أن اكتشف المقيمون فوق هذه الأرض الأبجدية وبدأوا يطلقون على الأشياء والأماكن أسماءها. وسيبقى بالطبع لبنان هذا موجوداً إلى الأبد، إن لم تطرأ عليه عوامل جيولوجية تعيد جباله ثانية الى تحت الماء وتخفي كلّ معالمه الحالية. وأهمّ من ذلك كلّه أن نقوم نحن، مواطني لبنان الحالي، بدورنا ومسؤوليتنا الفعلية العملية وليس النظرية، بالعمل الجاد الدؤوب لبناء الإنسان فيه أولاً، لأنّ الإنسان الحالي بعقليته الطائفية، الإقطاعية، الإستزلامية المريضة، لا يمكنه بناء دولة حديثة. فالناخبون مدعوون بعد شهور عدّة للتعبير عن قناعاتهم، فإمّا يكرّسون هذا الواقع المريض المتهالك، وإمّا يخطون الخطوة الأولى على طريق الألف ميل، فهل يفعلون؟