كان انطون سعاده متقدماً على زمنه وعلى ثقافة بيئته. زمنه كان، ومازال، زمن الطوائف والطائفية، والعصبيات الدينية المتزمتة، وثقافة التقاليد العتيقة البالية، وهيمنة القوى الإستعمارية وزبانيتها والتابعين من كل مذهب ودين.
سعاده وعى بعقله النيّر وثقافته المستنيرة الواسعة تركيبة بيئته الإجتماعية وتضاريسها وثغراتها، فإنبرى لتحليلها بعقل القائد الوطني والعالِم المتمكّن من علوم السياسة والإجتماع وثقافة العصر. لعله الأول بين العاملين في الشأن العام من حيث مقاربته حال بيئته وبلاده بمفاهيم علم الإجتماع Sociology لتحليلها من أجل تغييرها.
ربما استعان يوسف ابراهيم يزبك ومجموعته الذين اسسوا الحزب الشيوعي بالعلوم الاجتماعية لفهم بيئتهم ومجتمعهم، لكنهم تقوقعوا في عقيدتهم الماركسية وغلّبوا المفهوم والصراع الطبقيين على مقارباتهم الفكرية والسياسية فيما اعتمد سعاده في مقارباته النظرة الجيوسياسية فجاءت تحليلاته ومرتجياته لبيئته السياسية والاجتماعية اكثر رحابة وواقعية في آن.
ليس امراً بسيطاً ان ينجح هذا القائد الوطني الشاب في مدةٍ لا تتجاوز العشرين عاماً في ان يبني حزباً هو عبارة عن مجتمع قائم بذاته بهويةٍ قومية واحدة، عابرٍ للطوائف والمذاهب والعصبيات الدينية، تشدّ اواصره مشتركات وطنية واجتماعية واحدة، فيبدو في سلوكيته وكأنه متصل ومنفصل في آن عن سائر المجتمعات الطائفية في بيئته.
الى ذلك، تميّز سعاده بأنه قائد سياسي ومناضل ميداني في آن. لم يكتفِ بالتبشير بعقيدته وبرنامجه السياسي الإصلاحي بل شارك في معركة التصدي للهجمة الصهيونية الناشطة لإغتصاب فلسطين، اذ شارك اعضاء حزبه ميدانياً في مقاومة عصابات الصهاينة في الجليل (شمال فلسطين) وساندوا القوى الفلسطينية المحلية في نضالها ضد سلطات الاستعمار البريطاني والعصابات الصهيونية.
لقد غضب سعاده كثيراً لعجز الأنظمة العربية الفاضح في تصديها المسرحي لإعلان العصابات الصهيونية «دولة اسرائيل» في 15/5/1948 ونجاحها في دحر سبعة جيوش عربية زَعَم رؤساء دولها انها دخلت المعركة للدفاع عن عروبة فلسطين ، فسارع، ربما تسرّع، في اغتنام فرصة افتضاح المنظومة الحاكمة في لبنان وهزيمتها النكراء امام العصابات الصهيونية للردّ على ملاحقتها له بأن سعى الى تنظيم تمرّدٍ عليها في بعض مناطق البلاد، مراهناً على دعمٍ يأتيه من بلاد الشام بعدما اطاح قائد الجيش حسني الزعيم بالحكومة المقصّرة في نصرة فلسطين، وتظاهر بأنه ساعٍ الى دعم من يذهب مذهبه في اغتنام فرصة هزيمة الحاكمين الفاسدين للإطاحة بهم .
حكّام ذلك الزمن الرديء في لبنان كانوا احتاطوا لهذا الاحتمال فعقدوا صفقةً مع حسني الزعيم تسلّموا منه بموجبها انطون سعاده الذي كان انتقل الى بلاد الشام في سياق حملته على كل الحاكمين الفاسدين الذي تسببّوا بنكبة العرب في فلسطين.
قد يكون سعاده تسرّع في حكمه على مدى ضعف المنظومة الحاكمة في لبنان. قيل: لو وظّف قدراته وجهوده في توحيد الحركات الوطنية واليسارية والقوى المعارضة لعهد بشاره الخوري وشركائه لكان تمكّن من دحر الحاكمين الفاسدين والمشاركة من موقعٍ قوي في إرساء قواعد نظام سياسي جديد.
ربما يكون هذا التقدير صحيحاً او قد لا يكون. غير ان الأمر الأكثر صحةً وفعالية تبدّى لاحقاً. ذلك ان انطون سعاده بصموده وادائه البطولي في المحاكمة الصورية التي انتهت بتصفيته، قدّم الى حزبه ومجتمعه مثالاً وامثولة وشهادة نادرة في القيادة والممارسة فعلت فعلها في شدّ اواصر حزبه ودعم دوره ثقافياً وسياسياً ونضالياً في بيئته ومجتمعه.
لا يسعني من موقعي كمناضل مثابر من أجل توحيد القوى الوطنية والتقدمية في وجه الشبكة السياسية الحاكمة ونظام المحاصصة الطوائفية إلاّ ان أُبدي اسفي لحال الإنقسام الذي يعانيه حزب سعاده في هذه الآونة الأمر الذي اساء الى تراث القائد العالِم ولذكراه الحيّة كما الى الأمة التي استشهد في معركة الدفاع عن وحدتها وسيادتها وحقوقها وأمانيها.
نعم، أساء الانقسام الى سعاده بأن عطلّ الإنقساميون، بقليل او كثير، فعالية الحزب الذي اراده زعيمه طليعة القوى الحيّة على طريق التغيير والاصلاح، واساؤا الى الاأة بأن تلهّوا عن النضال من أجل وحدتها وحقوقها وأهدافها بأمور ثانوية لا تستأهل كل هذا الوقت المهدور في منازعاتهم.
عودوا الى سعاده وسيرته ومساره ايها القوميون الإجتماعيون.