خرجنا من السجون الى الحرية وبات علينا ان نواجه الواقع وتحديات الحياة. كان العام الدراسي قد اصبح في منتصفه ولم يعد بامكاني أن ادخل الى اي جامعة لأن نظام التدريس كان يقوم على قاعدة السنة الكاملة وليس الفصول، فذهبت واشتغلت في جريدة النهار بوظيفة " مصحح " لغوي وطباعي، وكانت هذه الوظيفة لأخي الاكبر جان وهو تنازل لي عنها ودبر عملا آخر بعدما خرج من السجن. تقبل الاستاذ غسان التويني الأمر بعد اتصال من الدكتور نفحة نصر الذي شرح له وضعي وانني قومي خارج من السجن واتمتع بمعرفة قوية باللغة العربية. هكذا وجدت نفسي ادخل الحياة العملية من باب الصحافة، وكانت " النهار " من كبريات الصحف في العالم العربي وفيها اساتذة كبار في السياسة والادب والشعر والصحافة والفن، تعرفت عليهم مع مرور الوقت، وكان بامكاني ان اتعامل مع صحافيين مميزين مثل ميشال ابو جوده وفرنسوا عقل وشوقي ابو شقرا وادمون صعب وجوزيف نصر، كما كنت التقي العميد ريمون اده واحياناً علياء الصلح التي تكتب مقالات متفرقة في الجريدة. وقد وفرت لي الصحافة معلومات هائلة عن كل ما يجري من احداث في الشرق والعالم واعطتني ثقافة سياسية وادبية كبيرة، وما زلتُ اتذكر تفاصيل ما جرى من صراعات في لبنان والاردن ومصر وفلسطين في تلك الحقبة.
كان العمل في الجريدة يبدأ في الساعة العاشرة ليلاً وينتهي قرابة الساعة الثالثة فجراً، فاعود الى بيتنا في عين الرمانة، وفي اليوم التالي اجد متسعاً من الوقت للنشاط الحزبي الاذاعي وامور اخرى، وكان معاشي كبيرا بمقياس تلك الايام، فاتقاضى 500 ليرة لبنانية وهو رقم مهم اذا علمنا بان النائب في البرلمان يتقاضى 1200 ليرة. ولكي استفيد من الوقت التحقتُ بمعهد لتدريس اللغة الانكليزية يقع بجوار الجامعة الامريكية، وتقدمت بسرعة لأنني كنت قد درستُ اولويات تلك اللغة مع صديقي سامي الصايغ بطريقة طريفة ومحببة.
كان سامي موظفاً في بنك " الريف " وهو اساساً من مشغرة وقد نزل هو واخوته، نصري الصايغ الاديب والكاتب القومي العلماني المميز اليوم، وعاطف الذي اصبح طبيباً،وشقيقتهم روزي، وسكنوا بجوارنا في عين الرمانة، وبما انهم من عائلة قومية اجتماعية فقد تعارفنا وبتنا اسرة واحدة تجمعها المحبة القومية وما زلنا الى اليوم رغم تباعد المكان. كانت عند سامي آلة تسجيل كبيرة وقد اشترى اشرطة وكتباً لتعليم اللغة حسب طريقة اذاعة لندن، فكنا نجلس معاً كل يوم تقريبا ونستمع الى طريقة التعليم ونقرا ما في الكتب، وهذا ما جعلنا نمسك مفاتيح الاحرف والكلمات الاولية وطريقة اللفظ. والى اليوم ما زلت اتذكر واضحك في سرّي عندما اسمع اغنية زياد الرحباني بصوت جوزيف صقر " اسمع يا رضا "، خاصةً عندما يقول " تعلم لغّة اجنبية هيدا العربي ما بيفيد... دوّر لندن من عشيّة ماري بتهجّي وبتعيد ". امضينا فترة جميلة ومفيدة، ثم استفدت من فترة السجن فتعلمت من رفيقيّ انطون حتي وغانم خنيصر مزيداً من هذه اللغة.
في ربيع تلك السنة حصلت معي حادثة لا تخلو من عبرة ودلالة. فقد اعتدت ان ادخل الى الجامعة الامريكية وادرس في مكتبتها الغنية بالكتب والمراجع، وكان لي اصدقاء ورفقاء كثيرون فيها. وذات يوم شاهدتُ تجمعاً للطلاب امام مبنى الادارة وهو المعروف ب " الكولدج هول "، فذهبت الى الكافتيريا وسالت رفيقي حليم عودة عما يجري فاخبرني ان الادارة رفعت الاقساط وان هناك حركة احتجاج من الطلاب وقد تعرض بعضهم للطرد، وأن باسم المعلم يقود التظاهرة. كنت احب باسم وهو قومي اجتماعي من كفرحزير الكورة ويتميز بالدينامية والنشاط وبيني وبينه مودة، فتركت كتبي عند حليم ونزلت ابحث عن، فتلقاني بقامته الطويلة ودعاني ان امشي معه في طليعة التظاهرة. تسلمت الميكروفون وسرن، وراحت التظاهرة تجوب طرقات الجامعة باتجاه " الويست هول " ثم اتجهت الى منزل رئيسها الدكتور " كيركوود "، والقى باسم كلمة نارية ضده، ثم عدنا نحو مبنى الادارة، وهنا جاء من اخبرنا بأن الشرطة باتت تحاصر الجامعة وتنتظر القرار بالدخول الى حرمها وتفريق المتظاهرين واعتقال البعض منهم. طلب مني باسم ان اغادر لأنني لست طالبا ولا يحق لي ان اشارك بمثل هذه النشاطات وإن وقعت في يد الشرطة سيتم توقيفي. سلمت الميكروفون الى رفيقي محمد حماده وذهبت فاخذتُ كتبي من عند حليم عودة، واتجهت للخروج من البوابة الرئيسية المفضية الى شارع " بلِسس "، وهناك شاهدتُ في اعلى الدرج الرفيق مفيد الهاشم وكان مسؤولاً في جهاز امن الجامعة، فاشار الي برفعة من حاجبيه وحركة من يده، بشكل فهمت منه بأن اغيّر طريقي لأن الشرطة كانت تدقق في الداخلين والمغادرين وتطلب بطاقاتهم. تابعت سيري بهدوء وانعطفت من جانب المكتبة العامة ثم انحدرت على الدرج الطويل الذي يمر بقرب كلية الهندسة، وانا اؤمل نفسي بأنني استطيع الخروج من البوابة البحرية ( سي غيت )، لكن الشرطة كانت هناك ايضاً، فدخلتُ الى الملعب الاخضر الكبير وجلست على مدرجه، كأنني المشاهد الوحيد لمباراة لم تبدأ بعد. فتحت كتاب فلسفة كان معي ورحت اقرأ، ولكنني لا افهم شيئاً مما اراه، فقد كان ذهني شارداً في كل ما يجري بينما عيناي تجريان منفصلتين على سطور الكتاب.
مرت نصف ساعة وهدأت اجواء المكان وغاب صوت المتظاهرين، ثم بدأت سيارت الفرقة 16 تبتعد، وهكذا استطعت ان اغادر الجامعة وصعدتُ في باص الدولة عائدا الى البيت. ولكن العبرة في الأمر هي انني قد اصبحت في مكان آخر غير مكان الطالب والعلم والشهادات... لقد صار عقلي يشتغل على السياسة والنضال وهذا ما سيترك اثراً مهما على مستقبلي.
في الحلقة القادمة نحكي عن العمل الاذاعي وعن ما اكتسبته من عملي ب " النهار " ومواكبة الاحداث السياسية الكبيرة في تلك الحقبة. فالى اللقاء.