في موقف مشهود من مرتفعاته الفكرية، قال أفلاطون: «لا شيء أكثر التصاقاً بالحكمة من الصدق». ولم يكن لصاحب «الجمهورية» أن يُسَجل هذا الموقف فقط لأن الحقائق لا تختفي إذا تجاهلناها، بل لأنه اعتمد موقفاً أخلاقياً- فلسفياً يعتبر الصدق قيمة سامية في الحياة الإنسانية، بالمنظورَيْن الوصفي والمعياري.
أما الموقف الفلسفي-الأخلاقي الذي عَبّرَ عنه أنطون سعاده بالبُعد الحركي- النهضوي فأركانه ليست رتبةً ولا وجاهة ولا مظاهرَ فولكلورية، بل هي التعاليم البنائية الجديدة المعجونة بالوعي والعزيمة وإرادة الصراع والصدق والأمانة والعطاء المُطلق، ليس فقط في التثقيف على التزام المبادئ حتى الوصول إلى الشهادة الأزكى، بل في تطبيق هذه المبادئ عبْرَ إنسان جديد مَهَرَ يمينه بالصدق، وصِدقَه بدم الشهادة.
تُخالجُنا هذه الثوابت في ذكرى استشهاد البطل القومي الإجتماعي غسان ميشال الدِّيك، الشهيد ابن الشهيد، الذي أبى إلا أن يسبقه عطاؤه إلى رحلة الخلود في مثل هذا اليوم من عام 1983، والذي تواضَعَ لدرجة أن معظم رفقائه لا يعرفون مكان ضريحه. هو المقاوم الفذّ للعدوّ المحتل، الذي لم يتبجح يوماً في مسيرته انطلاقاً من منفذية زحلة، مروراً بموقعة عَمّيق فتلال المتَيْن وثلوج صنين. كل ذلك مع مقاومين يكادون يكونون حتى اليوم مجهولين. ويدرك عارفو غسان أن هذا الذي ما طلب شيئاً لنفسه لم يتهيّب يوماً مهمة ولم يَخَفْ من موتٍ ومن أخطار. فالحرية الداخلية التي نالها تتنافى والخوف. ومَن أعتقه سعاده يلازمه العِز فلا يقع عليه نِير لأنه تحرر بالإنتماء، بالروح الجديدة الغالبة لأية عبودية.
لقد استقرّ في يقين هذا البطل المَنسي من معظمنا أن النهضة هي القيم التي تنطوي عليها، وأن وحدة الحزب ليست في أجسادٍ تتراكم أو مناسباتٍ تتزاحم. إنها في المآثر التي تسكننا والأعمال التي تَصدُر عنا، في الإيمان الذي يعبئنا والآفاق التي إليها نتطلع. قال سعاده: «إن أساسنا القومي الإجتماعي يجب أن يكون في وحدتنا الروحية الكلية قبل كل شيء... وهذه الوحدة يجب أن تشمل كل فكرة وكل نظرة في حياتنا.»[1] وقد نهى سعاده عن الإفتخار بالبطولة المزيفة. فالبطولة لا تتزكّى إلا بمضمون الفضائل المنسكبة في مُمَارسها. أما المناضل الحق الذي تأججتْ مناقبه حتى الإستشهاد فسيظل حياً في وجداننا الأصفى لكونه معدناً نبيلاً لم يختلط بالزَّغَل ولأنه مغروسٌ ألماً خلاقاً فينا، في لحمنا وعظامنا والمشاعر. قال الكاتب الإستثنائي سعيد تقيّ الدين: «البطولة ليست معادلة حسابية، ومعاركُ البطولة لا يكسبها إلا مَنْ تَزَيّنَ بشيء من الجنون».
ربما شَعَرنا جميعاً، وعيوننا مُمرّغة في هذا الإنهيار، أننا بحاجة إلى الإغتسال بالصنوبر، بالأَرز، بالسنديان. وها أنذا أعترف بالحاجة إلى التفيؤ بالسنديانات «الغسّانية» الممتدة من الشهيد البطل غسان جديد إلى الشهيد البطل غسان الديك، من دون أن ننسى غسانَ المستقبلِ الآتي. أليست أغصانُ السنديان وارِفة بحجم الجذور عمقاً واتساعاً؟ أليس الحزنُ جنيناً للفرح؟ أليست ساعة الليل الأحلك هي الساعة التي تسبق الفجر؟