في الثامن من آذار/ مارس 1920، أي قبل مئة عام، بالتمام والكمال، أعلن «المؤتمر السوري العام» الذي كان قد تشكل في دمشق، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) وانهزام الأتراك، أعلن عن استقلال سورية، بحدودها التاريخية المعروفة، وإنشاء دولتها الواحدة، وحكومتها المدنية،
وبالرغم من أن المؤتمر الذي تحوّل إلى مجلس تشريعي قبل أن يخضع للتهديد الفرنسي، عشية معركة ميسلون الخالدة، ويتخلّى عن واجباته القومية، وبالرغم من أنه كان يتألف، في أغلبيته، من قيادات إقطاعية وعائلية ودينية، إلا أنه كان أول محاولة سورية جدّية، بعد عصور متطاولة من فقدان السيادة القومية، محاولة للردّ، من جهة، على اتفاقية سايكس- بيكو المجرمة التي جزّأت البلاد الواحدة إلى كيانات متخاصمة، ولربط السيادة والوحدة القوميتين، من جهة ثانية، بالإرادة الشعبية العامة، إرادة الشعب الحرً الشاعر بكيانه على نفسه ووطنه. الأمر الذي يدعونا، دائماً، إلى تذكر تلك اللحظة التاريخية والإحتفاء بها كيوم من أيامنا القومية التي نعتزّ بها وندعو إلى استلهامها، خصوصاً في أيام الشدّة، كما نفعل اليوم.
إن إتفاقية سايكس ــ بيكو ( 16 أيار/ مايو 1916 ) التي عقدت سرًّا بين فرنسا وبريطانيا، إبان الحرب العالمية الأولى، وقضت باقتسامهما سوريا بعد انتزاعها من تركيا، صارت كأنها حدث عابر في حياة أمتنا وثقافتها، مع أنها غيّرت جغرافيتها السياسية بالكامل، ومهّدت لوعد بلفور (2 تشرين الثاني 1917) الذي بموجبه أنشئ «الكيان الصهيوني» الغاصب في فلسطين (1948)، وتحكّمت هذه الإتفاقية ـــ ولا تزال ـــ بمسار سورية ومصيرها، على الرغم من مرور قرن، على توقيعها.
إن اهتمام فرنسة وبريطانية بسورية يعود إلى ما قبل الحرب (الأولى) حين كانت السلطنة العثمانية تلقب بـ «الرجل المريض»، وكانت فرنسا وبريطانيا تنتظران دخوله في طور الإحتضار لتستوليا على تركته. كانت فرنسا تأمل ان تنال، على ساحل المتوسط الشرقي، قطعة كبيرة من الأرض تجعلها موازية في المركز لندّتها بريطانية. ولكي لا يحدث، بين هاتين الدولتين المتحالفتين في الحرب، نزاع وصدام من أجل هذه القطعة الخطيرة، وُضعت معاهدة سايكس ــ بيكو، فقرّرت سلخ فلسطين وشرقي الأردن (أي ما يُعرف بسوريا الجنوبية) عن سوريا، وجعلت بقية سوريا (أي ما يُعرف بسوريا الغربية أو الساحلية وسوريا المجوفة أو الداخلية) وكل منطقة كيليكية من نصيب فرنسا.
ورفضاً لصكوك الإنتداب الفرنسي ـــ البريطاني على سورية الذي لم تقبل به سوى حفنة من السوريين، ممن باعوا أنفسهم للأجنبي، انعقدت المؤتمرات المستنكرة للوصاية الأجنبية، وأُرسلت برقيات الإحتجاج، بالعشرات، إلى المحافل الدولية منددة بالمستعمرين الجدد، في حين استقبلت المدن السورية، بالترحاب، اللجان الأجنبية التي جاءت سوريا تتقصى الحقائق، كلجنة كينغ ــ كراين الأميركية. وهاجت الخواطر وامتلأت الشوارع بالمتظاهرين الغاضبين، ما إن تناهى إلى أسماعهم أن بلفور صاحب الوعد المشؤم يزور دمشق متخفياً. لكن ردود الفعل لم تقتصر على الرفض والإستنكار، بل انفجرت الإنتفاضات المسلحة ضد «النظام الدولي الجديد» الذي نتج عن الحرب الكبرى، في كل أنحاء سوريا، في وقت واحد، ما أكد على وحدة المصير التي تربط البلاد السورية كافة. وكان أهم هذه الإنتفاضات، على الإطلاق، المؤتمر السوري العام ومعركة ميسلون سنة 1920. ونذكر أيضاً على سبيل المثال: ثورة 1920 في العراق، ومؤتمر وادي الحجير وانتفاضة جبل عامل، في لبنان، سنة 1920، أيضاً، والثورة السورية الكبرى سنة 1925، وانتفاضات اللاذقية والساحل السوري وجبال العلويين، في العشرينيات وما بعدها، وثورة 1936 وأخواتها، في فلسطين، وفي هذه المعارك والإنتفاضات، قدّم أبناء البلاد آلاف الشهداء، من كلّ المناطق والطوائف والإثنيّات.
وفي السياق نفسه، وتعبيراً عن هذا الرفض الشعبي، تنادى أحرار سورية، في الوطن والمهاجر، إلى عقد المؤتمرات القوميّة الرافضة للوصاية الأجنبية على بلادهم، وكان أهمها «المؤتمر السوري العام» الذي انعقد في دمشق، كما سبقت الإشارة، وما لبث أن تحوّل إلى مجلس تشريعي، والتأم في جلسة تاريخية، في الثامن من آذار/ مارس 1920، أعلن فيها قيام الدولة السورية القومية المركزية الأولى في التاريخ الحديث تحت مسمّى: «المملكة السورية المتحدة»، بمناطقها الثلاث: سوريا الغربية (الساحلية)، وسوريا الجنوبية (فلسطين وشرقي الأردن)، وسوريا الوسطى أو (المجوفة) التي تمتدّ من حوران جنوباً فدمشق ووادي بردى وحوض العاصي صعوداً نحو الجزبرة في الشمال، وصولاً إلى جبال طوروس في أقصى الشمال الغربي. واختيرت هذه التسمية على غرار «الولايات المتحدة الأميركية»، خصوصاً «أن هذه الأخيرة أظهرت خلال الحرب ميلاً إلى مساعدة الشعوب المضطهدة، الخارجة لتوها من قبضة الوصاية أو الإستعمار. وأكد أعضاء المؤتمر رفضهم القاطع للإنتداب الفرنسي ــ البريطاني وكلّ أشكال الوصاية الأجنبية على سوريا، فضلاً عن رفض المشروع الإستيطاني اليهودي، معلنين تمسّكهم بـ «الوحدة السورية»، وانضمام العراق إليها في أقرب فرصة. وقد جاء هذا القرار التاريخي بمثابة ردّ مباشر على «موآمرة سايكس – بيكو» وعرّابيها، بعد انفضاح أمرها وأمرهم، من جهة، وتأكيد على تمسّك أهل البلاد بخيار الإستقلال والوحدة والسيادة القوميّة، من جهة ثانية.
وإذا كانت القوى والمنظمات الشعبية، على امتداد المئة عام الماضية، قد أظهرت عجزاً فاضحاً عن أن تكون بديلاً عن الأنظمة السياسية، صنيعة الأجنبي، على الرغم من تضحياتها الكبرى التي تُسجّل لها، على امتداد تاريخها، فإن أصواتاً كثيرة، سياسية وفكرية وأكاديمية وإعلامية، مستقلة وملتزمة، مدعومة من قوى شعبية واسعة، ترتفع اليوم على امتداد الساحة القومية في المشرق السوري، مطالبة باتحاد سوري مشرقي أو (كونفدرالية مشرقية) بحسب بعض التعابير الجارية، وبدولة مدنية، ونظام حكم علماني، مستلهمة في دعوتها الجريئة الأفكار القومية التقدمية، لا سيّما مبادىء أنطون سعاده الداعية إلى الوحدة القومية على المستوى السوري، والإتحادية الجبهوية على المستوى العربي العام، والدولة الديموقراطية القومية على المستوى الإجتماعي: دولة الإجماع الفاعل لا الإجماع المطاوع!
هذه الأصوات الصادقة في توجهها، الحازمة في عزمها، والتي انبثقت من صميم المعاناة بل من صميم المواجهة العنيفة التي يخوضها شعبنا ضد أعدائه الداخليين والخارجيين، تجد في تلك الأفكار والمبادىء الراهنة حلاً لمجمل التحديات التي يواجهها مجتمعها وعالمها العربي: تحديات التجزئة الكيانية والسيادة القومية والتخلف الإقتصادي والتبعية السياسية والثقافية. وقد عبّرت، ولا تزال (بوسائل متعدّدة)، عن رأيها وموقفها هذا، في مختلف المحافل الدولية والقومية، خصوصاً بعد اندلاع الحرب العدوانية الظالمة على سوريا (بشامها وعراقها وفلسطينها ولبنانها وأردنها). هذه الحرب الإعتدائية التي لم تعرف بلادنا مثيلاً لها، منذ حروب الفرنجة.
اليوم، وبعد مرور قرن كامل على اتفاقية سايكس ـــ بيكو ، ومثل هذه المدّة على «المؤتمر السوري العام»، ومعركة ميسلون وسقوط المملكة السورية المتحدة، و72 عاماً على قيام الدولة اليهودية الغازية في فلسطين، تتجه أنظار الدول الكبرى وصنوها الدول الإقليمية، مجدّدًا، إلى سورية التاريخية، في حرب شبه كونية تستهدفها في وجودها وكيانها ووحدتها ومصيرها، مستخدمة أشدّ صنوف التدمير المادي والتخريب النفسي، موقظة عصبيات ومذهبيات كان قد عفا عنها الزمن. كل ذلك وفق مخطط جديد يقضي باصطناع كيان أو دويلة لكل أقلية، إثنية أو مذهبية، فتتحول سوريا كلها إلى مجرد إتنيات وعصبيات متناحرة: بقايا شعوب منحطّة، لا شعب واحد، تسود عليها «إسرائيل» وتتحكم بمصائرها، وذلك كله بهدف وضعها (بما تمتلك من مركز استراتيجي وثروات هائلة) في دائرة النفوذ الأميركي ـــ الصهيوني.
أمام هذا الواقع، ووعياً بخطورة المرحلة الحاضرة، لاسيما بعد ثبوت عجز أكثر الحكومات العربيّة، على مدى قرن، عن الوفاء بالتزاماتها في مواجهة التحدّيات الداخلية والمخاطر الخارجيّة، خصوصاً بعد انكشاف ضلوع «بعض» العرب في تفاهمات مريبة مع الإستعمار الأميركي والكيان الصهيوني، وتأكيداً على المقاومة وصوابية خيارها الإستراتيجي بعد الإنتصارات العظيمة التي حقّقتها على امتداد الساحة القومية، في لبنان والشام وفلسطين والعراق، وتمسكاً بحلم تاريخي في الوحدة والسيادة القومية، طالما ناضل أحرار البلاد لتحقيقه، واحتفاء بمئوية «المؤتمر السوري العام» ومعركة ميسلون الخالدة، وتحت عنوان المرحلة الذي هو «تجديد المشروع القومي»، فإن أحرار البلاد من مثقفين ومناضلين قوميين ويساريين ومهتمين بالوضع القومي وبالتطورات الجارية على الساحة القومية مدعوون الى عقد مؤتمر قومي في بيروت، في الخريف المقبل، يتدارسون فيه السبل الكفيلة بمواجهة التهديد الخارجي، وتحصين الجبهة الداخلية، والدفاع عن محور المقاومة- محور العزة والكرامة القومية.
ونرى أن يطمح المؤتمر، في المقام الأول، إلى مناقشة الأفكار التي من شأنها أن تنهض بالوضع القومي الراهن إزاء ما يتهدده من «قطريّة» انعزاليّة جديدة، ومشاريع تجزئة سياسية مرتقبة، وهيمنة خارجية. كما نرى أن يطمح إلى الإعلان عن «ميثاق شعبي» يدعو إلى وحدة البلاد السورية، كهدف إستراتيجي، ودعوة الحكومات القائمة إلى حلّ خلافاتها على قاعدة الأخوّة القوميّة، وانتهاج سياسات إصلاحية جريئة، على المستويين السياسي والإقتصادي. أبرز هذه الإصلاحات: رفع الحواجز الجمركيّة، وتسهيل إنتقال الأشخاص والرساميل، والتخطيط لمشاريع اقتصادية مشتركة، بغرض تحقيق التكامل الإقتصادي، فيما بينها. إنّها الخطوة الأولى على طريق إنشاء مجلس سوري تعاوني إقتصادي تتوسع مهامه في اتجاه قيام نظام سياسي اتحادي يكفل انبثاق السلطات السياسيّة مباشرة عن الشعب، وذلك بوضع دستور مدني للدولة القومية الموعودة، وسنّ قوانين جديدة، مثل: قانون مدني للأحوال الشخصيّة، وقانون عصري للأحزاب، ومثله قانون للإنتخابات. وتحقيقاً لأهدافه، نرى أن يتبنى المؤتمرون الدعوة إلى إنشاء منظمة شعبيّة، باسم "المؤتمر السوري العام."
هذا النظام الإتحادي الذي نطمح إلى تحقيقه لن يكون، بأي شكل من الأشكال، إنعزالاً عن القضايا العربية، ولن تتوقف حيويّته عند الحدود الجغرافية للدول السورية، في الهلال الخصيب، بل ستتعدّاها إلى الإلتزام الكامل بتحقيق الوحدات الجغرافية العربية، وصولاً إلى إتحاد عربي يشمل كلّ أرض العرب ويُعنى بكل همومهم وأحلامهم ومصالحهم.
وبهذه المناسبة، وبوصفنا أصحاب الدعوة إلى عقد هذا المؤتمر، نتوجّه إلى السوريين المهاجرين، في جهات العالم الأربع، بالقول: أنتم، ايضاً، مدعوون إلى الاشتراك في هذا الصراع العنيف الذي تخوضه الأمّة ضد أعدائها الداخليين والخارجيين. لا تقولوا: «ما لنا ولما يحدث في الوطن الذي هجرناه»، فأنتم سوريون وشرفكم مقيدٌ بشرف سوريا. فكّروا جيدًا واختاروا لأنفسكم مصير أمتكم ومصيركم! ولا نخالكم إلاّ خارجين من تفكيركم بعزيمةٍ معقودة على اختيار الحياة القومية، ونبذ المصير الذي يراد لنا ويمكن اختصاره بـ «الموت القومي».