للدكتورة مي حنا سعادة حضورها اللافت في الطب والشعر والعمل السياسي والاجتماعي الى جانب الأمين الدكتورة عبدالله سعادة، رئيس الحزب لأكثر من مرة.
نسمع عنها انما لا نعرف الكثير المفيد، في هذه النبذة الموجزة التي قدم بها الدكتور خريستو نجم كتابها مشوار العمر بين الطب والسياسة والشعر اضاءة مختصرة عسانا لاحقاً نتمكن من نشر المزيد.
لبيب ناصيف
*
"لا ننكر ان أولاد الدكتورة مي سعادة هم الذين طالبوها بكتابة مذكرّاتها، ولكن هذا الكتاب هو التعبير النفسي عن خلود ذكراها في حياتها، منذ ولادتها حتى الان ذلك ان تاريخها عظيم لا يُنسى منذ ولادة أبيها المقدسي حنا سعادة.
"صحيح ان والدها فقد بصره وهو ابن شهرين بعد ولادته وعانى محنته في العمى وتعذّب بفقدانه الأم التي رحلت من الدنيا في مطلع حياته، لكنه نهض من هذه الكارثة بمشاعره الوجدانية فرحيل أمه التي فارقته، جعل الصبيّ في شوق دائم الى حنين الأمومة، ولذا جسّدت مشاعره الأوديبية oedipe وولعه بفتاة سامية إسمها ملكة مبارك أحبها كأنها العذراء مريم، وبما أنه نشأ شاعراً عظيماً، وأستاذاً لغوياً مشهوراً، أعجبت حبيبته ملكة بنبوغه وهي زميلته في العلم والتربية.
"ولا بدّ من التركيز على طفولة الدكتورة "مي سعادة" لأنها متأثرة بشاعرية أبيها منذ كانت طفلة. بيد ان هذه الصفة الشعرية لم تمنعها من اعتماد الدراسة الطبية إرضاء لأبيها الذي طالبها بهذا الاهتمام. هي لا تنكر أنها أحست بالغربة حين غادرت بيتها ووالديها. وازداد عذابها لان والدها توفي وهو في الثانية والخمسين من عمره، وكانت في سنتها الأولى الطبية.
"الى جانب هذه الاحداث لا بد من ذكر التعزية حين جاء ابن عمها "عبدالله سعادة" الى بيروت لدرس الطبّ أيضاً في الجامعة الأميركية. فكانا يلتقيان عندما تسمح دروسه وتسمح لها عمليّاتها وهي تتخصص بأمراض النساء والتوليد. وكما يبدو فإنه أحبّها وأحبّته فتزوجا في الرابع عشر من تموز عام 1945 بعد ان تخرّج "عبدالله" طبيباً من الجامعة الأميركية. وسكنا مع أمها في طرابلس. وبدأ الدكتور "عبدالله" يمارس الطب في "مستشفى المينا"، ثم أنشأ ورفاقه الأطباء "المستشفى اللبناني" في جدة في السعودية، فانتقل الى "جدة" وبقيت الدكتورة مي تمارس الطب في طرابلس وتُحري العمليات في "مستشفى وهيب نيني" و "مستشفى طارق منلّا" وغيرهما من المستشفيات.
فلا بد من الإشارة الى شهرة مي في نشاطها الأدبي والطبي فهي بصفتها الانثى، بدَت أشهر طبيبة في لبنان.
إنها الانثى الأولى او الثانية التي تخرّجت من الجامعة الأميركية، وبدأت تخدم الإنسانية وتطيّب الفقراء مجاناً. وحب زوجها لها واضح في رسائله فقد قال في إحداها: "فما أكرمك يا زوجتي، وما أنبلك وما أشجعك وما أخلصك وما أحلاك. يا خير امرأة كانت وتكون. فأنتِ ملكتي، وانا بك ملك".
"واضح ان زوجها "عبدالله سعادة" كان مولعاً بها. ويسرّني ان أذكر تفاحة "مي" التي بعثتها إليه وهو سجين في "المية ومية". فأكل عبدالله مع الرفقاء السجناء الأطعمة واحتفظ بالتفاحة التي وضعها على الرف فوق سريره. عندئذ قال الأمين في الحزب المحامي عبدالله قبرصي: "لماذا لا يقتسم عبدالله هذه التفاحة معنا؟". فأجاب أحد الرفقاء "لا تحلم بذلك. هذه التفاحة من خطيبته الدكتورة مي سعادة، وهي للشم والنظر، وليست للأكل". معنى ذلك ان المشاعر الوجدانية جعلته يحتفظ بتفاحة حبيبته. وأنجب منها الأولاد الثلاثة: حنا ونقولا وسليم، وبعدهم الابنة "ليلى". ولا شك في ان هؤلاء الأولاد كانوا موهوبين بالعلم والثقافة. والدليل انهم اشتهروا جميعاً برتبة التخرّج العلمي، على نمط والديهم "مي وعبدالله" وجدهم الشاعر "حنا سعادة".
"فالابن الأول "حنا" أصبح طبيباً يمارس الطب في "اوكلاهوما" في الولايات المتحدة الأميركية. وقد ورث الشعر ايضاَ من جدّه، لان له حالياً أربعة دواوين شعر باللغة الإنكليزية. وأمه "مي" ترجمت له أيضاً بعض قصائده الى اللغة العربية. لا ننكر انه ورث عن أمه تلك الاشعار، لان "مي" قبل ان تصبح طبيبة، كانت أيضا شاعرة، ولا تزال شاعرة حساسة. وابنها الثاني "نقولا" حين انهى دراسته عام 1965 دخل الى الجامعة الأميركية في بيروت ثم سافر الى الولايات المتحدة، وعاد الى لبنان حاملاً شهادة مهندس في الكومبيوتر. والابن الثالث "سليم" دخل الجامعة الأميركية ونال إجازته بالاقتصاد. والبنت الأخيرة "ليلى" سافرت في شبابها الى باريس، وحضرت بصفتها المحامية، لأخذ الدكتورة في الحقوق ونالت رتبة دكتوراه دولة بدرجة مشرّف جداً. وهي مؤسّسة ومديرة الفرع الفرنسي في كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية وعميدة المعهد العالي للدكتوراه في الحقوق والعلوم السياسية والإدارية والاقتصادية بالجامعة اللبنانية.
"فجليّ ان أولاد ميّ سعادة برزوا جداً في الثقافة الراقية، ولأنهم بصفة عالمية عاشوا في سفر عالمي كبير.
"مشوار العمر في حياة "مي سعادة" يرتبط أيضاً بالسياسة إضافة الى الطبّ. فبعد الانقلاب السوري القومي الاجتماعي، وخلال سجن "عبدالله" الطويل سبع سنوات، كانت "مي سعادة" في ذلك الحين، لجميع أولادها أمّا وأباً وطبيبة وسياسية في آن واحد. ومن السجن بعَثَ زوجُها إليها تلك الرسالة قائلاً: "لقد حمّلتُكِ يا مي من الآلام والمرارة ما تنوءُ به الكواهل، ولكنّك كنتِ كالبرجِ في وجه العاصفة، وكالأرزة أمام الأعاصير. إني فخورٌ بك أيتها الزوجة الفاضلة، والأم المُضحّية والصديقة الوفية". وبعد سبع سنوات من هذه الكارثة، تمّ العفو والحريّة في زمن رئيس الجمهورية شارل حلو. وعندما وصل عبدالله الى أميون استقبله السياسيون والقادة والكهنة والإكليروس والشعب في أواخر نيسان 1969. ثم انتخبه المجلس الأعلى في الحزب السوري القومي الاجتماعي رئيساً للحزب بالاجماع. ولأنه في هذا التيّار السياسي، اضطرّ عبدالله ان يترك طبه تلبية لنداء الحزب.
"وبما ان السياسة كارثة دائماً، استشهد ابنهما "نقولا" في "الشياح" بعد عودته من الولايات المتحدة حاملاً شهادة مهندس في الكومبيوتر، عند اندلاع الحرب عام 1975. وعندما علم والده باستشهاده، اختار أول طائرة من "ليبيا" وعاد الى لبنان لحضور رثاء الشهيد "نقولا". وعبّر في حضوره عن افتخاره بولده البطل الشهيد. وألقت الشاعرة "مي سعادة" قصيدتها: "أيا بطل الشيّاح".
"إن رحيل "نقولا" عام 1975 تلاه بعد سنين موت والده "عبدالله" عام 1987 بسبب وضعه الصحي. وقد رثاه الأمين عبدالله قبرصي قائلاً: "ذاكرة الكورة كذاكرتك انت. فهي لا تنسى أنك في أيام عزّها كنت صوتَها المدوي، وفي أيام نكباتها كنت تكفكف دموعها وتردّ عنها النكبات". وقد رثاه ايضاً الأمين منير خوري قائلاً: "عزاؤنا أنك في غيابك حاضر". ورثته "مي" في قصيدتها: "تمضي وكفّك مرفوع بها العلمُ".
"تلك هي الأيام السياسية المحزنة، مع أن "سليم سعادة" ابن عبدالله، كان قد انتخب نائب الكورة. وكذلك "مي سعادة" عاشت أيضاً في ارتياح من العذاب، طالما هناك مُحِبّون يقدرّون وضعها الأنيق في وطنها لبنان. من اجل ذلك رفضت الابتعاد عن طرابلس الفيحاء لأنها قضت فيها طفولتها وشبابها وشيخوختها، شاعرةً بالعز في حماها. تقول "مي" : " لا أنسى الدكتور علي الشعار الذي اتى الى المستشفى الحكومي حيثُ كنتُ فيه سجينة بعد الانقلاب السوري القومي الاجتماعي، وقد علم أنّه أفرِجَ عنّي قائلاً: اسمحوا لي انا ان أُرجع لطرابلس طبيبتها الإنسانية البارعة التي سطَعَ نورُ طبّها في الفيحاء. سأرجعُها انا لبيتها، وهي على يميني".
"لا بد أن نذكُر ايضاً الشعر في حياة "مي سعادة"، عن طريق مشوار العمر.
"فـ "مي" وُلدت شاعرةً من أبيها المقدسي "حنا سعادة"، معرّي أميون. وهي حين أصبحت طالبة في دراستها الطبية، لُقبت بشاعرة الجامعة لأنها دُعيت لإلقاء قصيدة في ندوة شعريّة. وبما أن الإبداع تنفيسٌ Decharge، كتبت "مي" أشعاراً كثيرة عن رحيل أبيها وأمها وابنها وزوجها. فهذا تفريغٌ Catharsis يُخفف المعاناة المؤلمة في مُلاشاة الألم وجلب الانفراج والسرور.
ولا شك ان المأساة الكبرى لدى الأم حلّت بها يوم استشهد ولدها "نقولا" الذي كان الشهيد البطل كما قال عميد الإذاعة حافظ الصايغ، وألقت "مي" قصيدتها في رثاء ولدها قائلة:
فعِش، أنت في التاريخ مُخلّدٌ ونحن هنا حمقى وأنت حكيمُ
أيا بطل الشيّاح عفوك إنني بعرسك أبكى... فالفراق أليم!
ويبدو ان العذاب من صفاتها لأنها فقدت أيضاً زوجها "عبدالله سعادة" كما في قولها:
بي حنين إليك في كل يوم فغروباً يجتاحني وشروقاً
وانتظاري يطول يوما فيوماً وفؤادي يظلّ دوماً خفوقاً
فهي في انتظار لقائه وعودته بعد رحيله. ولا ريب في أن هذه الرغبات، تتحقّق في الاحلام الخيالية، أكثر من الحياة الواقعية.
وابتعادها عن أولادها المسافرين يُثيرُ أشواقها، ولذا تتمنى لقاءهم الدائم وعودتهم بعد الفراق. ان ابنها الطبيب "حنا" الذي خلقّته اول الأطفال وأصبح أكبر إخوانه، ألقت له منذ ولادته قصيدة وردت فيها تلك الكلمات:
كلّما نمتَ على صدري ضحى أملكُ الدنيا وما فيها مُثنّى!
لــو على عيني بنعليـــهِ مـشــــــى لم أقُل يوماً له، يا ابني تأنّا!
وإعجابها بنجاح ابنتها "ليلى" أوحى لها فن الشعر كما أوحى جمالها الى "مي" هذه الاشعار:
أنتِ يا ليلى في الليالي ضياءُ وبهـــــاءٌ وشـــــعلةٌ وســـــــــــــــــناءُ
أنتِ حســـــــــــــــــنٌ ورقــــــةٌ ونـقـــــاءُ أنتِ وصلٌ ورعشةٌ وصفاء
لا شك في أن "مي سعادة" مولعةٌ بالذاكرة، لأن تاريخها مجيد. ولذا تمنّت ان يظل أولادها أطفالاً كما كانت في زمن زواجها وشبابها. وهذا ما قالته ايضاً عن ابنها "سليم":
كم تمنيت ان اراه كبيرا ليته اليوم عاد طفلاً صغيرا
يتمشى في ظلّ أم رؤومٍ وعلى صدرها ينامُ... قريرا
فالعاطفة السعيدة والحزينة توحي للمرء بالابداع الفني. وهذا ما بدا في شعر "مي". فلا غرابة ان نسمع الدكتورة مي تروي شعرها عن الأوضاع السياسية التي كانت مزعجة في أكثر الأحيان. مثال ذلك الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، وأوضاع الحرب السيئة في طرابلس الفيحاء عام 1984. وفي قصف الجنوب من بلادنا، عبرّت "مي سعادة" عن اوجاعها النفسية قائلة:
دائماً ماثلٌ فليس يغيب عن عيوني وعن فؤادي الجنوبُ!
يا حنيني الى الجنوب اراهُ زال عنه الضنا وزال الشحوبُ
قد كفانا خطفٌ وموتٌ وهدمٌ ودماءٌ تجري ودمعٌ سكيبُ
هذه اوجاع نفسية لعلاقة "مي سعادة" بوطنها الممتد ما بين الجنوب والشمال. صحيح أنها في أميون وطرابلس، لكنها ما زالت راغبة في المحافظة على أبناء بلادها في كل مكان. وحبها لوطنها يتجلى في قصيدتها "من اجل لبنان":
لبنان أنت لنا رؤيا تُدغدغنا نعيشُ أحلامها شِعراً وألحانا!
الحربُ صاعقةٌ قد دمرت وطني لكن ســـواعــدُنا تبنيه بُـنــيــــانـــــا
فسيرةُ حياة الفنان لا يُمكن ان تختفي من حياته. ذلك ان ماضيه لا ينقضي مهما توارت الأيام في دورات زمنية راحلة. ولذا تعجّبت "مي سعادة" متسائلةٌ:
لماذا بدنيانا ظلامٌ يُخيّمُ؟ خرابٌ وتدميرٌ وظلمٌ عرمرمُ
فجليّ أنها حزينة جداً لتبدّل الأوضاع في وطنها عن طريق الاعتداء والظلم فهي تتغنّى بلبنان وتعتز به وترجو دائماً ان يظلّ وطناً مستقلاً حراً عزيزاً مكرماً!
وحين اضطرت "مي" في زمن الحرب ان تنتقل مدة قصيرة الى بيروت نتج عنها شعرٌ حزين:
ففراق الفيحاء أدمى فؤاداً بأريج الليمون كان ولوعا
عشتً عمري عزيزة في حماها يشهد الله ما اردتُ النزوعا!
وحنين العودة الى "الفيحاء" شبيه أيضاً بحنين "مي" الى أميون، مركز ولادتها. فعندما دُعيت لتلقي كلمة في مهرجان الكورة للنائبين: ابنها "سليم"، والدكتور الياس سابا، ألقت قصيدة عنوانها: "لقاء الكورة" ومن هذه القصيدة، قولُها:
أهلاً وسهلاً فما أحلى تلاقينا اليوم قد حقق المولى أمانينا
أميون جوهرةٌ في تاج كورتنا يا قلعة العزّ تحميها وتحمينا!
*
تلك هي الأوضاع النفسية في مشوار العمر بين الطب والسياسة والشعر، وهي أوضاع تاريخية في حياة الدكتورة "مي سعادة" التي عبرّت عن أمجادها في هذه الكرة الأرضية. من هنا قيمةُ هذا الكتاب، لأنه يحافظ على أهمية أخبارها الذاتية والاجتماعية، وخلود ذاكرتها ما بين الحزن والفرح، وبما ان قصائدها الشعرية نسخةٌ من سيرتها في هذه الدنيا، ستظل الدكتورة "مي" حاضرة مهما انقضى الماضي، لأنها النغم الدائم في الزمن الحاضر، والأمسية الشعرية الباقية في المستقبل القادم. وهذا ما قاله جبران خليل جبران في ديوانه "المواكب": "أعطني الناي وغنِّ / فالغنا سر الخلود / وأنين الناي يبقى / بعد ان يفنى الوجود".
*
المقدسي حنا سعادة
والدي المقدسي حنا سعادة، الضرير منذ كان ابن شهرين، أستاذ اللغة العربية الذي لقب بمعري اميون.
ولد والدي سنة 1884 وقضت والدته نحبها بعد ولادته ببضع ساعات. وفقد الصبيّ بصره وهو ابن شهرين.
ولما كبر أخذ يتردد على مدرسة أميون الروسية، ويجلس في مكانه وكله آذان صاغية. وطلب منه الأستاذ ان يتقيد بجميع أنظمة المدرسة، وأنى لضرير ان يتقيّد بها، فغادر المدرسة.
وكان المرحوم الاكسرخوس جرجس العازار كاهناً لكنسية مار جرجس وكان يرى الصغير الكفيف يتردد على الكنيسة فاستعمل دالّته على الأستاذ اسحق شحادة مدير المدرسة الخيرية الروسية في أميون، فسمح لحنا بالجلوس على مقاعد الدرس ليسمع ما يلقيه الأساتذة من الدروس. وكان رفيقه ودليله ابن خالته إسكندر نصار. واتاه يوماً إسكندر ببشارة استلامه كتاباً غريباً "بحث المطالب" لمثلث الرحمات المطران "جرمانوس فرحات"، فبدأ بدراسة قواعد الصرف والنحو، فراح إسكندر يقرأ ويراجع وحنا يصغي ويفسر له ما يقرأه حتى أتيا على آخر الكتاب.
وأخذ حنا يقرض الشعر ويلقي العظات في كنيسة مار جرجس فطارت شهرته في انحاء الكورة، فتهافت عليه الطلبة من الكليات والمدارس الأجنبية، يأخذون منه علوم اللغة العربية في أثناء العطلات الصيفية.
وكانت في أميون مدرستان روسيتان، واحدة للإناث والثانية للذكور. وكانت مديرة مدرسة الإناث الآنسة ملكة مبارك وكانت الانسة اولغا ربيز معلمة فيها، وهما من رأس بيروت. ولقد رغبتا في دراسة العربية على الأستاذ الضرير.
ولقد أعجبت المديرة ملكة مبارك بنبوغه واخذ الأستاذ بذكائها وأصبحا صديقين. ولما رأت ان العلاقة بينهما تعدت حدود الدراسة والصداقة طلبت نقلها من مدرسة أميون، فنقلت الى مدرسة بينو في عكار فلاحقها والدي بالقصائد.
ومن هذه القصائد:
"مثلي لمثلك" هي طويلة، منها:
مثلي لمثلك بالإخلاص معروف وبالإخا والوفا والصدق موصوفُ
لا يعتري حبنا يا أخت شائبةٌ ولا يدانيه تقريعٌ وتعنيفُ
مِلنا لدرس أصول الصرف إذ سلمتْ منا الفعال وعنا الغشُّ مصروف
بدت محبتنا في الصرف خاليةً مما يُغيّرُ إعلالٌ وتضعيفُ
أما بدرس فنون النحو فارتفعت عن خفضه وعليها الفضل معطوفُ
رمنا الثبات على حبٍ فوافقنا قلبان عندهما التدليس محذوف
فعادت الى أميون وتزوجته سنة 1905 وكانت شريكة العمر المثالية والعينين القارئتين له طيلة العمر.
ولم يطل الأمد حتى أسسا مدرسة أسمياها "المدرسة الوطنية". جمعت على مقاعدها بين الجنسين لأول مرة في تاريخ المدارس في الشمال. فأقبل الطلاب من أميون ومن القرى المجاورة حتى فاق عددهم المئة وخمسين طالبة وطالباً.
مرت بضع سنوات ولم تحمل أمي فذهبت الى أشهر طبيب في الجامعة الأميركية وبعد ان فحصها قال "هذه السيدة لن تنجب ولداً". ودون أية معالجة، حملت بي بعد إحدى عشر سنة وولدتني في أميون 19/09/1916.
واستمرت المدرسة في أميون تنمو وتزدهر ويزداد عدد طلابها كل سنة حتى بدأت الحرب العالمية الأولى التي رافقها الفقر والجوع، فتضاءل عدد الطلبة فأرغم الوالد والوالدة على إقفال المدرسة والاكتفاء بتلقين الدروس للفئة القليلة القادرة على متابعة الدرس والتحصيل.
ولما انتهت الحرب سنة 1918 عادت المدرسة الوطنية وفتحت أبوابها مجدداً وأخذت تنمو ويزداد عدد طلابها.
وبعد بضع سنوات أقفلت نهائياً نزولاً عند رغبة الحبر الفاضل الكسندرس طحان الذي عيّن والدي أستاذ اللغة العربية في المدرسة الوطنية الارثوذكسية في طرابلس سنة 1924.
*
الدكتور عبدالله والدكتورة مي سعادة
وتزوجت ابن العم د. عبدالله سعادة في 14 تموز 1945 واستأجرنا بيتاً في طرابلس وسكنا مع أمي، وقد أحبتنا وأحببناها كثيراً.
وأنشأ عبدالله مع ثلاث رفاق له: د. بشار جبارة ود. عفيف عيد الوهاب ود. جو يمين مستشفى في المينا، أسموه "مستشفى المينا". وكان عبدالله يطبب ويجري العمليات في مستشفى المينا وأنا أمارس الطب في "مستشفى النيني" في طرابلس.
*
صورة تمثال معري أميون اخذت له في الارجنتين
بعد الاحتفال الذي اقامه له تلامذته هناك
ووصل تمثال والدي المقدسي حنا سعادة معري أميون الى لبنان في 19/09/1961. تقدمةً من تلامذته في الارجنتين، الذين جسدوا وفاءهم وعرفانهم له تمثالاُ من البرونز، وعلى رأسهم تلميذه الاديب الكبير "خليل نبوت". ولقد أقاموا له احتفالاً في الارجنتين وأصدروا كتيباً عنه.
وفي الكتيب ورد ما كتبه عن والدي الأستاذ انيس نصر في مؤلفه "النبوغ اللبناني" وما كتبه الاديب "خليل نبوت" عن استاذه.
*
كنت في اميون في منزل سلفي إبراهيم ليلة رأس السنة مدعوة لأسهر مع الاقرباء والأصدقاء، وسمعنا بالانقلاب فدهشنا وصعقنا فمنّا من بكى ومنّا من خاف، ومنّا من تعجب. اما انا فلم أنبس ببنت شفة ولم أتمكن من النوم بعد سماعي الخبر.
وفي الثالثة صباحاً طوّق الجيش منزل سلفي إبراهيم واخذوني لطرابلس للاستنطاق. فبقيت حتى الصباح الى ان جاء المستنطق وسألني عن معلوماتي عن الانقلاب.
اجبته: "انا لا اعرف شيئاً عنه، فأنا لست قومية ولم انتمِ الى الحزب ولم اقسم اليمين. انا زوجة رئيس الحزب عبدالله سعادة فقط".
فسجنت في مستشفى الحكومة، حيث كنت اجري سابقاً العمليات الجراحية مع د. وهيب نيني. ووُضعت بالانفراد والجنود تحيط بغرفتي.
وسُجن في المستشفى الكثير من القوميات وزوجات المسؤولين وكنّ جميعاً شجاعات، باسمات، واثقات من أنفسهن.
ومُنعت عني الكتب والصحف ورؤية اولادي وزيارة الاهل والأصدقاء، فطالبت بالسماح لي بالكتب والمجلات الطبية فسمح لي بها العميد اميل بستاني رحمه الله على لطفه وانسانيته.
لقد كنت قلقة جدا وخائفة على حياة زوجي عبدالله وما يتعرض له من تعذيب وسوء معاملة، وقلقة ايضاً على وضعنا المأساوي، فأولادنا الصبيان الثلاثة وضعوا في المدرسة الانجيلية الأميركية الداخلية في طرابلس، وابنتي الصغيرة ليلى تعيش مع مربيتها وحيدة في البيت بعيدة عن والديها واخوتها.
كنت أحاول ان اقرأ المجلات الطبية، فكنت اول الامر لا أفهم ما اقرأ ولو أعدتُ قراءة الصفحة مرتين وكنت لا انام جيداً، فاستيقظ ليلاً عدة مرات خائفة مذعورة.
هذه الآنسة اللطيفة الرقيقة كانت تحمل إليّ الاكل، وتمدحني وتثني عليّ وهي تمرّ امام الجنود المحيطين بغرفتي قائلة: "من تظنون د. مي سعادة؟ هي أشهر طبيبة في لبنان. هي اللبنانية الأولى التي تخرجت طبيبة من الجامعة الأميركية. هي تخدم الإنسانية وتطيب الفقراء مجاناً". وكلما جاءت الى غرفتي كانت تلقي على الجنود المحاضرة نفسها. فما أشجعها وأوفاها وأبرعها!
ومرضت صغيرتي ليلى فسمح لها العميد "اميل بستاني" – مشكوراً – رحمه الله ان تأتي الى غرفتي وتبقى معي لأطببها حتى تُشفى. فدخلت الى غرفتي وارتمت على صدري، فضممتها وقبلتها، وشعرتُ بعلو حرارتها، ورأيت حلقها الملتهب وطلبتُ لها الدواء المضاد للالتهابات، فأخذته ونامت على ذراعي طيلة الليل، وانا لا أنام، أحدّق بها وأحدق بها!
وبعد ثلاثة أيام شُفيت ليلى ولا اعرف ما الذي شفاها، هل هو الدواء، أم القبلات والضمّات؟