أنتقل الآن للكلام عن الفكرة المركزية للعقيدة القومية الاجتماعية. أو بلغة أخرى، إنني أطارد نفسي أمامكم. نعم، ألاحق نفسي للإجابة على السؤال الذي طرحته في المرحلة الأولى من البحث من درسنا، وهو: كيف هي العقيدة القومية الاجتماعية عقيدة سلام للأمة؟
كيف هي كذلك؟
طبعاً، ضربتُ أمثلةً وحاولتُ محاولةً ولكني، حتى هذه اللحظة لم أقدّم البرهان الذي هو البرهان الأكيد على صحة اعتقادنا، بأن عقيدة الحزب هي عقيدة السلام، وأن الأحزاب السياسية الأخرى هي أحزاب العنف الأهلي والبلبلة القومية والتفريق بين أبناء الشعب. حتى أصل إلى ذلك، أبدأ بالإشارة إلى الفكرة المركزية للعقيدة القومية الاجتماعية. يجب أن نعرف العقيدة القومية الاجتماعية حتى نعرف لماذا هي عقيدة سلام، وحتى نعرف العقيدة القومية الاجتماعية، لا بد أن نبدأ بفكرتها المركزية.
أقول مباشرة أن الفكرة المركزية للعقيدة القومية الاجتماعية هي فكرة الأمة، وإنني أستدل على ذلك بما يلي:
أولا: إسم الحزب:
إسم الحزب كان "الحزب القومي"، ثم أصبح "الحزب القومي الاجتماعي"، بعدما حاول فايز صايغ أن يُدخِل النظرة الفردية داخل الحزب، فأكد له سعاده يأن حزبنا مؤسس القومية على الاجتماعية، وأنه ليس حزباً فردياً وأن اجتماعيته واردة في مبادئ الحزب. وإذا شاء توضيحاً أكثر، فحزبنا القومي هو الحزب القومي الاجتماعي أو الحزب السوري القومي الاجتماعي. ولكن الزعيم أدرك في مرحلة التأسيس أن أهم ما يجب التركيز عليه في بداية عهد النهوض هو فكرة الأمة. فلذلك أكد على أن اسم الحزب هو الحزب القومي، أي حزب الأمة، حزب الأمة، الأمة، الأمة. ثم في كتاباته، وخاصة في "المحاضرات العشر"، ميّز سعاده نفسه عن العاملين في الحقل السياسي وقال عبارته المشهورة: "إن السياسة من أجل السياسة لا يمكن أن تكون عملاً قومياً"[1]، وعنى بذلك أن السياسة التي يريدها هي سياسة قومية، وعنى بالسياسة القومية، السياسة من أجل الأمة. ثم هناك كلام آخر في كتابات الزعيم، كقوله أن أعظم أعماله بعد تأسيس فكرة الأمة هو وضع التشريعات وإنشاء المؤسسات. فإنشاء المؤسسات والتشريعات أعظم أعماله لكن بعد تأسيس فكرة الأمة. فتأسيس فكرة الأمة هو الأعظم من أعظم أعماله.
ثم قول سعاده: "كل ما فينا هو من الأمة، وكل ما فينا هو للأمة..."[2] فالأمة، الأمة، الأمة هي مركز تفكيره. ثم هناك المبادئ الأساسية نفسها.
إذا راجعنا المبادئ الأساسية الثمانية التي تشكّل عقيدة الحزب، نجدها تدور حول فكرة الأمة. المبدأ الأساسي الأول الذي ينصّ على أن "سورية للسوريين والسوريون أمة تامة" يفيد الأمة من حيث تسمية ملكيتها، أي سورية للأمة السورية.
المبدأ الأساسي الثاني الذي يقول: "القضية السورية قضية قومية قائمة بنفسها مستقلة كل الاستقلال عن أية قضية أخرى" يفيد الأمة من حيث استقلالها الحقوقي.
المبدأ الأساسي الثالث الذي يقول: " القضية السورية هي قضية الأمة السورية والوطن السوري" يفيد العلاقة الحيوية بين الأمة وملكيتها.
المبدأ الأساسي الرابع الذي يقول: "الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي"، يفيد الأمة من حيث نشوؤها المادي.
المبدأ الأساسي الخامس الذي يحدد الوطن السوري أو الهلال السوري الخصيب، يتناول تحديد ملكية الأمة.
المبدأ الأساسي السادس الذي يقول: "الأمة مجتمع واحد"، أيضاً يتناول الأمة من حيث وحدة نظامها الاجتماعي.
والمبدأ الأساسي السابع الذي ينص على ما يلي: "تستمد النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي" هو أيضاً يتناول الأمة من حيث استقلالها الروحي.
والمبدأ الأساسي الثامن الذي ينص على: "مصلحة سورية فوق كل مصلحة" أيضاً يختص بالأمة من حيث المقياس المناقبي للعاملين لها.
إذن، المبادئ الأساسية الثمانية كلها تقول بالأمة، وغاية الحزب تقول بالأمة. غاية الحزب هي الأمة، فمن حيث علاقتها بنفسها، الغاية نهضة داخلية للأمة، ومن حيث علاقتها بعالمها العربي، الغاية هي الجبهة العربية الواحدة.
المبادئ الإصلاحية الخمسة تنصّ أيضاً على الأمة ولكن من حيث دولتها.
فالمبدأ الإصلاحي الأول الذي ينص على: "فصل الدين عن الدولة"، يعني علمانية دولة الأمة.
والمبدأ الإصلاحي الثاني الذي ينص على: "منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين"، يدل على دولة الأمة من حيث علميتها، أي يجب أن يتسلّم المقاليد السياسية والقضائية في الأمة، الإختصاصيون.
المبدأ الإصلاحي الثالث الذي ينص على: "إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب" يختص بوحدة نظام دولة الأمة.
ثم المبدأ الإصلاحي الرابع الذي يقول: "إلغاء الإقطاع وتنظيم الإقتصاد القومي على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة"، أيضاً يدور حول دولة الأمة من حيث نظامها الإقتصادي.
والمبدأ الإصلاحي الخامس الذي ينصّ على: "إنشاء جيش قوي يكون ذات قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن"، أيضاً يتعلق بدولة الأمة من حيث سلامتها وأمنها. وهكذا تجدون أن المبادئ كلها تدور حول الأمة. فالأمة هي مبدأ المبادئ الأساسية والمبادئ الإصلاحية وغاية الحزب. الأمة هي ملتقاها جميعا وهي مركزها.
أكتفي بهذا المقدار للتدليل على مركزية فكرة الأمة في العقيدة القومية الاجتماعية. وباختصار، إذا قلنا العقيدة قصدنا الأمة، وإذا قلنا الأمة قصدنا العقيدة. فالأمة هي أهم الأفكار في العقيدة القومية الاجتماعية، أو هي الفكرة المركزية التي تدور حولها كل الأفكار الأخرى، والحقيقة أن كل أفكار سعاده، في مبادئه وفي خطبه وفي محاضراته وكتبه ونضالاته كلها، كانت مُنصَبّة حول فكرة الأمة. لذلك نقول الأمة هي جوهر العقيدة القومية الاجتماعية والعقيدة القومية الاجتماعية جوهرها الأمة. فإذا كان الأمر كذلك، لا نستطيع أن نعمل سياسة دون أن تكون أبصارنا شاخصة حول مصلحة الأمة. ولا نستطيع أن نعمل حرباً أو إدارة أو مسرحاً إلا والأمة في ساحة نفوسنا، والأمة هي قضيتنا. فكما اعتبر سعاده: السياسة من أجل السياسة لا تشكّل عملا للأمة، كذلك نقول، الفن من أجل الفن لا يشكّل عملا للأمة، والحرب من أجل الحرب لا يشكل عملا للأمة، والإدارة من أجل الإدارة لا يشكل عملا للأمة، ثم القراءة من أجل القراءة والإطلاع من أجل الإطلاع لا يشكلان عملا قومياً. ومن هنا القاعدة المنهجية التالية وهي: لكي ندرس العقيدة القومية الاجتماعية، حتى نكون قادرين على قراءتها في مكتوبات سعاده، علينا ألاّ ننسى فكرة الأمة. فحيثما قرأنا سطراً أو فقرة أو خطاباً، يجب أن نسلّط فكرة الأمة، أن نُسقِطَ ضوء فكرة الأمة على ذلك الخطاب أو على ذلك الكتاب حتى يستنير النص فتكون قراءتنا قراءة قومية اجتماعية. مثالٌ على ذلك، إذا قلنا: "أن الحياة كلها وقفة عز فقط"، فإن هذا الكلام الذي قاله سعاده، لا نستطيع أن نفهمه إذا ألقينا عليه المعنى القاموسي للكلمات. لا نفهمه إلّا إذا ترجمناه ترجمة قومية، إلّا إذا شرحناه شرحا قومياً، إلّا إذا ربطناه بفكرة الأمة، عندئذ يستضيء، فتستضيء قراءتنا باستضاءة النص الذي يصبح: إن الحياة كلها وقفة عز قومية فقط. أما الوقفة الطائفية فهي الموت بعينه، وكذلك الوقفة العشائرية والوقفة العنصرية والوقفة الطبقية، لِما تجرّه تلك الوقفات من نزاعات عنفية تمزّق الأمة شرّ تمزيق فتقضي عليها.
لنأخذ عبرة ثانية. عندما يقول سعاده: "بعد الإطّلاع يمكن تكوين رأي"[3]، فإنه هنا لا يتحدث على "الإطّلاع" ولا يتحدث عن "الرأي". حتى نفهم هذا النص، يجب أن ندخل فيه فكرة الأمة فيصبح كما يلي: بعد الإطّلاع على حالة الأمة وعلى ويلات الأمة وعلى أمراض الأمة، وعلى الطائفية المتفشية في الأمة والبلبلة العنصرية والصراع الطبقي، بعد أن نطّلع على فوضى الأمة بكل أشكالها، يمكن أن نكوّن رأياً في كيفية إنقاذ الأمة. إذن، لا يمكن أن نفهم هذا النصّ إلا إذا أدخلنا فيه فكرة الأمة. كلّ نصّ لسعاده، وأقولها مؤكداً، كل كلام سعاده، حيثما خطب وحيثما كتب، كلّ كلامه مشتملٌ على فكرة الأمة، إمّا صراحة أو ضمناً. وإذا جاء بعض كلامه غير مشتمل على فكرة الأمة صراحةً، فيجب علينا أن نُدخِل فكرة الأمة لكي يستقيم فهمنا لسعاده. لأن سعاده، لم يكن قومياً فقط عندما كان يُدخل فكرة الأمة صراحة في خطبه ومحاضراته، أما عندما لم يكن يدخلها صراحة ما عاد قومياً اجتماعياً. سعاده هو هو عندما كان يُدخل فكرة الأمة في عبارات صريحة وهو سعاده القومي الاجتماعي عندما كان لا يُدخلها صراحة لأنه يُدرك، أن الذين يسمعونه أو يقرأونه، لا ينسون أبدا أن القضية المركزية لعقيدته هي فكرة الأمة.
عندما يعرّف سعاده النهضة بقوله: "النهضة إذن هي الخروج من التفسخ والتضارب والشك إلى الجلاء والوضوح والثقة واليقين والإيمان والعمل بإرادة واضحة وعزيمة صادقة، هذا هو معنى النهضة لنا".[4] وقد سمعتُ أكثر من قومي اجتماعي يردد هذا الكلام الصحيح بدون خطأ، ولكن المهم أن يُشرح هذا الكلام. فعندما يقول سعاده أن "النهضة" هي "الخروج"، نسأل: خروج من؟ خروج من أين؟ لا يكفي أن نقول الخروج من التفسخ والتضارب، تفسخ ماذا؟ تضارب ماذا؟ إلى "الوضوح"، وضوح ماذا؟ وجلاء ماذا؟ يجب أن نشرح هذه الأمور فلا يسعفنا إلا القاعدة المنهجية التي شرحنا قبل قليل.
لنُدخل فكرة الأمة هنا، في هذا النص، أو فكرة القومية، ماذا يصبح النص؟ يصبح بالشكل التالي: النهضة إذن هي خروج الأمة من تفسخ الأمة والتضارب بين أبناء الأمة والشك بعضهم بالبعض الآخر، إلى وضوح الأمة في الشخصية والهوية والقضية، إلى جلائها، وإلى ثقة أبناء الأمة بعضهم ببعضهم الآخر وإلى إيمانهم بأنفسهم، بأمتهم، والعمل لأمتهم بإرادة واضحة وعزيمة قومية صادقة. أصبح النصّ واضحاً. أما إذا كررنا "تفسخ، جلاء، وضوح، يقين.."، يصبح كلامنا على المطلقات، وقد يؤلف فردٌ كتابا ًأو نظرية في نظرية سعاده في التفسخ، ونظرية سعاده في الوضوح. سعاده نظرياته كلها وأفكاره كلها تتعلق أو ترتبط بفكرة الأمة أو القومية. فهذا النصّ أصبح واضحاً عندما أدخلنا إليه فكرة الأمة. إذن، القراءة من أجل القراءة لا تشكّل عملا قومياً، ولكن القراءة تشكّل عملاً قومياً إذا قرأنا سعاده وفي عقلنا أن الفكرة المركزية عند سعاده هي الأمة.
المبادئ هي محلّ الفلسفة المادية-الروحية
الآن، إذا كانت السياسة عند سعاده يجب أن تكون سياسة للأمة والإدارة إدارة للأمة والفن للأمة، إذا كان كل شيء يجب أن يكون مرتبطاً بالأمة وغير منفكّ عن فكرة الأمة، إذا كانت هذه هي الحقيقة، فكيف يجوز لنا عندما نأتي إلى درس عقيدة سعاده أو فلسفته، أن نغادر فكرة الأمة فنتحدث عن كائنات أو قضايا لا تمت إلى الأمة بصلة. فعقيدة سعاده تتعلق بالأمة. وعقيدة سعاده هي فلسفته المادية - الروحية، لذلك نقول أن الفلسفة المادية - الروحية لسعاده هي الفلسفة المادية - الروحية للأمة، أو هي فلسفة الأمة المادية - الروحية. إذا كان سعاده قد سمّى العقيدة القومية الاجتماعية بالفلسفة المادية-الروحية، فيجب أن نفهم من ذلك أنها الفلسفة المادية للأمة والفلسفة الروحية للأمة، أو فلسفة الأمة من حيث مادتها ومن حيث روحها. فما هي مادة الأمة؟ وما هي روحها؟ قبل البدء بالإجابة على هذين السؤالين، تجدر الملاحظة أن سعاده يستخدم التسميات التالية التي أعتقد أنها متكافئة وهي: "عقيدة قومية اجتماعية"، ويقول أحيانا "فلسفة قومية اجتماعية" و "فلسفة مادية-روحية" أو "مدرحية" وأحياناً "نظرة إلى الحياة والكون والفن". ولكن كل هذا الكلام يعادل بعضه بعضاً، فلم يأتِ سعاده بأفكار مشلّعة بل جاء بعقيدة واحدة كان يسميها "فلسفة" عندما تكون المناسبة مناسبة مثقفين إختصاصيين، وكان يسميها عقيدة عندما يتكلم كلاماً بسيطاً موجّها للشعب. لكن ذلك يعادل بعضه. فنحن إذن بصدد فلسفة واحدة هي "الفلسفة المادية - الروحية". هي فلسفة الأمة من حيث مادتها ومن حيث روحها كما قلنا. الآن ما هي مادة الأمة وأين نحن واجدون روحها في كتابات سعاده؟
إنني أقول لكم بكثافة شديدة، أن كل ما جاء به سعاده هو المبادئ الأساسية (طبعا والمبادئ الإصلاحية لأنها نتيجة للمبادئ الأساسية). الذي جاء به سعاده هو المبادئ، وكان يشرح المبادئ للأفراد شفهياً في بداية عهده بالعمل الحزبي عندما أسس الحزب سرّياً في أوائل الثلاثينات 1930-1935. أجل، سعاده هو المبادئ والمبادئ هي سعاده. لم يأتِ سعاده بشيء غير المبادئ، سوى الكتاب العلمي "نشوء الأمم" الذي إختصّ بتعريف الأمة وتكوّنها المادي. عندما انكشف أمر الحزب السري وحُكم على سعاده بالسجن بعد وقفة العز في المحكمة المختلطة، التي كان رأس قضاتها فرنسي وقضى بالسجن ستة أشهر، هنالك وضع شروح المبادئ وألّف كتاب "نشوء الأمم". كانت فترة الأسر الفرصة الوحيدة لسعاده ليكتب كتاب "نشوء الأمم" وليضع شرح المبادئ عام 1936، فكان أول شرح خطّي للمبادئ. قبل ذلك كانت المبادئ تُشرح شفهياً كما ذكرنا، اللهم باستثناء خطاب سعاده في أول حزيران 1935 الذي يُعرف الآن بالخطاب المنهاجي الأول، لأنه اشتمل على شرح مقتضب سريع للمبادئ. هذا الخطاب تجد الآن شرحه التفصيلي في المحاضرة الثانية من كتاب "المحاضرات العشر". إذن جاء سعاده بالمبادئ وكان يشرحها إفراديا للمقبلين على الدعوة مباشرةً ولم تكن مدوّنة. ثم شرحها شرحاً موجزاً في خطاب حزيران 1935، ثم شرحها خطياً في السجن عام 1936. وكتيّب المبادئ المتداول حاليا يشتمل على المبادئ المشروحة بقلم الزعيم 1936. ثم كان الإغتراب القسري في أميركا اللاتينية ونشوب الحرب العالمية الثانية ثم عودته في الثاني من آذار 1947، واكتشافه أن الحزب كانت قيادته غير مهتمة بدرس العقيدة أو تدريسها. فأعاد الندوة الثقافية المركزية وعاد يشرح مبادئ الحزب. و"المحاضرات العشر" الموجودة الآن في كتاب، هي شروح لشروح مبادئ الحزب كما وردت في الكتيّب الصغير لمبادئ الحزب.
من كل ما تقدّم، نستنتج أن سعاده كان عبر مسيرته النضالية مهتماً بالمبادئ. ولكن لما كانت المبادئ كلها تدور حول فكرة الأمة، جاء كتاب "نشوء الأمم" أو أطروحته، هي تعريفنا بما هي الأمة. فلا يفهمها أحدنا الأمة المارونية ويفهمها الآخر الأمة الدرزية وثالث الأمة السنّية ورابع الأمة العربية وخامس الأمة الأشورية.
كتاب "نشوء الأمم" هو ضرورة لكي يكون فهمنا للأمة فهماً موحّداً، هو الفهم الاجتماعي. هو فهم علم الإجتماع. هو كتاب مساعد على ضبط مفاهيمنا للأمة فلا تطيش المفاهيم وتتشيع. أما سعاده فهو المبادئ. وهذه المبادئ تدور حول فكرة الأمة. إذن، يجب جلاء فكرة الأمة فكان كتاب "نشوء الأمم". حالنا الآن، حال الذي يبحث عن كنز. فهو لا يستطيع أن يبحث عن الكنز في كل العالم فيضيع وقته سدى ويقضي عمره دون نتيجة. يجب أن يرسم خارطة ويحدد منطقة من المناطق فيقول: أن الكنز مثلاً هو في أستراليا أو في أفريقيا أو في الهند أو في سوريه. يجب أن يحدد نطاق البحث، ثم إذا قال في سوريه، عليه أن يحدد أين في سوريه. عليه أن يضيّق الدائرة لأنه لا يستطيع أن يحفر في كل تراب سوريه، فيقضي عمره ولم ينته بعد. يقول مثلاً في قرية ماري، أو إيبلا أو أوغاريت، وهناك يبدأ الحفر بحثاً عن الكنز. نفس الكلام ينطبق هنا على حالنا، إذا شئنا أن نبحث عن عقيدة سعاده أو فلسفة سعاده أو نظرة سعاده إلى الحياة والكون والفن، أو الفلسفة المادية-الروحية لسعاده، فنحن لا نجدها إلا بعد أن نحدد نطاق البحث.
إذا صحّ قولنا بأن سعاده هو المبادئ والمبادئ هي سعاده، فيجب أن نبحث في أرض المبادئ القومية الاجتماعية. فهذه هي الأرض الوحيدة التي إذا حرثنا فيها حرثاً فكرياً، فإننا واجدون عقيدة سعاده أو فلسفته، عدا ذلك طلب المحال.
ماذا نجد في المبادئ؟
نجد في المبادئ أولاً المبدأ الأساسي الرابع الذي يقول:" الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي". في نظري، ونظري خاضع للمناقشة في الكلية من قبلِكم وخاضع للمناقشة من قِبَل أي قومي اجتماعي، لأنه مجرّد رأي في الموضوع. رأيي أن المبدأ الأساسي الرابع يتضمن ويحدد مادة الأمة في الفلسفة المادية-الروحية التي أتى بها سعاده. ورأيي أن المبدأ المذكور يمكن صياغته على الشكل التالي: "الأمة السوريّة (مادتها) الشعب السوري المتولد من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي". الأمة السورية من حيث مادتها أو مادة الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي. لماذا؟
لنعد، أولاً، إلى "نشوء الأمم". سعاده قال: كان هناك أرض، والحياة نشأت في الأرض وعلى الأرض. لم يكن هناك أقطار، لم يكن جبال كما هي الآن. كان هنالك كرة أرضية بشكلٍ من الأشكال، ونشأت الحياة على الأرض – الحياة بنباتها وحيوانها وإنسانها في الأرض وعلى الأرض. ماذا كان قبل الأرض ونشوء الحياة فيها؟ هنا يدخل مجال الميتافيزيقيا والأديان.
وُجِدت الكرة الأرضية وليس فيها حياة. نشأت الحياة عليها من نبات وحيوان، ثم نشأ النوع البشري. ومع تطور الكرة الأرضية والنوع البشري، نشأت السلالات المختلفة والأقطار المختلفة، مثل السلالة اللونية البيضاء والسوداء وسلالة الرؤوس المستطيلة والمفلطحة والمستديرة الخ... السلالات حاربَت بعضها البعض وتصادَمت أو هاجرت. والسلالات بعد تصادمها، تمازجت في الأقطار، فأصبح لدينا عوضاً عن السلالات شعوب، ففي كل قطر شعبٌ هو مزيجٌ من هذه السلالات.
المهم أن النوع البشري نشأ وتوزّع سلالات، فما هي السلالة؟ نحن ملزمون أن نعرف السلالة، لأنه نتيجة تمازج هذه السلالات في الأقطار، كانت الكائنات الاجتماعية التي نسمّيها بالأمم أو الشعوب.
السلالة هي جماعة من البشر، يشترك أفرادها بصفة جسدية تتوارث في الجماعة جيلاً بعد جيل، فالسلالة، اجتمع أفرادها على التشابه الجسدي أو على التشابه الفيزيائي. فجميع أفرادها لهم لون أسود وأولادهم يولدون بلون أسود وأولاد أولادهم. أو كلهم لهم رؤوس مستطيلة وأولادهم ينشأون ولهم الرؤوس المستطيلة أو المفلطحة أو المستديرة، أو تكون السلالة لها نفس الأنف المعقوف أو الشعر الجعدي إلخ... إذن واقع السلالة هو واقع مادي (فيزيائي). جماعة يتشابه أفرادها من ناحية مادية. لماذا؟ لأن الشيء المادي هو الذي تمكن ملاحظته بالعين والحواس ويمكن قياسه. نحن نستطيع أن نرى الرأس المستطيل وأن نقيس نسبة عرض الجمجمة إلى طولها، ونستطيع أن نلاحظ الأنف المعقوف وأن نلاحظ كل سلالة. إذا قلنا كانت هناك سلالات، نعني كانت هناك جماعات مادية. لكن هذه الجماعات المادية، تمازجت عندما سكنت الأرض، انتقلت من مرحلة الرعاية والرحيل ومرحلة البداوة، إلى مرحلة الزراعة واستقرت في الأقطار. في الأقطار تصادمت مع بعضها البعض، تزاوج أفرادها وتمازجوا من كل نواحي الحياة. ونتيجة هذا التمازج، الطويل العقود الزمنية، اختفت حدود السلالة. مثلاً هنا، يوجد بيننا من هو صاحب الرأس المستطيل وصاحب الرأس المستدير والشعر الأملس والجعدي، فنحن لا نتشابه بأي صفة جسدية في هذا المكان. لا يوجد أمة من أمم الأرض في هذا العصر، تتألف من سلالة واحدة. فكل أمة مجتمع مزيج. إذن، قبل نشوء الأمة كانت مادتها سلالات، لكن مادة الأمة الآن في واقعها ليست سلالة واحدة بل مجتمع مزيج. أو كما ينصّ المبدأ الأساسي الرابع (إذا عممناه): الأمة (مادتها) وحدة الشعب المتولدة من تاريخ طويل....
سأصنع التمثيل التالي: هذا الشيء أمامي، في واقعه الحالي الراهن، هو ماء. ما هو أصله؟ هيدروجين وأوكسيجين، بنسبة حجمين من الأول إلى حجم من الثاني، لكن هذا الشيء (الماء)، ليس بهيدروجين ولا بأوكسيجين، المواد التي نشأ منها. كذلك بالنسبة للأمة، فالأمة من حيث هي جماعة، تشكلت من جماعات مادية أخرى، تمازجت فيما بينها فكانت الأمة ذلك المزيج. فسعاده، يقصد بمادة الأمة واقع المزيج الذي عليه الأمة. الأمة واقعها المادي مزيج من البشر، مزيج من السلالات وليس سلالة واحدة. لذلك تسقط كل النظريات السلالية والنازية والفاشستية سقوطاً باهراً أمام نظرية سعاده في مادة الأمة. بطريقة أخرى، إذا شئنا يمكن أن نقول هناك جماعات على الأقل لغوياً، على الأقل في معرفتنا العادية، نعرف أن هناك جماعات: جماعة القبيلة، جماعة الطائفة، جماعة السلالة، وهناك جماعة الطبقة وجماعة العائلة. جماعة القبيلة كانت جماعة قبيلة لأنها اشتركت بالجد، أو توهمت أو اعتقدت أن كل أفرادها يتحدرون من جد واحد مثل قحطان أو عدنان أو غسان. فأبناء القبيلة أبناء عمومة أو خؤولة. فالذي جمعهم وحوّلهم إلى جماعة القبيلة، كان ذلك المشترك الذي نسمّيه الجِد أو الأصل الدموي الواحد. الطائفة، صارت جماعة الطائفة، بسبب المشترك الذي هو المذهب الديني: كلهم موارنة أو كلهم سنّة أو كلهم شيعة. كل جماعة جوهرها المشترك بين أفرادها. جماعة العِرق أو السلالة، كانت جماعة سلالة، لأن أفرادها اشتركوا إمّا بلون البشرة أو بشكل الرأس أو خلافهما. لكن نشأ في التاريخ جماعة جديدة لا نستطيع أن نجد بين أفرادها مُشتَرَكاً اسمه الجِد أو مُشتَرَكاً اسمه المذهب الديني، أو مُشتَرَكاً اسمه الصفة العنصرية الخ... هذه الجماعة الجديدة التي أكثر ما تتجلى في القرن العشرين، التي لا نستطيع أن نسمّيها قبيلة لأن أفرادها لا يشتركون بالجِد الواحد، أو طائفة لأنهم لا يشتركون بالمذهب الديني الواحد، أو سلالة أفرادها لا يشتركون بالصفة الجسدية الواحدة. هذه الجماعة التي لا تشترك إلا بواقعها المادي الذي هو مزيج، إلّا بحقيقة أنها مزيج بشري في قطرٍ معيّن. هذه الجماعة الجديدة اكتشف حقيقتها سعاده وأسماها الأمة. فالأمة نجد حقيقتها المادية في واقعها المزيج الذي هو واقع موضوعي يمكن درسه وليس خيالاً من الأخيلة أو وهماً من الأوهام.
نحصل من كل ما تقدَّم على النتيجة العلمية التالية وهي أن للأمة مادة هي واقعها وأن مادة الأمة كانت حصيلة تطور اجتماعي حصل في الزمان الطويل وليست الأمة خلاصة من التصورات التي تجري في ذهن بعض الأفراد. إن الأمة كواقع اجتماعي مزيج، تفترض أن تكون حادثة التمازج قد وقعت فعلاً. التمازج (التفاعل) بين السلالات بجماعاتها المختلفة وقبائلها المختلفة قد تم، وبتمامه ولد الكائن الجديد الذي أسماه سعاده الأمة أو متحد القطر. هذا معنى قول سعاده: "لم آتكم بالخوارق والمعجزات بل أتيتكم بالحقيقة الراهنة التي هي أنتم"[5]. فاقرأوا أنفسكم، بإقراءكم تقرأوا سعاده، إقرأوا رؤوسكم، إقرأوا أشكالكم، عيونكم، فلا تجدوا إلا حقيقة المزيج، إلّا حقيقة أننا نشترك في واقعنا الاجتماعي، المزيج الذي هو واقعنا المادي الذي كل واحد منّا عضو فيه.
الآن نسأل: إذا كانت الحقيقة هي أن أجدادنا تمازجوا وتفاعلوا في قطرنا السوري، إذا كنا نشترك بحقيقة امتزاجهم وحقيقة تفاعلهم، إذا كنا نشترك بكل أجدادنا في تمازجهم وتفاعلهم، إذا كنا حاصل اشتراكهم المادي في التمازج في هذا القطر السوري الجميل، فلماذا لا تكون لنا قضية مشتركة واحدة؟
نحن شركاء في الواقع المادي لشراكة أجدادنا، فلا يستطيع واحدنا أن يسلسل أجداده أو جداته على خط عنصري واحد دون أن يتقاطع مع خطوط أخرى. فلا يستطيع أن يقول أنه عربي بالمعنى العنصري، أو آشوري بالمعنى العنصري، أو فينيقي بالمعنى العنصري، لأن أجدادنا قد تمازجوا في بلادنا عبر الأجيال التي لا تحصى وعبر التاريخ الطويل. هنالك مثلاً أربعمئة عام من الحكم العثماني، المسلم يتزوج المسلمة، الباكستاني يعبر في بلاد الشام ليحجّ إلى مكة المكرّمة ويزور القدس الشريف، والإندونيسي يأتي والفارسي يأتي والإسلام يشجّع زواج المسلم من المسلمة، تركيّة كانت أم أندونيسيّة أم باكستانية أم عربية، فهل يعقل أن أجدادنا لم يتزاوجوا ولم يتفاعلوا إما بعامل الدين أو بعامل الإلفة أو بعامل الجوار أو التجارة أو بعامل الحرب؟
بما أننا نشترك في هذا الواقع المادي الذي نؤلّفه من حيث أننا أفراد والذي هو نحن من حيث أننا أمة. بما أننا مزيج اجتماعي في قطر واحد، لذلك نحن لنا قضية واحدة هي قضية واقعنا وحقيقتنا. بلغة أخرى، لنتصوّر حالة مثالية افتراضية. لنتصوّر أن هنالك قطرا من الأقطار وفيه جماعات إثنية مستقرة في ذلك القطر، ماذا تتصورون سيحصل نتيجة تفاعل وتمازج هذه الجماعة مع بعضها في ذلك القطر؟ طبعا التفاعل قد يكون عن طريق التجارة والسياسة والحروب الأهلية أو الزواج وخاصة التزاوج، لأنه لا يمكن إبطال الزواج أو وقفه. فكل الأجيال أفرادها يتزاوجون ما عدا النفر القليل. نقول ماذا سينشأ بعد مدة طويلة من الزمن؟ سينشأ شعور طبيعي لدى الأفراد بأنهم يشكّلون جماعة واحدة في قطر واحد. قبل مئتي عام كان بعض الأميركيين، إذا سألته عن نفسه يقول أنه اسكتلندي أو ألماني أو إيرلندي أو أنه إيطالي. أما بعد حصول التمازج، فإن كل فرد في أميركانية إذا سألته يجيب: أنا أميركاني". صار الأفراد في الولايات المتحدة أميركانيون. كذلك في أستراليا نجد أمةً في الصيرورة: الآن نجد ما يسمى جماعات إثنية مختلفة. إذ ما يزال هناك جالية إيطالية ويوغوسلافية وسورية من لبنان. ولكن ماذا سيحصل بعد مئتي سنة، أقل أو أكثر؟ سيتم التمازج والتزاوج وسنجد الجميع يقولون في هذه البلاد أنهم أستراليون.
إن الاشتراك في الحياة، من كل نواحيها، الذي ينشأ عن تواجد الجماعات المختلفة في قطر، وتفاعل أفرادها في داخله، هو جوهر الأمة من حيث مادتها، والشعور الذي ينجم أو يقارن ذلك الاشتراك في الحياة أو الوعي العمومي المختص به جوهر الأمة من حيث روحها.
بكلامً آخر، إذا كنا مشتركين في مادة الحياة، التي هي المزيج الاجتماعي، وإذا استمر التفاعل واستمر، فسينشأ عنه شعورنا (نشؤاً طبيعياً) بأننا شعب واحد أو أمّة واحدة، مثلما هناك شعور طبيعي في فرنسا لدى الأفراد الفرنسيين بأنهم شعبٌ فرنسي، وشعورٌ اجتماعي طبيعي في بريطانيا. هذا الشعور الاجتماعي الطبيعي هو الذي يسمّى بالشعور القومي أو روح الأمة. فروح الأمة ليست وهماً بل حقيقة نجد أساسها في الواقع الاجتماعي المادي للأمة، واقع المزيج الاجتماعي في القطر.
روح الأمة أو الشعور القومي ينشأ عادة نشؤاً طبيعياً إذا كانت الجماعات تحيا في قطر دون عوائق. أما في بلادنا، فإن السيكسة، نعني إتفاقية "سايكس- بيكو" التجزيئية، التي كان أهم أهدافها، منع التمازج والتفاعل بين جماعات القطر بتقطيع دورة الحياة فيه لينشأ أطفال في لبنان بشعور انعزالي. كذلك بالنسبة للشام والعراق والأردن وفلسطين. الخ. نقول أن السيكسة التي حوّلت بلادنا إلى كيانات اصطناعية هي الحبوس التي منعت التفاعل والتمازج بين جماعات قطرنا، فساعدت على نشؤ نزعات انعزالية بدل الشعور القومي الموحّد. تلك هي جريمة "سايكس- بيكو" الكبرى، جريمة تمزيق جسم الأمة السورية وقتل روحها. هنا فد يسأل سائل: إذا كان الشعور القومي ينشأ نشؤاً طبيعياً (لا اصطناعياً)، من حقيقة الواقع المزيج واستمرار التمازج، وكلما قوي التمازج كلما قوي الشعور القومي. فلماذا الحزب السوري القومي الاجتماعي؟ لماذا كل هذا النضال؟ لنترك الأفراد يتمازجون فينشأ من تمازجهم الشعور القومي. ولا نكون محتاجين لتأسيس كلية حزبية في أستراليا ومعهد حزبي في لبنان ولا لكتب سعاده كلها؟ لماذا الحزب السوري القومي الاجتماعي؟ ولماذا هذا العناء كله؟
الجواب على كل ذلك نلخّصه بكلمة واحدة: الحزب تأسس للقضاء على السيكسة الاجتماعية وما يلحقها من النزعات الانعزالية الانفصالية، لإنقاذ الأمة وصون وجودها والتعجيل بنهوضها قبل فوات الأوان. لأن السيكسة الاجتماعية هي حالنا في بلادنا، بالإضافة إلى الإنقسامات الطائفية العنصرية وغيرها. هذه الإنقسامات التي ينبثق عنها اتجاهات معاكسة للتفاعل والتمازج الاجتماعيين، كان لا بد من تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، ليقوم بمهمة القضاء على معوقات وصعوبات التمازج والتفاعل ويبطل معطلات حقيقة الأمة، وبنفس الوقت لكي يوحّد الأمة ويصونها وينهض بها في مؤسسات الحزب. لا يستطيع سعاده ولا القوميون الاجتماعيون أن يقفوا مكتوفي الأيدي، والأمة تفعل فيها أيدي الإرادات الأجنبية وخناجر الطائفية والعنصرية والإقليمية تقطيعا وتمزيقاً. لا نستطيع أن نقف مكتوفي الأيدي ما دام هناك متآمرون على جسد الأمة، متآمرون على حقيقة الأمة، فنحن حركة صراع حتى يسلّم أعداء الأمة للأمة بحقيقة وحدتها في واقعها المزيج.
أعود لكلامي عن مادة الأمة فأقول: إذا كنا شركاء في مادة الأمة، فنحن شركاء في كل شيء. إذا كنا شركاء في واقعنا الاجتماعي، وشركاء في قطرنا الذي نملك، إذا كنا كذلك فنحن شركاء في كل شيء. نحن شركاء في الشعور، نحن شركاء في الإدارة ونحن شركاء في السياسة، في الحرب والسلم، ونحن شركاء في الاقتصاد. أصل شراكتنا في كل شيء، أننا واقع اجتماعي مادي مزيج مشترك.
داخل الحزب، نحن واقع متفاعل. داخل الحزب نحن مجتمع واحد. لو كانت السلالات أو الطوائف أو الطبقات ما زالت داخل حزبنا، لأمكن أن تقول سلالة لأخرى: لا أريد أن اشاركك في المسألة الفلانية. أو طائفة أو طبقة لأخرى لا أريد ولا أوافق تماما، مثلما يجري خارج الحزب. ولكنن في الحزب صرنا خلاف ذلك تماماً. في الحزب تلاشت السلالية والطائفية والطبقية والإقليمية، لأن مبادئ الحزب ومؤسساته خلقتا حركة التفاعل الاجتماعي وكفلتاها، فهي على قدم وساق. نحن في الحزب أمة موحّدة الجسم والروح.
إن مبادئ الحزب كلها مهمتها توحيد الإتجاه والتفاعل، وكذلك كل خطط المؤسسات في الحزب. وكلما ازداد تفاعل الأمة في الحزب، كلما اشتد اشتراكنا في الشعور القومي فظهرت حقيقة الوجدان القومي الواحد، الذي يعمم روح التسامح والسلم الأهلي. وإذا كانت القومية تفيد أن تتسع دائرة شعورنا لتشمل الأمة كلها، فهذا يتطلب أن تتسع دائرة اجتماعنا فتشمل كل أبناء الأمة، أو على الأقل تشمل أبناءً للأمة من كل الفئات, لذلك المسؤولون في الحزب يشددون على الاجتماعات وكل عمل جَماعي، لأنه في الاجتماعات يجري التفاعل، والمبادئ تؤكد أن الأمة وحدة الشعب وأن الأمة مجتمع واحد.
الآن أحب أن أنتهي بالنتيجة التالية:
إن العقيدة القومية الاجتماعية هي عقيدة السلام الأهلي لأنها تقول بإشتراك جميع الأفراد السوريين بمادة الأمة وبروحها. لأنها لا تقول بالتمييز العنصري أو المذهبي أو الطبقي أو أي تمييز من أي نوع. بل تؤكد أننا أعضاء واقع اجتماعي واحد، يمكن أن نشعر به في داخل الحزب، شعوراً عقلياً في المبادئ وعملياً في وحدة الصفوف.
عند هذه النتيجة، لا أجد أحلى من أن أردد المقطع الأساسي من نشيد الحزب، الذي كنا بدأنا به وهو:
سوريــــــــه لــكٍ الســــــلام ســوريـــه أنتٍ الهُــــــدى
سوريــــــــه لـكٍ الســـــــلام ســـوريــه نحن الفــٍــــدى