(من وحي عيد التأسيس – 16 تشرين الثاني 2019)
عرّفت السياسة بأنها فنُّ تدبير الشَّأن العام والسعيُّ وراء مصلحة الأفراد والشعب، وعرفها سعادة بأنها "فنّ تحقيق الأغراض القومية"، هدفُها تنظيمُ المُجتمع نحو الأفضل وتحقيق العدالة.
وتطور مفهوم السياسة مع مرورِ الزمن. فقبل نيقولا مكيافيلي، كانت السياسة تدبَّرُ من وجهة نظرٍ أخلاقيّة (أفلاطون، أرسطو). وبعد فترة مكيافيلي الذي قلبَ التفكير السياسي برمَّته، تمَّ قطعُ الصلة مع الأخلاق في السياسة، وأصبح الفكر السياسي يدارُ بذكاءٍ كبير ودهاء وخبث، وبشكل يعودُ بالنَّفع على الحاكم من أجل الحفاظ على السلطة.
وقد تطور الفكر السياسي والاجتماعي في أوروبا في القرون الماضية بشكل مضطرد، أسس لظهور المفاهيم المعاصرة. نستعرض في هذا البحث أهم ما قدمه رواد الفكر الأوروبي، ومن ثم نجري مقارنة بين سعادة وكل منهم، في معرض تشكيله لأساسات فكره ونظرته الخاصة المميزة.
أنطون سعادة (1904-1949) ومقاربته للحقائق الأساسية في الفكر الإنساني:
كان أنطون سعادة مطلعاً على تطور الفكر الأوروبي وإنتاج معظم مفكريه، وقد استشهد بعدد كبير منهم في كتابه نشوء الأمم (1936). وقبل استعراض نقاط الالتقاء والتعارض بينه وبينهم، لا بد من القاء الضوء على منهجه الخاص المتميز، المنفتح على العالم وبنفس الوقت الفريد والمتميز بصياغة نظرة خاصة به للكون الفلسفة والحياة.
ففي خطابه المنهاجي في اول حزيران سنة 1935 يقول عن الحزب السوري القومي الاجتماعي: "إنه فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها ، إنه تجديد أمة توهم المتوهمون انها قضت الى الأبد ، لأن العوامل العديدة التي عملت على قتل روحيتها القومية كانت أعظم كثيرا من ان تتحمل امة عادية نتائجها ويبقى لها كيان أو امل بكيان، انه نهضة أمة غير عادية – أمة ممتازة بمواهبها، متفوقة بمقدرتها، غنية بخصائصها – أمة لا ترضى القبر مكاناً لها تحت الشمس".
وفي كتابه "الصراع الفكري في الأدب السوري" يحدد للنهضة سعيها الدائم الى: "طلب الحقيقة الأساسية الكبرى لحياةٍ أجود، في عالمٍ أجمل، وقيَم أعلى. لا فرق أن تكون هذه الحقيقة ابتكاركَ أو ابتكاري أو ابتكار غيركَ أو غيري، ولا فرق أن يكون بزوغ هذه الحقيقة من شخصٍ وجيهٍ اجتماعياً ذي مالٍ ونفوذ، وأن يكون انبثاقها من فردٍ هو واحدٌ من الناس، لأن الغرض يجب أن يكون الحقيقة الأساسية المذكورة وليس الاتجاه السلبي الذي تقرره الرغائب الفردية، الخصوصية، الاستبدادية."
وفي رسالته الى الدكتور شارل مالك في 10 أيار سنة 1938 يقول:” إذا كان معنى الفلسفة الفلاسفة أنفسهم، كما تقول، فاشد حاجة شعبنا إلى هذا المعنى. إن الإدراك العادي سيظل إدراكاً عادياً، مهما تثقف وارتقى، والفلسفة تظل فلسفة، والعالم لا يحتاج فقط إلى الفلسفة، بل يحتاج على الإدراك العادي أيضاً، لأنه حيث يوجد معط يجب أن يكون هنالك متسلم يقبل.
وإنه من الحسن أن يفكر الإدراك العادي بديمكريطس وصكرات وأفلاطون وأرسطو واغسطين وزينون ونيتشه. ولكني حين أفكر أنا في الفلسفة لا أفكر بهذه الأسماء، بل في الحقائق الأساسية والمرامي النفسية الأخيرة عينها التي فكر فيها هؤلاء الفلاسفة.
وأعتقد أنك أنت أيضاً ستظل تحدق، من خلال هذه الأسماء، في الحقائق النفسية الأخيرة، حتى تغيب من أمام باصرتك هذه الأسماء، وتغوص على هذه الحقائق والمرامي في أعماق نفسك وتحسّ تياراتها الخفية الجارية من تحت الطبقات التاريخية المطبقة عليها، فتكتشف نفسك – نفسيتك الأصلية بكل جمالها وكل قوتها – فتخرج فيلسوفاً لا ناقل فلسفة.، وحينئذ تجد الحلقة المفقودة بين الفلسفة والإدراك العادي وتدرك الرابطة بين الفيلسوف وأمته، وبين حيوية أمته وقبول الشعوب القريبة منه.، حينئذ لا تعود بك حاجة لمناداة الشرق الأدنى أو العالم العربي لأن فلسفتك، فلسفة أمتك، تكون قد أصبحت فاعلة.”
وفي المحاضرة الاولى بتاريخ 7 كانون الثاني 1948 يقول: "أما التكلّم المبعثر على فولتار وموليار ولنكلن وهيقل ووليام جايمس وكانت وشوبنهور.. الخ. وعلى مختلف المدارس الفكرية، بدون أن يكون لنا رأي وموقف واضح في تلك الأفكار وأولئك المفكرين، فلا يعني أن لنا نهضة. إن ذلك لا يعني الا بلبلة وزيادة تخبط. إن الفكر البعيد عن هذه القضايا هو أفضل من الفكر المضطرب المتراوح الذي لا يقدر ان ينحاز او أن يتجه، لأنه متخبط وليس له نظرة أصلية، ولا يدرك ماذا يريد."
"الفكر المضطرب الذي يبتدئ بالتأثر بأحد المفكرين ثم ينتقل الى آخر يحصر نفسه ضمن نطاق بعض الافكار ولا يعود يخرج. ويبدأ بمناقضة كل من له رأي آخر فتنشأ حالة الفسيفساء التي تتقارب قطعها ولكنها لا تتحد."
ويتابع: "إن النهضة لها مدلول واضح عندنا وهو، خروجنا من التخبط والبلبلة والتفسخ الروحي بين مختلف العقائد إلى عقيدة جلية صحيحة واضحة نشعر أنها تعبر عن جوهر نفسيتنا وشخصيتنا القومية الاجتماعية. إلى نظرة جلية، قوية، إلى الحياة والعالم."
بناء على هذا المنهج، يمكن قراءة التقاطعات والتباينات الفكرية بين سعادة ورواد الفكر الأوروبي، حول الحقائق الاساسية التي تناولوها، كما يلي:
توماس هوبز (1588 – 1679):
يعدُّ الفيلسوف الإنجليزي هو المجدِّد الفِعلي للفلسفة السياسية الحديثة. ويوضِحُ أنَّ الدولة ككيان سياسي منظَّم هي نتاجُ توافقٍ بين مجموعة من الأفراد، تنشأ من أجل تحقيقُ الحماية والرضا للأفراد، والأمن والاستقرار وتنظيم المجتمع.
وهي تعاقدٌ اختياري يقومُ به النَّاس من أجلِ تشكيل نظام يُخرجهم من حالة الهمجية. وبموجب هذا التعاقد يتخلّى الافراد عن حقوقهم وحريَّاتهم لصالح الدولة، التي هي كيان موحّد للعقائد.
سعادة وهوبز:
يلتقي سعادة مع هوبز الى حد بسيط في تحديد علاقة الفرد بالدولة، فبالرغم أن الفرد حقوقه مصانة من ضمن حقوق المجتمع، لا يذهب سعادة مذهب هوبز بالدعوة الى أن "يتخلّى الافراد عن حقوقهم وحريَّاتهم لصالح الدولة"، ويلتقي معه أن الدولة يجب أن تكون "كياناً موحّداً للعقائد".
جون لوك (1632 – 1704):
عاش لوك في فترة عرفت تطاحنًا كبيرًا بين الكاثوليك والبروتستانت، هذا التطاحن الديني خيَّمَ على فلسفته، فتصدَّى لسطوة التصور الديني السَّائد، وحاول جاهدًا، في كتابه "رسالة في التسامح"، الفصل بين سطوة الدين والسياسة. كما تصدى كذلك لتدخل رجال الدين في السياسة والشؤون الاجتماعية.
ودعا لصيانة الحقوق الطبيعية الثلاثة: المساواة، الحريّة، والمِلكية الخاصة. وهنا يختلف مع هوبز الذي لا يعترفُ بحرية الفرد. ويخضعُ تنظيم المُجتمع حسب لوك لثلاثة محدِّدات: سيادة الشعب، الاحتكام للأغلبية، والسلطة السياسية. وكان جون لوك هو أول من قام بفصِل السُّلطات الثلاثة:
- السلطة التشريعية: هي التي تشرِّعُ القوانين وتحافظ على الحقوق.
- السلطة القضائية: مُهمتها فضُّ النزاعات.
- السلطة التنفيذية: هي التي تُنفِّذ القوانين الصادرة.
سعادة ولوك:
ويلتقي سعادة مع لوك الى حد كبير في دعوته الى الفصل بين الدين والسياسة ومنع رجال الدين من "التدخل في السياسة والشؤون الاجتماعية". كما يلتقي معه في النظرة الى المساواة والحرية والملكية الخاصة الى حد ما.
مونتسكيو (1689-1755):
ادعى مونتسكيو أن على كل نظام حكم أن يصبو إلى ضمان حرية الإنسان ومن أجل ذلك يجب الفصل بين السلطات والحفاظ على توازن بينها، أي: السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، والسلطة القضائية.
ويعتقد أنه عندما تفصل السلطات الثلاثة، ويراقب كل منها السلطتين الأخريين، تتحقق حرية المواطن، وتلتئم مع عدالة الحكومة. هذه الأفكار نجد جذورها عند هارنجتون والجرنو وسيدني وجون لوك.
ويدعو إلى إقامة نظام سياسي ليبرالي جداً: أي منفتح على روح العلم والعقل وبعيد عن التعصب والاستبداد بقدر الإمكان. كان كارهاً للتعصب والأصولية التي اعتبرها زائلة حكماً في أوروبا، ومقدساً للعقل والفضيلة ومن أكبر دعاة الحرية والتسامح والاعتدال والحكومة الدستورية. ويرى أن نظم الحكم والقوانين تختلف من مجتمع إلى مجتمع باختلاف المناخ والعادات والتقاليد والنظم الاقتصادية والأديان ومفهوم الحرية. ويعد واحداً من مؤسسي نظرية الحتمية الجغرافية بعد ابن خلدون.
كان مونتسكيو معجباً بمذهب الرواقيين، ويعتبر القضاء على مذهبهم محنة ابتلي بها الجنس البشري. لأن هذا المذهب وحده، هو الذي صنع الموطنين وعظماء الرجال. الحرية عند مونتسكيو حق لكل إنسان، طالما كانت في ظل القانون. وكان يستنكر الرق لأسباب أخلاقية.
وقد حصلت نظرية مونتسكيو على العديد من المؤيدين في أوروبا وأثرت مبادئها على دستور الولايات المتحدة الأمريكية، وإعلان حقوق الإنسان والمواطن، وعلى دساتير العديد من الأنظمة الديموقراطية في عصرنا. ومع ذلك فقد كان مونتسكيو يعتقد بعدم جواز الانتقال بين طبقات المجتمع المختلفة ولم ير أنّ عامة الشعب يستحقون أن يحكموا.
سعادة ومونتسكيو:
ولم يذهب سعادة مذهب مونتسكيو بفصل السلطات وتوازنها، بل اعتمد النظام المركزي التسلسلي الذي كان فردياً بوجوده لمنع المماحكات والمعارضة العلنية، ودعا الى توزيع السلطات بعد حصول مانع طبيعي لممارسة الزعيم لمهامه، ولكن من ضمن نظرته المركزية التسلسلية، لا الى فصلها وتوازنها. بينما تبنت القيادات التي تولت المسؤولية بعد سعادة نظرية مونتسكيو المتناقضة في الجوهر مع فكر سعادة الدستوري، كون معظم الحقوقيين الحزبيين كانوا من خريجي المدارس الغربية التي تعتبر نظرية مونتسكيو وتعديلاتها الليبرالية هي الأمثل والأفضل. وهذا سيكون موضوع بحث تفصيلي آخر.
في المقابل، التقى سعادة مع مونتسكيو على الانفتاح على روح العلم والعقل ونبذ التعصب والاستبداد. كما وافقه أن "نظم الحكم والقوانين تختلف من مجتمع إلى مجتمع باختلاف المناخ والعادات والتقاليد والنظم الاقتصادية والأديان ومفهوم الحرية". وكان مثل مونتسكيو معجباً بمذهب الرواقيين.
فولتير (1694 – 1778):
هو كاتب وفيلسوف فرنسي عـاش خلال عصر التنوير. عُرف بنقده الساخر، وذاع صيته بسبب سخريته الفلسفية الطريفة ودفاعه عن الحريات المدنية خاصة حرية العقيدة والمساواة وكرامة الإنسان. وكان مدافعاً صريحاً عن الإصلاح الاجتماعي على الرغم من وجود قوانين الرقابة الصارمة والعقوبات القاسية التي كان يتم تطبيقها على كل من يقوم بخرق هذه القوانين، وعرف بدفاعه عمن يتعرضون للاضطهاد دون وجه حق.
كان كل تركيز فولتير ينصب على فكرة أن الكون قائم على العقل واحترام الطبيعة. وانتقد التعصب والأديان المنشأة والكنيسة الكاثوليكية. وجاهر بإيمانه بوجوب فصل الكنيسة عن الدولة.
سعادة وفولتير:
والتقى سعادة مع فولتير على أهمية العقل، حيث اعتبر فولتير أن الكون قائم على العقل، واعتبر سعادة أن العقل هو الشرع الأعلى. كما التقى معه على ضرورة فصل الدين والدولة.