هذه المداخلة تشكل محاولة لشرح الفلسفة القومية الاجتماعية، المدرحية، من حيث هي محاولة موسعة ومركبة لشرح الفلسفة القومية الاجتماعية لنشوء الأمم والتطور الاجتماعي ولعوامل النهوض والثورة المضادة في العصر الحديث، أي نظرة شاملة كاملة في النشوء والتطور والتغيير الاجتماعي.
إن منهجية سعاده، الفلسفة المدرحية، هي منهجية تتناول حياة المجتمع وتفسير التاريخ الإنساني. وفلسفة سعاده ليست تفسيراً لما وراء الطبيعة (الكون بحد ذاته)، بل فلسفة المجتمع الإنساني …
يؤكد سعاده، في مقاله "النظام الجديد" والمنشور في 10 كانون الثاني 1947 في أعقاب انهيار الأنظمة العالمية بعد الحرب الثانية، في أسطر قليلة، ولكنها حازمة، أن المدرحية بديل "لعقيدة تفسير التطور الإنساني بالمبدأ الروحي وحده وعقيدة تفسيره من جهة أخرى بالمبدأ المادي وحده، وهذه الفلسفة الجديدة التي يحتاج إليها العالم، فلسفة التفاعل الموحد الجامع لقوى الإنسانية، هي الفلسفة التي تقدمها نهضتكم.."
وكما نرى، ففي هذا النص جزم في أن المدرحية – كما يقول سعاده، هي عقيدة تفسير التطور الإنساني وأنها تقوم على فلسفة التفاعل الموحد الجامع لقوى الإنسانية. لأن أساس الارتقاء الإنساني أساس مادي، روحي أي مدرحي. هنا يتحدد النطاق: في تفسير التطور الإنساني، وبأنه يقوم على مقولة التفاعل بين العوامل المادية الروحية، لأن أساس الارتقاء الإنساني هو أساس مادي روحي فالتفسير هو للارتقاء باعتماد مقولة التفاعل، من هنا كانت هي المقولة الأم في فلسفة أنطون سعاده.
وكان سعاده قد أعلن في الأول من آذار هام 1940 "إن الحركة السورية القومية الاجتماعية لم تأت سورية فقط بالمبادئ المحيية، بل أتت العالم بالقاعدة التي يمكن عليها استمرار العمران وارتقاء البشرية".
"إن الحركة السورية القومية الاجتماعية ترفض الإقرار باتخاذ الصراع بين المبدأ المادي والمبدأ الروحي قاعدة للحياة الإنسانية، ولا تقف الحركة السورية القومية الاجتماعية عند هذا الحد، بل هي تعلن للعالم مبدأ الأساس المادي - الروحي للحياة الإنسانية، ووجوب تحويل الصراع المميت إلى تفاعل متجانس يحيي ويعمر ويرفع الثقافة ويسير بالحياة نحو أرفع مستوى … "
لكن التحديد الأهم للمدرحية جاء في كتاب "الإسلام في رسالتيه" ( ص102 ) حيث نجد :
إن المبدأ الذي جاء به سعاده هو نظرة فلسفية شاملة تتناول قضايا العالم الاجتماعية والاقتصادية، وشرحها يقتضي كتاباً على حدة يبحث في المبادئ الماركسية المادية لتنظيم المجتمع، والمبادئ الفاشية النازية الروحية لتنظيم المجتمع، والصراع بين هاتين الفئتين من المبادئ، ثم مبدأ سعاده الذي يخرج بقاعدة واحدة عامة يمكن أن تجمع عليها الإنسانية وهو بحث واسع، بل فلسفة كاملة في الاجتماع والتاريخ … "
كما هو واضح من هذه النصوص أن نطاق فلسفة سعاده "هو تفسير التطور الإنساني والارتقاء الإنساني، وهو يشكل نظرية فلسفية شاملة تتناول قضايا العالم الاجتماعية والاقتصادية وفلسفة كاملة في الاجتماع والتاريخ." كما أوضح سعاده، أنه كان يرغب في وضع هذا البحث الواسع في كتاب على حدة، يقدم نظرته عبر مقارنة مع المبادئ المادية – الماركسية والفاشية – الروحية، كما ويتضح أن رفض سعاده لهاتين النظرتين وتصادميتهما ومحاولة تقديم البديل الفعلي، لم يكن فاشياً بقدر ما لم يكن شيوعياً. المسألة الأخيرة هامة، لأنه في مرحلة معينة اعتقد الجميع أننا فاشيون، فالنص المتقدم هو في عام 1940 في عز انتصارات المحور الفاشي. والقومية الاجتماعية هي عقيدة تحرر قومي بينما الفاشية عقيدة توسع استعماري، فضلاً عن انطلاق الأولى من العقل والثانية من الحدس، وارتكاز الأولى على مساواة الأمم والثانية على سيطرة أمة مختارة على جميع الأمم، وأخيراً اعتماد الأولى علم الاجتماع وتطوره في وجه العنصرية الخرافية.
إن رغبة سعاده في وضع بحث واسع مقارن بين هذه المذاهب وفلسفته المدرحية، لم تتحقق في ظل ظروف الصراع القاسي الذي قاد بها حزبه وانتهت باستشهاده المبكر في الثورة القومية الاجتماعية الأولى عام 1949، مع ذلك، فإن مرتكزات هذه الفلسفة قائمة في كل كتاباته، وعلينا تقع مهمة استقرائها منها واعتماد منهجه في الفهم والتحليل وصولاً إلى الخلاصات الفكرية.
يحدد سعاده في مقال له بعنوان "نظرة سعاده إلى الإنسان وذلك في كتاب "شروح في العقيدة" (ص163) نطاق فلسفته بالقول: " فموضوع فلسفة الزعيم إذن، هو الإنسان والقيم الإنسانية لا منشأ الكون".. فموضوع المدرحية إذن هو التطور الإنساني للمجتمع والتاريخ والقيم الإنسانية ولا شيء آخر. من هنا فإن المدرحية ليست فلسفة ميتافيزيكية تجمع بين الفلسفة الروحية والفلسفة المادية، فهي كما سبق لسعاده أن أوضح، لا تمت بأي صلة للبحث في منشأ الكون أو في طبيعة الأشياء أو في الإنسان – الفرد أو بماهية الوجود.
إن كل ترجمة للمدرحية في نطاق الماهية، أو في نطاق ما وراء الوجود، أي بماهية الكون ومبدئه تكون خارج نطاقها الإنساني المحدد.
كما أن لا علاقة للمدرحية بالإنسان كظاهرة على طريقة "فاليري شاردان" لأنها لا تدرس ماهية الإنسان كظاهرة، بل تدرس الإنسان – المجتمع والقيم الاجتماعية.
ثم إن المدرحية ليست خلطاً للمادة بالروح أو بالعكس أو توفيقاً بينهما – كما يتبادر للوهلة الأولى – من التسمية، فالمدرحية هي القومية الاجتماعية في نطاقها الفلسفي، إذ إن انطلاقها من المجتمع وتفسير تطوره يؤكد على وحدة وتكامل العوامل المادية – الروحية (النفسية) في التطور الاجتماعي، وهذا يعني أنها ليست تسوية بين المادية والروحية، أو توفيقاً بين مذهبين نقيضين، أو توسطاً بين سويتين. إن مثل هذا الفهم ينطلق إما من المادية وصولاً إلى الروحية أو بالعكس …
إن المدرحية تتجاوز تناقض المذهبين المتصارعين بانطلاقها من التفاعل كمقولة أساسية تتكامل فيها العوامل الدافعة للتطور الإنسانيين. إنها كما قال سعاده "فلسفة التفاعل الموحد الجامع لقوى الإنسانية".. فالتفاعل هو إذن، محور المدرحية، ومحركها، ودائرة الاستقطاب في منهجها، المقولة الأم. التفاعل هو الإفصاح عن المدرحية وتبيان أبعادها الفلسفية في فهم التطور والارتقاء الإنساني وكل ما يتفرع منهما.. هذا هو اتجاه سعاده، اتجاه فلسفة سعاده المدرحية، هذا الاتجاه نتلمسه في أكثر من موضع. ممثلاً في نشوء الأمم، (ص89) نجد سعاده يقول: "رأينا فيما تقدم من فصول هذا الكتاب الأسس والخطط العامة لتطور البشرية وارتقائها في ثقافاتها المادية الناتجة عن تفاعل الإنسان والطبيعة..
"ورأينا كيف أن الثقافة النفسية جارت الثقافة المادية وقامت عليها، إذ إن الحياة العقلية لا يمكن أن تأخذ مجراها إلا حيث تستتب لها الأسباب والمقومات، لذلك نجد التطور الثقافي بجميع مظاهره يرتقي ويسبق غيره حيث أسباب الحياة أوفر وأرقى مما في سواه.. "ويقول في كتاب التعاليم " القوة النفسية مهما بلغت من الكمال هي أبداً محتاجة إلى القوة المادية، بل إن القوة المادية دليل قوة نفسية راقية"."
لا يمكن فهم المدرحية إلا بالعودة لنشوء الأمم "ودرس منهجية سعاده فيه، فتفسير التطور الإنساني عنده هو، في نشوء الأمم، مرتكزاً ومنهجاً ".
فتفسير التطور الإنساني يظهر عند سعاده في سياق عملية الارتقاء من البداوة إلى الحضارة يدرسها في فصول "نشوء الأمم" بدقة.
ففي تلك الفصول، تنهض مقولة التفاعل، كمقولة أم لكل الفلسفة القومية الاجتماعية. فالتفاعل هو بين الجماعة والأرض، الجماعة المتفاعلة داخلياً والبيئة الطبيعية المحيطة، والتي تبدأ أولاً في عصر الاحتكاك لتتحول إلى مرتبة أرقى هي التفاعل المبدع للوسائل. ففي مرحلة الاحتكاك اخترعت وسائل توليد النار التي مهدت السبيل لنشوء النطق الذي كفل بتحويل الاكتشافات والاختبارات التطورية الأولية لمعارف اجتماعية وراثية (اجتماعياً). أعدت النار الإنسان السابق لدخول العصر الحجري الذي هو بدء الإنسان الذي أولى الحيوان ظهره وبدء الثقافة الإنسانية " (ص67).
ويتابع سعاده تفسيره للتطور الإنساني منطلقاً من مقولة التفاعل، فمن الاحتكاك إلى الزراعة، فخلال مراحل الارتقاء والتطور الإنساني يؤكد سعاده أن امتياز الإنسان عن الحيوان في سد حاجته مداورة بإعداد الأدوات … جعل علاقته بالأرض أمتن من علاقة سائر الكائنات الحية بها، إذ هو يقدر على معالجتها مباشرة، فحيث لا نبات صالح لغذائه يحفر في الأرض وينقب ويزرع، وحيث بعض الحبوب والنباتات واللحوم لا تصلح لتناولها مباشرة يعمل الإنسان إلى معالجتها بالطبخ والشي، فالأرض تكيف الإنسان وهو بدوره يرد الفعل ويكيفها..(نشوء الأمم ص. 49).
فمن جملة النتائج التي يقدمها سعاده في "نشوء الأمم"، يرتب على نمو العقل الذي يميز الإنسان عن الحيوان. فنمو العقل، يعني له، نمو المعارف الإنسانية، ونمو العلوم في استنباط الوسائل وصولاً إلى التكنولوجيا الحديثة. وعليه تبرز النتيجة الثانية، وهي أن نشوء المجتمع – نشوء الإنتاج، فالمجتمع لا يحيا من دون إنتاج. بتعبير آخر، تنشأ عملية التفاعل في الأمة التي بدورها تقوم على الإنتاج. وهنا تبرز النتيجة الثالثة، الثقافة، فإذا كان نمو العقل يعني نمو المعارف، فهو يعني أيضاً نمو الثقافة، ومن ضمنها العلوم كجزء من المعارف حيث يشغل الجزء الآخر تنظيم المجتمع، تنظيم عملية التفاعل، تنظيم الشأن السياسي والحقوقي – الدولـة، تنظيم الشعب، وشرائعه، وحقوقه المدنية والإنسانية.
خلاصته:
إ
ن عملية التفاعل هي عملية واحدة، لأنها لا توصف بعناصرها. نحن نتحدث عن العملية لا عن عناصرها وشروطها ومواصفاتها. من هنا كانت المدرحية هي وحدة العوامل المادية – الروحية. والتركيب اللفظي، هو تعبير عن التركيب الحياتي الذي لا يمكن من خلاله الفصل بين هذه الظاهرات المتنوعة للعملية الواحدة، فالمدرحية إذن تعبير عـن حقيقة العملية الحياتية غير المجزأة. وسعاده يقول: "لا يمكننا عملياً الفصل بين الحياة ومقوماتها". تنشأ الأمة بالتفاعل، وفي العملية ذاتها ينشأ الاقتصاد، وكذلك الثقافة.
فنشوء العمران قاد إلى ثورتين متلازمتين، كما يتضح من "نشوء الأمم"، الأبجدية والتجارة. الإنجاز الثقافي مرتبط بالإنجاز الاقتصادي، العملية الواحدة استتبعت مظهرين متلازمين مادي وروحي، وهذا هـو التفسير المدرحي للتطور الاجتماعـي، فسعاده يعتبر نشوء التجارة – أي التبادل، بين الشعوب – كان ثورة اقتصادية هامة قادها الكنعانيون، كذلك احتاجت التجارة إلى الأبجدية لتسهيل ذلك التبادل، لتبسط التعامل الاقتصادي، باعتبار أن الحروف السابقة، المسمارية، لم تكن مؤهلة لمثل هذه العملية، هكذا كانت الثورة الثقافية ملازمة وضرورية للثورة الاقتصادية، وهذا ما يفسر كيفية نشوء الجماعة البشرية بمظاهرها المادية – الروحية التي هي كما هو واضح عملية واحدة،.. فلا يمكن أن نفصل بين التجارة واختراع الأبجدية، لا يمكن أن نعزل الواحد عن الآخر، هي ذي المدرحية.
نمو العقل وإنتاج العوامل المادية – الروحية
يدرس سعاده في كتابه "نشوء الأمم" نشوء الحضارة الإنسانية فيجد أنها العملية نفسها لنشوء الأمم: عملية التفاعل بين الإنسان والبيئة. ومجمل عمليات التفاعل القومية ومحصلتها هي الحضارة الإنسانية المتعددة الألوان. انه في درسه لعملية التفاعل بين الإنسان والبيئة يقدم تفسيراً لدور العقل الإنساني ونشوئه ونموه، وهو المميز للإنسان عن الحيوان، على قاعدة التفاعل مع البيئة، كما إنه يقدم تفسيراً لنشوء الاقتصاد بتفاعل العقل مع البيئة ومواردها، وهو المميز الآخر للإنسان عن الحيوان. والعقل وكل تراثه الثقافي والاقتصادي وكل تراثه العمراني يشكل جوهر الحضارة الإنسانية المادية – الروحية.
يتميز الإنسان عن الحيوان عند سعاده بعملية التفاعل هذه. "فالأرض تكيف الإنسان، وهو بدوره يرد الفعل ويكيفها. والى هذه العلاقة المتينة يعود تفوق الإنسان على بقية الحيوانات في تنازع البقاء، يكيف الإنسان الأرض، ولكن الأرض نفسها تعين مدى التكيف وأشكاله حسب بيئاتها الإقليمية" (نشوء الأمم – ص: 44).
وعلاقة الإنسان بالأرض هي أوثق من علاقة الحيوان بها، وهذا سر تفوق الإنسان على الحيوان في تنازع البقاء، وهذا يعود إلى علاقة التفاعل مع الأرض، لأنه خلاف الحيوان يسعى – كما يقول سعاده – "لبلوغ أربه مداورة (غير مباشرة)". "فحيث لا نبات صالح لغذائه يحفر في الأرض وينقب ويزرع" (ص: 44 – 46). وأداة التفاعل الإنساني مـع البيئة هي العقل، ونطاق فعل العقل الإنساني هي عملية التفاعل هذه.
"تختلف علاقة الطبيعية بالنبات والحيوان عنها بالإنسان. فالعلاقة الأولى علاقة مفردة أو وحيدة الطرف، فالأرض تعد حاجة النبات والحيوان الحيوية، وليس لأحدهما عمل مقصود لتكييف الأرض وإعداد مقومات الحياة". والحيوان الذي هو اقرب إلى الإنسان يقول "سعاده إنه: "لا يعرف إلا سد الحاجة مباشرة، أما علاقة الطبيعة بالإنسان فهي مزدوجة". فمن جهة تقدم الطبيعة للإنسان المواد الخام، ومن جهة ثانية هي مشهد أعماله وسعيه لبلوغ أربه مداورة، بتفجير طاقات الأرض، بحفر وزرع الحقل في المراحل البدئية، وباختزان الطاقة وتفجير الذرة في العصر الحديث إنما هي حصيلة فعل المسيرة الإنسانية – العقل في البيئة، وهذا هو المسير لعملية التفاعل بين الإنسان وبيئته ومنشأ الحضارة الإنسانية.
وهذا كما يقول سعاده هو "الفارق الأساسي الأول الذي يجعل لأعمال الإنسان وللاجتماع البشري صفة مستقلة تبطل كل مقابلة "اجتماعية" بين الإنسان والحيوان، وهو ظهور الفكر الذي له كل الأهمية في الحياة والاجتماع الإنسانيين". (نشوء الأمم – ص: 55)، "هي الفوارق في كيفية فهم المحيط من الوجهة النفسية. ففهم المحيط من هذه الوجهة فيما يختص بالظواهر النفسية كالوعي والإحساس والإرادة والفكر والتصور وما إليها، ليس مما يمكن استكشافه في الحيوان. وهي هذه الظواهر التي لها كل الأهمية في حياة الإنسان الاجتماعية – في فهم الإنسان لمحيطه. وهكذا نرى أن موضوع استكشاف علم الاجتماع يختلف في الإنسان عنه في الحيوان" (المصدر نفسه).
إن تقدم العقل البشري ونموه الذي هو أساس نمو الحضارة الإنسانية، إنما حصل بحافز ونتيجة التفاعل مع البيئة لبلوغ الأرب مداورة. وفي هذه العملية نشأت عمليتان متكاملتان، عملية تنظيم المجتمع وعملية تنظيم علاقة المجتمع مع البيئة. عملية تنظم المجتمع هي التي عينت الحقوق المدنية والسياسية وأبرزت كيان الدولة والشرائع والموجبات، وعملية تنظيم علاقة المجتمع مع البيئة هي التي أنتجت الاقتصاد. أي المظهرين النفسي والمادي لحضارة الإنسان.
إن فعل العقل الإنساني وتفاعله المميز مع البيئة يتجه من عملية حفر البئر لتخزين المياه إلى عملية تفجير الذرة لتخزين الطاقة في العصر الحديث. وهذا الملح الآخر للإنسان عن الحيوان، هو الاقتصاد. الاقتصاد هو، الإنتاج، هو حصيلة تفاعل عقل الإنسان مع ممكنات البيئة الطبيعية. ولذلك اعتبر سعاده "الرابطة الاقتصادية هي الرابطة الاجتماعية الأولى في حياة الإنسان، أو الأساس المادي الذي يقيم الإنسان عليه عمرانه فلا نستطيع أن نتصور مجتمعاً يقوم على غير أساس التعاون الاقتصادي لسد الحاجة مداورة تعويضاً عن نقص وجود المادة المحتاج إليها" (ص: 62).
إن هذه الظاهرات الإنسانية العامة للتفاعل الإنساني مع البيئة، تخضع لحقيقة "أن الأرض مقسمة بحسب تكوينها إلى أقاليم وبيئات، ولكل إقليم خصائص تختلف عن خصائص الإقليم الآخر، ولكل بيئة خصائص تتميز عن خصائص البيئة الأخرى. وهذه الخصائص هي التي تعين وجهة تقدم الإنسان في سد حاجاته مداورة – أي مدنيته". (سعاده – نشوء الأمم – ص: 44).
لقد أكد سعاده أن التفاعل لا يمكن أن يستقيم إلا بوجود العامل المادي الذي هو البيئة الجغرافية بمواردها وطبيعتها وحدودها. فالعامل الطبيعي إذن عامل أساسي من ضمن علاقة التفاعل التي طرفها الآخـر، الفاعل هو الإنسان، الجماعة البشرية، لكن كما أن لا وجود للإنسان من دون ارض، فكذلك الأرض من دون بشرية. فالأرض هي الحيز المادي الذي تقوم عليه الحياة. الأرض ضرورية لنشوء الأمم، ولكن الأمة بعد أن تنشأ، والمجتمع بعد أن ينهض وينطلق لا يحدد فعله إلا بفعاليته.
القسم الأول:
نشوء الأمة
لقد قام سعاده عبر هذا المفهوم الدينامي كسراً لجمود الحتمية الجغرافية أو حدودها، بأن علم بإمكان تعديل المجتمع لحدوده على قياس فعاليته، وجعل دورة العمران هي الأساس والمحور للحياة القومية، بحيث يمكن أن تمتد على مدى فاعلية المجتمع. وانطلق سعاده من مفهوم التفاعل المنتج " للاتحاد في الحياة ".
ليست الأرض منتجة الأمة، وهو مفهوم خطأ ومشوه للقومية.
ليست الأمة حصيلة جغرافية، الأرض لا تنشئ الأمة، وليست الأمة من جهة ثانية حصيلة الإنسان في فراغ من الأرض والبيئة. العلاقة الطبيعية الأساسية بين الأرض والإنسان هي محور اهتمام الفكر القومي الاجتماعي. وهذه العلاقة يعبر عنها سعاده بالتفاعل. فالقومية الاجتماعية هي النظرة التي تنطلق من مقولة التفاعل وليس من مقولة الأرض، ولا من مقولة الإنسان في التجريد. التفاعل بين الإنسان والأرض منذ كان الإنسان وكانت الأرض ودون أي اجتزاء لمرحلة أو حقبة تاريخية هو الذي يسبر أغوار هذا الكائن الحي الذي هو المتحد الأتم، وبالتالي هو المجتمع، هو الأمة – المجتمع، الإنسان – المجتمع.
هنا أفق جديد يطل على الشأن القومي، وهو أفق خطير ومتسع، لا ينظر إلى الأمة من خلال السياسة أو من خلال العاطفة، ولا من خلال نظرات رومانسية استبدادية، بل ينظر إلى الأمة من خلال علم الاجتماع. والأمة على هذا الأساس هي وحدة الحياة، هي المتحد الأتم - كما يقول سعاده - الذي تراز به كل العوامل الأخرى وتقاس على مدى إسهامها في تكوين وحدة الحياة هذه، سواء أكان هذا الإسهام سياسياً أو فرعياً. فكل العوامل التي اختلف عليها المنظرون والمفكرون تأتي كروافد في هذا النهر، وتقاس بالنسبة لإسهامها في قيام التفاعل ونشوء وحدة الحياة القومية. وبهذا اختلفت القومية الاجتماعية عن جميع مدارس الفكر القومي التي راكمت العوامل، وعن مدرسة الفكر الماركسي اللينيني التي حددت الأمة بأربعة عوامل، انتفاء أحدها يبطل وجود الأمة دون التمييز بين العوامل المنشئة للأمة على أساس وحدة الحياة والناتجة عنها.
إن عملية التفاعل لا يمكن أن تكـون أحادية البعد، أي ليست مادية فقط ولا روحية فقط لأن الفلسفات الأحادية البعد لا تصلح لأن تكون فلسفة تفاعل. ورغم توكيد سعاده للأساس المادي فهو يختلف عن الفلسفة المادية في مفصل أساسي هو الذي يميز فلسفة التفاعل عن فلسفة الحتم، بمعنى أن العوامل المادية – الروحية متكاملة وهي تجليات مظاهر واحدة، لعملية التفاعل بمظاهرها المادية والروحية. وليست تقوم على قاعدة العوامل الأساسية والعوامل الثانوية المنبثقة عنها كقاعدة البنية التحتية والبنية الفوقية مثلاً، فالأساس المادي لا يعني التحكم الكلي والدائم والثابت بالبناء الروحي، بل إن علاقة التفاعل التي تحكم هذه العوامل تتيح للعوامل الروحية تأثيراً وفعلاً في العوامل المادية لا تلحظه فلسفة الحتم التي تستدعي التبريرات لفلسفة الاستثناءات غير المتوقعة، والتي يؤدي تكرارها إلى نقض القاعدة.
والمفصل الثاني في فهم مقولات سعاده هو إدراكنا لكون التفاعل كما وردت أعلاه، هي المقولة الأم التي تندرج تحتها المقولات الأخرى بمثابة المظاهر المتنوعة لظاهرة واحدة، والنتائج المتعددة واحدة والمقولات المتتالية لمقولة أساسية. فالتفاعل عملية غنية في مظاهرها ونتائجها وتجلياتها، وبالتالي لها طابع الشمول. ذلك لأن التفاعل هو الذي ينتج الحياة، والحياة عواملها متنوعة متعددة متكاملة متشابكة متفاعلة.
إن تحديد سعاده للأمة هو على قاعدة التفاعل، وبالتالي هو مستمد من مبدأ علمي عام لعملية علاقة الإنسان بالبيئة الطبيعية. فالأمة " موحدة المصالح، موحدة المصير، موحدة العوامل النفسية المادية " تحديداً في قطر معين " يكسبها تفاعلها معه في مجرى التطور خصائص ومزايا تميزها عن الجماعات الأخرى ". على أن التفاعل هو الذي يجعل الأمة موحدة المصالح والمصير والعوامل النفسية – المادية، إذ عنه ينشأ " الاتحاد في الحياة " أي أن تجري حياة واحدة ذات دورة اجتماعية اقتصادية ". ومن حصيلة التفاعل نشوء الحياة الواحدة، نشوء الدورة الاقتصادية الاجتماعية التي هي جوهر الأمة.
ومبدأ الاتحاد في الحياة الناتج عن التفاعل يتجلى في كل نظرية سعاده إلى التطور الاجتماعي ونشوء الأمة عن شمولية العوامل المادية – الروحية وتلازمها. ففي تحديد الأمة – المجتمع الطبيعي - يقول سعاده " شرط المجتمع، ليكون مجتمعا طبيعياً، أن يكون خاضعاً للاتحاد في الحياة والوجدان الاجتماعي، أي أن تجري فيه حياة ذات دورة اجتماعية اقتصادية واحدة تشمل المجموع كله وتنبه الوجدان الاجتماعي " (نشوء الأمم ص:168). فالاتحاد في الحياة، أي الدورة الاجتماعية الاقتصادية متلازمة مع بروز أو تنبه الوجدان الاجتماعي.
والوجدان الاجتماعي يتشكل في مرتبة أرقى من التفاعل وكحصيلة للاتحاد في الحياة حيث لا فصل بين الدورة الاجتماعية الاقتصادية وبروز الوجدان الاجتماعي، بين العوامل المادية الروحية، ولذلك فالمدرحية هي مظاهر ونتائج التفاعل ووحدة الحياة.
إن نظرة سعاده تركيبية للشأن الاجتماعي. فالتفاعل هو المقولة الأساسية المنتجة لعمليات وظاهرات متعددة، إنما تجري في عملية واحدة حيث تنصهر الأقوام في مصهر التمازج والتفاعل مع بيئتها. فهو يشبه عملية انصهارها بالمركب الكيميائي الذي تذوب فيه أصوله، والذي يسهم في حيوية الإنسان المتفاعل مع بيئته تفاعلاً ينتج عنه التكامل الاقتصادي. الدورة الاجتماعية الاقتصادية الواحدة وامتداد العمران وخلالها يرتقي العقل في استنباط وسائل الحياة وسد حاجاتها بلوغاً لمرتبة أرقى حيث تكتسب الجماعة شخصيتها وهويتها الحضارية وتبرز في المحصلة النهائية لهذا التفاعل ما وصفه سعاده في مقدمة كتابه " نشوء الأمم " بأعظم ظاهرة اجتماعية في عصرنا " شخصية الأمة " التي هي حسب تعريفه مركب اجتماعي اقتصادي (نشوء الأمم ص13) أي مادي روحي.
والشخصية الاجتماعية هي أرقى أطوار التفاعل إذ تمثل الارتقاء من الجماعة البدائية إلى الجماعة المتحضرة الراقية، حيث تظهر شخصية الفرد أولاً، حسب " نشوء الأمم "، ثم شخصية المجتمع المركبة كمرتبة أعلى، حيث يضيف الفرد إلى شعوره بشخصيته ووعيه وشعوره بشخصية مجتمعة فظهور الشخصية الإنسانية هو طوراً في الاجتماع البشري وناشئ عنه وليس منشئاً كما توهمت نظرية العقد الاجتماعي. فالفرد لم يوجد إلا في الجماعة، لكن بروز الشخصية الإنسانية هو طور راق من التفاعل.
الإنسان والأرض هما قطبا اهتمام سعاده، ولكن ليس بالتجريد، وليس بالمطلق، وليس كلاً منهما على حدة، فالدورة الاجتماعية الاقتصادية - وحتى الأرض العامل الأساسي الثاني في عملية التفاعل تخضع لمبدأ التفاعل. يقول سعاده: "وإذا كنا نرى في الحقيقة برهاناً على أهمية الأرض الأساسية في تمييز الجماعات البشرية، فإننا نرى الوجهة الأخرى أنه لا بد للأرض من جماعة مؤهلة للاستفادة منها". (نشوء الأمم ص. 48)
ومن هذا نستنتج أن الطبيعة والجغرافيا هما الطبقة الداخلية في تاريخ حياة الإنسان، فمع أنهما تميزان الجماعة تمييزاً واضحاً، فإنهما، فيما يختص بتاريخ الجماعة، لا تقدمان الاضطراريات، إلا نادراً وفي حالات استثنائية، ولكنهما تقدمان الإمكانيات". "إن التاريخ غير مكتوب في طبيعة الأرض، ومع أن الأرض هي أحد الافتراضات التي لا بد منها لنشوء التاريخ. والعوامل الفاصلة في حياة البشر وتطورها هي العوامل النفسية والفردية، التي، مع أنها تتأثر كثيراً بعامل البيئة، إما أن تستفيد من القاعدة الطبيعية بشأن الجماعات الراقية وإما أن تهملها على حسب استعدادها وإرادتها" (ص: 48، المصدر نفسه).
إن الأمة هي حصيلة التفاعل، حصيلة الحركة الدينامية الاجتماعية المستمرة التي وصفها سعاده بالـدورة الاجتماعية الاقتصادية، أي حصيلة التفاعل بين الجماعة البشرية وبيئتها. فمع توكيده على أهمية الأرض.. وهي "أحد الافتراضات التي لا بد منها لنشوء التاريخ"، إلا أنه يؤكد على أهمية الطرف الآخر في عملية التفاعل، الإنسان في فعله وردّ فعله على عملية تكييف البيئة، وهو الذي تميز عن الحيوان ببلوغ أربه مداورة بواسطة العقل.
هكذا، يرى سعاده في نظريته لنشوء الحياة – بدونها لا حياة ولا تفاعل يرى أن الأقوام البشرية محكومة ببيئتها من حيث الشروط المادية التي تحدد نطاق التفاعل ومداه، ولكنه يرفض الحتمية الجغرافية أو أية حتمية، ويرفض النظر إلى الأرض أو الإنسان في التجريد، ونظرته إليهما هي عبر عملية التفاعل المستديمة (فعل ورد فعل) والمنتجة محصلة هي جوهر الوجود القومي: الاتحاد في الحياة – الدورة الاجتماعية الاقتصادية.
إن هذا المفهوم القومي الاجتماعي للشأن القومي يختلف ويتقدم على المفهوم الرومانسي الذي عزل الشؤون النفسية والروحية عن التفاعل الاجتماعي. فسعاده يقول " كل ميزة من ميزات الأمة أو صفة من صفاتها تابعة لمبدأ الاتحاد في الحياة، الذي منه تنشأ التقاليد والعادات واللغة والأدب والدين والتاريخ". لقد رفض سعاده بالتحليل العلمي أن تكون هذه العوامل منشئة له (للاتحاد في الحياة). واعتبرها معززة للروابط القومية من دون أن تكون سبب نشوئها.
لقد رفض سعاده قطعاً التعاطي مع تراكم العوامل بل جعل المعيار لا مجموع العوامل تراكمياً، بل عملية التفاعل ونتيجتها الصاهرة: الدورة الاجتماعية الاقتصادية، إذ إنه بدل تقديم عامل على عامل، قدم على قاعدة التفاعل العوامل - التي بدونها لا ينشأ التفاعل - على أنها الأساسية: الإنسان والأرض، ثم اعتبر عملية التفاعل ونتيجتها هي التي تعطي لهذه العوامل الأساسية قيمتها.
وإن هذا المفهوم القومي الاجتماعي - باعتماده بدل العوامل منفردة أو متراكمة، عملية (process) - مستديمة أعطى للشأن القومي دينامية اجتماعية مميزة. فلم يعد الشأن القومي - كما أرادت مدارس الفكر القومي الكلاسيكية - شأناً سكونياً. لقد شدّدت المدارس الفكرية الكلاسيكية في القومية على عامل دون غيره من العوامل، أو على مجموعة عوامل، ولكنها نظرت إلى الشأن القومي نظرة سكونية (ستاتيك) فلم تدرك أن اجتماع عوامل معينة، ليس كافياً لنشوء الأمة، لأن الأمة ليست مجرد عوامل معينة بل هي حصيلة تفاعل حركي هي مركب حياتي – اجتماعي يعلو العوامل المكونة لها في تمامه واستمراره.
إنه من الخطأ أن نتحدث عن عوامل نشوء الأمة وكأن الخلاف هو حول أسبقية هذا العامل أو ذاك بصورة مجردة، فنحاول بطريقة محض مدرسية أن نحشد كل الحجج المنطقية لنصرة هذا العامل القومي على ذاك، وهذا هو بالفعل المناخ الفكري الذي عاشه عدد من باحثي موضوع القومية في بلادنا والعالم العربي، حين كانوا يخوضون غمار المناظرات في مناخ من الجدل البيزنطي حول تفضيل اللغة والتاريخ على الأرض أو العكس. ليس الموضوع هذا هو، بل إن مسألة عوامل نشوء الأمة قد اتخذت طابعاً أشمل وأخطر، حتى بات الفارق الأساسي ينحصر بين نمطين من التفكير القومي، نمط التفكير الستاتيكي الكلاسيكي الذي يعدد العوامل القومية دون أن يدرك صلة التفاعل الحياتية بينها وبين النمط الدينامي الحركي الذي يفهم الشأن القومي على أساس التفاعل الحي الخاص بنمو الجماعة البشرية وحياتها، والذي في ضوئه يمكن تمييز الأساسي من العوامل عن الفرعي منها، وفرز الأسباب عن النتائج.
على قاعدة الاتحاد في الحياة - أي الدورة الاجتماعية الاقتصادية، أي حصيلة التفاعل بين الجماعة القومية وبيئتها الطبيعية، نفهم كل نظرة سعاده إلى الشأن القومي التي تنتظم به المبادئ الأساسية للحزب السوري القومي الاجتماعي، والتي هي تطبيق ميداني لهذه النظرة الأساسية على المجتمع القومي في سورية الطبيعية.
يقول سعاده في المبادئ الأساسية: "إن الترابط بين الأمة والوطن هو المبدأ الوحيد الذي تتم به وحدة الحياة. ولذلك لا يمكن تصور متحد إنساني اجتماعي من غير بيئة تتم فيها وحدة الحياة والاشتراك في مقوماتها ومصالحها وأهدافها، وتمكن من نشوء الشخصية الاجتماعية التي هي شخصية المتحد، شخصية الأمة ".
يتضح من هذا العرض أن ثمة ميزتين أصليتين ونوعيتين بين مدرسة فكر سعاده القومية الاجتماعية ومدارس الفكر القومي الأخرى. الأولى : ارتكاز الذاتي على الموضوعي بمعنى أن ميل سعاده لإرساء وحدة أمته على مفهوم علمي موضوعي جنبه التشديد والتوكيد على استنباط هذا العامل أو ذاك خارج الحقائق الاجتماعية. فبقدر ما كان متشدداً في قضية الوحدة القومية بقدر ما كان مهتماً بإرسائها على حقائق علم الاجتماع لا على التعصب النظري التعسفي لعامل من عوامل نشوء الأمة. ومن هنا وقعت المدارس الفكرية الأخرى في تأكيدها على بعض العوامل وإسقاطها للعوامل الأخرى بلوغاً للعصبية القبلية بتناقض الذاتي مع الموضوعي. بينما سعاده الذاتي – الذي هو حب الوحدة – على الموضوعي – على عملية قيام هذه الوحدة.
أما الميزة الثانية فيتمكن في كون الاتحاد في الحياة – الدورة الاجتماعية الاقتصادية - هو مفهوم عملية نامية متكاملة، وليست مفهوم تراكم العوامل. الأمة ليست الأرض والإنسان مع أنهما عاملا نشوء الأمة الأساسيان، بل هي هذه الحركة الدينامية الاجتماعية المستمرة: "الاتحاد في الحياة والوجدان الاجتماعي، أي تجري فيه حياة واحدة ذات دورة اجتماعية تشمل المجتمع كله وتنبه فيه إلى الوجدان الاجتماعي".
وهذا يعني أن الوحدة التي هي غاية سعاده المنشودة في الشأن القومي لا وجود لها خارج هذه العملية التفاعلية – تسقط عن نظرية الإنسان على ارض مجزأة أو الإنسان المجزأ على ارض موحدة – وهذا هو تلازم القومية الاجتماعية وتكاملها – فالإنسان الذي يبحث عن أصله الدموي أو الرابطة الدينية أو اللغوية ليس إنسان سعاده المرتبط بالاتحاد في الحياة على أرضه. والإنسان البدوي الذي ينظر بسطحية إلى علاقته بالأرض، ويعتبر أنه من "القوم العابرين" دون عملية التفاعل المستديمة المولدة للدورة الاجتماعية الاقتصادية هو إنسان عابر وتجزيئي – والتعصب للعامل الاقتصادي عامودياً أو للأرض خارج التفاعل في الدورة الاجتماعية الاقتصادية، مفاهيم مادية ولكنها غير تفاعلية، لا تأخذ الواقع الاجتماعي بعين الشمول والاعتبار.
إن أهم ما قدمه سعاده في الشأن القومي هو إرساؤه هذا الشأن على علم الاجتماع، على أساس مفهوم دينامي يحدد الأمة في ضوء مقولة التفاعل وحركية الدورة الاجتماعية الاقتصادية التي تذيب النزعات العنصرية والقبلية في وحدة الحياة والمصير على وحدة الأرض. إنطلاقاً من المفهوم هذا الدينامي، فالأمة وجود اجتماعي/طبيعي/حقيقي/ مادي نفسي – اقتصادي – ثقافي اجتماعي متكامل، وخاضع ككل شأن حي لمبدأ النمو والتطور وفق الشروط المادية النفسية، وعلى أساس مقولة التفاعل التي هي جوهر نشوء الأمة، إن هذا المفهوم العلمي أكد موضوعية الشأن القومي وواقعيته الاجتماعية، وتجاوز ما وقعت به سواء بسواء النظريات القومية الرومانسية أو العنصرية أو الكلاسيكية الجزئية التي لم تحظ بالشأن القومي كوجود اجتماعي حقيقي مادي في نفسي – اقتصادي – ثقافي – اجتماعي، أو النظريات الكوزموبوليتية – والأممية المنفلشة التي اعتبرت إمكان تجاوز الشأن القومي كوجود اجتماعي قبل حصول "تطور الشروط المادية - النفسية".
القضية القومية، والقصية الاجتماعية بكل تنوعاتها الاقتصادية والنفسية هما قضية واحدة قومية اجتماعية. إن التطورات المعاصرة أكدت سقوط الشوفينية القومية وأكدت من جهة ثانية صحة وصوابية الواقعية القومية العلمية كمنطلق اجتماعي. فرغم التطور الهائل الذي قطعه العالم خلال ربع قرن صوب شراكة إنسانية أرحب إلا أنه لم يزل يوجه الواقع القومي كحقيقة اجتماعية، والذي درسه سعاده وانطلق منه رغـم سقوط النظريات القومية العنصرية، أو البرجوازية، أو الشوفونية المهووسة. فالأمة كواقع اجتماعي حقيقة إنسانية مستمرة متنوعة ينتفي معها إمكان تعميم تجربة إنسانية واحدة على كل المجتمعات دون خضوع تلك التجربة لتنوع ظروف المجتمعات. ولقد فرضت هذه الحقيقة نفسها على كل المجتمعات على اختلاف أنظمتها فسقط فرض نموذج واحد على عدة مجتمعات متمايزة في ظروفها وخبراتها ومراحل تطورها وتراثها.