في الأصل، كتابُ " الإسلام في رسالتيه" عبارةٌ عن مجموعةِ مقالاتٍ كان سعاده قد كتبها في جريدة "الزوبعة" خلال عامي 1941-1942، التي كان يُصدرها الحزب السوري القومي الإجتماعي في الإرجنتين، وقد جمعت عمدة الثقافة تلك المقالات، بعد إستشهاد صاحبها، في كتاب صرنا نعرفه بإسم كتاب "الإسلام في رسالتيه".
المناسبة المباشرة لكتابة المقالات كانت تتعلق بمحاضرة ألقاها المدعو رشيد سليم الخوري، المعروف بالشاعر القروي (بعد إعلانه إسلامه المحمدي)، في جمهور من المغتربين السوريين في الإرجنتين، استخدم فيها لغة المديح للدين الإسلامي المحمدي، ولغة الهجاء للدين الإسلامي المسيحي، مفرِّقاً بين الدينين، بالإضافة إلى عبارات تغذّي النعرة المذهبية الطائفية لدى الشعب. وقد نظر سعاده في تلك المحاضرة فما وجد فيها شرطاً من الشروط التي يجب أن تتوفر في محاضرة. فهي عبارة عن خطاب تفريقي مُغرض. لذلك وجد أن أفضل وصف لها مما يتناسب مع جوهرها وغرضها، هو القول بأنها "حارضة" رشيد سليم الخوري.
وفي ذلك يقول سعاده:
أول ما نطق به الخوري المتظاهر بالإسلام المحمدي في مدح هذا الدين، كان كفراً به وبآياته. قال في بدء حارضته:" لمّا فضّلتُ الإسلام على المسيحية في خطابي العام الماضي...الخ"، فأخذ نقطة الإبتداء تفضيل الدين الإسلامي المحمدي على الدين الإسلامي المسيحي، وجعل هذه النقطة مدار كلامه، فنطق بكلمة الكفر من حين فتح فاه أو جرّ قلمه على القرطاس، فحقَّ عليه قول الآيات: "إِنَّ ٱلَّذِینَ یَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَیُرِیدُونَ أَن یُفَرِّقُوا۟ بَیۡنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَیَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضࣲ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضࣲ وَیُرِیدُونَ أَن یَتَّخِذُوا۟ بَیۡنَ ذَ لِكَ سَبِیلًا" (سورة النساء- الآية 150) "أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ حقّاً وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَـاٰفِرِینَ عَذَابࣰا مُّهِینࣰا" (سورة النساء-الآية151). و " وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَٰئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا" (سورة النساء-الآية 152). و " لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْآخِرِ وَٱلْمَلَٰٓائِكَةِ وَٱلْكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّينَ.. الخ"(سورة البقرة- الآية 177)
و"لَّٰكِنِ ٱلرَّٰاسِخُونَ فِى ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَٱلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ... الخ" (سورة النساء-الآية 162)[1]
الحقيقة أن سعاده لم يكن ليهتم بتحليل تلك "الحارضة" وفضح أغاليطها وجهالة صاحبها لولا معرفته الأكيدة بخطر النزعات الطائفية ومبلغ الأذى الذي يصيب الأمة من استمرار تغذيتها. إن رشيد سليم الخوري كان يمثّل طرازا من المثقفين الرجعيين الذين كانوا يعملون في روح الأمة تمزيقاً بواسطة ما كانوا ينفثون من سموم الأفكار التفريقية التفكيكية. لذلك كان لا بد من التصدي له بتلك المقالات التي كانت غايتها إظهار أن الدين واحد هو الإسلام ولكن رسله كثيرون.
بعد ذكر المناسبة المباشرة لكتابة المقالات والغاية السامية من نشرها، نتقدم الآن إلى شرح المنهج الذي اعتمده سعاده للبرهان على أطروحته. وفي هذا الإتجاه نذكر ما يلي:
1- تعريف الدين أو العقيدة الدينية البحت.
2- شرح علاقة الدين بالإجتماع، وهو موضوع يتصل إتضالاً مباشراً بالتاريخ الإجتماعي للدين، أي بنظرة كل مجتمع إلى الحياة والكون، والتعديل الذي يطرأ على الوجهة الدنيوية لمسار الدين بسببها.
لجهة تعريف الدين يقول سعاده ما يلي، معلّقاً على بعض ما جاء في "حارضة" الخوري:
وليس أدلّ على خلطه وخبطه في ما لا يعلم، من قوله: "لو كنت في هذا البحث الديني إسماً والإجتماعي فعلاً، أعرض لمسائل الآخرة والجنّة والنار، لحَقَّ لكل أديب أن يلحاني، ولكني تناولت في الإسلام ناحيته الدينية البحتة وأشرتُ إلى علاقته بالحياة الدنيا، وتحديده سلوك الفرد تحديداً مرجعه العقل السليم". فقوله "ناحيته الدينية البحتة"، مجرِّداً هذه الناحية من مسائل الآخرة والجنّة والنار، ليس سوى جهل بما هو الدين وما هو العلم وما هي الفلسفة. إذ لو جرّدنا الدين من مسائل الآخرة والعقاب والثواب لما بقي له شيء من "ناحيته الدينية البحتة.[2]
وفي مكان آخر يقول سعاده معلّقاً، ما يلي:
من هذا الباب ما حبشه رشيد الخوري ليلقي على مدحه المحمدية وهجوه المسيحية، صفة البحث. وبهذا التفكير العامي الضعيف الإدراك، قال أن الناحية الدينية البحتة لا تتناول مسائل الآخرة والجنّة والنار، التي بها لا بغيرها صار الدين ديناً.[3]
ويتابع سعاده مباشرة تعليقه بقوله:
ولولا مسائل الآخرة وخلود النفس والثواب والعقاب، لما امتاز الدين بشيء ولما زاد شيئاً على التعاليم الفلسفية السامية التي قال بها فلاسفة عظام والتي لم تأخذ في قلوب عامة البشر المكان الذي أخذه الدين بسبب عدم نسبتها إلى قوة إلهية خفية وعدم إسنادها إلى الإعتقاد بحياة أخرى بعد الموت، تحاسب فيها الأنفس على ما تقيّدت به التعاليم المذكورة وما لم تتقيّد به. فالوجهة الدينية البحت هي العكس تماما مما ذكره رشيد الخوري في حارضته الهجائية، أي أنه بدون الآخرة والجنة والنار لا يبقى للدين وجهة دينية بحت.[4]
بعد أن يعرّف سعاده العقيدة الدينية البحت، يتقدم لينظر في الإسلام المحمدي والمسيحي، منتهياً إلى القول بأن كل الأغراض الدينية للدين قد تحققت فيهما، لذلك هما من الوجهة الدينية البحت دين واحد هو الإسلام. وهذه هي أغراض دين الإسلام:
1- إحلال الإعتقاد بالله الواحد محل عبادة الأصنام.
2- فرض عمل الخير وتجنّب الشر.
3- تقرير خلود النفس والثواب والعقاب (الحشر). [5]
وتجدر الملاحظة، أن القرآن الكريم يشتمل على الكثير من الآيات البيّنات التي تظهر أن الدين عند الله هو الإسلام. وأن الإسلام كان دين جميع الرسل والأنبياء بدءاً من سيدنا إبراهيم عليه السلام، وفيما يلي بعض الإستشهادات المفيدة بهذا الصدد: " قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"[6].
لكن تظل سورة مريم هي أكثر الإستشهادات بيانا في إعتبار السيد المسيح آيةً ونبياً والمسيحية رسالة إسلامية.
بعد أن تمّ لسعاده تحديد الدين على المستوى التجريدي، أي من حيث أنه عقيدة إلهية ذات أغراض روحية بحت، دون أي نظر في علاقته وتفاعله مع الحياة الإجتماعية للبشر قبل نزوله، يتقدم سعاده الى درس الدين والبشر معاً وهنا، أي على هذا المستوى الحسّي من البحث، يستخدم سعاده مقولة جديدة هي مقولة "النظرة إلى الحياة والكون" وذلك لشرح الإختلاف بين المحمدية والمسيحية، خاصة اشتمال المحمدية على مسائل تشريعية وخلوّ المسيحية منها، فيكتب الكلام الجميل العميق الهام التالي:
"والنظرة إلى الحياة المختصة بكل مجتمع، ليست كلاما ملقى على عواهنه: إنها حقيقة وجودية جوهرها الحياة المشتركة للجماعة، من حيث مسارها الإعتقادي السابق لنزول الأديان المتمثل في تقاليدها وقوانينها ونظامها ومثلها العليا المرتبطة بطريقة معاشها".
ينقسم برهاننا على عدم وجود دولة في القرآن إلى أربعة أدلّة هي:
جاء تعريف الإسلام بالدين والدين بالإسلام في القرآن واضحاً لا لبس فيه. فقد ورد قوله: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.."[7] ولم يقل.. ورضيتُ لكم الإسلام دينا ودولة. كذلك قوله: "إن الدين عند الله الإسلام"[8] ولم يقل: إن الدين والدولة عند الله الإسلام.
نلخّص مما تقدم من شواهد من الآيات البيّنات الى النتيجة الهامة التالية وهي:
الإسلام هو الدين
والدين هو الإسلام
وهذا تعريف تام عند المناطقة (يعني المناطقة بالتعريف أو الحد التام ذلك التعريف الجامع المانع وامتحانه عكسه صحيح. تعريف الإنسان بأنه حيوان ليس تعريفاً تاماً لأنه لم يجمع الحيوانات العاقلة فقط ولم يمنع غيرها، لذلك نجد أن عكسه الذي هو: الحيوان إنسان ليس صحيحاً).
المعروف أن أركان الإسلام خمسة وهي:
1- الشهادة: أي شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله.
2- الصلاة
3- الصوم
4- الزكاة
5- الحج
الواضح الذي لا زعزعة فيه أن ركن الشهادة الذي قام عليه الإسلام من حيث هو عقيدة توحيد، لم يشترط بالإضافة إلى الإعتقاد بوحدانية الله ورسولية رسوله، اعتبار محمد ملكاً أو أميراً أو رئيس دولة. فلم يرد في نص الشهادة قول مثل هذا القول: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ورئيس دولة المؤمنين أو ملكها أو ما شابه.
والحق يقال أن إسلام المسلم في بادئ الدعوة، عندما لم يكن قد تم نزول القرآن بكل آياته، كان مقتصراً على ذكر ركن الشهادة، أي التسليم والإعتراف بأن الله أحد وأن محمداً عبده ورسوله. فليس من ضرورات إسلام المسلم أن يؤمن يرئاسة محمد ولا بملوكية حسين ولا بخلافة بني أمية. بكلمة أخرى، الإنسان يكون مسلماً ويظلّ مسلماً ويموت مسلماً بوجود دولة إسلامية أو عدم وجودها.
الأغلوطة التي يرتكبها دعاة الدولة الإسلامية، على أساس القرآن، هي في أنهم يخلطون بين التشريع المدني Civic Law والتشريع السياسي Political Law. الأولى صفة المجتمع من حيث تنظيم علاقات الفرد بالفرد أو أكثر، والثاني صفة الدولة (أو المجتمع ككل).
التشريع الذي ورد في القرآن يدخل في باب التشريع المدني، وقد كان له أسبابه الإلهية والاجتماعية والتاريخية.
أما السبب الإلهي فجوهره أن الله يخاطب عباده بما يفقهون وليس بما لا يقدرون على فهمه.
والسبب الإجتماعي التاريخي جوهره أن عِباد الله من عرب شبه الجزيرة، حيث نزل الإسلام المحمدي، أول ما نزل كانوا يؤلفون مجتمعاً قبلياً صحراوياً على وجه العموم، وشيمة المجتمع القبلي الصحراوي، هي شظف العيش والخشونة وقساوة المشاعر. فقبل الإسلام، أي زمان الجاهلية، كانت القبائل حرباً على بعضها، فالسيف بين العربي والعربي ووأد البنات وسبي النساء وسرقة المواشي وما ماثل. هذه الأعمال لم تتوقف إلا بتشريع القرآن المدني الذي طلب قطع يد الفرد السارق وجلد الفرد الزاني وتهديد الفرد عابد الأصنام بنار جهنم الموقدة الخ...
والواقع أن مجتمع العرب في الجاهلية لم يكن له أي قانون مدني مما نعرفه. لذلك جاء القرآن لهم بما هم أحوج ما يكونون إليه. جاءهم بقوانين مدنية تعرّفهم كيف يتناكحون أفراداّ وكيف يرثون أفراداً وكيف يتعاملون بالمال أفراداً، وما شابه من علاقات فردية هي أخص خصائص القوانين المدنية.
وأكثر ما ظهرت الحاجة إلى القوانين المدنية كان في المدينة المنوّرة بعد الهجرة. فهناك كان لا بد من تنظيم علاقات أفراد جماعة المسلمين المؤمنين. لذلك نجد أن التشريع نزل في السور المدنية في حين إختصت السور المكية بإعلان عقيدة الله الواحد وشرحها والترغيب بها والترهيب من إتباع عقيدة الأصنام.
في المدينة المنوّرة نشأت حاجات جديدة غير حاجة الروح لعقيدة. هي حاجات عملية منها علاقات أفراد المسلمين بعضهم ببعض كأنصار وكمهاجرين. فإذا رغب فرد مسلم أن ينكح إمرأة مسلمة فكيف يكون النكاح؟ وإذا توفي فرد عجوز من المسلمين، فكيف يرث أبناؤه ما ترك؟ الخ..
نكرر قولنا أن خصائص القانون المدني في القرآن خاصتان هما:
1- إنه علاقة فرد بفرد أو بأفراد.
2- إنه قانون أخلاقي على وجه العموم. إذ الفرد الذي يخالفه يكون عقابه عند الله شديداً. فالله هو الديّان. فالفرد الذي يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره.
في حين أن أخصّ خصائص القانون السياسي هو أنه يتناول المجتمع ككل وعلاقة الفرد به. وإن أية مخالفة للفرد تُعتبر عدم إنصياع لإرادة المجتمع، لذلك يجري العقابُ عليها في هذه الدنيا من قِبل ممثلي المجتمع في الدولة (سجن أو غرامة مالية أو خلافهما). ونذكر من الأمثلة على القانون السياسي قانون الإنتخاب العام وقانون الدفاع عن الوطن (وليس عن الدين أو عن كلمة الله) وغيرهما مما هو معروف.
يبقى ما يشير إليه بعض المفسّرين وأخصّ بالذكر منهم أولئك المتعصبين لفكرة الدولة الإسلامية والجاهدين لاستنباطها من القرآن، أعني من الآيات التي تحضّ على الجهاد. فهي برأيهم، دليل على أن القرآن اشتمل على فكرة الدولة الإسلامية.
جوابنا هو أن آيات الحض على الجهاد كانت آيات حضّ على الجهاد ضد المشركين الكافرين في شبه الجزيرة العربية الذين تصدّوا للمسلمين وحاربوهم وقاوموا الدعوة الإسلامية المحمدية: " وَقَٰتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوٓاْ ۚإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ".[9]
إذا سلّمنا جدلاً مع أولئك المفسرين السياسيين أن قكرة الحضّ على القتال تتضمن فكرة الحضّ على إقامة دولة إسلامية، فإن منطقهم يظل مفتقراّ إلى إثبات فكرة أخرى هي: أن القتال مختص بالدول، وأن الدول وحدها مختصة بالقتال، وهي فكرة لا نقع عليها في القرآن ولا في أي كتاب في العلوم السياسية وخلافها. فافتراض وجودها في القرآن هو من خصائص منطق الرغبات وليس من خصائص المنطق التحليلي السليم.
على كل حال، لنسلّم بمنطق رغباتهم ولنقبل أن الحض على قتال المشركين هو حضّ على إقامة دولة إسلامية، فماذا يكون الحاصل؟ جوابنا هو جواب سعاده الذي هذا جوهره:
"ولما كان قصد رسالة محمد الدين وليس السياسة أو فلسفة الإجتماع، التي ترتقي بالعلوم الإجتماعية، فلا بد من التسليم بأن الدولة هي الواسطة للدين الذي هو الغاية. وأن قيمتها لا يمكن أن تكون من الوجهة الدينية، أكثر من قيمة الواسطة. وبناء عليه تكون الدولة الشيء الثَنَوي القابل للزوال عندما لا تبقى حاجة إليه، شأن كل آلة أو واسطة أدّت الغرض من وجودها."[10]
وفي متاحف العالم الآلية، قاطرات بخارية ومراكب من كل صنف قد أدّت خدمتها ولم تعد صالحة للإستخدام لوجود آلات حديثة أحسن منها. وكذلك في متاحف العالم الإجتماعية دول كثيرة معروضة لدرس تطور الإنسان الإجتماعي، ولم تعد تصلح لغير ذلك، ومن جملتها الدول الدينية التي أدّت غرضها من زمان وأصبح يوجد أفضل منها الآن لخدمة المجتمع الإنساني، فلم تبق حاجة إليها لغير الدرس ومعرفة التاريخ.
الدولة الدينية المحمدية كان غرضها الوصول إلى إبادة الأضنام في العربة وإقامة دين الله، وقد حققت هذا الغرض، فبادت عبادة الأصنام ودخل الناس في دين الله أفواجاً. والإسلام المحمدي هو اليوم يعتنقه ملايين الناس ولا خطر عليه من صناديد قريش أو غيرهم. والإنسانية تسير اليوم على غير طريق التضامن الديني، ومعظم الناس، وكل المتمدنين، يحترمون ويتعلمون إحترام عقائد بعضهم البعض المتعلقة بالنفس والخلود إلى الله. والمسلم المحمدي يقدر أن يمارس دينه في أي قطر نزل فيه وإن كان غير محمدي. ولولا إضطهاد قريش النبي والصحابة، لما كان هناك سبب للهجرة إلى المدينة واستغلال ميل أهلها إلى منافسة قريش لإنشاء دولة محمدية تحارب قريشاً وتخضعهم. فلما ثبَّتت الدولة الدين، تمَّ غرضها، وأصبح على الناس الإهتمام بشؤون دينهم الجوهرية التي هي عبادة الله والسير حسب وصاياه. فلا قتال مع الذين لا يقاتلون المؤمنين، ولا إخراج لمن لا يريد إخراجهم من ديارهم بإسم الدين أو لغاية دينية. "وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله".[11]
وهنا تجدر الملاحظة أن القاعدة المنهجية التي اعتمدها سعاده في تحليله للدين الإسلامي خصوصاً، والدعوات المناقبية عموماً، هي قاعدة علمية إذ أنها ركّزت على الظروف الموضوعية للبيئة التي تدخلها الدعوة. هذا ما يقوله سعاده نفسه:
"إنّ تأمّل مؤلف هذا البحث الفلسفي في النظرات الفلسفية والمبادئ المناقبية واتجاهاتها، يجعله يقرر هذه القاعدة: كل دعوة، مهما كان ابتداؤها أو غرضها الأخير عموماً، شاملاً لجميع النوع الإنساني، فإن نظرتها إلى الحياة والكون، يجب أن تكون منطبقة على خصائص البيئة التي تنشأ فيها واستعدادها الروحي، فلا يمكنها أن تشذّ عن استعداد بيئتها إلا إذا خرجت منها أو وجّهت إلى غيرها المخالف لها. فلا شك عندنا في وجود تجانس وترابط بين الدعوة او الرسالة في جميع تفاصيلها والبيئة وجماعتها البشرية في استعدادها النفسي والمادي وظروفهما. ولا شك عندنا في أن إنتشار الدعوة وقبولها في البيئات الأخرى يجب أن يكون خاضعاً لمبدأ التجانس والترابط بين النظرة الفلسفية الخارجة من بيئة معيّنة واستعداد البيئات الأخرى لقبولها والعمل بها أو لتعديلها إذا كان قبولها لها غير اختياري أو خاضعاً لعامل تاريخي معيّن".[12]
حتى الآن تم برهاننا على أن لا دولة في القرآن. غير أني أكاد أسمع صراخ السياسيين من الإسلاميين المحمديين يدوي عاليا: "ولكن الدولة الإسلامية حقيقة لا تستطيع أن تنكرها كل البراهين، بلى، هناك دولة إسلامية". جوابي لأولئك السياسيين هو: نعم ولا. جواب النفي هو توكيد مني أن لا دولة في القرآن. أما جواب الموافقة فهو قبولي بأن دولاً إسلامية قد وًجِدت في التاريخ. فيكون الحاصل ما يلي: الدولة الإسلامية ليست في كتاب الإسلاميين (نصوص القرآن)، بل في تاريخ المسلمين (أعمال البشر).
الكلام على الدولة الإسلامية التاريخية التي صنّعها البشر، يقع خارج موضوعنا الرئيسي، بالرغم من ذلك، لا بد من رسم تخطيطي يبيّن الصعوبات المتعلقة بالتشبّث الأعمى بقضية الدولة الإسلامية في التاريخ والنسج على منوالها في عصرنا:
أولاً، صعوبة معاكسة القرآن والإسلام الموصوف فيه بأنه دين وليس بدين ودولة.
ثانياً، صعوبة اقتراف الأغاليط المنطقية وقراءة النصوص القرآنية قراءة سياسية لا روحية، عن طريق الخلط بين التشريع المدني الذي ليس سياسياً والتشريع السياسي الذي ليس مدنياً (رغم وجود علاقة التأثر والتأثير بينها فيما لو وجدا في مجتمع).
ثالثاً، صعوبة معاكسة العصر الحاضر الذي أصبحت الدولة فيه محتاجة إلى أسس مادية وعلمية غير متوفرة في القرآن. فمؤسسات الدولة (ورجالها) تقوم اليوم على المعارف العلمية الإختصاصية.
رابعاً، صعوبة بل جريمة تقسيم المجتمع، الذي تقوم فيه دولة دينية من أي نوع، تقسيماً نفسياً، نتيجة الإمتيازات التي يعطيها مفسرو مذهب ديني لأصحاب المذهب ويحرم منها أهل المذاهب الدينية الأخرى، وتقسيماً ماديا بقيام الفتن الطائفية.
خامساً، صعوبة بل جريمة تحويل المجتمع إلى لقمة هيّنة للإستعمار والإمبريالية ومداخلاتهما بعد أن تنهك الحروب الداخلية الطائفية، المجتمع.
سادساً، سهولة عودة الحكم الأجنبي لبلادنا وأمتنا. فهل يقبل دعاة الدولة الإسلامية مثلاً، أن يحكمنا الأتراك مرة ثانية لمدة أربعمائة عام؟
سابعاً، صعوبة الانحراف بفهم التاريخ عندما ننسى أن الدولة الأموية هي دولة بني أمية الذين اعتنقوا الإسلام وليست دولة القرآن الكريم. فيما، عدا حكام الدولة وعلى رأسهم معاوية، لا نجد أية ناحية إسلامية في دولة الأمويين. فمؤسسات الدولة وقوانينها ظلت كما هي، دواوين ودوائر يديرها روميّون ولغتها كانت روميّة أيضاً. أيام عبد الملك بن مروان، بدأ تعريب لغة الدولة. وتعريب لغة الدولة لا يعني جعل الدولة إسلامية إلا عند قليلي العلم.
ذَكَرنا مثلاً، ويمكن غيرنا أن يتأمل في أمثلة أخرى مثل دولة العباسيين ودولة الفاطميين. وقبل ذلك دولة الخلفاء الراشدين. وقبل ذلك، دولة الرسول محمد (صلعم) اللادولة، لأنه كان رسولاً ونبياً وبشيراً ونذيراً ومصطفى، كما ورد في نص الكتاب، ولم يكن في الكتاب رئيس دولة بأي وصف.
ثامناً، صعوبة العالمية. القرآن كان للعالمين. فهل تكون الدولة للعالمين أيضاً؟
تاسعاً، صعوبتان عالميتان:
- إذا كانت الدولة إسلامية، يجب أن تكون عالمية، لأن الدين الإسلامي عالمي. إذن، يجب أن يهتم دعاتها بتحويل أفراد المعمورة كلهم إلى مسلمين محمديين ليصبحوا أعضاء في الدولة الدينية. نحن نتركهم للصين الشيوعية، على سبيل المثال، وسنرى ماذا هم فاعلون؟
- الدين، كل دين، ليس قومياً (لأنه عالمي كما أسلفنا، فيه يكون الملك لله وليس للأمم أو للشعوب). الآن كيف يستطيع دعاة الدولة الدينية أن يحلّوا القضية الفلسطينية على سبيل المثال لا الحصر؟ قد يقول مجيب: بواسطة الجهاد في سبيل الله، فيكون جوابنا: إن الجهاد في سبيل الله هو لإعلاء كلمة الله وليس لتحرير الأوطان. هو للقضاء على الشرك بالله وليس لإعادة الحقوق القومية والوطنية لأصحابها. مرة ثانية نقول: كيف يستطيع هؤلاء أن يحلّوا قضية فلسطين؟ هل برأي المسلمين السعوديين أم برأي المسلم أنور السادات؟ أم برأي المسلم الحسن أم الحسين؟ أم برأي مسلمي أندونيسيا أم مسلمي الباكستان؟ وإذا تعددت الآراء الإسلامية، فبرأي من نأخذ؟
نلخّص كلامنا عن المسائل التي يخلقها التشبث بالفكرة الدينية، بأنها مسائل يرفضها الدين القويم، وترفضها الحياة القومية الإجتماعية المستقيمة.