في هذه الأجواء الكارثية والمحبِطة والمؤلمة، قد يبدو الحديث عن تاريخ سوريا ترفاً لا مكان له، يحمل في طياته الكثير من السذاجة والتعلق بحقباتٍ ولَّت، وتركت ذكريات عطرة بعد طفو عفن الحاضر إلى سطحِ وعينا، كما قد يبدو تاريخ سوريا برمته سراباً عندما نراه من خلال عدسات هذا الحاضر المكسورة والمهزوزة، والمغطاة بالرماد، والدموع، والدم. لكن ربما كان التفكُّر ببعض مناحي هذا التاريخ، وبآثاره على الأرض السورية مدخلاً لتصور يقظة مأمولة بغدٍ أفضل، ومفتاحاً لتصحيح مفاهيم مغلوطة ومسيَّسة، تراكمت على مرِّ السنين، وحجبت بعضاً من حقائق تاريخ هذا البلد، وشوَّهت بعضها الآخر، مما نرى آثاره في صراعات اليوم.
في سيرة المدن الميتة التي سنستعرضها عبرة لنا اليوم ونحن نراجع هوياتنا المتعثرة، ونحاول استعادة تكاملنا الثقافي والتاريخي.
المدن الميتة
هي مدن وقرى أثرية سورية تقع ضمن الحدود الإدارية لمحافظتي حلب وإدلب، وهي المواقع والقرى الممتدة في جبال الكتلة الكلسية ووديانها وشعابها في شمال غربي سوريا، حيث تقع في مساحة قدرها 5500 كم2، تمتد من قورش (النبي هوري) شمالاً وحتى أفاميا جنوباً ومن حلب شرقاً وحتى منطقة جبل الزاوية ووادي العاصي غرباً، وهي من أكثر تجمعات المناطق الأثرية في العالم. يعود بنائها إلى الفترة بين القرنين الأول والسابع للميلاد وأحياناً حتى القرن العاشر، وهي من المناطق الهامة في تاريخ المسيحية، وقد بلغ عددها 800 موقع وقرية أثرية، منها ما هو مسكون حالياً ومنها ما هو غير مسكون ويقع معظمها بين محافظتي حلب وإدلب، بني فيها في فترة ازدهار المسيحية بين القرنين الرابع والسادس للميلاد أكثر من 2000 كنيسة كانت درّتها بازيليك القديس سمعان العمودي التي تم بناؤها بين 476-491 م كمجمع ديني كامل.
وقد أحصى المعهد الفرنسي لآثار الشرق الأوسط (IFAPO)عدد القرى والمواقع الأثرية في هذه المنطقة من شمال سورية هو 778 قرية، بينما زاد عدد هذه القرى والمواقع حسب بحث الآباء الفرنسيسكان بقيادة عالم الآثار الكاهن (باسكال كاستلانا)، حيث تجولوا في جبال الكتلة الكلسية وبخاصة في جبلي الدويلي والوسطاني وقاموا باكتشاف ما لم يكن معروفاً من القرى من قبل ليصبح عددها أكثر من 800 مدينة وقرية أثرية.
والمنطقة من أهم المناطق القديمة الغنية بالآثار والمعالم التاريخية، فالتتابع التاريخي للحضارات فيها ترك آثاراً عدة في القرى الأثرية والتلال التاريخية الأثرية المنتشرة في كتلة الجبال الكلسية وعلى امتداد منطقة طولها 140 كم وعرض 20-40 كم.
كان في كل موقع في القرى المنسية مهما صغر، مع بعض الاستثناءات القليلة، كنيسة أو أكثر، مما يؤكد أهمية الدين في حياة سكان هذه القرى البيزنطية، تميزت هذه الكنائس في أغلب الأحوال بعمارتها البازيليكية المتقنة ” أي ذات المماشي الثلاثة، الأعرض في الوسط وممشيين أدق متساويين في العرض على أطرافهما “، وأرضيات الفسيفساء “الموزاييك” الرائعة المكونة من زخارف هندسية ملونة وصوراً مركبّة لحيوانات أو نباتات أو مبانٍ أو أشخاص يمارسون حياتهم اليومية، أو مناظر اسطورية تمّثل رموزاً دينية مسيحية ذات أصول رومانية في معظم الأحيان، وقد فُقِدَت معظم هذه اللوحات للأسف في القرن الماضي نتيجة السرقة والجشع والاهمال قبل التدمير الأعظم الحاصل بسبب الحرب السورية، ولولا جهود بعض العاملين في الآثار في نهايات القرن العشرين من أمثال الراحل ” كامل شحادة” أمين متحف الفسيفساء في معرة النعمان سابقاً الذي أنقذ وحده أكثر من عشرين فرشة موزاييك من ريف حماة وحدها والذي تعرض لتدمير كبير طال بعض لوحات الفسيفساء النفيسة فيه عندما تعرض للقصف في 15 حزيران 2015 وفقاً لتقرير جمعية حماية الآثار السورية لما كان لدينا الكثير من الأدلة عن ازدهار فن الفسيفساء في هذه المنطقة الريفية، إزدهاراً يُضارع إزدهاره في الحواضر الكبرى من أمثال أفاميا وأنطاكية، واستمراره بالزخم نفسه حتى منتصف العصر الأموي وطغيان حركة معاداة الأيقونات البيزنطية، التي قد تكون أوقفت اندفاعه نوعاً ما، وعلى ما يبدو وفقاً للسجل التاريخي المتوافر لدينا وإن كانت لم تقضِ عليه تماماً كما يظهر من فرشات الفسيفساء المتأخرة التي ظهرت في الكنائس والأديرة المهمة إبان إعادة احتلال بعض نواحي المنطقة من قبل البيزنطيين في القرن العاشر .
بالإضافة الى الكنائس الصغيرة الخاصة بالقرى هناك أحياناً مواقع متميزة تحوي ديراً أو صومعة أو مجموعة صوامع للنسّاك الذين ازدهروا في الفترة نفسها على حافة القرى الزراعية وبمنأى عن مركز الحياة فيها والذين أسسوا مع مرور الوقت مراكز دينية مهمة في المنطقة أصبحت مزارات للحجاج وقد كان اشهر هؤلاء النساك مار مارون أبو الكنيسة المارونية، والقديس سمعان العمودي الذي ذاع صيته في أرجاء البحر المتوسط خلال حياته والذي عاش بين حوالي 388 و 459 م وقضى أخر 37 سنة منها قائماً على عمود متعبداً ومتقشفاً في الموقع الذي عُرِفَ فيما بعد باسمه.
ميتة أم منسية؟؟
اختلفت الآراء في الفترة الأخيرة على تسمية المدن الميتة التي ورثناها مع أول وصف علمي لهذه المواقع من الكونت الفرنسي ” دو فوخيه” فقد وجد السوريون المعاصرون في الاسم إجحافاً من جهة عندما بدأوا باكتشاف روعة هذه المواقع، ولمسوا فيه شؤماً من جهة أخرى، ولعل ما مر بسوريا خلال السنوات العشر الماضية أثبت نجاعة الاسم، فالتدمير الذي حل بغالبية المواقع المهمة في المدن الميتة من قبل أطراف النزاع وقيام الكتائب الاسلامية التي لا يعتبر معظمها تراث المدن الميتة تراثاً لها فقامت بالتخريب حيث شاهدنا عبر الانترنت مشاهد تُظهر التدمير العشوائي الذي حلّ ببعض من أهم المواقع، مثل الرويحة وقلعة سمعان والبارة وقلب لوزه والقاطورة، وهو إن بدا محدوداً فإنه مستمر ومتعاظم بطريقة تجعل اسم المدن الميتة يعود بقوة لينطبق على الواقع.
ولكن، بغض النظر عن التخريب وآثاره فإن اسم المدن الميتة بحاجة لإعادة نظر، فهذه المواقع بالحقيقة لم تكن مدناً على الإطلاق، ولا هي كانت ميتة تماماً عندما دخلت دائرة اهتمام المؤرخين الغربيين في القرن التاسع عشر، كما حاول كل الباحثين المهمين في القرن العشرين وأولهم” جورج تشالنكو” أن يبينوا وإن لصقت التسمية بها حتى يومنا هذا.
هذه المدن الميتة عبارة عن مجموعات مترّاصة من القرى والدساكر المهجورة والمنسية” وهما الصفتان الأكثر دقة” بأغلبها، تنتشر في منطقة جبل البلعاس (belus massif) الجيري، ذي الاسم الاغريقي الاصل في قلب سوريا العلنستية وحول العاصمة السلوقية – المسيحية للبلاد أنطاكية، التي أصبحت عسفاً وزوراً تركية في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي.
جغرافيا المنطقة
تطلق تسمية الكتلة الكلسية على منطقة الجبال السبعة الواقعة شمال غربي سورية وما يحيط بها من سهول وتمتاز الكتلة الكلسية بصخور جبالها البيض، وتمتد من الشمال إلى الجنوب بطول 140 كم وعرض بين 20-40 كم، بحيث يمر محورها من قورش شمالاً وأفاميا جنوباً. يحدها من الغرب سهل الغاب ووادي العاصي، من الشمال الحدود التركية، من الجنوب طريق خان شيخون وأفاميا ومن الشرق طريق حلب معرة النعمان خان شيخون، وتتألف الكتلة الكلسية من سبعة جبال هي جبلي سمعان والحلقة، جبلي باريشا والأعلى، جبلي الدويلي والوسطاني، وجبل الزاوية، وتأتي أهمية الكتلة الكلسية من كونها واحدة من المجموعات الجغرافية النادرة في حوض المتوسط التي تستطيع أن تقوم بنقل واقعي لصور الحياة الريفية في الماضي من خلال المواقع الأثرية الكثيرة المنتشرة فيها.
خلفية تاريخية
يعود بناء هذه المواقع في معظمها للفترة الواقعة بين القرنين الرابع والسابع الميلادي، أي إلى العهد البيزنطي المسيحي في سوريا، مع بعض المواقع الرومانية الأقدم التي تعود للقرنين الثاني والثالث، وربما يرقى بعضها الآخر إلى فترات سامية أقدم. وقد استمرت السُكنى فيها حتى العصر العباسي الأول على الأقل (أي حوالي منتصف القرن التاسع الميلادي). ويبدو في القليل منها أنَّ السُكنى استمرت حتى العهد الأيوبي في القرن الثاني عشر، وفي بعضها الآخر حتى الفترة المملوكية في القرن الرابع عشر، وإن كنا لا نعرف تماماً إذا كانت هذه إعادة سُكنى ام استمراراً للحياة في تلك القرى لأسباب عسكرية واستراتيجية أو اقتصادية، أو لكونها واقعة على عقدة مواصلات لم تفقد أهميتها بتغيُّر الطرق والوجهات في ذلك العصر، ثم عادت الحياة إلى بعضها الآخر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع مد سكة الحديد العثمانية إلى حلب، وتسارعت عملية احتلال مساكن عدد آخر منها بطرق غير قانونية وبناء في حرم آثارها قبل أن تحل عليها لعنة الحرب السورية بدءاً من عام 2011 .
نعرف من أسماء المدن الميتة الأصلية أكثر قليلاً من 200 اسم وما زال الباحثون يكتشفون أسماء أخرى بين الحين والآخر. أهم هذه القرى اليوم هي: (براد- برج حيدر – خراب شمس – كفر نابو – دير سمعان – المشبك – قصر البنات – وشيخ سليمان في جبل سمعان وجبل حلقة – بابسقا – قلب لوزة – باريشا – باعودا – بنقوسا – داحس – باموقا – باقرحا – دير سيتا – ودار قيتا في جبل باريشا وجبل الأعلى – والرويحة – سرجيللا – جرادة – البارة – ودانا الجنوبية في جبل الزاوية).
وكما يبدو من هذه المجموعة من الأسماء فإنَّ غالبيتها ما زالت تحتفظ بأصولها الآرامية \ السريانية أو بتحريف طفيف لأسمائها اليونانية، وإن كان بعضها قد اكتسب أسماء عربية لعلَّها دلالات على استمرار سُكناها في العصور العربية، أو انعكاس لظروف الإقامة فيها في العصور الحديثة.
لا نعرف الكثير عن معظم هذه المواقع غير أسمائها وأثارها الحجرية الرائعة، التي ما زالت ماثلة للعيان بين أشجار الزيتون واللوز والتين، بعد أكثر من 1200 سنة على توقف العمران فيها وهي تحكي لنا بلغة معبرة وجميلة قصص ساكنيها من المزارعين الكادحين والأتقياء والمنغلقين على أنفسهم ومنطقتهم وثقافتهم ومذاهبهم الدينية.
غالبية هذه القرى تلتحف سفوح الهضاب ربما لأسباب دفاعية أو اقتصادية تاركة السهول أو المسطحات الجبلية الصغيرة المساحة للزراعة والرعي على هذا الأساس اتبعت هذه القرى في تنظيمها التضاريس الجبلية المتغايرة، ولم يكن بناء المدن الميتة يبدأ عادة بموقع كامل ومحدد أو مسوّر أحياناً كما في حال المدن المؤسسة في العهد الروماني بل كانت هذه المواقع القروية تنشأ عبر بناء مجموعة من البيوت المتقاربة لأفراد أسرة واحدة وتنمو بنمو سكانها واستقطاعهم مزيداً من الأراضي لإيواء عائلاتهم الجديدة المتفرعة عن العائلة الأصلية أو تلك التي جذبها الموقع أو النشاط القائم فيه لحط عصا الترحال هناك .
احتوت بعض القرى الأكبر مساحة أحياناً على بيوت للاجتماع تدعى الأندرون (ANDRON) وهي كلمة اغريقية تعني بيت اجتماع الرجال، ولا تختلف معمارياً كثيراً عن البيوت الكبيرة بباحاتها الخارجية ورواقها وغُرفها المطلة على الرواق ولو أنها حازت على قدر أكبر من الزخرفة والاعتناء بمظهرها الخارجي من البيوت العادية.
وقد انتشرت أيضاً الفنادق خصوصاً في القرى التي أصبحت مزارات للحجيج الذين يقصدون النسّاك العموديين أو المارونيين أو غيرهم ممن ذاع صيتهم في البلاد، والتي اتبعت في عمارتها أيضاً أسس عمارة البيوت الحجرية بغرف أصغر وأكثر عدداً وهناك في بعض هذه القرى حمامات عامة كاملة الترتيب بأقسامها الثلاثة (البارد والفاتر والحار) وفق المخطط الروماني التقليدي كما في سرجيللا وبراد وبابسقا التي احتوت على حمامين وليس واحداً.
وفوق هذا وذاك تحتوي بعض القرى على برج أو أكثر استُعمل لأغراض دفاعية أو تنسكيّة ترهبّية أو الإثنين معاً، كذلك هناك مخازن للحبوب ومساكب للحيوانات وبعض الأضرحة والقبور المبنية داخل الكنائس، وعلى حواف القرى أو المنحوتة في سفوح الجبال، وهناك أضرحة ما قبل مسيحية، رومانية على الأغلب كما في قريتي المغارة وقاطورة التي تحتوي على أضرحة منحوتة على وجه الصخر، مع حوالي عشرين شخصية مهيبة ملفوفة بالتوغا الرومانية وجالسة فيما يبدو أنها أوضاع جنائزية.
أما أقل أنماط الأبنية عدداً في منطقة المدن الميتة فهي المعابد الوثنية المقامة في رؤوس الجبال، والتي تعود بشكلها الحالي للعصر الروماني كما في حالة جبل الشيخ بركات (المسمى كوريفة ، KORYPHE باليونانية أو القمة) حيث اكتشفت على قمة الهضبة بقايا لمعبد روماني كبير لإلهين: زيوس مادباخوس وسيلامانس، وهما إلهين ساميين مترومنين ( أي مقتبسين رومانياً) الأول معناه زيوس المذبح ( الكلمة السامية في الآرامية) أو زيوس الصخرة، والثاني مجهول الأصل مع إمكانية أن يكون اسمه جاء من جذر ( السلام)، وهناك أيضاً بقايا معبد كلاسيكي في المشيرفة، على قمة جبل الوسطاني ( وهو أكثر هذه المعابد اكتمالاً ) وفي باقرحا وماعز وبابسقا وكفر نبو وغيرها، وإن كانت أصول غالبيتها آرامية وهي لاتشكل سوى نسبة ضئيلة من مجموع مواقع القرى المنسيّة التي تعود بغالبيتها العظمى للفترة المسيحية بعد القرن الرابع .
اعتمد سكان القرى المنسيّة في جبل البلعاس على زراعة الحبوب في السهول والوديان وزراعة الزيتون والكرمة ورعي المواشي، بالإضافة لصناعة الزيت والنبيذ والإتجار بهما لمسافات بعيدة، وصلت على ما يظهر إلى القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية وربما إلى المدن المطلة على البحر الأدرياتيكي، وقد طوّر السكان أيضاً صناعة البناء وخصوصاً البناء والنقش بالحجر التي ازدهرت منذ القرن الثاني الميلادي وحتى اليوم، وعُرفت أسماء عدة مهندسين ومعلمي عمار من اهمهم المعماري الكاهن ” مرقيانوس كيروس” الذي بنى عدة كنائس في بابسقا وباقرحا ودارقيتا وسواها في القرن الخامس للميلاد، مازالت الكتابات التي تحمل اسمه وتاريخ البناء شاخصة فيها، ثم عرفنا أسماء بعض المعماريين الحجّارين من المنطقة نفسها الذين عملوا في مباني حلب ودمشق وغيرهما من المدن السورية في الفترات السلجوقية والأيوبية والمملوكية بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر الميلاديين.
الاستكشافات الأثرية
منذ بدء حركة العودة إلى الجذور في عصر التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر بدأ الفنانون والباحثون بزيارة البلاد وعبور الدروب الصحراوية والجبلية المحفوفة بالمخاطر لاستكشافها ووصفها ودراسة أوابدها ومواقعها: بالميرا” تدمر” – بصرى – أفاميا – انطاكية – دوراأوروبوس- فيليبوبوليس “شهبا” – سرجيوبوليس”رصافة”- حلب – قنسرين – حمص أو إيميسا – سيروس ” قورش أو النبي حوري” – معلولا – صيدنايا- ودمشق.
لكن المواقع التي تتمثّل فيها فعلاً خصائص الكلاسيكية المتأخرة أو المسيحية المبكرة هي مجهولة الاسم أو على أقل تقدير مهملة الاسم حتى بالنسبة للأخصائيين اليوم، وقد غلبت عليها تسمية رومانسية متأخرة ذات طابع سوداوي (المدن الميتة) وهذه العبارة تعود لمنتصف القرن التاسع عشر أطلقها الباحث الفرنسي الشهير” شارل جان ميلشيور دو فوخيه” الذي كان أول أوروبي محدث يزور المنطقة عام 1861 ويكتب عن عمارتها كتاباً في جزأين عنوانه: (سوريا الوسطى، العمارة المدنية والدينية من القرن الأول إلى السابع الميلادي).
ثم جاء بعده الباحث والمعماري ومؤرخ الفن الأمريكي الجوّال ” هاوارد كروسبي بتلر” الذي قاد بعثة جامعة برنستون إلى سوريا في بداية القرن العشرين أعوام ( 1899 – 1900، 1904- 1905، 1909) في أول محاولة علمية جادة ومنظمة للكشف عن الخطوات المعمارية الأولى في خروج عمارة مسيحية من العمارة الكلاسيكية في شرق المتوسط، والتي أسفرت عن كتاب موسوعي ضخم نُشِرَ في عدة مجلدات متتابعة آخرها: ( الكنائس الأولى في سوريا، من القرن الرابع إلى السابع الميلادي)، بعده جاء الباحث السويسري ” ماكس فان بيرشم” ، والرحالة الانجليزية ” غرترود بل ” التي زارت المنطقة عام 1905 وخصصت للحديث عنها فصلاً مشوقاً في كتابها: (الصحراء والمفلوح من الأرض)، لكن الباحث المعماري الأكثر أهمية وتعمقاً في دراسة هذه المواقع هو الروسي اللبناني ” جورج تشالنكو” ونشر كتابه الموسوعي عنها في ثلاثة مجلدات ” القرى القديمة في شمال سورية”ولم يكتفِ “تشالنكو” بكتابه بل استمر حتى آخر عمره بالكتابة عن هذه المواقع بتكليف من المعهد الفرنسي لأركيولوجيا الشرق الأدنى ( IFAPO ) الذي مازال يدعم ويموّل دراسات آثار وأركيولوجيا سوريا المسيحية بعد تحوله إلى معهد واسع يضم المراكز البحثية الفرنسية الثلاثة في بيروت ودمشق وعمّان باسم ( IFPO )، ثم جاء ” جورج تات ” الذي ابتدأ حياته البحثية في سبعينات القرن الماضي للتنقيب مع مجموعة من الباحثين الفرنسيين في قرى سوريا الشمالية من الفترة البيزنطية حيث أصدر كتاباً بعنوان: (أرياف شمال سوريا من القرن الثاني إلى الثامن)، ويمكننا أن نذكر أعمال الباحث الفرنسي ” جان بيير سوديني ” ، والباحث الاسباني ” ايناثيو بينيا” وزميليه الابوين الفرنسيسكيين ” باسكال كاستلانا، و رومالدو فرنانديز” .
ظهرت الكنائس منذ القرن الرابع الميلادي، وكانت ذات مساقط مختلفة، تتميز بغناها بالعناصر الزخرفية، وبدأت تظهر الأديرة في هذه المنطقة منذ القرن الرابع الميلادي، وخاصة في المنطقة المحيطة بمدينة أنطاكية، حيث تسارع بناء الأديرة في القرن السادس، وتم إحصاء 57 ديراً في جبل باريشا و35 في جبل الأعلى، حيث تمثّلت نشاطات الرهبان بالجوار بين العلاقات الدينية والعمل الزراعي، إذ يتألف الدير عادة من الأبنية الآتية: بناء مخصص للنشاطات الداخلية للرهبان وبناء آخر مخصص للاستقبال والنشاطات الخارجية.
كما تميزت العمارة الجنائزية بأهمية كبيرة من ناحية المخططات أو الزخرفة، حيث نجد كثيراً من الأشكال المعمارية، مثل المدافن الهرمية «قرية البارة» أو على شكل معبد في «قرية الرويحة» أو محفورة في الصخر وهو ما نجده في «قرية القاطورة»، ولدينا قبة مثلثية على أربعة عواميد في «قرية براد»، خُطّت على الكثير منها أسماء أصحابها.
أما الحمامات العامة الموجودة في الكثير من القرى فمعظمها في حالة معمارية جيدة، تم التنقيب في الكثير منها، حيث وضّحت التنقيبات آلية عمل وتطور الحمامات في العصرين الروماني والبيزنطي، إذ تمثّل حمامات سرجيلا النموذج الأوضح للحمامات المحلية حيث تمّ اكتشاف لوحة فسيفساء كبيرة كُتب عليها باللغة اليونانية تاريخ بناء الحمام في سنة 473م.
انحدار القرى الأثرية
بدأ انحدار القرى إثر الغزو الفارسي المستمر على فترات بين عامي 527 م وحتى627 م وبترهم لأشجار غابات الزيتون حيث تعد المنطقة هي الموطن الأول لشجرة الزيتون. منذ ذلك التاريخ بدأت تتفاقم أزمة داخلية مفادها محدودية الأراضي الزراعية وازدياد عدد السكان بحيث لم تعد الأراضي كافية لتأمين معيشتهم.
يُركز الباحثون على مرحلتين مهمتين من التطور الذي شهدته هذه القرى: تمتد الأولى منهما من القرن الأول حتى منتصف القرن الثالث الميلادي. في حين تمتد الثانية من القرن الرابع وحتى القرن السابع الميلادي، وفيها شهدت هذه القرى تزايداً كبيراً في عدد السكان وازدياد ثرواتهم في إطار توسعهم العمراني، حيث تكاملت المدن والأرياف في الثروة.
في منتصف القرن السادس الميلادي وقع تغير في الاكتفاء الاقتصادي نتيجة للتزايد السكاني الكبير وقلة الثروة مما أدى إلى فترة من الجمود الاقتصادي والفقر والأوبئة. كما حدث في الأحداث العسكرية التي عاشتها هذه المنطقة والمتمثلة بالغزوات الفارسية التي ضربت أنطاكية وأفاميا، والهزات الأرضية وغيرها، أثرت سلباً في الحياة في هذه القرى، وبذلك توقفت عملية الإعمار مع بقاء القرى مأهولة بكثافة، ومع مجيء الإسلام لم يطرأ أي تغيير على الحياة الريفية لهؤلاء السكان الذين بدأوا يهجرون قراهم في مطلع القرن الثامن الميلادي، حيث ظلت المنطقة تعاني الضعفَ، كما أدى تغير الاتجاهات في مراكز التجارة إلى زيادة هذا الضعف نتيجة قلة الطلب على المنتجات في هذه المناطق.
والجدير بالذكر حتى هذه المنطقة تحوّلت إلى منطقة حدودية بين الدول العربية الإسلامية والامبراطورية البيزنطية، وقد استمر هذا الركود الاقتصادي حتى القرن العاشر، لذلك فإن هذه العوامل دفعت السكان إلى هجر قراهم، ولم تعد الحياة إلى هذه المنطقة عملياً وجزئياً إلا في القرن التاسع عشر.
واحتار الباحثون في تفسير الهجرة الجماعية لأهالي هذه القرى، واختلفت آراؤهم بين زمن بداية استكشاف هذه المواقع في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وزمن توثيقها في النصف الثاني من القرن العشرين. رأى شارل دو فوغيه، أن دخول الإسلام إلى شمال سوريا، أدى إلى هذه الهجرة، وتبنّى هاورد كروسبي باتلر هذا التفسير. غير أن جورج تشالينكو، أسقط هذه القراءة، وأثبت أن الهجرة الجماعية تسببت بها عوامل عديدة، منها تحوّل خريطة الطرق التجارية، وتبدّل المناخ، والنمو السكاني. ترك أهل هذه القرى مساكنهم، ونزلوا إلى أراض أكثر خصوبة، وباتت هذه المساكن الأثرية، بعد قرون، صورة حية للحياة الريفية في الحقبة الممتدة من العهد الروماني إلى العهد البيزنطي.
تأثير الحرب السورية
تشير التقديرات إلى أن العديد من هذه المعالم والمواقع، قد تعرضت لأضرار مختلفة جراء العمليات العسكرية بسبب الحرب الدائرة هناك أو مساكن للاجئين من المدنيين، وضمن حرم بعض هذه المدن والمواقع الأثرية التي استخدمها الدواعش كتحصينات، عدا عن تدمير بعضها نتيجة المعتقدات الدينية المتشددة والتكفيرية التي أعطت المبرر لتفجيرها والتنكيل بأهل تلك القرى التي لم تكن منسية يوماً بانتماء أبناء المكان واعتزارهم بحضارة اجدادهم السوريين. إلى جانب كل هذا تعرض متحف إدلب الذي كان قد افتتح منذ عام 1989 لأضرار مادية أيضاً خلال الأزمة، إذ كان يضم الآلاف من القطع الأثرية العائدة لمواقع مختلفة من إدلب. كما تعرضت محتوياته للنهب على عدة مراحل دون أن تُعرف تفاصيلها بعد، كذلك تعرض متحف معرة النعمان التاريخي (خان مراد باشا) الذي يعد أحد أكبر متاحف الفسيفساء في الشرق لأضرار مادية بالغة نتيجة القصف الذي طاله لثلاث مرات متتالية منذ بدء الأزمة، يوجد في متحف المعرة ما يقارب (2000م2) من الألواح الفسيفسائية المعروضة أو غير المعروضة سابقاً والتي تصور مشاهد مختلفة لعل أهمها لوحة هرقل.
طفل نياندرتال
في جبل سمعان المطلّ على وادي عفرين قرب برج عبدالو أي عشرة كيلومترات شمال قلعة سمعان وكنيسة سمعان وُجد كهف الديدرية ووُجد فيه هيكل عظمي لطفل من البشر النياندرتال تم العثور عليه في حلب سنة 1993 بعد 16 عام على اكتشاف المغارة، وتم من قبل فريق سوري ياباني مشترك. يُقدر عمر الهيكل العظمي بحوالي 40 ألف إلى 100 ألف سنة مضت، أي إلى العصر الحجري القديم / الوسيط. ويفترض أن الطفل مات وعمره سنتان ونصف. الطفل تم العثور عليه مدفوناً بطريقة توحي بأن الدفن كان شعائرياً مما يدل على وجود شكل من أشكال الدين لدى البشر النياندرتال (باللاتينية: Homo neanderthalensis). يسمى بالأول تمييزاً له عن طفلين آخرين من البشر النياندرتال عُثر عليهما في طبقات أقدم من المغارة وإن كان هيكلهما العظمي بدرجة حفظ أقل.
كهف الديدرية له أهمية كبيرة من الناحيتين التاريخية والسياحية فقد قدم للعالم هيكلاً عظمياً لطفل نياندرتالي بعمر السنتين هو الأول من نوعه في سوريا والأكمل في جميع أنحاء العالم. وهو معروض في جناح ما قبل التاريخ في المتحف الوطني في حلب. ونسخة عنه في متحف دمشق الوطني، وهذه ريادة حضارية لم توجد في مكان آخر
مواقع مهمة
هنا أهم المواقع المهمة بشيء من التفصيل.
كنيسة قلب اللوزة
من المواقع المسيحية المهمة في محافظة ادلب وهي إحدى أجمل وأكبر كنائس سوريا البيزنطية ذات المخطط البازيليكي، هذه الكنيسة هي كل ما تبقى من قرية حج صغيرة لم يتجاوز عدد مساكنها يوماً العشرين وقد نمت شمال وشمال غرب الموقع الأثري قرية درزية صغيرة جديدة في الخمسين سنة الماضية بتعداد سكاني يقارب الألف نسمة، ووصلتها طريق معبّدة تجلب السائحين الكثر الذين يأتون لزيارتها إلى ساحة أمام الكنيسة.
احتوت القرية الأثرية على أربعة فنادق بُنيت لإيواء الحجاج الذين كانوا على ما يبدو يتوافدون لزيارة هذه الكنيسة في طريقهم إلى كنيسة القديس سمعان العمودي، كما كان الحال بالنسبة لكنيسة المشبك التي لا تبعد كثيراً عن قلب لوزة، والتي شكّلت أيضاً موقعاً دينياً تعبدياً على طريق الحج العمودي، بالإضافة إلى ذلك يوجد في قلب لوزة وحولها ما لا يقل عن عشرين معصرة زيت يبدو أنها أنشئت لتوفير الزيت لإنارة الكنيسة، ولإيفاء نذور الحجاج بما أن عددها يفوق بكثير احتياجات سكان القرية الصغيرة.
ولا يزال الالتباس بشأن الاسم الذي ينبغي أن يُطلق على هذه الكنيسة، لكن ما يثير الانبهار بدون شك بقاءها شبه سليمة تماماً. ولا يزال النموذج الأولي لكاتدرائية نوتردام في فرنسا قائماً على قمة تلة نائية في إدلب، بواجهتها المألوفة المكونة من برجين يحيطان بمدخل ضخم. وقد بنيت هذه الكاتدرائية من الحجر الكلسي المحلي حوالي عام 460 ميلادي.
في الوادي نحو الأسفل، لا بد أن سكان قلب اللوزة قد سمعوا أصوات الانفجارات القادمة من منطقة باريشا يوم 27 أكتوبر/تشرين الأول 2019 عندما قُتِل زعيم (داعش)، أبو بكر البغدادي في غارة نفذتها القوات الخاصة الأمريكية.
وشكَّل مُجمع كنيسة القديس سمعان العمودي الذي تم الانتهاء منه في عام 490 م، مَعلماً تاريخياً بحق في ذلك الحين، إذ كانت أول كنيسة تتوسطها قبة ولم تتفوق عليها من حيث العظمة في العالم المسيحي سوى كاتدرائية آيا صوفيا التي بُنيت في عام 537م.
وتعرض المُجمَّع الرائع لأضرار بالغة في مايو/أيار 2016 جراء غارة جوية روسية ودُمِّرَ ما تبقى من عمود القديس سمعان وتحول إلى أجزاء متناثرة. واليوم، أصبحت قمة التل مركزا لموقع مراقبة تركي، أنشئ في إطار اتفاق إجراءات “خفض التصعيد”.
عين دارة
يبعد موقع عين دارة نحو 7 كيلومترات من جنوب عفرين و45 كيلومتراً شمال غرب حلب، إكتشفه أحد الرُعاة عام 1954 ويتألف من المدينة العليا الأكروبول التي أنشئت قبل وخلال العصر الآرامي، والمدينة السفلى الآرامية وهو المعبد الوحيد الكامل الذي يمثل الحضارة الآرامية، ويحيط به سور وبوابات ويتألف من ست طبقات أثرية لم تصل بعد إلى الأرض البكر.
عُثر في عين دارة على مسارج وأوان فخارية مُزجّجة وقطع نقدية وصلبان بيزنطية وقطع نقدية ذهبية كبيرة لأباطرة بيزنطيين وصحون ودنان ومدامع ورؤوس مغازل حجرية وأثقال وأنوال وخرزات وفناجين برونزية ومسارج من الطراز العربي ومشربيات وفناجين وصلبان نحاسية وأختام ودُمى الخيال الفارسية وتمثال للإلهة عشتار.
في الطبقة السادسة التي تعود إلى العصر الحديدي كُشف عن المعبد الذي كان مخصّصاً لعبادة الإلهة عشتار وإله الطقس، هدمه وأحرقه الملك الآشوري تغلات بلاصر الثالث ووُجد فيه أسداً ضخماً وهو مستطيل مساحته 32 متراً عرضاً و38 متراً طولاً، وبقيت المصطبة ومنحوتاتها البازلتية ومقدّمات الأسود التي تكلل جدران واجهتها الرئيسية وواجهة المصلّى والقاعة الأمامية وأجزاء من الرواق وساءت حاله بعد اكتشافه جرّاء الإهمال، كما يحتوي على عتبتين نُقشت في وسط الأولى صورتا قدمين بشريتين ضخمتين للإشارة إلى خلع الأحذية قبل الدخول، وتعكس المنحوتات عظمَة المكان عبر المشاهد البشرية والحيوانية والنباتية والأسود المجنّحة برؤوس آدمية. هذه هي عين دارة التي انتقم منها العثماني بهمجيته المعهودة.
للأسف، لم ينتبه المعنيون لما جرى يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 2019 ليس بعيداً عن كنيسة سمعان العمودي، إذ تم الإبلاغ عن اختفاء تمثال ضخم لأسد مصنوع من حجر البازلت من موقع عين دارة، المعبد الذي يعود إلى المرحلة الحثية المتأخرة وكان بمثابة حارس للموقع لمدة 3000 عام.
وفي يناير/كانون الثاني 2018، كان المعبد قد دُمِّر بنسبة 60% من قبل سلاح الجو التركي عندما قصفت الطائرات التركية المعبد في إطار عملية احتلال منطقة عفرين وطرد المقاتلين الأكراد منها.
قلعة سمعان العمودي
هي عبارة عن كنيسة سمعان العمودي التي تُعد واحدة من أوائل الكنائس البيزنطية المحفوظة اليوم التي تبعد عن مدينة حلب 37 كم إلى الشمال الغربي منها، تعتبر هذه الكنيسة من أجمل روائع الفن المسيحي المبكر، ومن أكبر الكنائس البيزنطية بعد كنيسة آيا صوفيا في القسطنطينية التي بُنيت بعد كنيسة سمعان العمودي بأكثر من 40 سنة، بُنيت أساساً كنصب جنائزي لتخليد ذكرى القديس سمعان العمودي بأمرٍ إمبراطوري بين عامي 467 و490 بعد ربع قرن من وفاة القديس الذي دُفِنَ في القسطنطينية في كنيسة آيا صوفيا.
بدأ بعمارتها الامبراطور ليون الأول ثم تولاها الامبراطور زينون. حول العامود الذي قضى عليه 37 أو 42 سنة من عمره بعد وفاته، تم بناء هذه الكنيسة حول العامود وكانت على شكل صليب من الشرق إلى الغرب بطول مئة متر، 88 متراً من الشمال إلى الجنوب، الأكتوجون المثمّن حول العامود كان قطره 28 متراً وارتفاعه كبير جداً لأن العامود كان بطول 16 متراً أي بطول 25 متراً مع القبة بكاملها، ولم يكن يوجد أكبر منها إلى حين ظهور الفن القوطي في أوروبا مثل كنيسة شارتر، نوتردام إلى آخره في القرن الثاني عشر.
لمعرفة الكنز السوري، الفن المعماري السوري المسيحي ذكر دو فوغيه وباتلر اللذان كانا ضمن البعثات أنهما يريان في واجهة ونارتكس كنيسة سمعان العمودي أصول الفن الرومانسكي في أوروبا في القرن الحادي عشر والثاني عشر ميلادي، من هنا نرى أهمية كنيسة سمعان العمودي التي تُدرّس في كليات العمارة في العالم أجمع.
أضيفت للكنيسة في فترات لاحقة مساكن للرهبان وملاحق مثل المعمودية والرهبانية وبعض دور السكن لطلاب العلم وفنادق للضيوف ومدافن وسور خارجي محيط بها جميعها حتى بلغت مساحة البناء الإجمالية 12 ألف متر مربع، استمرت الكنيسة بأداء وظيفتها في ظل الدولة الاسلامية وحافظت على استقلاليتها الكنسية وإن فقدت الرعاية الامبراطورية البيزنطية. ثم سيطر عليها البيزنطيون مجدداً في أواسط القرن العاشر الميلادي عندما انتصر الامبراطور نقفور فوكاس على الحمدانيين في حلب عام 970 م، تحولت الكنيسة وملحقاتها خلال هذه السيطرة البيزنطية الثانية من مركز ديني مرموق ومحجّ للمؤمنين الساعين لبركة القديس سمعان العمودي الى قلعة عسكرية حصينة مزودّة بسور حجري مهيب بُني حول الهضبة بكاملها ودُعِّم بسبع وعشرين برجاً وعُرِفت يومها بقلعة سمعان، ولكن الأباطرة البيزنطيين لم يكتفوا بتحصين الموقع بل قاموا أيضاً بإضافات وتحسينات في الكنيسة والأبنية الملحقة بها لتسهيل الزيارة و الحج اليها كما تدل على ذلك الكتابتان الفسيفسائيتان اللتان غطاهما تشالنكو بالاسمنت خلال عمله في الكنيسة تمهيداً لنقلهما الى متحف ما ؟؟!!!! .
ولكنهما بقيتا هناك والكتابتان عبارة عن سطرين بالفسيفساء البيضاء والسوداء واحدة باليونانية والاخرى بالسريانية تتحدثان عن بناء جدار (ربما كان الجدار الدفاعي) وباب وتزيينهما على عهد الامبراطور باسيل الثاني وتعودان للعام 979 م.
ولم تفقد القلعة وظيفتها الدفاعية المهمة مع تغير أسيادها بعد أن استعادها الحمدانيون من البيزنطيين ثم أتاها الفاطميون فالغزو الصليبي وبعده استيلاء صلاح الدين الايوبي عليها من الصليبيين الذين اضافوا اليها ووسعّوها وقد استعملها الايوبيون كقلعة أيضاً، وتناوبتها العصور والدول والغزوات التي كان من جرائها أن فقدت القلعة أهميتها الاستراتيجية تدريجياً، وهُجِرت تماماً مع الغزو العثماني في القرن السادس عشر، ولا زالت بعض أبراج القلعة بادية في السور الشمالي قرب مقبرة الرهبان وفي القسم الجنوبي من الأسوار، ولم تكن قلعة سمعان الموقع البيزنطي القديم الوحيد في المنطقة الذي تم تحويله إلى موقع دفاعي على يد البيزنطيين عندما أعادوا احتلال شمال سوريا في نهاية القرن العاشر، بل يبدو أن مواقع أخرى خضعت للتحول نفسه، ككنيسة خراب شمس وقلعة كالوتا وبراد، ولكنها فقدت دورها الحربي مع استقرار حكم المنطقة في أيدي المماليك والعثمانيين من بعدهم .
قورش
مدينة قورش قديمة جداً وتعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد أيام سلقوس نيكاتور وتسمّى سيروس، وهي على بُعد 70 كيلومتراً شمال غرب حلب وقرب الحدود الحالية مع تركيا على الطريق الروماني الواصل بين أنطاكيا والفرات، أما إسم النبي هوري فيعود إلى القرن الثاني عشر. اشتُهرت خلال العهد البيزنطي فكان فيها نائب امبراطور وباتت مركزاً دينياً مسيحياً يتبع له أكثر من 800 بلدة وقرية، فصارت مكاناً للحج وبات إسمها هاغيوبوليس أي المدينة المقدّسة.
يعود بناؤها الحالي إلى العصرين الهلنستي والبيزنطي، دُعمت أسوارها بأبراج، وتقع القلعة على تلة الأكروبول وفيها معبد وبيوت وحمام روماني وجسران من القرن الثاني أو الثالث. يعود مسرح قورش إلى القرن الثاني الميلادي ويبلغ قطره 115 متراً. امتدت مساحة القورشية من الشرق إلى الغرب ثمانين كيلومتراً ومن الشمال إلى الجنوب خمسين كيلومتراً، وأنجبت المدينة المعماري الشهير “أندرونيكوس”الذي بنى قصر الرياح في أثينا و” أفيدياس هليو دوراس “، وهو خطيب وفيلسوف وغيرهما. دخلتها المسيحية في القرن الأول وكانت لغة أهلها السريانية و” ثيودوريتوس” أشهر أساقفتها وفيها سبع كنائس ومصلّى من بينها كنيسة الشهيدين كوزما ودميانوس، وضمت أيضاً ذخائرهما، كذلك دير قورش ودير يعقوب، ماتت قورش عدّة مرات بالجهل وغالباً على أيدي القتلة وأولهم الترك.
أهمية قورش تنبع من وجود الآثار فيها منذ القرن الرابع قبل الميلاد، فيها جسران رومانيان من أبدع الجسور في العالم على الإطلاق كالطريق الرومانية الموجودة قريباً من الدانة بين حلب وأنطاكيا في القرن الأول أو الثاني للميلاد، فيها مدفن روماني من القرن الثالث، فيها مدرج روماني من القرن الثاني الميلادي، طول المدرج 120 متراً.
بالمناسبة في سوريا أطول مدرج لمسرح روماني في العالم موجود في أفاميا بطول 139 متراً، ثاني أطول مدرج في العالم موجود في آرل بمرسيليا بطول 137 متراً. المدرج الروماني الموجود حالياً في قورش طول المسرح 120 متراً وهو أطول من مدرج بُصرى الذي يبلغ طوله 105 أمتار، هذا في الفترة الرومانية أما في الفترة المسيحية فكان دورها هاماً جداً ويقال أن المسيحية دخلتها عن طريق أحد الحوّاريين هو سمعان الغيّور.
البارة
تقع في محافظة إدلب على السفح الغربي من جبل الأربعين وتنتشر فيها معاصر النبيد والزيتون بكثافة كبيرة، بالإضافة إلى المعابد والأبنية الأثرية الباذخة، وفيها نمط مميز للدفن ينتشر في بعض المدن المنسية في جبل الزاوية. هذا النمط عبارة عن مدافن عملاقة على شكل أهرامات يصل ارتفاع أغلبها إلى 10 أمتار وبعضها 15 متراً والبعض الثاني يصل ارتفاعه لأكثر من 20 متراً، ولو أن غالبية هذه المدافن مهدمة نسبياً.
أهرامات البارة مبنية بطريقة هندسية خاصة تعتمد على مبدأ التداخل حتى أننا نندهش عندما ننظر للسقف الهرمي من الداخل ومدى دقة بناءه بلا قوس أو عمود يرفعه.
تحت أنقاض البارة اليوم وعلى مساحة 6 كم مربع يوجد قصور وأديرة يصل عددها لـ 12 كنيسة بيزنطية 5 منهم بالإمكان رؤيتهم من بين الأنقاض.
مدينة البارة هي مدينة مهمة جداً وفيها آثار من القرن الثاني الميلادي وما قبل ذلك، كانت مركزاً لأبرشية سريانية تابعة لأنطاكية ثم أصبحت مركزاً لأسقفية لاتينية إثر احتلال الصليبيين لها عام 1098. وقد تغير اسمها من” كفر نبطا” في القرن الثاني الميلادي إلى كابروبيرا CAPROPERA في الفترة الرومانية الكلاسيكية، حيث وجد الاسم منقوشاً على حجر عليه كتابة يونانية فيما كان يعرف بالدير، ثم كفر البارة، ثم البارة بعد الفتح الاسلامي، وهو الاسم المستعمل حتى اليوم، وقد استمرت السُكنى فيها في العصر الاسلامي، ثم نشأت قربها وإلى الشرق منها في العصور الحديثة قرية جديدة تحمل الاسم نفسه، اعتدت على بعض مبانيها الأثرية واستخدمت حجارتها كمواد بناء .
تضم البلدة واحدة من أكبر المجموعات الأثرية في القرى المنسية التي تنتشر على مساحة واسعة بطول 4 كم وعرض 3 كم، وفيها ثماني كنائس، خمسة منها ما زالت قائمة، أهمها كاتدرائية كنيسة الحصن الكبيرة( 50 x 35 متراً )، ولكن ازدهار البلدة تضعضع بعد سلسلة من الغزوات والغزوات المضادة بين الصليبيين والمماليك وانقطاع طرق التجارة ثم جاء زلزال عام 1157 المعروف بزلزال حماة ليدمر ما بقي من مبانيها الكلاسيكية، انكمشت المدينة بعد ذلك ولعلّها هُجِرت لقرون عديدة بعد الفترة المملوكية قبل عودة العمران إلى أطرافها مع بداية القرن العشرين.
براد
أو كابروبردا (KAPROBARADA) واحدة من أكبر المدن المنسية في جبل سمعان على بعد 45 كم إلى الشمال الغربي من حلب، مازالت تحوي بقايا
ثلاث كنائس وحماماً ومدفناً رومانيين، تحتوي على أشياء قديمة جداً وفيها معبدان وثنيان ولكن أخذت دوراً مهماً جداً في الفترة المسيحية حتى كنيسة جوليانوس كانت معبداً وثنياً، ويتضح ذلك من خلال تيجان الأعمدة الموجودة فيها، أوراق الخرشوف كانت عبارة عن شاقوليّة وحين تكون شاقولية فهذا يعني أنها تعود للفترة الرومانية في القرن الثاني الميلادي، بينما إذا كانت مائلة نحو الشرق أو الغرب فتكون عائدة للفترة البيزنطية. سواء في كالوتا أو في براد كانا في الأصل معبداً وتم تحويلهما إلى كنيسة على يد المعماري جولياوس منذ 399 إلى 402، أضيف إلى هذه الكنيسة جناح شمالي غربي أو معبد المدفن وهو قبر براد الذي نُقل فيه جسد القديس مار مارون (أبو الكنيسة المارونية) الذي توفى عام 410 للميلاد. الذي كان ناسكاً متقشفاً اعتزل الحياة الكنسية في البلدة التي عاش فيها المعروفة بكفار نبو وكرّس معبداً وثنياً قديماً ككنيسة مارس الدعوة فيها في مكان عُرف في الغالب بقلعة كالوتا ولو أنه عاش شخصياً في العراء زهداً وتنسكاً وتوفي ودُفِنَ في كنيسة مهيبة مازالت أجزاء منها قائمة حتى اليوم في بلدة براد في جبل سمعان.
وجود ضريح مار مارون أثبته الباحث الصقلي الأصل” باسكال كاستلانا” الذي توفي ودفن في حلب عام 2012، والذي لاحظ أن مبنى الضريح مُضاف إلى مبنى الكنيسة في القرن الخامس بعد وفاة مار مارون، كما تقول المصادر إن ضريح القديس أضيف لكنيسة قائمة.
قلعة كالوتا
تعود البلدة الواقعة في جبل سمعان والتي ترتفع 560 متراً عن سطح البحر إلى العصر الروماني فقد وُجد فيها هيكل وثني كبير من القرن الثاني قبل الميلاد أما إسمها فسرياني ويعني كأس الميرون الشحيحة.
مع مجيء المسيحية تحوّل المعبد إلى كنيسة في مطلع القرن الخامس وبسبب موقعها تحوّلت خلال الحروب بين العرب والبيزنطيين إلى إحدى العواصم، وتتضمّن الكنيسة قلعة ما يزال يُطلق عليها إسم قلعة كالوتا.
في كالوتا بقايا كنيستين من العهد البيزنطي، الكنيسة الأولى في شرق القرية تعود إلى عام 492 للميلاد بحسب كتابة يونانية على بابها الغربي، وهي بازيليكية الطراز من خمس قناطر ومزخرفة بإتقان، والكنيسة الثانية غرب البلدة بُنيت في القرن السادس، أما كنيسة القلعة فبازيليكية تتضمّن بقايا المعبد الوثني مساحتها 362 متراً مربعاً. كانت تتألّف من ست قناطر وخمسة أعمدة تيجانها كورنثية في كل صف وواجهتها الجنوبية مزيّنة بباب وزخارف وكان فيها (بيمه) أي منبر أزاله الروم في القرن العاشر، كما كان يوجد قبر قربها يعود إلى القرن السادس يدعى قبر مريم وعُثر في بيوت القرية على كتابات سريانية تعود إلى عام 545 وعام 550 للميلاد وعلى كتابة يونانية مسيحية تعريبها “أيها المسيح ساعد”.
سرجيللا
تعتبر واحدة من أهم وأكبر قرى جبل الزاوية المنسيّة وأكثرها جذباً للسائحين تقع جنوب غرب مدينة ادلب وتبعد عنها 36 كم.
كانت القرية لمدة ثمانية عشر عاماً هدفاً لدراسات معمارية وعمرانية ووثائقية وتاريخية واركيولوجية معمقة من قبل مجموعة كبيرة من الباحثين الفرنسيين والسوريين وعلى رأسهم جورج تات وجان بيير سوديني، اللذين خصَّ كلاهما القرية بكتاب وعدة مقالات في مجموعات وأبحاث ومجلات، وقد رممت البعثات التنقيبية المتلاحقة الكثير من مبانيها ترميماً ممتازاً وموثقاً ما جعلها الأشهر بين القرى المنسية.
يوجد في سرجيللا بيوت ومعاصر ومقابر وفندق وحمام كبير وكنيسة وجامع، ولكن الكتابات التي عُثِرَ عليها في آثارها والتي تؤرخ لبعض مبانيها لا تسمح لنا بتحديد تاريخ بناء القرية وازدهارها بشكل دقيق سوى أنه تم بين القرنين الخامس والسابع كما يظهر من طُرُز العمارة فيها وهي مؤلفة من أكثر من خمسين منزلاً كبيراً بعضها مقسّم إلى عشر غرف مشيدة كلها بالحجارة الصلبة ذات اللون الرمادي اللامع.
عثرت البعثات الفرنسية – السورية في سرجيللا على كنيسة في مركز القرية أُلحق بها على ما يبدو جامع يعود تاريخه إلى القرن السابع الميلادي وقد استعمل المعبدان معاً في الوقت نفسه، ما يدل على استمرار الحياة في القرية بعد الفتح الاسلامي وعلى وجود نوع من التعايش الديني في بدايات العصر الاسلامي عندما كانت الحياة الطبيعية ما تزال مستمرة في القرى المنسية على الرغم من تغير الحاكم والديانة السائدة. نموذج التعايش الديني هذا وإن كان فيه طبعاً بعض الغبن بحق أصحاب الكنائس الأصليين الذين اضطروا للمشاركة في كنائسهم بسبب من امتيازات الفتح لا يقتصر على كنيسة سرجيللا بل إنه كان منتشراً في سائر أرجاء بلاد الشام في الفترة الأموية عندما كانت غالبية السكان المحليين مسيحيين وعندما أخذ الفاتحون المسلمون من رعاياهم المسيحيين جدران بعض كنائسهم الخارجية أو مباني العمادة الملحقة بها واستخدموها كمساجد من دون الاعتداء مباشرة على الكنائس الاصلية التي بقيت تؤدي شعائرها بحرية نسبية على الأقل حتى بدايات العهد العباسي كما بينت الأبحاث الأخيرة للباحث الايطالي ما تيا غويديني صاحب كتاب (في ظلال الكنيسة: بناء المساجد في سوريا القروسطية المبكرة).
تلعدا
دير تلعدا يقع على بعد (2) كم عن قرية تلعادي وهو في سفح جبل الشيخ بركات مقابل قرية ترمانين وعلى بعد (35) كم من مدينة حلب حيث قضى فيه مار يعقوب الرهاوي زهاء تسع سنوات.
في أواخر سنة (707) توفي المطران حبيب مطران الرها فالتمس الرهاويون البطريرك لإعادة مار يعقوب مطراناً عليهم وقد عرفوا فضله فعاد في أواخر كانون الثاني من سنة (708) م وبعد أربعة أشهر عاد إلى دير تلعدا لنقل كتبه فكانت وفاته في الخامس من حزيران من عام (708).
أما دير تلعدا فقد شيده اميانس الناسك قبل سنة (340) م وعاش فيه عدد كبير من الرهبان أشهرهم مار سمعان العمودي الذي أمضى فيه عشرة سنوات قبل أن يرتقي عموده في قلب كاتدرائية مار سمعان وكان فيه مئة وخمسون راهباً حيث توفي فيه ودفن في مقبرته عام (708) م وفي هذا الدير انتخب ونصب أربعة بطاركة إنطاكيون سريان وما زالت أطلال الدير موجودة ومقبرته تحافظ على شكلها الهندسي القديم.
أبرشية حلب بهمة مطرانها العلامة مار غريغوريوس يوحنا ابراهيم اهتمت بشكل مميز ولائق في إحياء الذكرى العطرة لمرور 1300 سنة على رقاد القديس الجليل مار يعقوب الرهاوي (708 – 2008م)، كيف لا وهي تحتضن آثار دير تلعدا التي اهتم نيافة المطران يوحنا في السنوات الأخيرة بتسليط الأضواء عليها وتسجيلها وقفاً باسم الكنيسة السريانية في حلب، وبذل جهوداً جبارة في سبيل استعادة الدير وعقاره، ثم اشترى قطعة أرض كبيرة مجاورة لأرض الدير فبلغت مساحة العقار 70 ألف م2، وسجلها باسم أوقاف الطائفة بموجب سند تمليك.
وضمن الفعاليات لهذه الذكرى: اطلق اسم مار يعقوب الرهاوي على أحد شوارع مدينة حلب؛ وأقيم قداس احتفالي في موقع دير تلعدا قرب ضريح مار يعقوب الرهاوي يوم 5 حزيران 2008م.، ومؤتمر باسم مار يعقوب الرهاوي في حلب للفترة من 9 – 12 حزيران 2008م. شارك فيه فريقٌ من المستشرقين والعلماء والباحثين من مختلف دول العالم، الذين قدّموا دراسات تمثل حصيلة أبحاثها بعض أوجه النتاج الفكري السرياني لهذا العلاّمة وما تركه للأجيال، وتخللت أعمال المؤتمر زيارات إلى مواقع أثرية لأديرة سريانية كانت محافل للعلم في أيام غابرة، منها: دير تلعدا ، ودير مار سمعان العمودي وهو مؤسس طريقة العموديين ، ودير قنشرين (الذي أسسه مار يوحنا ابن افتونيا سنة 538 م. وبقي آهلاً إلى القرن الثالث عشر)، ومدينة منبج التي منها خرجت الملكة السريانية تيودورة (قيصرة القسطنطينية في القرن السادس الميلادي) وكانت أبرشية العلاّمة مار فيلكسينوس المنبجي (523م+).
يقول نيافة المطران يوحنا عن قبر مار يعقوب في تلعدا: ( دير تلعدا كان أرضاً وديراً للسريان، وساهمت الظروف المكانية و الزمانية بإهمال هذا الدير لقرون طويلة، ثم استعدناها سنة 1987 ومساحته 14000متر مربع، واشترينا الأراضي المحيطة به وهي بمساحة 56000 م2، فأصبح المجموع الكلي هو سبعون ألف م2 تابعة لأوقاف و أملاك الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، ومن أهم المشاريع المقترحة حالياً هي إقامة مركز دراسات للآداب السريانية وعلاقتها بالآداب العربية مما سيؤهله ليكون مركزاً لحوار الثقافات في المستقبل).
جنديرس
هي بلدة تقع على بعد 18 كيلومتراً إلى الغرب من عفرين وهي قريبة جداً من نهر العاصي، المعروف أن واحد من أقدم الأديرة في منطقة المدن الميتة بكاملها كان الدير الموجود في جنديرس منذ 367 ميلادي والذي يقترب منه في قنّسرين أو قلقيس الموجودة في الزربة جنوب حلب على بُعد 25 كيلومتراً.
كنيسة المشبك
تقوم على هضبة تبعد 25 كم من حلب، على الطريق المؤدية إلى جبل سمعان، مازلنا نجهل تاريخ بنائها، وإن بدت ككنائس القرن السادس، وهي بحالة حفظ جيدة بالقرب منها يقع المقلع الذي أُخذت منه أحجارها، وقد حُول إلى خزان كبير للمياه.
قرية الشيخ سليمان
تحوي بُرجاً تنسّكياً يعود الى القرن السادس الميلادي بالإضافة الى ثلاث كنائس: بازيليك مهدمة وسط القرية وأخرى مؤرخة عام 602 م إلى الجنوب من الكنيسة الأولى، وكنيسة العذراء في أقصى جنوب القرية والتي تعود إلى أواخر القرن الخامس، سميت كذلك لوجود كتابة يونانية على بابها الشمالي نصّها: (يا قديسة مريم يا والدة الله ساعدي سرجيوس البنّاء آمين).
قرية رويحة
تقع على بعد 15 كم إلى الشمال من معرة النعمان، وتحتوي على كنيستين بازيلكيتين إحداهما تدعي” بيزوس” وهي أكبر كنيسة في جبل الزاوية، وتحتوي على سوق روماني بالأروقة.
قرية جرادة
تبعد كيلومترين عن رويحة وما تزال محتفظة ببرج في وسطها من خمسة طوابق، وكنيسة بازيليكية متهدّمة تعود للقرن الخامس الميلادي.
باقرحا
تقع في جبل باريشا، تحتوي على معبد لزيوس بوموس وهو نفسه الاله زيوس مادباخوس أو زيوس الحجر، الذي قُدِّسَ في معبد جبل الشيخ بركات. شُيد عام 161 م وبقي منه بابه الضخم وسور مهدم، بالإضافة إلى كنيستين بازيلكيتين.
بابسقا
كانت من أهم المراكز التجارية في الفترة البيزنطية، وفيها كنيسة بازيليكية بناها بين عامي 391 و407 الكاهن المعماري المشهور (مرقيانوس كيريوس) على أنقاض معبد وثني مؤرَّخ بسنة 143، كما تدل كتابة على بابها الجنوبي. وإلى الغرب من الكنيسة تبدو بقايا سوق تجاري وهو عبارة عن مبنى بطول 33 متراً يتقدمه رواق من طابقين ويعود تاريخه الى عام 547م.
معايير التسجيل على لائحة التراث العالمي (2011)
تشكل القرى الأثرية في شمال سورية على مستوى ثماني تجمعات تم اختيارها للتسجيل على قائمة الإرث الحضاري موقعاً ذا قيمة عالمية استثنائية..
تم طرح الموقع للتسجيل على قائمة الإرث الحضاري وفق المعايير الثالث والرابع والخامس.
المعيار الثالث: أن تظهر تفرد التراث التقليدي الثقافي أو حضارة اندثرت أو مازالت حية.
تقدم القرى القديمة في شمال سورية ومناظرها الطبيعية شهادة استثنائية على أنماط الحياة والتقاليد الثقافية للحضارات الريفية التي نشأت في الشرق الأوسط، في سياق مناخ البحر الأبيض المتوسط في الجبال الكلسية المتوسطة الارتفاع في الشرق الأوسط. من القرن الأول إلى القرن السابع.
المعيار الرابع: أن تكون شاهداً لنموذج العمارة أو البناء أو المواقع الطبيعية التي تمثل تاريخ البشرية خلال مرحلة معينة.
تقدم القرى القديمة في شمال سوريا ومناظرها الأثرية شهادة استثنائية على هندسة المنزل الريفي ومباني المجتمع المدني والديني في نهاية العصر الكلاسيكي وفي العصر البيزنطي. يرسم ارتباطهم في القرى وأماكن العبادة بأشكال المناظر الطبيعية المميزة للانتقال بين العالم الوثني القديم والمسيحية البيزنطية.
المعيار الخامس: أن يكون مثالاً بارزاً للتوطن الإنساني التقليدي، وللاستخدام التقليدي للأراضي أو البحر، بحيث يكون ممثلاً لحضارة (أو حضارات) أو للتفاعل بين الإنسان والبيئة، ولاسيما عندما تصبح هذه الأخيرة معرضة لتأثير تحول غير قابل للإرجاع.
تقدم القرى القديمة في شمال سورية ومناظرها الطبيعية القديمة مثالًا بارزًا على مستوطنة ريفية مستدامة من القرن الأول إلى القرن السابع، بناءً على الاستخدام الدقيق للتربة والمياه والحجر الكلسي، وإتقان إنتاج المحاصيل الزراعية القيمة. وتشهد على ذلك الوظيفة الاقتصادية للمساكن، والهندسة الهيدروليكية، والجدران الفاصلة المنخفضة الارتفاع ومخطط الأرض الزراعية الرومانية المتوضعة على المشهد الطبيعي الأثري.
تضم منطقة التسجيل 8حدائق:
خاتمة
المدن المنسية، رغم كل الدمار الذي أصابها خلال التاريخ وفي العقد الماضي، تظل شاهداً حياً عن موقع حضاري استثنائي في تاريخ سوريا والعالم.